وارد بدر السالم 26 سبتمبر 2023
تشكيل
عاصم فرمان
شارك هذا المقال
حجم الخط
(1)
في مكانٍ ما من العالم البعيد سبقه الحارث إلى الوداع الأخير. فعاش الفنان العراقي عاصم فرمان غربتين صعبتين: الأولى بفقدان ابنه، وهي غربة روحية، والثانية أن الحارث توفي مغتربًا في بلادٍ بعيدة (في النمسا) وهي غربة الغربة بمعناها الرمزي. يومها كتب في رسالة إلى ولده المتوفى: أنا أطحن بقايا الروح مسرعًا للقائك... وهذه اللقاءات النبوئية صعبة وقاسية على الفنان عاصم فرمان (توفي يوم 21 أيلول/ سبتمبر 2023) ولكن يمكن أن يكون الاستنتاج الطبيعي لمعاناته وفورة الحساسية الفنية فيه، بأنها غربة أخرى من اغترابات الروح في المنافي القسرية، ونجدها موازية للغربة العامة التي جرّبها فرمان في ترحاله العربي في أكثر من مكان عربي، أستاذا محاضرًا، ورسامًا له بصمته الفنية التي لا تُخفى على متتبعي مساراته الإبداعية في جيل مضطرب سياسيًا واجتماعيًا. لكنه لم يتخلّ عن مناخه العراقي في أشواط كثيرة أبعدته عن هذا المناخ، ولا تغيرت مفرداته التي انصهر معها في المختبر الوطني الصعب، وهو أمر مؤكد في مَعارضه التي كان يصيّر فيها الذاكرة وتشظياتها رموزًا بعيدة وقريبة، لتصوير المجتمع وتداعياته، عبر الشكل المباشر لتفصيلات الوجوه، وما تكتنزه من شظايا ذاكرة تتجمع في بؤرته المواجِهة للمتلقي، كتجسيد معقول لثنائية الواقع والخيال الفني، لا سيما في معرضه الجمالي (شظايا الذاكرة) الذي انزوى فيه الفنان فرمان خلف واجهة نقدية، كونه يمارس النقد الفني، ويعرف خفايا اللوحة، وإجراءاتها الرمزية والواقعية وحجم الخيال فيها. وما يجعل لوحاته قريبة من التشكّل الاجتماعي، هو مقدار ما تختزنه اللوحة وتُظهره من أهوال الحرب ومعطياتها المأساوية.
(2)
بين التشخيص المؤلم لحالة فردية، وبين تشخيص آلام مجتمع متداخل النزعات والأفكار والأديان والطوائف، لم يكن فرمان ضعيفًا في مواجهة أعاصير الحياة الشائكة، بل تيقن من وجود روابط خفيّة، بين ما هو شخصي، وما هو اجتماعي، فلم يكن فقدان ولده الحارث سببًا لانغماسه في اللون وشكليات اللوحة، بل إن نسبة الأزمات العامة، فاقت ما هو شخصي، وتوسعت إلى حدود بعيدة، فالفقدان؛ كأثر نفسي مباشر؛ يقابله فقدان جماعي لروح الحياة في عصر مكتظ بالحروب والأزمات المجتمعية، لهذا تكون الفقدانات المجتمعة، أوسع مدى من غيرها، وأكثر التصاقًا بفضاء اللوحة وتقنيتها المستوحاة من تلك المصائر. وربما، أقول ربما، أن الحادثة الشخصية (فقدان ولده) جعلت ألوانه أكثر ميلًا إلى العتمة، بموازاة الفقدانات العامة، في مصائر كثيرة أورثتها الحروب الفتّاكة. لهذا نرى أن التجربة الفرمانية الأخيرة أكثر ميلًا إلى الاختصار والإيجاز عبر الوجوه المعتمة التي تخفي جزءًا كبيرًا من تعبيراتها الكارثية. (3)
ولأنه يهتم بمخرجات النقد، فإنه يعرف الكثير من أسرار اللون واختزالاته بين مفرزات اللوحة وكيانها الشخصي، ومن المؤكد أن له عينيّ الناقد، لا عيني الرسام. وهذا أمر قد يكون مرهقًا لفنان، يتداعى بفطرة الرسم، بالرغم من أكاديميته، لذلك نجده صارمًا في تقنياته الرسمية، فهو رسام وناقد للوحته، وبالتالي حينما يمتلك الصفتين، نتلقى لوحاته كما لو أنها مختزَلة، صافية، موجهة إلى التلقي العام، ومعها أسرارها الفنية، لا سيما تلك التي تتكون من حروف وعلامات وصور خيالية، فهي "خلاصة نقدية" أكثر من كونها خلاصة رَسْمية، ونعتقد أن هذا وحده كافلٌ لعطائه الفني وقوته أيضًا. ويمثل- بين ما يمثله- تجربة جيله، التي أعقبت ريادة التشكيل العراقي بأسماء كبيرة معروفة عربيًا وعالميًا. وهو جيل شهد الحروب بأنواعها المباشرة وغير المباشرة.
