سجال نقدي مغربي - تونسي يعيد تقييم قضية تحرير المرأة العربية
محمد مشبال وجليلة الطريطر يفكّكان خطاب قاسم أمين برؤى مختلفة.
الأحد 2023/12/03
هناك ثغرات في قضية تحرير المرأة (لوحة للفنانة هيلدا حياري)
تغيب الحوارات والسجالات النقدية والفكرية المكتوبة عن الساحة الثقافية العربية، رغم أهميتها في إثارة الأسئلة ونقاش القضايا من زوايا مختلفة، إذ تمكن من توسيع دوائر البحث والإقرار بالاختلاف وقبول التنوع وبالتالي توفير بيئة معرفة أكثر توازنا ومرونة وقدرة على التأثير. وفي خطوة تتجاوز هذا النقص يأتي الكتاب المشترك بين الباحثين المغربي محمد مشبال والتونسية جليلة الطريطر بعنوان “تحرير المرأة العربية في عصر النهضة” مجالا خصبا للسجال والتحاور والاختلاف والاتفاق.
نجحت المقاربة البلاغية في تحليل أنواع من الخطابات الإنسانية واستنطاقها منها السياسية، القضائية، الأدبية وغيرها. وهذا النجاح الذي كُتب لها آمن به الباحث محمد مشبال من خلال تبنيه هذه المقاربة القائمة على استلهام مقومات البلاغة الأرسطية وتوسلها بأدوات من حقول معرفية شتى، إذ تتسم هذه الأدوات بالطواعية بعيدا عن القوالب الجامدة، فأسفر الأمر عن نتائج غير مسبوقة في حقل تحليل الخطاب، كشفت عن خفايا العديد من النصوص التراثية والحديثة.
والمتتبع للنسق الكرونولوجي لأعمال محمد مشبال منذ باكورة أعماله “مقولات بلاغية في تحليل الشعر” وصولا إلى أحدث إصداراته الكتاب المشترك مع الأكاديمية والباحثة التونسية جليلة الطريطر “تحرير المرأة العربية في عصر النهضة”، يُدرك همَّ الباحث المُتمثل في تجريب المقاربة البلاغية وتقليب عُدتها بشكل عملي يُتيح لها تشريح خطابات متنوعة وانفتاحها على حقول معرفية جديدة (النقد الثقافي)، لتستحق بذلك صفة “المقاربة البلاغية الموسعة”.
السجال النقدي
في كتاب “تحرير المرأة العربية في عصر النهضة” نجد أنفسنا أمام عمل بلغت فيه الدراسة البلاغية مرحلة متقدمة من النضج، انفتحت فيه على حقل النقد الثقافي، في إطار شراكة معرفية منهجية استدعتها طبيعة المقاربات المنهجية التي باتت تعرف تشعبا يحتاج إلى تضافر الجهود، وهو ما أخرج فكرة هذا العمل الجنينية إلى حيز الوجود. فتم الرجوع إلى خطابات تحرير المرأة في عصر النهضة والكشف عن الأنساق الثقافية المتوارية خلفها التي تمجد الهيمنة الذكورية ورد الاعتبار إلى الكتابات النسائية المجابهة لها.
حاول الباحث محمد مشبال بسط عُدة الدراسة البلاغية لتشارك ما جادت به عُدة النقد الثقافي المتمثلة في التجربة النقدية لكتابات الذات للباحثة جليلة الطريطر، ليرصدا لنا ما تنبني عليه صراعات الخطابات النهضوية الحديثة من أيديولوجية حجاجية وأسلوبية سجالية، فعبّد الباحثان طريقا جديدة لأفق الدراسة البلاغية قائمة على المحاورة التي تصغي إلى كتابات الأنثى، وفي تجربة فريدة على مستوى النقد العربي تجمع بين صوتين وجنسين ومنهجين وتصورين وبلدين على حد تعبير الباحث محمد مشبال.
وقد يلمس القارئ في هذا الكتاب نوعا من السجال النقدي العلمي بين الباحثين، إلا أنه سرعان ما يدرك تلازم الدراستين وتساندهما على بساط تحليل الخطاب والغوص في أعماقه، الشيء الذي ترتب عليه الوصول إلى الأنساق الثقافية المضمرة تحت هذا الخطاب والتي تكشف عن عمق الصراع الفكري الثقافي الذي دار على هامش قضية تحرير المرأة العربية في عصر النهضة بين التنويريين والمحافظين.
يعرض الكتاب أفكاره في مساحة ورقية قُدرت بمئة وأربع وتسعين صفحة من الحجم المتوسط، جاء في مقدمتها فهرس المحتويات، يليه القسم الأول من الكتاب بعنوان “صورة المرأة في كتاب تحرير المرأة” لقاسم أمين، دراسة في بلاغة الخطاب، للباحث المغربي محمد مشبال، وقد ناقش هذا القسم قضيته المركزية في فصول أربعة. ثم جاء القسم الثاني من الكتاب بعنوان “صراع الأنساق الثقافية في قضية تحرير المرأة العربية”، للباحثة التونسية جليلة الطريطر قسمته إلى ثلاثة محاور كبرى، في كل محور مبحثان، ثم ذُيل الكتاب بخاتمة عامة.
