بين هنري ماتيس وبول كلي: الآخر وآثاره بالفن العربي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بين هنري ماتيس وبول كلي: الآخر وآثاره بالفن العربي

    بين هنري ماتيس وبول كلي: الآخر وآثاره بالفن العربي
    فريد الزاهي 16 نوفمبر 2023
    تشكيل
    بول كلي وهنري ماتيس (Getty)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    ثمة فنانون يتركون بصماتهم عن بعد، وثمة فنانون يعبروننا من غير أن يتركوا أثرًا كبيرًا لمرورهم إلا في تجربتهم. زار دولاكروا المغرب عام 1832، وترك لنا لوحة رائعة تصور خرجة السلطان مولاي عبد الرحمن، وحمل معه رسومًا تمهيدية عن المغرب والمغاربة جمعها في دفتر، مؤكدًا أنه بالمغرب أحس أنه قريب من روما وروحها الماضية القوية. لقد اخترق وجود دولاكروا عالمًا منغلقًا على نفسه، محبوسًا في قوقعته التاريخية، لا يعرف من التصوير إلا الخط المغربي والأندلسي ولعبة الفسيفساء بتلاوينها وتراكيبها الهندسية، ورقوش الزربية وتصاويرها الرمزية وبعض الرسوم المشخصة التي حفظتها ذاكرة التاريخ كالصحون المرسومة من العهد المرابطي، ورسوم الحيوان التوضيحية في كتب الطب والخيل. فخلال هذه الرحلة، كما في الرحلات التي تلتها، للسفير الإيطالي المصحوب برسام، ورحلة إدمون دوطي المصحوب بكاميرا، كانت الصورة، سواء اليدوية (التشكيل) أو التقنية (الفوتوغرافيا والسينما) شيئًا دخيلًا، غريبًا وعجيبًا، يرتبط بالأعجمي، إلى أن تبناه بشكل إرادوي السلطان المغربي مولاي عبد العزيز في أواسط العقد الأخير من القرن التاسع عشر على يد المهندس والفوتوغرافي غابرييل فير.

    كانت زيارة ماتيس للمغرب شبيهة إلى حد ما برحلة بول كلي إلى تونس في الفترة نفسها. والفرضية التي ننطلق منها هنا هي كالتالي: لماذا ترك بول كلي أثرًا في الفن المغربي والعربي، مع أنه لم تطأ قدماه المغرب، أكثر مما تركه ماتيس ومن بعده ساي تومبلي؟ ولماذا كان أثر بول كلي أعمق مع الزمن وإشعاعه أوسع؟

    ماتيس في طنجة: عشق اللون من عشق الزخرفي

    حين حلّ هنري ماتيس بطنجة في خريف 1912، كان المغرب حديث العهد بالحماية الفرنسية. جاء هذا الفنان الذي تربى في أحضان الانطباعية، وكان مبتكر تيار الوحشية، المغرم بالنور والألوان، بحثًا عن أنوار طنجة وطبيعتها التي وصفها له صديقه الفنان ألبير ماركي، الذي كان مغرمًا بالرحلات وارتاد المغرب حتى بلغ مدينة فاس. لكن حظ ماتيس كان عاثرًا، فقد صادف حلوله بطنجة أسبوعان متواصلان من الأمطار الغزيرة التي كدرت عليه رغبته في العمل بالخارج. فاكتفى طيلة ذلك الوقت برسم الطبيعة الجامدة في محل إقامته. كانت مخيلة الرسام الفرنسي مليئة بالصور والأوصاف التي قرأها لدى رحالة مغرم بالمغرب هو بيير لوتي، خاصة في دفاتره عن المغرب وفي رحلته الشهيرة بعنوان: "في المغرب". ومن كثرة تمثله لما قرأ لديه، اعتبر ماتيس أن بيير لوتي كان يرسم المغرب باللغة.