(4)
الذاكرة عند الفنان فرمان هي وجوه شمعية، مغلّفة. لا يمكن تصوُّرها واضحة المعالم. وقد لا تكون لها أسرار مفعمة بالتأويلات، بقدر ما فيها من أزمات نفسية وروحية، تعكس الكثير من تجارب الفنان، ليست الشخصية على وجه الدقة، لكنها الأزمات العامة التي خاضها العراق بحروب غير مبررة، أنتجت الكثير مما نعدّه تشويهات أجيال متعاقبة في وجودها الوطني، وبين ما تحمله من آثار سلبية كارثية على محتواها الداخلي- النفسي الذي يمثل شهادات حيّة لذلك الوجود الاجتماعي الضعيف، أمام هيمنة الظروف اللا إنسانية التي كان على الجميع أن يتحملوا وزرها وثقلها ونتائجها. ومن ثم فالوجوه الفرمانية، هي وجوه لا تفصح عن كيانها الفردي المباشر، بل تفصح عن مأساة جماعية مشتركة في أزماتها المتحدة. وحتى طريقة تعامله مع الجسد البشري في معرضه "شظايا الجسد" هو تعامل خبير في ذاكرة الجسد. فالجسد إفراز من إفرازات الواقع الذي عانى من ويلات كثيرة، ليس أولها وآخِرها الحروب، وما تمثله من نكبات شخصية وعامة في مفاصل المجتمع. وبالتالي نجد المهيمنات الفنية ؛عدا الوجوه المغلّفة؛ هي الأجساد، حاملة المعاني والرموز وعبء الأزمات الكبيرة. لهذا لا نجد الألوان المشرقة في معظم لوحاته. بل يمكن فرز ألوان الكآبة الرمادية والصفراء، من دون إشراقات لونية كثيرة، لتقع لوحته في أزمة ألوان المأساة التي يجسدها فرمان في الكثير من لوحاته عبر معارضه الشخصية التي ينجزها بتمهل واضح.
(5)
المتأمل لعنوانات معارض الراحل فرمان "شظايا الذاكرة"، "شظايا الجسد"، "شظايا الروح" سيجدها مجموعة لوحات متضامنة مع إفرازات عصر غير سليم من النواحي الاعتبارية والروحية والنفسية، فقد لا تظهر الروح عنده إلا عبر الجسد، وذاكرة الجسد مصابة بعطب الروح، وكلها إصابات عميقة، أتقنها الراحل في تقنيات الشكل واللون، بتغييب الملامح، أو إخراجها من حيّز الفضاء الرسمي، لتأكيد شموليتها الاجتماعية والسيكولوجية، لتكون قريبة من هاجس الجميع. ويمكن ملاحظة تقليص الجسد إلى مفهوم الوجه المشوّه، كخلاصة من خلاصات الروح في اللوحة التي يقدما الفنان. (6)
يلخص الفنان الراحل وجهة نظره: لجأت منذ بداياتي إلى المدرسة التعبيرية الرمزية التي تتصدى لهذه الموضوعات، فأنا جزء من هذا المجتمع وألتقط بعض المفردات بما يتوافق مع رؤيتي الفنية. والعنصر الإنساني مهم جدًا في لوحاتي (من لقاء مع الفنان في إذاعة مونت كارلو، 4/3/2012).