ويسعى هذا العمل إلى الكشف عن التقاطعات ووجوه الاختلاف والتنافر في أنساق الفكر النهضوي العربي الإسلامي الحديث، حول قضية تحرير المرأة العربية في عصر النهضة، وبيان كيفية اشتغال هذه الأنساق الفكرية ومكوناتها المرجعية التي تمتح مما هو منهجي واجتماعي وأيديولوجي وما تتأسس عليه من بنيات حجاجية وسجالية، وذلك من خلال اعتماد الدراسة البلاغية الموسعة لتحليل الخطاب كما وظفها الباحث محمد مشبال في أعماله المؤسسة لمشروعه البلاغي الموسع، وكذلك عدة النقد الثقافي الموسع التي توسلت بها الباحثة جليلة الطريطر، المختصة في نقد أدب الذات في الثقافة العربية.
وأدى تفاعل عُدتي البلاغة الموسعة والنقد الثقافي إلى الكشف عن الأنساق الفكرية المتوارية خلف الخطاب، وذلك من خلال مناقشة وتحليل خطاب قاسم أمين في مدونته “تحرير المرأة العربية” والإحالة على بعض أفكاره في كتابه الثاني “المرأة الجديدة”، فتم تجاذب تلابيب هذه المدونة عبر قسمي الكتاب كل قسم حاول الباحث فيه إبراز مدى نجاعة عُدة اشتغاله ومناقشة أفكار الآخر بأسلوب اتخذ من الحجاج منطلقا، فرسم صورة لنوعين من السجال؛ سجال حول أفكار الكتاب في عصر النهضة وسجال حول نجاعة المقاربتين السابقتين في الكشف عن مضمرات هذا الخطاب والأنساق الثقافية الثاوية خلفه.
داخل مدونة قاسم أمين
الكتاب ثمرة جديدة في أفق تكامل المقاربتين ودعوة صريحة إلى مد جسور التواصل بين الباحثين بمختلف مرجعياتهم
وضع الباحث محمد مشبال الإطار العام لتحديد الحجاج في نص تحرير المرأة العربية لقاسم أمين، متوجها للكشف عن الموقف التواصلي الذي نشأ فيه والمرتبط بمجوعة التساؤلات المطروحة حول قضية تحرير المرأة وما ترتب عليها من إجابات. جنّد الكاتب حججه لإثبات دعواه وصحتها في مقابل إظهار بطلان الدعاوى النقيضة.
وقد رصد الباحث في دراسته لنص قاسم أمين نمطين خطابيين، النمط القضائي والنمط المشوري، مشيرا إلى وظيفتين تداوليتين، الأولى تتجلى في إقناع القارئ المتعلم بإصدار حكم بتحرير المرأة من القيود التي تُكبلها، والثانية دفعه إلى دعم دعوى الكاتب ونشرها، مبينا أن الخطيب -قاسم أمين- استخدم خطابا حجاجيا توجه إلى مخاطبة المتلقي بقواه العقلية والنفسية ليقبل دعوى تحرير المرأة، مما جعل هذا النوع من الحجاج ينأى بعيدا عن الحجاج العقلي الخالص لكونه أيضا يخاطب وجدان المخاطب لاستمالته إلى دعواه وكسب تعاطفه لأجل الانتقال من الاقتناع إلى الفعل.
كما بين الكاتب داخل مدونة قاسم أمين نوعا آخر من الخطاب وصفه بالخطاب السجالي الذي تتجاوز فيه البلاغة حدود الإقناع وصولا إلى النزاع والخصام والإدانة، ما يتيح خلق نوع من التواصل القائم على الاختلاف باعتباره موجها إلى أطراف مجهولة الهوية الإسمية، وهي أطراف معارضة، لها وجود افتراضي واعتراضات محتملة قدم لها قاسم أمين من الحجج ما ناقضها وبين ضعف دعواها مُهوّنا من أصحابها وكاشفا عن الضعف الذي يعتري موقفه من الخطاب.
وقد راهن الباحث على تشريح نص قاسم أمين واستخراج أنواع من الخطاب التي توسل بها الخطيب للدفاع عن قضيته وكذلك أضرب الحجاج التي كونت ملفوظات نصه، واستخرجها حجة بعد الحجة لبيان مدى إسهامها في بناء الخطاب الذي انطوى على أنساق فكرية ثقافية متعددة.
الباحثان آمنا بمبدأ الحوار والتكامل المنهجي الذي تستدعيه عمليات تحليل الخطاب من أجل الوصول إلى نتائج مرضية
وفي إطار من المحاورة اعترض الباحث محمد مشبال في عملية نقد للسجال الدائر في خطاب التحرير على انتقاد الباحثة الطريطر لخطاب التحرير عند قاسم أمين عندما وصفته بالخطاب الذي يعزز الهيمنة الذكورية، معتبرا إياه انتقادا لا يلائم السياق التاريخي الذي صيغ فيه هذا الخطاب، مُعضدا رأيه بشهادة الباحثة نفسها إذ تقول “وهي مسألة حديثة جدّا نسبيّا” أي قضية تفكيك مضمرات بنية الهيمنة الذكورية الكامنة، مضيفة “هذا المطلب لم يتحقق لها تاريخيا وبصورة تدريجية ونسبية إلا في العصر الحديث”.
