"رسالة إلى البشرية" في المهرجان السينمائي الدولي بسان بطرسبورغ
سمير رمان 25 نوفمبر 2023
سينما
من الحفل الافتتاحي للمهرجان
شارك هذا المقال
حجم الخط
بمشاركة 189 فيلمًا، اختتمت في نهايات تشرين الأول/ أكتوبر الماضي في مدينة سان بطرسبورغ في روسيا، النسخة الـ33 من مهرجان هذه المدينة السينمائي الدولي تحت شعار "رسالة إلى البشرية".
افتتح المهرجان بفيلم المخرج الفرنسي ميشيل غوندري "كتاب القرارات/Le Livre des solutions"، الذي سبق أن شارك في مهرجان كان السينمائي لهذا العام. المخرج الذي استحوذ على قلوب النقاد وعشاق السينما بفيلمه "إشراقة أبدية للعقل الناصع/ Eternal Sunshine of the Spotless Mind" عام 2004، لم يخرج فيلمًا كاملًا منذ عام 2015، ولكنّه يواصل طريقه من خلال الفيديوهات الموسيقية والأفلام القصيرة، ومسلسل "امزح" (2018 ـ 2020) عن ممثّلٍ كوميدي أصيب بالاكتئاب.
بصورةٍ ما، يشكّل مارك (الممثل بيير نيني) شخصية مختلفة بعض الشيء عن شخصية غوندري نفسه. مارك مخرج موهوب، ولكنّه يفتقر إلى التركيز، ولا يستطيع إنهاء فيلمه الجديد الذي أنيط به مهمة إخراجه. عندما يضيق المنتجون ذرعًا بمارك، يقررون إسناد المهمة إلى مخرجٍ آخر. عندها يهرب مارك إلى قرية عمّته النائية، مصطحبًا معه اللقطات التي سبق أن التقطها مع فريق عمله، ويتعهد للمنتجين من هناك بإنهاء الفيلم. ولكنّ مارك، وبدلًا من الإسراع بالإخراج يقوم بأعمالٍ أُخرى مختلفة تمامًا: رسم الرسوم الكاريكاتورية، وتأليف الموسيقى، أو القيام بدور عمدة القرية، أو العمل على ابتكار طرقٍ لإنقاذ العالم. يدوّن مارك كلّ ذلك في كتابٍ خاصّ. وكما هي الحال مع غوندري، يجعلك الفيلم تضحك تارةً في بعض المواقف، وتشعر بالانزعاج الشديد في مواقف أُخرى. بأعجوبة، ينهي مارك الفيلم، ولكن لم يعد هنالك يقين بأنّ نسخة الفيلم الأوّلى قد خرجت أخيرًا من أزمتها طويلة الأمد.
إذا كان فيلم "كتاب القرارات" يتحدث عن فقدان الثقة بالنفس، وبالعمل، فإنّ فيلم أمينة المستاري "مايكل دوغلاس المعجزة" يتحدّث عن العقد النفسية، وعن استعادة المرء صوته. في واقع الأمر، الفيلم عبارة عن مقابلة لمايكل دوغلاس الابن، تحدّث فيها عن علاقته بوالده، النجم السينمائي المعروف، والشخص الصعب في الحياة الأسرية. وتطرق فيها أيضًا إلى حياته المهنية وصراعه مع الإدمان والأمراض. وكما يليق الأمر بقصّةٍ هوليوودية، فهذه قصّة نجاح. فبعد أن بدأ دوغلاس الابن حياته، تمكّن من فصل نفسه عن والده، ونجح في بعض الأحيان في التفوّق عليه. وإذا نظرنا إلى جائزة الأوسكار كمعيار رسمي لقياس التفوق والنجاح، فقد حصل دوغلاس الابن على جائزتي أوسكار كأفضل ممثل، وأفضل منتج، في حين اكتفى دوغلاس الأب بثلاثة ترشيحات لنيل الجائزة، وجائزة فخرية عن مجمل أعماله. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ مشاعر لا يمكن كبتها، ربما تكون مرتبطةً بالأسف وخيبة الأمل، لا تزال تطلّ برأسها في حياة مايكل، على الرغم من كلّ سحره المهني، وقدرته على سرد القصص بشكلٍ كاريزميّ.
في ختام المهرجان، وقع اختيار لجنة التحكيم على الفيلم القصير "هل سيزورني والدي" للمخرج الصومالي مو هراوي، لتتويجه كأفضل فيلم.