    بعد احتلال فرنسا للجزائر عام 1930، حل العديد من الكتاب والفنانين الفرنسيين بالجزائر ثم بالمغرب وتونس، والعديد منهم استقروا بالجزائر. أضحى المغرب والمشرق مزارًا لكتاب وفنانين غربيين كبار من قبيل غوستاف فلوبير وأندري شوفريون، وأوجين دولاكروا وإتيين ديني، وغيرهم، بحثًا عن الغرائبية وعن أنوار يفتقدونها في بلدانهم في الشمال. كان الشرق في القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر يرسم بشكل استيهامي في المراسم الغربية كما هي الحال لدى إينغر وغيره، انطلاقًا مما تركته ترجمة غالاند لألف ليلة وليلة، وما يحكيه الرحالة من عجائب وغرائب، وما تبيعه البازارات من أدوات وأكسسوارات مستقاة من تلك البلدان. بيد أن هذا الشرق (الذي كان يعني المغرب الكبير أيضًا)، سوف يغدو سحره أقرب، لأنه لن يفتن الفنانين الرحالة بشخصياته ونسائه الخاملات المتدثرات بالقفاطين فقط، وإنما بأنواره وطبيعته وألوانه بالأساس.

    حين انقشع الجو والتحقت بماتيس زوجته وبعض أصدقائه، بدأ الفنان في إنجاز بعض اللوحات الشهيرة من بينها بورتريه زهرة، والأمة الخادمة، والرجل الريفي. وبعض المناظر من مدينة طنجة، كمنظر الميناء والمدينة من الشباك... لقد أدرك الفنان أن منزعه الزخرفي الذي كان يتميز به عن باقي الفنانين الوحشيين يجد مرتعه في الزرابي المغربية كما في الثياب والفسيفساء. كان هذا المنزع الزخرفي الآتي من المشرق يدفع به إلى مواجهته مباشرة مع واقعه المشرقي. لنلاحظ كيف سيسعد بالنور المغربي بعد الأمطار المتواصلة التي كدرت صفوه، كما أفصح عن ذلك في إحدى رسائله: "أنا بطنجة منذ شهر. وبعد أن رأيت السماء تمطر خمسة عشر نهارًا وخمسة عشر ليلًا، كما لم أشهد سماء تمطر مثل هذه قط، ها هو الصحو يحلّ، فاتِنًا، وعذب البهاء. وما رأيته بالمغرب جعلني أفكر بمنطقة نورمانديا بتوهج نباتاتها، لكنها هنا نباتات كم أجدها أكثر تنوعًا وزخرفية". ويقول في أخرى: "أخيرًا مال الجو إلى الصحو، لكنه صحو متنوع. ثمة الكثير من البخار، وغالبًا غيوم تضفي على المناظر الطبيعية ظلالًا عجيبة. إنه منظر رائع، غير أنه غير ملائم كثيرًا للاشتغال على الطبيعة".