وواصل نقده لرأي الباحثة التي اعتبرت أن السجال الدائر حول قضية تحرير المرأة سجال عقيم لا ينتهي إلى حل، ببيانه أن السجال في جوهره صيغة للتعايش في الاختلاف، فبلاغة الاختلاف حيث استمرار الخلاف ليس علامة على الإخفاق، وإنما هو سمة حرية التفكير، والسجال له وظيفة أخرى تتمثل في تقريب المسافة الاجتماعية بين أطراف لا يمكنها أن تلتقي وجها لوجه، وهذا يخلق وحدة في المجتمع قائمة على التنوع، وهذا يسمح بنفي صفة العقم عن السجال الذى جرى بين التنويريين والمحافظين. وفي السياق نفسه أكد الباحث أن الصراع الدائر بين التنويريين في شخص قاسم أمين والمحافظين من جهة أخرى لم يخل من الفائدة لإخراجه الخلافات المطروحة إلى حيز الفضاء العام، وتمكينها من الظهور وتيسير التعايش الأيديولوجي الديمقراطي بين ممثليها على اختلافهم.
والملاحظ أن انتقاد الباحث محمد مشبال لم يخل من طرح أسئلة فاتحة لأفق تحليلي جديد من شأنه تعزيز ترسانة التحليل البلاغي للخطابات، حتى يقوى على إضافة كل جديد، ويبتعد عن الأفق المسدود الذي أصبحت تواجهه مجموعة من المقاربات والدراسات التحليلية التي أعوزتها الحاجة عن مسايرة التطور الإنساني في مختلف تجلياته.
وفي كثير من المواضع اتفق مشبال مع طرح الباحثة ومناقشتها المتوسلة بعُدة النقد الثقافي، خاصة في الكشف عن موقف المرأة المصلحة أو بالأحرى الصوت النسوي الذي قدم صورة أخرى للمرأة غير تلك التي روّج لها خطاب المصلحين، وهنا تكشف المقارنة عن زيف المظهر المثالي الذي ظهر به هذا الخطاب، الذي لا يخلو من نوايا غير نبيلة، والمتمثلة في حجب المصلحين لصوت المرأة. رغم ذلك يعزو الباحث هذا الأمر إلى مقتضيات المقام الحجاجي التي كانت تفرض على قاسم أمين إقناع القارئ العربي المسلم بالنتائج والثمار الملموسة.
التجربتان تلتقيان وتختلفان في تحليل الخطاب بأنواعه وتفريعاته مستندتين إلى خطاب قاسم أمين حول تحرير المرأة العربية
وترى الطريطر أن خطاب المصلحين التنويريين انطلق من مقام سلطة الرجل وهيمنته العلمية الرمزية ومنظومته الأيديولوجية الذكورية، وترى أن تحرير المرأة بصوت الرجل لا يمكن أن يكون تحريرا حقيقيا معبرا عن احتياجات المرأة في وعيها بذاتها. وتعتبر التعبير بالنيابة تعبير استعلاء وتقزيم للآخر. لأن التحرر على لسان المرأة يختلف عن التحرر على لسان الرجل، والتحرر الحقيقي هو الذي ينطلق من مقام تلفظ المرأة ومن صوتها، لا من مقام “الحاضنة الخطابية الذكورية” ولن يتسم بالعمق والحقيقة.
وفي وصفها لطبيعة الإصلاح ترى أنه ظل سطحيا غير قادر على نسف المقولات الجندرية الكبرى التي حرص على صيانتها الإصلاحيون. وأن قاسم أمين لم يخرج في خطابه الرامي إلى تحرير المرأة عن محددات البنية الذكورية المتلَبسة بالمنظومة الفقهية المحافظة، ورغم محاولته عدم الخضوع التام لهذه البنية الذكورية إلا أن هذا التحرر ظل محدودا لم يقو على تحدي البنية في كليتها.
ومن خلال تحليل خطاب قاسم أمين، خلصت الباحثة وعبر آلياتها التحليلية إلى أنه حجب أصواتا نسائية سبقته كانت تقدم نماذج لصورة المرأة الجديدة المنشودة، مثل عائشة التيمورية، مي زيادة، عائشة عبدالرحمن، يمنى العيد وغيرهن، وعدّت هذا الأمر أهم ثغرة في خطاب الإصلاحيين، فحاولت بيان تغلغل المركزية الذكورية وسلطتها في التعبير عن قضية المرأة. وأثبتت الأمر من خلال مقام التلفظ الذي ميزت فيه بين مقامين تلفظيين في خطاب تحرير المرأة؛ الأول مقام التحرير بالوصاية والثاني مقام التحرير بالأصالة، واصفة المقام الأول بأنه لا يمكن أن يكون تحريرا حقيقيا معبرا عن احتياجات المرأة في وعيها بذاتها، والتعبير بالنيابة هو بذاته تعبير استعلاء، وتقزيم للآخر الحاضر بغيابه.