بطاقة
الدكتور الفنان عاصم فرمان:
تشكيل
عاصم فرمان
شارك هذا المقال
حجم الخط
(1)
في مكانٍ ما من العالم البعيد سبقه الحارث إلى الوداع الأخير. فعاش الفنان العراقي عاصم فرمان غربتين صعبتين: الأولى بفقدان ابنه، وهي غربة روحية، والثانية أن الحارث توفي مغتربًا في بلادٍ بعيدة (في النمسا) وهي غربة الغربة بمعناها الرمزي. يومها كتب في رسالة إلى ولده المتوفى: أنا أطحن بقايا الروح مسرعًا للقائك... وهذه اللقاءات النبوئية صعبة وقاسية على الفنان عاصم فرمان (توفي يوم 21 أيلول/ سبتمبر 2023) ولكن يمكن أن يكون الاستنتاج الطبيعي لمعاناته وفورة الحساسية الفنية فيه، بأنها غربة أخرى من اغترابات الروح في المنافي القسرية، ونجدها موازية للغربة العامة التي جرّبها فرمان في ترحاله العربي في أكثر من مكان عربي، أستاذا محاضرًا، ورسامًا له بصمته الفنية التي لا تُخفى على متتبعي مساراته الإبداعية في جيل مضطرب سياسيًا واجتماعيًا. لكنه لم يتخلّ عن مناخه العراقي في أشواط كثيرة أبعدته عن هذا المناخ، ولا تغيرت مفرداته التي انصهر معها في المختبر الوطني الصعب، وهو أمر مؤكد في مَعارضه التي كان يصيّر فيها الذاكرة وتشظياتها رموزًا بعيدة وقريبة، لتصوير المجتمع وتداعياته، عبر الشكل المباشر لتفصيلات الوجوه، وما تكتنزه من شظايا ذاكرة تتجمع في بؤرته المواجِهة للمتلقي، كتجسيد معقول لثنائية الواقع والخيال الفني، لا سيما في معرضه الجمالي (شظايا الذاكرة) الذي انزوى فيه الفنان فرمان خلف واجهة نقدية، كونه يمارس النقد الفني، ويعرف خفايا اللوحة، وإجراءاتها الرمزية والواقعية وحجم الخيال فيها. وما يجعل لوحاته قريبة من التشكّل الاجتماعي، هو مقدار ما تختزنه اللوحة وتُظهره من أهوال الحرب ومعطياتها المأساوية.
(2)
بين التشخيص المؤلم لحالة فردية، وبين تشخيص آلام مجتمع متداخل النزعات والأفكار والأديان والطوائف، لم يكن فرمان ضعيفًا في مواجهة أعاصير الحياة الشائكة، بل تيقن من وجود روابط خفيّة، بين ما هو شخصي، وما هو اجتماعي، فلم يكن فقدان ولده الحارث سببًا لانغماسه في اللون وشكليات اللوحة، بل إن نسبة الأزمات العامة، فاقت ما هو شخصي، وتوسعت إلى حدود بعيدة، فالفقدان؛ كأثر نفسي مباشر؛ يقابله فقدان جماعي لروح الحياة في عصر مكتظ بالحروب والأزمات المجتمعية، لهذا تكون الفقدانات المجتمعة، أوسع مدى من غيرها، وأكثر التصاقًا بفضاء اللوحة وتقنيتها المستوحاة من تلك المصائر. وربما، أقول ربما، أن الحادثة الشخصية (فقدان ولده) جعلت ألوانه أكثر ميلًا إلى العتمة، بموازاة الفقدانات العامة، في مصائر كثيرة أورثتها الحروب الفتّاكة. لهذا نرى أن التجربة الفرمانية الأخيرة أكثر ميلًا إلى الاختصار والإيجاز عبر الوجوه المعتمة التي تخفي جزءًا كبيرًا من تعبيراتها الكارثية. (3)
ولأنه يهتم بمخرجات النقد، فإنه يعرف الكثير من أسرار اللون واختزالاته بين مفرزات اللوحة وكيانها الشخصي، ومن المؤكد أن له عينيّ الناقد، لا عيني الرسام. وهذا أمر قد يكون مرهقًا لفنان، يتداعى بفطرة الرسم، بالرغم من أكاديميته، لذلك نجده صارمًا في تقنياته الرسمية، فهو رسام وناقد للوحته، وبالتالي حينما يمتلك الصفتين، نتلقى لوحاته كما لو أنها مختزَلة، صافية، موجهة إلى التلقي العام، ومعها أسرارها الفنية، لا سيما تلك التي تتكون من حروف وعلامات وصور خيالية، فهي "خلاصة نقدية" أكثر من كونها خلاصة رَسْمية، ونعتقد أن هذا وحده كافلٌ لعطائه الفني وقوته أيضًا. ويمثل- بين ما يمثله- تجربة جيله، التي أعقبت ريادة التشكيل العراقي بأسماء كبيرة معروفة عربيًا وعالميًا. وهو جيل شهد الحروب بأنواعها المباشرة وغير المباشرة.