    في العام الموالي سيعود ماتيس لطنجة في الصيف، وسوف يجد أنوار المغرب في انتظاره. وسيكمل ما بدأه، معتمدًا نظام اللوحات الثلاثية. لكن إلى أي حدّ شكلت أعمال "الرحلة المغربية" تحولًا في مسيره الفني؟ الحقيقة أن ماتيس وجد في عوالم الطبيعة والأشياء بالمغرب ما أكد له أمرين: الطابع الزخرفي الموجود في الزرابي والألبسة، والذي يمكن اعتباره مدخلًا نحو تجريدية وتوريقية ورمزيات تشكل أسس الحضارة بهذا البلد؛ والانزياح شبه التجريدي عن الرسم الواقعي الذي يجعل من بورتريهاته المغربية أشبه بمنمنمات حية وحيوية. لقد منحت الرحلة المغربية هذه للفنان نفَسًا جديدًا لم يزعزع مسيره بقدر ما أغناه وأخصبه وأكده في توجهاته العامة. ولو نحن تصورنا أنه توغل في المغرب حتى الصحراء، كنا سنتوقع تحولات أكبر قد تخلخل منظوره للتصوير وللنور أيضًا.
    "ليس من الغريب أن يلتقي ماتيس مع بول كلي في عشق نور الشرق وألوانه"
    "لقد أحببت دومًا وكثيرًا الشرق، الذي أنجذب إليه باستمرار"؛ إنها صيغة من الصيغ الكثيرة التي رددها ماتيس عن الشرق، والتي قد تبدو في ظاهرها امتدادًا لجاذبية الفن الاستشراقي تجاه شرق نحن نعلم كيف بلوره بشكل استيهامي. بيد أن ما يلزم أن نفهمه مباشرة من خلال هذا التوكيد هو طابعه الجمالي، ذو البعد الحضاري طبعًا، لا الطابع العيني أو الاستيهامي. فماتيس لم يكتشف الشرق في البداية مباشرة، بل كوّن عنه نظرة فنية في بداية القرن السابق. ففي 1900 زار المعرض العالمي واهتم بالأخص بجناح تركيا وبلاد فارس وبالفن القبطي. وفي 1903 سيزور معرض الفن الإسلامي في متحف الفنون الزخرفية. وسنتين بعد ذلك، سيتعرف على القاعة التي خصصها متحف اللوفر للفن الإسلامي والتي اطلع فيها على أجمل المنتجات الخزفية التي رآها في حياته، كما أكد بنفسه. كل شيء بدأ هنا في هذا الشغف المستنير بزرابي وخزف ومنمنمات الفن الإسلامي. بيد أن اللحظة التأثرية الحاسمة بهذه الفنون الآتية إليه من الشرق سيعيشها في معرض ميونيخ عام 1910 الذي جمع أكثر من 3500 قطعة فنية من كافة أصقاع العالم الإسلامي. وسوف يصرح: "اللون يوجد في ذاته، ويملك جمالًا خاصًا به. والرسوم اليابانية التي كنا نقتنيها ببضعة قروش في زنقة السين هي ما كشف ذلك لنا (...) فحين انفتحت عيناي على الرسوم الورقية اليابانية، صرت قادرًا على التلقي الحقيقي للألوان بالنظر إلى قوتها في التأثير العاطفي. وإذا كنت معجبًا بالسليقة بالبدائيين في متحف اللوفر، ومن بعد ذلك بالفن الشرقي، بالأخص معرض ميونيخ الرائع، فذلك لأني وجدت في ذلك توكيدًا جديدًا. فالمنمنمات الفارسية مثلا كانت تبيّن لي كافة إمكانات أحاسيسي (...) فهذا الفن بأكسسواراته، يقترح فضاء أكبر، أي فضاء تشكيليًا حقًا. وهو ما ساعدني على الخروج من التشكيل الحميمي. الكشف جاءني إذًا من الشرق".

    "لقد أحببت دومًا وكثيرًا الشرق، الذي أنجذب إليه باستمرار"؛ إنها صيغة من الصيغ الكثيرة التي رددها هنري ماتيس عن الشرق
    ما الذي شد انتباه ماتيس في عناصر الفن الإسلامي ومكوناته؟ هل هو الطابع الزخرفي، أم الطابع الروحاني والصوفي لهذا الفن في ارتباطه بالمقدس؟ وما الذي همه في التجربة المغربية التي دامت ثمانية شهور في سفرتين؟ سيلخص ماتيس ذلك في حوار أحري معه عام 1925 قائلا: "لقد أحسست أن الشغف باللون بدأ يتبلور فيَّ. وفي تلك الفترة أقيم المعرض الكبير المحمدي".

    لقد كان مقامه في إسبانيا مدخلًا لمقاربة جديدة للشرق سوف تطرد من مخيلته خيبة مقامه في الجزائر عام 1906. وهكذا كان المقام المغربي عصارة لهذا الشغف بالشرق، الذي ستتجدد فيه جذوة اللون. اللون الصافي للمنمنمات الفارسية ولون الزليج في التركيبات الفسيفسائية. وفي المناظر الطبيعية ذلك النور الذي كان دولاكروا قد التقط نصوعه.