وبغوصها داخل الخطاب ترى الباحثة أن خطاب المرأة التحريري نفسه كان أيضا محدود الأفق، وأن خطاب تحرير المرأة عند قاسم أمين والإصلاحيين يتصف بالسجال والصراع الدائر بين أطراف تتنازع السلطة لكنها تنتمي جميعها إلى المنظومة الأبوية الذكورية، وهذا الذي يجعله سجالا عقيما لا ينتهي إلى حل. وتعتبر أن حجب المصلحين لصوت المرأة وتسترهم وراء هذه القضية نابع من سعيهم إلى السلطة. كما قام خطاب قاسم أمين على تثمين خطاب تحرير المرأة بالمنافع التي يجنيها المجتمع والعائلة والرجل.
تكامل المقاربتين
تلتقي التجربتان أعلاه في مواطن عدة، أهمها بساط تحليل الخطاب بأنواعه وتفريعاته، ورغم اختلاف المنطلقات الفلسفية والمنهجية، إلا أنه غالبا ما تمتزج خطوات التحليل في منعرجات الخطاب لتسعف بعضها البعض في استجلاء مكنوناته وما يثوي خلفه من أفكار وأنساق لا يمكن الوصول إليها إلا بإعمال الجهد واستفراغ النظر المبني على تجريب لعدتين إجرائيتين، لكل منهما رصيد تراكمي لا يستهان به في مجال تحليل الخطاب.
لقد آمن الباحثان بمبدأ الحوار والتكامل المنهجي الذي تستدعيه عمليات تحليل الخطاب، من أجل الوصول إلى نتائج مرضية أو بالأحرى يُطمَأن لها من الناحية الإجرائية لعدة التحليل، وحضور المقاربتين اليوم جنبا إلى جنب على صفحات هذا الكتاب ما هو إلا تنزيل لهذه الرؤية الثنائية، التي آمنت بضرورة تضافر الجهود من أجل الوصول إلى المرامي البعيدة للخطابات.
إن ما راكمه الباحث محمد مشبال من تجربة بلاغية قرابة عقدين ونصف من الزمن استطاع من خلالها تجريب عدة البلاغة الموسعة على ألوان مختلفة من الخطابات وهو يضع لبنات مشروعه البلاغي واحدة بعد الأخرى، ما حدا به اليوم إلى فتح صفحة جديدة في مدونة مشروعه، تستدعي ما جادت به عدة النقد الثقافي في تكامل منهجي لا يرى فيه الباحثان حرجا في تلازم أدواته مع أدوات المقاربة البلاغية، التي قال عنها الباحث محمد مشبال يوما وهو يصف منطلقاتها “تمتح المقاربة البلاغية عدتها من حقول شتى”، فهي تستدعي من هذه الحقول العلمية والفلسفية ما يخدم تحليلها للخطاب وتجلية أسراره، لتحاول خلق نوع من التناغم بين هذه الأدوات تحت مظلة البلاغة، ولا غرو اليوم إن وجدناها قد امتدت لاستيعاب بعض أدوات النقد الثقافي.
والأمر نفسه قاد الباحثة جليلة الطريطر إلى توجيه نظرها جهة المقاربة البلاغية الموسعة لتحليل الخطاب، متوسلة بأفكارها وما خلصت إليه من مقاربة لخطاب عصر النهضة، طبعا بعدما راكمت هي الأخرى تجربة من خلال اشتغالها في مجال الدراسات النقدية المعاصرة، وعلى وجه الخصوص نقد أدب الذات، أو كتابات الذات، إذ تميزت تجربتها بالعمق والدقة والأصالة، من خلال تشربها معالم الثقافة الغربية في قراءاتها وأبحاثها، متشربة أفكار بول ريكور وتنظيراته للسرد التاريخي، ونجاحها في نقل مفهومه عن الهوية السردية إلى تربة مغايرة تمثلت في جنس السيرة الذاتية، وهوما دفعها إلى التقريب بين السيرة الذاتية والتاريخ، وكذلك نحتها لمصطلحات جديدة في هذا الحقل.
وقد وقفت الباحثة على ضرورة تكاثف الجهود وتلاقح الأدوات التحليلية، وهو الأمر الذي باتت تستدعيه طبيعة الخطابات، فلا بد للباحثين في البلاغة والنقد الثقافي من استثمار آليات المقاربتين ودمجهما معا للوصول إلى مضمر الأنساق الثقافية في الخطابات.
إن هذا العمل قيد الإضاءة ما هو إلا ثمرة جديدة في أفق تكامل المقاربتين، ودعوة صريحة من الباحثين إلى مد جسور التواصل بين المشتغلين في تحليل الخطاب بمختلف مرجعياتهم، هدفهم الأسمى وضع مقاربة متكاملة إجرائية بعيدة عن الوصف، تهدف إلى الوصول إلى مسافات أعمق في تحليل الخطابات، التي لا نجزم اليوم بوصولنا إلى منتهاها، ولا نطمئن كل الاطمئنان إلى المقاربات التي تدعي تحليلها، لاسيما أن الباحثين في اشتغال دائم على تجويد مقارباتهم ومناهجهم من خلال استثمار ما استجد في مجال تحليل الخطاب من أفكار تفرضها الثورة العلمية والرقمية السريعة، والتي لن يكون الأدب والإبداع الإنساني بمعزل عنها.