ولد المخرج مو هراوي في مقديشو، وغادر وطنه إلى النمسا، حيث يقيم منذ عام 2009. الفيلم ناطقٌ باللغة الصومالية، وهو الرابع للمخرج الصومالي الذي سبق له أن شارك في مهرجانات دولية عدة. يصور الفيلم آخر يومٍ في حياة شخصٍ محكوم بالإعدام، ويتطرق إلى التدقيقات القانونية الطويلة، والإجراءات الطبية المتعددة، والأهمّ من كلّ ذلك مأساة آخر زيارات الأمّ لابنها، وآخر الأسئلة التي يتبادلها السجين وحرّاسه. بعد عرضٍ استغرق 28 دقيقة، وبعد كلّ الإجراءات المحكمة التي تؤديها عجلة الآلة الحكومية، تتضح فظاعة لحظة مواجهة للإنسان لمصيره.
وذهبت الجائزة الخاصة، التي تمنحها لجنة التحكيم الدولية لأفضل إخراج، إلى فيلم "الشفق/ Twilight" للمخرج فلاديمير إيسنر، وهو عبارة عن ثلاثية وثائقية تصور الحياة في مقاطعةٍ روسيّة من خلال مقاطع صوّرت في سنواتٍ مختلفة. تدور أحداث الجزء الأول، التي صورت بالأبيض والأسود، في عام 2000، وبطله جنديّ عجوز شارك في الحرب العالمية الثانية، وأصبح نشّالًا في ما بعد. يتحدث عن نفسه على خلفية الأخبار السياسية العاصفة التي سادت بداية الألفية في روسيا. وتدور أحداث الجزء الثاني إلى عام 2013، بطلها الرئيس ضابط شرطة المقاطعة، الذي يضطّر من يومٍ إلى آخر إلى التعامل مع السكارى، وإلى فضّ العراكات الدائمة في قريةٍ نائيةٍ تعيش آخر أيامها في طريقها إلى الفناء. أمّا الجزء الثالث فتجري أحداثه عام 2023، حيث تسوق حلّابات البقر المواشي إلى المسلخ، وهنّ يستمعن إلى قصة طوفان نوحٍ تُبثّ عبر جهاز استيريو قديم. تبدو مشاهد الفيلم برمتها وكأنّها تعكس الحزن العميق المحتوم، الذي يثقل النفس الروسية منذ القدم.
ذهبت جائزة لجنة التحكيم الصحافية إلى فيلم الأميركية بيني لين عن فيلهما "اعترافات السامري الطيب/ Confession of a Good Samaritian" من برنامج "Panorama.doc". بشكلٍ عام، تميل أفلام لين إلى التميّز من خلال تناولها مقارباتٍ غير تقليدية لمواضيع غير تقليدية: على سبيل المثال، يحكي فيلم "الجنون" (عام 2016) قصة جون برينكلي، الطبيب الغريب الذي اخترع علاجًا للعجز الجنسي باستخدام خلاصة خصيتي تيس ماعز، ويتحدث فيلم "في تمجيد الظلام" عن "عبدة الشيطان"، ولكنّها في واقع الأمر لا تعبد الشيطان بقدر ما تعبد ممثلي الكنائس والأديان الرسمية. وفي فيلم "اعترافات السامريّ الطيب"، قررت لين القيام بالتفاتةٍ جذرية، ليس بالنسبة لمخرجٍ سينمائي فقط، بل وأيضًا لإنسانٍ عاديّ: فهي نفسها تصبح بطلة فيلمها، عندما تقرر التبرع بكليتها لشخصٍ غريب يحتاج طبيبًا مختصًا بزرع الأعضاء. يفتح هذا الفيلم المجال للحديث ليس فقط عن "التبرع الإيثاري"، كما تسمى الظاهرة، بل وعن طبيعة الإيثار والتعاطف بشكلٍ عام. بكثيرٍ من الصدقية، وبروحٍ عاليةٍ من الدعابة والاحترافية العالية، تثير لين موضوعًا معقدًا ومثيرًا للجدل، ولكنها في الوقت نفسه تنأى بنفسها بعيدًا عن المواعظ الأخلاقية، مما يفسح المجال للمشاهدين التوصل بأنفسهم إلى استنتاجاتهم الخاصّة، وربما القيام، بعد مغادرتهم السينما، ببعض الأعمال الصالحة، وإن كانت أعمالًا بسيطة وليست حاسمة بتلك الدرجة.