    ليس من الغريب أن يلتقي ماتيس مع بول كلي في عشق نور الشرق وألوانه. وإذا كان بول كلي لا يعير اهتمامًا كبيرًا للزخرفي، فلأنه كان يبحث عن حسية لا تمنحها له غير العلاقة المباشرة بالطبيعة أكثر من الأشياء. لقد كانت العلاقة التي ربطها ماتيس بالشرق علاقة حضارية شاملة، لهذا فإن بلورته لتصوره للون تتصل ببلورة نزوعه الزخرفي، الذي بدأ مبكرًا بالاهتمام بالزرابي وتشكيلاتها. وهو قد أدرك أن الزخرفي كما المنمنمات يمكنه من التحرر من المنظور ومن أواليات التشخيصية. ففي عصره كان الغرب يعتبر الزخرفي تنميقًا "بلاغيًا" في التشكيل، وخاصية ثانوية مستقلة ليس لها تجذر ثقافي أو حضاري، وتشكل زينة وتزويقًا يساهم في تجميل معمار أو تحفة أو كتاب. بيد أن هذه المفارقة لا يمكنها أن تنسينا، كما يرى ذلك أوليغ غرابار، أن الزخرفي يتحدد باعتباره "شكلًا وسيطًا يمكن من تواتر التواصل البصري في الإبداع وفي تاريخ الفن عمومًا". لقد استعاد ماتيس للزخرفي قوته، وإن كان الفن الحديث لم يمنحه أبعاده الحقيقية، إلا مع أعمال أندي وارول في استعماله للورق المصبوغ papier peint. وهذه الاستعادة سوف يستثمرها بعض الفنانين المعاصرين في توظيفهم للزربية ونهلهم منها. ولعل معرض "الزخرف دائما حي" (2012 بفرنسا) يستعيد للزخرفي حيويته التي باتت حتى في الكتابات النظرية والتاريخية للفن ذات أبعاد جديدة.

    أما بول كلي فإن تصوره للون سوف يتعزز أيضًا خلال رحلته إلى تونس، إذ كتب في مذكراته خلال مقامه في القيروان: "كل هذا يخترق شخصيتي بعمق وعذوبة، وأشعر به وأمتلكه بدون جهد. لقد أخذني اللون، ولا حاجة لي لأن أتمكّن منه. لقد امتلكني اللون للأبد، وأنا أعرف ذلك. وهذا هو ما يمنح هذه اللحظة السعيدة معناها. لقد صرنا أنا واللون شيئًا واحدًا. وها إني قد أصبحت فنانًا تشكيليًا".

    اللون لدى ماتيس يرتبط بالمساحة، وتغيره وتلاوينه تتعلق بالامتداد والأبعاد؛ وهو لدى بول كلي يتعلق بشيئية الشيء أي كيانية المرئي. فالشيء لا يتلقى اللون بشكل سكوني. وبول كلي كما يلح على ذلك جان دوفينيو، كان مهووسًا، قبل أن يتوجه إلى تونس، بأمر يتمثل في أن كل شكل سري يفرز نوره الخاص. إنه أمر أشبه بالفرضية والحلم سيتحقق في أحضان تونس. من ثم لا الباوهاوس ولا صديقه كاندينسكي (الذي كان قد زار بدوره تونس قبله)، ولا المتاحف منحته صفاء الأصوات والألوان والروائح والحركات ووفرتها. "من ثم ليس هناك من لون من غير قيمة، وليس ثمة من قيمة من دون حدّ، وليس هناك من شكل من غير شكل مكوّن: فكينونة اللون هي عماده ورحِمه".
    "تبدو تجربتا الشرقاوي وبلكاهية، بالرغم من اختلافهما، قريبتين من تصور بولي كلي. إنها تجريدية علامية ورمزية منفتحة على الحياة وقضاياها"
    ولعل هذا الارتباط الوجودي باللون هو ما جعله يستبطن تونس ويفكرها نظريًا وتشكيليًا في الآن نفسه، ويترك أثرًا بالغًا في الفن المغاربي والعربي، فيما كان المرور بالمغرب لدى ماتيس أشبه بمختبر واقعي يستمد منه معطيات مؤكدة لأبحاثه التشكيلية. كان ذلك الاستبطان وجوديًا وتشكيليًا في الآن نفسه، فيما أن أنوار ومناظر وأشياء المغرب كانت تصب لدى ماتيس في بلورة الزخرفية كنمط للتشكيل.