محمد الشهري
كاتب مغربي
محمد مشبال وجليلة الطريطر يفكّكان خطاب قاسم أمين برؤى مختلفة.
الأحد 2023/12/03
هناك ثغرات في قضية تحرير المرأة (لوحة للفنانة هيلدا حياري)
تغيب الحوارات والسجالات النقدية والفكرية المكتوبة عن الساحة الثقافية العربية، رغم أهميتها في إثارة الأسئلة ونقاش القضايا من زوايا مختلفة، إذ تمكن من توسيع دوائر البحث والإقرار بالاختلاف وقبول التنوع وبالتالي توفير بيئة معرفة أكثر توازنا ومرونة وقدرة على التأثير. وفي خطوة تتجاوز هذا النقص يأتي الكتاب المشترك بين الباحثين المغربي محمد مشبال والتونسية جليلة الطريطر بعنوان “تحرير المرأة العربية في عصر النهضة” مجالا خصبا للسجال والتحاور والاختلاف والاتفاق.
نجحت المقاربة البلاغية في تحليل أنواع من الخطابات الإنسانية واستنطاقها منها السياسية، القضائية، الأدبية وغيرها. وهذا النجاح الذي كُتب لها آمن به الباحث محمد مشبال من خلال تبنيه هذه المقاربة القائمة على استلهام مقومات البلاغة الأرسطية وتوسلها بأدوات من حقول معرفية شتى، إذ تتسم هذه الأدوات بالطواعية بعيدا عن القوالب الجامدة، فأسفر الأمر عن نتائج غير مسبوقة في حقل تحليل الخطاب، كشفت عن خفايا العديد من النصوص التراثية والحديثة.
والمتتبع للنسق الكرونولوجي لأعمال محمد مشبال منذ باكورة أعماله “مقولات بلاغية في تحليل الشعر” وصولا إلى أحدث إصداراته الكتاب المشترك مع الأكاديمية والباحثة التونسية جليلة الطريطر “تحرير المرأة العربية في عصر النهضة”، يُدرك همَّ الباحث المُتمثل في تجريب المقاربة البلاغية وتقليب عُدتها بشكل عملي يُتيح لها تشريح خطابات متنوعة وانفتاحها على حقول معرفية جديدة (النقد الثقافي)، لتستحق بذلك صفة “المقاربة البلاغية الموسعة”.
السجال النقدي
في كتاب “تحرير المرأة العربية في عصر النهضة” نجد أنفسنا أمام عمل بلغت فيه الدراسة البلاغية مرحلة متقدمة من النضج، انفتحت فيه على حقل النقد الثقافي، في إطار شراكة معرفية منهجية استدعتها طبيعة المقاربات المنهجية التي باتت تعرف تشعبا يحتاج إلى تضافر الجهود، وهو ما أخرج فكرة هذا العمل الجنينية إلى حيز الوجود. فتم الرجوع إلى خطابات تحرير المرأة في عصر النهضة والكشف عن الأنساق الثقافية المتوارية خلفها التي تمجد الهيمنة الذكورية ورد الاعتبار إلى الكتابات النسائية المجابهة لها.
حاول الباحث محمد مشبال بسط عُدة الدراسة البلاغية لتشارك ما جادت به عُدة النقد الثقافي المتمثلة في التجربة النقدية لكتابات الذات للباحثة جليلة الطريطر، ليرصدا لنا ما تنبني عليه صراعات الخطابات النهضوية الحديثة من أيديولوجية حجاجية وأسلوبية سجالية، فعبّد الباحثان طريقا جديدة لأفق الدراسة البلاغية قائمة على المحاورة التي تصغي إلى كتابات الأنثى، وفي تجربة فريدة على مستوى النقد العربي تجمع بين صوتين وجنسين ومنهجين وتصورين وبلدين على حد تعبير الباحث محمد مشبال.
وقد يلمس القارئ في هذا الكتاب نوعا من السجال النقدي العلمي بين الباحثين، إلا أنه سرعان ما يدرك تلازم الدراستين وتساندهما على بساط تحليل الخطاب والغوص في أعماقه، الشيء الذي ترتب عليه الوصول إلى الأنساق الثقافية المضمرة تحت هذا الخطاب والتي تكشف عن عمق الصراع الفكري الثقافي الذي دار على هامش قضية تحرير المرأة العربية في عصر النهضة بين التنويريين والمحافظين.
يعرض الكتاب أفكاره في مساحة ورقية قُدرت بمئة وأربع وتسعين صفحة من الحجم المتوسط، جاء في مقدمتها فهرس المحتويات، يليه القسم الأول من الكتاب بعنوان “صورة المرأة في كتاب تحرير المرأة” لقاسم أمين، دراسة في بلاغة الخطاب، للباحث المغربي محمد مشبال، وقد ناقش هذا القسم قضيته المركزية في فصول أربعة. ثم جاء القسم الثاني من الكتاب بعنوان “صراع الأنساق الثقافية في قضية تحرير المرأة العربية”، للباحثة التونسية جليلة الطريطر قسمته إلى ثلاثة محاور كبرى، في كل محور مبحثان، ثم ذُيل الكتاب بخاتمة عامة.