(4)
الذاكرة عند الفنان فرمان هي وجوه شمعية، مغلّفة. لا يمكن تصوُّرها واضحة المعالم. وقد لا تكون لها أسرار مفعمة بالتأويلات، بقدر ما فيها من أزمات نفسية وروحية، تعكس الكثير من تجارب الفنان، ليست الشخصية على وجه الدقة، لكنها الأزمات العامة التي خاضها العراق بحروب غير مبررة، أنتجت الكثير مما نعدّه تشويهات أجيال متعاقبة في وجودها الوطني، وبين ما تحمله من آثار سلبية كارثية على محتواها الداخلي- النفسي الذي يمثل شهادات حيّة لذلك الوجود الاجتماعي الضعيف، أمام هيمنة الظروف اللا إنسانية التي كان على الجميع أن يتحملوا وزرها وثقلها ونتائجها. ومن ثم فالوجوه الفرمانية، هي وجوه لا تفصح عن كيانها الفردي المباشر، بل تفصح عن مأساة جماعية مشتركة في أزماتها المتحدة. وحتى طريقة تعامله مع الجسد البشري في معرضه "شظايا الجسد" هو تعامل خبير في ذاكرة الجسد. فالجسد إفراز من إفرازات الواقع الذي عانى من ويلات كثيرة، ليس أولها وآخِرها الحروب، وما تمثله من نكبات شخصية وعامة في مفاصل المجتمع. وبالتالي نجد المهيمنات الفنية ؛عدا الوجوه المغلّفة؛ هي الأجساد، حاملة المعاني والرموز وعبء الأزمات الكبيرة. لهذا لا نجد الألوان المشرقة في معظم لوحاته. بل يمكن فرز ألوان الكآبة الرمادية والصفراء، من دون إشراقات لونية كثيرة، لتقع لوحته في أزمة ألوان المأساة التي يجسدها فرمان في الكثير من لوحاته عبر معارضه الشخصية التي ينجزها بتمهل واضح.
"هو رسام وناقد للوحته، وبالتالي حينما يمتلك الصفتين، نتلقى لوحاته كما لو أنها مختزَلة، صافية، موجهة إلى التلقي العام، ومعها أسرارها الفنية" |
المتأمل لعنوانات معارض الراحل فرمان "شظايا الذاكرة"، "شظايا الجسد"، "شظايا الروح" سيجدها مجموعة لوحات متضامنة مع إفرازات عصر غير سليم من النواحي الاعتبارية والروحية والنفسية، فقد لا تظهر الروح عنده إلا عبر الجسد، وذاكرة الجسد مصابة بعطب الروح، وكلها إصابات عميقة، أتقنها الراحل في تقنيات الشكل واللون، بتغييب الملامح، أو إخراجها من حيّز الفضاء الرسمي، لتأكيد شموليتها الاجتماعية والسيكولوجية، لتكون قريبة من هاجس الجميع. ويمكن ملاحظة تقليص الجسد إلى مفهوم الوجه المشوّه، كخلاصة من خلاصات الروح في اللوحة التي يقدما الفنان. (6)
يلخص الفنان الراحل وجهة نظره: لجأت منذ بداياتي إلى المدرسة التعبيرية الرمزية التي تتصدى لهذه الموضوعات، فأنا جزء من هذا المجتمع وألتقط بعض المفردات بما يتوافق مع رؤيتي الفنية. والعنصر الإنساني مهم جدًا في لوحاتي (من لقاء مع الفنان في إذاعة مونت كارلو، 4/3/2012).
بطاقة
الدكتور الفنان عاصم فرمان:
- تخرج من معهد الفنون الجميلة عام 1978 (فن الكرافيك).
- التحق بعدها في كلية الفنون الجميلة.
- أكمل شهادة الماجستير في فن الرسم عام 1989
- حاز على شهادة الدكتوراه في تاريخ الفنون التشكيلية عام 1999
- عاد إلى كلية الفنون الجميلة مدرّسًا عام 2003
- انتقل إلى جامعة الحُديدة في اليمن حتى عام 2006
- أستاذ في جامعة عمّان الأهلية- كلية الآداب والفنون عام 2009
- نال عددًا من الجوائز العراقية والعربية منها: جائزة الكرافيك في بينالي بغداد الثالث عام 2002 وجائزة ملتقى التشكيلين العرب في القاهرة عام 2012 وجائزة الأوسكار البرونزية في ملتقى فنانين الشرق الأوسط عام 2012
- أقام عددًا من المعارض داخل العراق وخارجه.
- شارك في العديد من المعارض الجماعية داخل العراق ودول عربية وأجنبية.
- له الكثير من الدراسات والبحوث في مجال الفن. ونشر نصوصه التخطيطية في المجلات الثقافية والأدبية.
- عمل أستاذًا للفنون التشكيلية في كلية الفنون الجميلة في جامعة أوروك.
- شارك ببحوث ودراسات فنية في العديد من المهرجانات والندوات الفنية والنقدية كان آخرها مشاركته في مهرجان الفنون.
- له كتاب تحت الطبع بعنوان "تأريخ الفن المعاصر".