    ماتيس وبول كلي: من الأثر إلى التأثير

    لم يترك ماتيس طنجة إلا سنوات قليلة حتى شهدنا ولادة الفن التشكيلي المسندي ومنظومة اللوحة مع أول معرض لمحمد بن علي الرباطي. وفي الجزائر، حيث كان ماتيس قد حط الرحال قبل المغرب (1906) كانت أعمال محمد راسم قد رسخت ارتباطها بتقاليد المنمنمة. هكذا نجد أنفسنا بين تاريخين للتصوير، متوازيين في المظهر ومتقاطعين في الجوهر ومتخالفين في الزمنية. فالزمنية temporalité المتحكمة في انجذاب ماتيس وبول كلي للشرق هي زمنية تاريخية تطورية تنطلق من التشخيصية التجسيمية التشبيهية نحو التجريدية، والزمنية المتحكمة في تجربتي محمد راسم والرباطي هي زمنية لاتاريخية historiale لأنها تنطلق من هوامش الفن الإسلامي (المنمنمة) وتجعله منطلقًا للحداثة البصرية. إن هذه الانطلاقة المتعتعة لها مشروعيتها لأنها تمتح من خلفية غربية وموروث إسلامي خالقة هجنة تشكيلية لا هي بالشرقية ولا هي بالغربية، ومن خلال وسيط كان هو السير ألفور معلم الرباطي وإتيين ديني معلم محمد راسم. تماما كما هي بشكل آخر لوحات ماتيس المغربية، التي كانت وساطتها فنون الشرق.

    كانت الولادة الجديدة لماتيس من خلال المنمنمة ومعها باقي الفنون الشرقية، وكانت ولادة الفن المغاربي في الفترة نفسها تمتح من المنمنمة وتسعى في الآن نفسها للتعلق بالفن الغربي، من غير أن تتمكن من تقنياته ولا من تاريخه. المفارقة إذًا تاريخية ولو أن مصدر الإلهام واحد. كان ذلك بشكل متوازٍ وفي تجربتين منفصلتين تمامًا.
    لماذا ترك بول كلي أثرًا في الفن المغربي والعربي، مع أنه لم تطأ قدماه المغرب؟
    ليس من قبيل الصدفة أيضًا أن هذه العودة للتراث ستتحقق عقودًا بعد ذلك من خلال وساطة هؤلاء الفنانين الغربيين الذين سحرهم الشرق وخاصة من خلال وساطة بول كلي، في لحظتين هامتين:

    اللحظة الأولى

    في العدد الخاص الذي كرسته مجلة أنفاس للوضعية التشكيلية المغربية (1967) يصرح بلكاهية في شهادة تهمنا هنا على أكثر من صعيد: "لقد كنت حساسًا للعلامة بشكل مبكر. فحوالي 1956، كان لاكتشافي بول كلي أثر قلب حياتي رأًسًا على عقب. فقد أحسست أني قريب جدا من حضور العلامة في أعماله. ولم أكن أعلم بأن بول كلي قد زار شمال أفريقيا إلا في ما بعد، وأن مسيره الفني قد عرف تبعا لذلك منعطفًا خاصًا، هذا الأمر قد برر لديّ بعد ذلك مباشرة تلك الجاذبية التي عشتها في بداياتي". وبالرغم من أن الأعمال الأولى لبلكاهية كانت تتسم بالانطباعية، فإنه لم يلبث مع تجربة استخدام النحاس أن اندرج في علامية منخرطة في التقاليد والتراث تؤوولها بطريقة بالغة الحداثة.