ويسعى هذا العمل إلى الكشف عن التقاطعات ووجوه الاختلاف والتنافر في أنساق الفكر النهضوي العربي الإسلامي الحديث، حول قضية تحرير المرأة العربية في عصر النهضة، وبيان كيفية اشتغال هذه الأنساق الفكرية ومكوناتها المرجعية التي تمتح مما هو منهجي واجتماعي وأيديولوجي وما تتأسس عليه من بنيات حجاجية وسجالية، وذلك من خلال اعتماد الدراسة البلاغية الموسعة لتحليل الخطاب كما وظفها الباحث محمد مشبال في أعماله المؤسسة لمشروعه البلاغي الموسع، وكذلك عدة النقد الثقافي الموسع التي توسلت بها الباحثة جليلة الطريطر، المختصة في نقد أدب الذات في الثقافة العربية.
وأدى تفاعل عُدتي البلاغة الموسعة والنقد الثقافي إلى الكشف عن الأنساق الفكرية المتوارية خلف الخطاب، وذلك من خلال مناقشة وتحليل خطاب قاسم أمين في مدونته “تحرير المرأة العربية” والإحالة على بعض أفكاره في كتابه الثاني “المرأة الجديدة”، فتم تجاذب تلابيب هذه المدونة عبر قسمي الكتاب كل قسم حاول الباحث فيه إبراز مدى نجاعة عُدة اشتغاله ومناقشة أفكار الآخر بأسلوب اتخذ من الحجاج منطلقا، فرسم صورة لنوعين من السجال؛ سجال حول أفكار الكتاب في عصر النهضة وسجال حول نجاعة المقاربتين السابقتين في الكشف عن مضمرات هذا الخطاب والأنساق الثقافية الثاوية خلفه.
داخل مدونة قاسم أمين
الكتاب ثمرة جديدة في أفق تكامل المقاربتين ودعوة صريحة إلى مد جسور التواصل بين الباحثين بمختلف مرجعياتهم
وضع الباحث محمد مشبال الإطار العام لتحديد الحجاج في نص تحرير المرأة العربية لقاسم أمين، متوجها للكشف عن الموقف التواصلي الذي نشأ فيه والمرتبط بمجوعة التساؤلات المطروحة حول قضية تحرير المرأة وما ترتب عليها من إجابات. جنّد الكاتب حججه لإثبات دعواه وصحتها في مقابل إظهار بطلان الدعاوى النقيضة.
وقد رصد الباحث في دراسته لنص قاسم أمين نمطين خطابيين، النمط القضائي والنمط المشوري، مشيرا إلى وظيفتين تداوليتين، الأولى تتجلى في إقناع القارئ المتعلم بإصدار حكم بتحرير المرأة من القيود التي تُكبلها، والثانية دفعه إلى دعم دعوى الكاتب ونشرها، مبينا أن الخطيب -قاسم أمين- استخدم خطابا حجاجيا توجه إلى مخاطبة المتلقي بقواه العقلية والنفسية ليقبل دعوى تحرير المرأة، مما جعل هذا النوع من الحجاج ينأى بعيدا عن الحجاج العقلي الخالص لكونه أيضا يخاطب وجدان المخاطب لاستمالته إلى دعواه وكسب تعاطفه لأجل الانتقال من الاقتناع إلى الفعل.
كما بين الكاتب داخل مدونة قاسم أمين نوعا آخر من الخطاب وصفه بالخطاب السجالي الذي تتجاوز فيه البلاغة حدود الإقناع وصولا إلى النزاع والخصام والإدانة، ما يتيح خلق نوع من التواصل القائم على الاختلاف باعتباره موجها إلى أطراف مجهولة الهوية الإسمية، وهي أطراف معارضة، لها وجود افتراضي واعتراضات محتملة قدم لها قاسم أمين من الحجج ما ناقضها وبين ضعف دعواها مُهوّنا من أصحابها وكاشفا عن الضعف الذي يعتري موقفه من الخطاب.
وقد راهن الباحث على تشريح نص قاسم أمين واستخراج أنواع من الخطاب التي توسل بها الخطيب للدفاع عن قضيته وكذلك أضرب الحجاج التي كونت ملفوظات نصه، واستخرجها حجة بعد الحجة لبيان مدى إسهامها في بناء الخطاب الذي انطوى على أنساق فكرية ثقافية متعددة.
الباحثان آمنا بمبدأ الحوار والتكامل المنهجي الذي تستدعيه عمليات تحليل الخطاب من أجل الوصول إلى نتائج مرضية
وفي إطار من المحاورة اعترض الباحث محمد مشبال في عملية نقد للسجال الدائر في خطاب التحرير على انتقاد الباحثة الطريطر لخطاب التحرير عند قاسم أمين عندما وصفته بالخطاب الذي يعزز الهيمنة الذكورية، معتبرا إياه انتقادا لا يلائم السياق التاريخي الذي صيغ فيه هذا الخطاب، مُعضدا رأيه بشهادة الباحثة نفسها إذ تقول “وهي مسألة حديثة جدّا نسبيّا” أي قضية تفكيك مضمرات بنية الهيمنة الذكورية الكامنة، مضيفة “هذا المطلب لم يتحقق لها تاريخيا وبصورة تدريجية ونسبية إلا في العصر الحديث”.