سمير رمان 25 نوفمبر 2023
سينما
من الحفل الافتتاحي للمهرجان
شارك هذا المقال
حجم الخط
بمشاركة 189 فيلمًا، اختتمت في نهايات تشرين الأول/ أكتوبر الماضي في مدينة سان بطرسبورغ في روسيا، النسخة الـ33 من مهرجان هذه المدينة السينمائي الدولي تحت شعار "رسالة إلى البشرية".
افتتح المهرجان بفيلم المخرج الفرنسي ميشيل غوندري "كتاب القرارات/Le Livre des solutions"، الذي سبق أن شارك في مهرجان كان السينمائي لهذا العام. المخرج الذي استحوذ على قلوب النقاد وعشاق السينما بفيلمه "إشراقة أبدية للعقل الناصع/ Eternal Sunshine of the Spotless Mind" عام 2004، لم يخرج فيلمًا كاملًا منذ عام 2015، ولكنّه يواصل طريقه من خلال الفيديوهات الموسيقية والأفلام القصيرة، ومسلسل "امزح" (2018 ـ 2020) عن ممثّلٍ كوميدي أصيب بالاكتئاب.
بصورةٍ ما، يشكّل مارك (الممثل بيير نيني) شخصية مختلفة بعض الشيء عن شخصية غوندري نفسه. مارك مخرج موهوب، ولكنّه يفتقر إلى التركيز، ولا يستطيع إنهاء فيلمه الجديد الذي أنيط به مهمة إخراجه. عندما يضيق المنتجون ذرعًا بمارك، يقررون إسناد المهمة إلى مخرجٍ آخر. عندها يهرب مارك إلى قرية عمّته النائية، مصطحبًا معه اللقطات التي سبق أن التقطها مع فريق عمله، ويتعهد للمنتجين من هناك بإنهاء الفيلم. ولكنّ مارك، وبدلًا من الإسراع بالإخراج يقوم بأعمالٍ أُخرى مختلفة تمامًا: رسم الرسوم الكاريكاتورية، وتأليف الموسيقى، أو القيام بدور عمدة القرية، أو العمل على ابتكار طرقٍ لإنقاذ العالم. يدوّن مارك كلّ ذلك في كتابٍ خاصّ. وكما هي الحال مع غوندري، يجعلك الفيلم تضحك تارةً في بعض المواقف، وتشعر بالانزعاج الشديد في مواقف أُخرى. بأعجوبة، ينهي مارك الفيلم، ولكن لم يعد هنالك يقين بأنّ نسخة الفيلم الأوّلى قد خرجت أخيرًا من أزمتها طويلة الأمد.
إذا كان فيلم "كتاب القرارات" يتحدث عن فقدان الثقة بالنفس، وبالعمل، فإنّ فيلم أمينة المستاري "مايكل دوغلاس المعجزة" يتحدّث عن العقد النفسية، وعن استعادة المرء صوته. في واقع الأمر، الفيلم عبارة عن مقابلة لمايكل دوغلاس الابن، تحدّث فيها عن علاقته بوالده، النجم السينمائي المعروف، والشخص الصعب في الحياة الأسرية. وتطرق فيها أيضًا إلى حياته المهنية وصراعه مع الإدمان والأمراض. وكما يليق الأمر بقصّةٍ هوليوودية، فهذه قصّة نجاح. فبعد أن بدأ دوغلاس الابن حياته، تمكّن من فصل نفسه عن والده، ونجح في بعض الأحيان في التفوّق عليه. وإذا نظرنا إلى جائزة الأوسكار كمعيار رسمي لقياس التفوق والنجاح، فقد حصل دوغلاس الابن على جائزتي أوسكار كأفضل ممثل، وأفضل منتج، في حين اكتفى دوغلاس الأب بثلاثة ترشيحات لنيل الجائزة، وجائزة فخرية عن مجمل أعماله. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ مشاعر لا يمكن كبتها، ربما تكون مرتبطةً بالأسف وخيبة الأمل، لا تزال تطلّ برأسها في حياة مايكل، على الرغم من كلّ سحره المهني، وقدرته على سرد القصص بشكلٍ كاريزميّ.
في ختام المهرجان، وقع اختيار لجنة التحكيم على الفيلم القصير "هل سيزورني والدي" للمخرج الصومالي مو هراوي، لتتويجه كأفضل فيلم.