    وفي الوقت الذي أعلن فيه الجيلالي الغرباوي عن انفصاله عن التراث البصري المحلي والعربي الإسلامي، قصْد توكيد ذاتيته الفنية، لم يمكننا الشرقاوي من إجاباته عن أسئلة طوني مارايني وعن علاقته بالتراث. كان قد توفي في السنة نفسها قبل صدور هذا العدد المرجعي من المجلة. هل لنا أن نتصور جواب الشرقاوي انطلاقًا من عمله وتصريحاته. ذلك ما تلخصه طوني مارايني بقولها عنه وهو يبلور تجربته الجديدة: "بيد أن الشرقاوي... راجع كل ما اكتنزه في نفسه: الفضول للعلامة والرمز، وحيوية الأشكال والفضاء الممتد، والألوان الصلبة. كل هذا تكثفت حدّته بالحنين المتزايد إلى المغرب، وإلى فنه، وإلى تقاليده التشكيلية ومستتبعاتها النفسية. كانت هذه المراجعة حدسية... وكانت هذه العلامات -الواسعة والقوية والصلبة- تركز الانتباه في نهاية المطاف وتستجذب الذبذبة اللونية (المشتتة والمؤنثة في اللوحات الغواشية)، التي غدت متمكنة من نفسه في هذه اللوحات الكبرى..."..

    تبدو تجربتا الشرقاوي وبلكاهية، بالرغم من اختلافهما، قريبتين من تصور بولي كلي. إنها تجريدية علامية ورمزية منفتحة على الحياة وقضاياها. وكما تلاحظ ذلك طوني مارايني، فإن الطابع الحركي للعلامات (الوشوم) لدى الشرقاوي ستترك الفضاء فسيحا في آخر حياته لتلوينية ذات طابع صوفي روحاني من جهة، كما لانفتاح على عناصر جسدية (العينين). وذلك هو ما سيؤكده الخطيبي بشكل واضح كما سنرى.

    اللحظة الثانية

    بضع سنوات بعد ذلك، سوف يجمع شاكر حسن آل سعيد الفنانين العراقيين الذين يشتغلون على الحرف والعلامة في معرض مشهود سيطلق عليه "البعد الواحد استلهام الحرف". وحين نتمعن جيدًا في بيان الجماعة كما في ما كتبه شاكر حسن، سنجده يسير بجذور استلهام الحرف إلى العلامية كالكتابة السومرية وتجربة أستاذه جواد سليم الذي كان يستلهم العلامات، كما يذكر تجارب أخرى لها علاقة بالعلامة. وسيسير شربل داغر على هذا النهج في كتابه عن الحروفية. وحين يتطرق شاكر حسن إلى استلهام الحرف في الغرب نجده يشير إلى مدرسة الباوهاوس، التي انتمى إليها بول كلي في مرحلة معينة، ثم يحيل إلى بول كلي قائلًا: "فمنذ أوائل القرن العشرين... ظهرت مكانة الخط (وضمنا الكتابة بالخط) التعبيرية والتجريدية بل والتكعيبية في المجال الفني، مما حدا ببعض الفنانين الأوروبيين إلى استخدامه كعنصر من عناصر العمل الفني (بيكاسو، بول كلي، الفنان المستقبلي مارينتي)، وهو في شكله الكتاب، أي كحرف"، بل إنه يثبت لوحة له بعنوان المزهرية.

    من ناحية أخرى، يتبنى شاكر حسن بشكل واضح لا لبس فيه تصور بول كلي للتجريدية الذي ينتمي له استلهام الحرف، كما شاع الأمر لدى مجموعة البعد الواحد. وهو تصور ذو بعد روحاني وصوفي لا يجعل من التجريدية تجربة شكلانية محضة، تقطع مع أي حسية عينية تشخيصية.