وواصل نقده لرأي الباحثة التي اعتبرت أن السجال الدائر حول قضية تحرير المرأة سجال عقيم لا ينتهي إلى حل، ببيانه أن السجال في جوهره صيغة للتعايش في الاختلاف، فبلاغة الاختلاف حيث استمرار الخلاف ليس علامة على الإخفاق، وإنما هو سمة حرية التفكير، والسجال له وظيفة أخرى تتمثل في تقريب المسافة الاجتماعية بين أطراف لا يمكنها أن تلتقي وجها لوجه، وهذا يخلق وحدة في المجتمع قائمة على التنوع، وهذا يسمح بنفي صفة العقم عن السجال الذى جرى بين التنويريين والمحافظين. وفي السياق نفسه أكد الباحث أن الصراع الدائر بين التنويريين في شخص قاسم أمين والمحافظين من جهة أخرى لم يخل من الفائدة لإخراجه الخلافات المطروحة إلى حيز الفضاء العام، وتمكينها من الظهور وتيسير التعايش الأيديولوجي الديمقراطي بين ممثليها على اختلافهم.
والملاحظ أن انتقاد الباحث محمد مشبال لم يخل من طرح أسئلة فاتحة لأفق تحليلي جديد من شأنه تعزيز ترسانة التحليل البلاغي للخطابات، حتى يقوى على إضافة كل جديد، ويبتعد عن الأفق المسدود الذي أصبحت تواجهه مجموعة من المقاربات والدراسات التحليلية التي أعوزتها الحاجة عن مسايرة التطور الإنساني في مختلف تجلياته.
وفي كثير من المواضع اتفق مشبال مع طرح الباحثة ومناقشتها المتوسلة بعُدة النقد الثقافي، خاصة في الكشف عن موقف المرأة المصلحة أو بالأحرى الصوت النسوي الذي قدم صورة أخرى للمرأة غير تلك التي روّج لها خطاب المصلحين، وهنا تكشف المقارنة عن زيف المظهر المثالي الذي ظهر به هذا الخطاب، الذي لا يخلو من نوايا غير نبيلة، والمتمثلة في حجب المصلحين لصوت المرأة. رغم ذلك يعزو الباحث هذا الأمر إلى مقتضيات المقام الحجاجي التي كانت تفرض على قاسم أمين إقناع القارئ العربي المسلم بالنتائج والثمار الملموسة.
التجربتان تلتقيان وتختلفان في تحليل الخطاب بأنواعه وتفريعاته مستندتين إلى خطاب قاسم أمين حول تحرير المرأة العربية
وترى الطريطر أن خطاب المصلحين التنويريين انطلق من مقام سلطة الرجل وهيمنته العلمية الرمزية ومنظومته الأيديولوجية الذكورية، وترى أن تحرير المرأة بصوت الرجل لا يمكن أن يكون تحريرا حقيقيا معبرا عن احتياجات المرأة في وعيها بذاتها. وتعتبر التعبير بالنيابة تعبير استعلاء وتقزيم للآخر. لأن التحرر على لسان المرأة يختلف عن التحرر على لسان الرجل، والتحرر الحقيقي هو الذي ينطلق من مقام تلفظ المرأة ومن صوتها، لا من مقام “الحاضنة الخطابية الذكورية” ولن يتسم بالعمق والحقيقة.
وفي وصفها لطبيعة الإصلاح ترى أنه ظل سطحيا غير قادر على نسف المقولات الجندرية الكبرى التي حرص على صيانتها الإصلاحيون. وأن قاسم أمين لم يخرج في خطابه الرامي إلى تحرير المرأة عن محددات البنية الذكورية المتلَبسة بالمنظومة الفقهية المحافظة، ورغم محاولته عدم الخضوع التام لهذه البنية الذكورية إلا أن هذا التحرر ظل محدودا لم يقو على تحدي البنية في كليتها.
ومن خلال تحليل خطاب قاسم أمين، خلصت الباحثة وعبر آلياتها التحليلية إلى أنه حجب أصواتا نسائية سبقته كانت تقدم نماذج لصورة المرأة الجديدة المنشودة، مثل عائشة التيمورية، مي زيادة، عائشة عبدالرحمن، يمنى العيد وغيرهن، وعدّت هذا الأمر أهم ثغرة في خطاب الإصلاحيين، فحاولت بيان تغلغل المركزية الذكورية وسلطتها في التعبير عن قضية المرأة. وأثبتت الأمر من خلال مقام التلفظ الذي ميزت فيه بين مقامين تلفظيين في خطاب تحرير المرأة؛ الأول مقام التحرير بالوصاية والثاني مقام التحرير بالأصالة، واصفة المقام الأول بأنه لا يمكن أن يكون تحريرا حقيقيا معبرا عن احتياجات المرأة في وعيها بذاتها، والتعبير بالنيابة هو بذاته تعبير استعلاء، وتقزيم للآخر الحاضر بغيابه.