ولد المخرج مو هراوي في مقديشو، وغادر وطنه إلى النمسا، حيث يقيم منذ عام 2009. الفيلم ناطقٌ باللغة الصومالية، وهو الرابع للمخرج الصومالي الذي سبق له أن شارك في مهرجانات دولية عدة. يصور الفيلم آخر يومٍ في حياة شخصٍ محكوم بالإعدام، ويتطرق إلى التدقيقات القانونية الطويلة، والإجراءات الطبية المتعددة، والأهمّ من كلّ ذلك مأساة آخر زيارات الأمّ لابنها، وآخر الأسئلة التي يتبادلها السجين وحرّاسه. بعد عرضٍ استغرق 28 دقيقة، وبعد كلّ الإجراءات المحكمة التي تؤديها عجلة الآلة الحكومية، تتضح فظاعة لحظة مواجهة للإنسان لمصيره.
"ذهبت الجائزة الخاصة، التي تمنحها لجنة التحكيم الدولية لأفضل إخراج، إلى فيلم "الشفق" للمخرج فلاديمير إيسنر" |
وذهبت الجائزة الخاصة، التي تمنحها لجنة التحكيم الدولية لأفضل إخراج، إلى فيلم "الشفق/ Twilight" للمخرج فلاديمير إيسنر، وهو عبارة عن ثلاثية وثائقية تصور الحياة في مقاطعةٍ روسيّة من خلال مقاطع صوّرت في سنواتٍ مختلفة. تدور أحداث الجزء الأول، التي صورت بالأبيض والأسود، في عام 2000، وبطله جنديّ عجوز شارك في الحرب العالمية الثانية، وأصبح نشّالًا في ما بعد. يتحدث عن نفسه على خلفية الأخبار السياسية العاصفة التي سادت بداية الألفية في روسيا. وتدور أحداث الجزء الثاني إلى عام 2013، بطلها الرئيس ضابط شرطة المقاطعة، الذي يضطّر من يومٍ إلى آخر إلى التعامل مع السكارى، وإلى فضّ العراكات الدائمة في قريةٍ نائيةٍ تعيش آخر أيامها في طريقها إلى الفناء. أمّا الجزء الثالث فتجري أحداثه عام 2023، حيث تسوق حلّابات البقر المواشي إلى المسلخ، وهنّ يستمعن إلى قصة طوفان نوحٍ تُبثّ عبر جهاز استيريو قديم. تبدو مشاهد الفيلم برمتها وكأنّها تعكس الحزن العميق المحتوم، الذي يثقل النفس الروسية منذ القدم.
ذهبت جائزة لجنة التحكيم الصحافية إلى فيلم الأميركية بيني لين عن فيلهما "اعترافات السامري الطيب/ Confession of a Good Samaritian" من برنامج "Panorama.doc". بشكلٍ عام، تميل أفلام لين إلى التميّز من خلال تناولها مقارباتٍ غير تقليدية لمواضيع غير تقليدية: على سبيل المثال، يحكي فيلم "الجنون" (عام 2016) قصة جون برينكلي، الطبيب الغريب الذي اخترع علاجًا للعجز الجنسي باستخدام خلاصة خصيتي تيس ماعز، ويتحدث فيلم "في تمجيد الظلام" عن "عبدة الشيطان"، ولكنّها في واقع الأمر لا تعبد الشيطان بقدر ما تعبد ممثلي الكنائس والأديان الرسمية. وفي فيلم "اعترافات السامريّ الطيب"، قررت لين القيام بالتفاتةٍ جذرية، ليس بالنسبة لمخرجٍ سينمائي فقط، بل وأيضًا لإنسانٍ عاديّ: فهي نفسها تصبح بطلة فيلمها، عندما تقرر التبرع بكليتها لشخصٍ غريب يحتاج طبيبًا مختصًا بزرع الأعضاء. يفتح هذا الفيلم المجال للحديث ليس فقط عن "التبرع الإيثاري"، كما تسمى الظاهرة، بل وعن طبيعة الإيثار والتعاطف بشكلٍ عام. بكثيرٍ من الصدقية، وبروحٍ عاليةٍ من الدعابة والاحترافية العالية، تثير لين موضوعًا معقدًا ومثيرًا للجدل، ولكنها في الوقت نفسه تنأى بنفسها بعيدًا عن المواعظ الأخلاقية، مما يفسح المجال للمشاهدين التوصل بأنفسهم إلى استنتاجاتهم الخاصّة، وربما القيام، بعد مغادرتهم السينما، ببعض الأعمال الصالحة، وإن كانت أعمالًا بسيطة وليست حاسمة بتلك الدرجة.