    ينتقد بول كلي "الرومانسية الباردة" للاتجاه التجريدي (كما هي الحال لدى كاندينسكي)، فهو يربط التجريد بقبول الواقع أو رفضه، أي بالأحاسيس تجاه العالم. التجريد في نظره يظل مرتبطا بأشكال الواقع وهو يرتبط بالرعب من العالم. لذلك ينشط التجريد في واقع الحروب المرعب.

    بالرغم من أن شاكر حسن يتحدث عن التجريد باعتباره المؤطر لتعامله مع الحرف، إلا أنه في نصوص أخرى لاحقة على بيان البعد الواحد سوف يستبدل ذلك باصطلاح "اللاتشخيص". وهو ما يحيل بشكل خاص إلى تصور بول كلي، ويُعتبر انزياحًا من لدن شاكر حسن كما من بعض الذين ساهموا معه في بين البعد الواحد (بالأخص ضياء العزاوي) عن تصور كاندينسكي. وهو التصور الذي لخصه بول كلي قائلًا: "تجريدي، ماذا تعني تلك الصفة؟ عندما نصف مصورًا بأنه تجريدي، فذلك لا يعني أن ننفي عنه أي إمكان لتأسيس علاقة محاكاة بأشياء الطبيعة، أي أنه لا يحاكيها بالمرة. وإنما الأمر يعني، بغض النظر عن هذا الإمكان، تحرره من العلاقات التشخيصية البحتة. والأمثلة على إمكانية الربط بين الشكل المجرّد وأشياء الطبيعة كثيرة، فالشكل الواحد يمكن أن يصبح قطة أو بيضة أو زهرة أو امرأة".

    عود على بدء

    لنعد إلى أحمد الشرقاوي، هذه المرة من خلال نظرة عبد الكبير الخطيبي في تفكيره في مسألة الجذور لدى الشرقاوي، حتى نسد ثغرة الصمت التي تركها وراءه هذا الفنان الذي غاب مبكرًا. ولنقل إن الفنان هنا يتحدث من خلال نظرة المفكر الكاتب، القارئ للوحاته.

    يعتبر الخطيبي أن الفضل يعود لبول كلي في الرسم الدقيق لمسألة الشرق. فالشرق لم يعد أسطورة غير مفكر فيها، وفرصة عابرة للمتعة، وإنما أضحى انبثاقًا للجذور تنفصم به الهوية في فورة الفن. والشرق هنا يغدو، حسب الخطيبي، أرضًا مضيافة تستقبل من يسير نحوه كضيف يمشي نحو الشمس المشرقة. وفي هذا المسير يكون بول كلي شرقيًا بشكل لا نهائي. فهو يحتفي بالشرق في كل لون وعلامة ورمز.

    ويصرح الخطيبي بوضوح لا لبس فيه: "ولهذا السبب يكون الشرقاوي في جهة بول كلي. ولهذا السبب، في نظرنا، كان اللقاء ضروريًا بين الشرقاوي وبول كلي، فيما وراء الشهوانية التصويرية وميتافيزيقا التصوير. لقد توفي الشرقاوي في الثانية والثلاثين من عمره، بيد أن الشعاع الذي ينير مشواره الفني الموقوف، قد أشار لنا بالقضية الكاليغرافية للجذور".

    إننا بهذا المنظور البراني، نعيد قراءة شرق الفن الغربي، لا فقط في أجوائه الاستشراقية والاستشراقية الجديدة، ولا أيضًا فقط في الاستشراق الداخلي الذي استشرى لدينا في الفن العربي، وإنما أيضًا في الطرائق الجديدة التي تقاطع بها بول كلي وماتيس وتخالفا، عقودًا بعد حلولهما بالمغرب، في أثرهما في الفن المغاربي والعربي... إنها امتدادات حركية كان فيها ماتيس يمتح من الشرق نسغه، وكان فيها بول كلي يحرر الشرق من شرقيته الاستيهامية ويمنحه للعالم في نسغه الوجودي كاختلاف مثير... وذلك ما وصل أثره إلى رحاب الحداثة التشكيلية العربية.
يعمل...
X