وبغوصها داخل الخطاب ترى الباحثة أن خطاب المرأة التحريري نفسه كان أيضا محدود الأفق، وأن خطاب تحرير المرأة عند قاسم أمين والإصلاحيين يتصف بالسجال والصراع الدائر بين أطراف تتنازع السلطة لكنها تنتمي جميعها إلى المنظومة الأبوية الذكورية، وهذا الذي يجعله سجالا عقيما لا ينتهي إلى حل. وتعتبر أن حجب المصلحين لصوت المرأة وتسترهم وراء هذه القضية نابع من سعيهم إلى السلطة. كما قام خطاب قاسم أمين على تثمين خطاب تحرير المرأة بالمنافع التي يجنيها المجتمع والعائلة والرجل.
تكامل المقاربتين
تلتقي التجربتان أعلاه في مواطن عدة، أهمها بساط تحليل الخطاب بأنواعه وتفريعاته، ورغم اختلاف المنطلقات الفلسفية والمنهجية، إلا أنه غالبا ما تمتزج خطوات التحليل في منعرجات الخطاب لتسعف بعضها البعض في استجلاء مكنوناته وما يثوي خلفه من أفكار وأنساق لا يمكن الوصول إليها إلا بإعمال الجهد واستفراغ النظر المبني على تجريب لعدتين إجرائيتين، لكل منهما رصيد تراكمي لا يستهان به في مجال تحليل الخطاب.
لقد آمن الباحثان بمبدأ الحوار والتكامل المنهجي الذي تستدعيه عمليات تحليل الخطاب، من أجل الوصول إلى نتائج مرضية أو بالأحرى يُطمَأن لها من الناحية الإجرائية لعدة التحليل، وحضور المقاربتين اليوم جنبا إلى جنب على صفحات هذا الكتاب ما هو إلا تنزيل لهذه الرؤية الثنائية، التي آمنت بضرورة تضافر الجهود من أجل الوصول إلى المرامي البعيدة للخطابات.
إن ما راكمه الباحث محمد مشبال من تجربة بلاغية قرابة عقدين ونصف من الزمن استطاع من خلالها تجريب عدة البلاغة الموسعة على ألوان مختلفة من الخطابات وهو يضع لبنات مشروعه البلاغي واحدة بعد الأخرى، ما حدا به اليوم إلى فتح صفحة جديدة في مدونة مشروعه، تستدعي ما جادت به عدة النقد الثقافي في تكامل منهجي لا يرى فيه الباحثان حرجا في تلازم أدواته مع أدوات المقاربة البلاغية، التي قال عنها الباحث محمد مشبال يوما وهو يصف منطلقاتها “تمتح المقاربة البلاغية عدتها من حقول شتى”، فهي تستدعي من هذه الحقول العلمية والفلسفية ما يخدم تحليلها للخطاب وتجلية أسراره، لتحاول خلق نوع من التناغم بين هذه الأدوات تحت مظلة البلاغة، ولا غرو اليوم إن وجدناها قد امتدت لاستيعاب بعض أدوات النقد الثقافي.
والأمر نفسه قاد الباحثة جليلة الطريطر إلى توجيه نظرها جهة المقاربة البلاغية الموسعة لتحليل الخطاب، متوسلة بأفكارها وما خلصت إليه من مقاربة لخطاب عصر النهضة، طبعا بعدما راكمت هي الأخرى تجربة من خلال اشتغالها في مجال الدراسات النقدية المعاصرة، وعلى وجه الخصوص نقد أدب الذات، أو كتابات الذات، إذ تميزت تجربتها بالعمق والدقة والأصالة، من خلال تشربها معالم الثقافة الغربية في قراءاتها وأبحاثها، متشربة أفكار بول ريكور وتنظيراته للسرد التاريخي، ونجاحها في نقل مفهومه عن الهوية السردية إلى تربة مغايرة تمثلت في جنس السيرة الذاتية، وهوما دفعها إلى التقريب بين السيرة الذاتية والتاريخ، وكذلك نحتها لمصطلحات جديدة في هذا الحقل.
وقد وقفت الباحثة على ضرورة تكاثف الجهود وتلاقح الأدوات التحليلية، وهو الأمر الذي باتت تستدعيه طبيعة الخطابات، فلا بد للباحثين في البلاغة والنقد الثقافي من استثمار آليات المقاربتين ودمجهما معا للوصول إلى مضمر الأنساق الثقافية في الخطابات.
إن هذا العمل قيد الإضاءة ما هو إلا ثمرة جديدة في أفق تكامل المقاربتين، ودعوة صريحة من الباحثين إلى مد جسور التواصل بين المشتغلين في تحليل الخطاب بمختلف مرجعياتهم، هدفهم الأسمى وضع مقاربة متكاملة إجرائية بعيدة عن الوصف، تهدف إلى الوصول إلى مسافات أعمق في تحليل الخطابات، التي لا نجزم اليوم بوصولنا إلى منتهاها، ولا نطمئن كل الاطمئنان إلى المقاربات التي تدعي تحليلها، لاسيما أن الباحثين في اشتغال دائم على تجويد مقارباتهم ومناهجهم من خلال استثمار ما استجد في مجال تحليل الخطاب من أفكار تفرضها الثورة العلمية والرقمية السريعة، والتي لن يكون الأدب والإبداع الإنساني بمعزل عنها.
محمد الشهري
كاتب مغربي