سردية مآسي قطاع غزة من خلال السينما
عبد الكريم قادري 21 نوفمبر 2023
سينما
لقطة من فيلم "وُلد في غزة"
شارك هذا المقال
حجم الخط
كانت فلسطين ولا تزال موضوعًا دسمًا للسينما المحلية والعالمية، خاصة في جنس الأفلام التسجيلية، التي وثّقت وسجّلت أبرز المراحل التي مر بها هذا البلد الضارب في عمق التاريخ، لكن هناك من رأى، من الدول الاستعمارية العظمى، بأن هذه الرقعة الجغرافية ستكون فضاء مواتيًا يمكن أن تجمع يهود العالم لتكون وطنًا بديلًا لهم، للتخلص من وجودهم ودسائسهم وسطوتهم من جهة، ومن جهة ثانية لتعويضهم على ما حدث لهم على يد النازية، لكنهم لم يعرفوا، سواء من ناحيتهم أو ناحية الكائن السرطاني الذي زرعوه فوق أرض ليست لهم، بأن الفلسطينيين عنيدون ووطنيون ومحبون لكل حبة رمل وكل حجر في بلدهم، لهذا استعمل الاحتلال كل ما يملك وبدفع من القوى الكبرى ليبيد هذا الشعب الأبي، فارتكبوا في حقه المجازر والتصفيات والإبادة الجماعية عبر مراحل التاريخ المختلفة، سواء قبل النكبة بقليل أو بعدها، لهدف واحد ووحيد، وهو إخافتهم وترهيبهم وزرع الرعب في كل فرد فيهم، لتصفية القضية ومحو فكر النضال والوقوف في وجه هذه الآلة الاستعمارية الغاشمة، لكن كل المحاولات فشلت، لأن الفلسطيني ينهض كطائر العنقاء بعد كل مجزرة، مشحون بروح التحرر والوطنية، لتتحول أداة المستعمر في القتل والإبادة وارتكاب المجازر في حق كل فئات المجتمع، لفكرة عظمى تحلق عاليًا بجناحين كبيرين، ينشدون من خلالها الحرية والاستقلال، وبالتالي تعطي مفعولًا عكسيًّا، فيتشبث الفلسطيني أكثر فأكثر بأرضه ورمله وزيتونه وأقصاه وكل شبر في فلسطين.
توثيق الجرائم سينمائيًا
حاولت السينما، وانطلاقًا من العديد من الأعمال، إعادة تجسيد بعض تلك الوقائع والمجازر والإبادات، خاصة في قطاع غزة الذي احتفظ بنصيب الأسد من منها، على يد الاحتلال الإسرائيلي عبر التاريخ، وما يحدث حاليا عجزت حتى أكثر السينمات العالمية خيالًا ومبالغة واستشرافًا عن تجسيد ولو جزء يسير منها، من عملية ممنهجة لإبادة سكان قطاع غزة، عن طريق قصف المدارس والمشافي والكنائس والمدارس والمخيمات وفضاءات المنظمات الدولية وسيارات الاسعاف وبيوت الأبرياء، عن طريق الأسلحة المحرمة دوليًا، ما خلف قائمة طويلة من الضحايا، أغلبهم من الأطفال والنساء ممن لا يملكون حولًا ولا قوة، ولا يعرفون من الحروب سوى ما أذاقها لهم هذا المحتل الغاشم، فما الذي ستقدمه السينما التسجيلية وحتى الروائية مستقبلًا لنقل وتوثيق هذه الجرائم، وما الذي قدمه هذا الفن في ما تم ارتكابه خلال الحروب الماضية على هذه الرقعة الجغرافية الفلسطينية التي أصبحت أشهر من نار على علم، بسبب ما يرتكب فيها، وما هي أهم هذه الأفلام وما الذي قدمته للقضية بشكل عام.
هنا قائمة مختارة:
"وُلد في غزة": أصوات الأطفال المبحوحة
الفيلم الوثائقي "وُلد في غزة" (Born in Gaza) الذي أخرجه المراسل الحربي والمخرج هيرنان زين (52 عامًا) وهو صانع أفلام من أصول إيطالية/ أرجنتينية، ويقيم حاليًا في إسبانيا منذ سنة 1994، نقل أوجاع وآلام وجراح أهالي غزة من خلال الحرب التي نفّذت عليهم بين شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب 2014، وهي السنة التي صوّر وأخرج فيها الفيلم الذي تبلغ مدته الزمنية (78 دقيقة)، ولقد استعار من خلاله المخرج هيرنان عيون الأطفال لنقل معاناة السكان بشكل عام، من خلال أطفال متقاربي الأعمار، بث أحلامهم وكوابيسهم ونظرتهم للمحيط والبيئة التي يعيشون فيها، إضافة إلى كيفية تعاملهم مع الحروب التي تشن عليهم والحصار الذي يعيشون فيه.
استطاع زين أن يصور عن طريق تلك البراءة المآسي الكبرى التي يعيشها قطاع غزة المحاصر منذ سنوات، كما تحدث الأطفال عن الفقد وفراقهم لمن يحبون، انطلاقًا من الموت الذي يرسله الاحتلال الإسرائيلي عن طريق طائراته ومدافعه وقنابله المتنوعة، فتأخذ عادة أرواح الكثيرين، من بينهم عائلات الأطفال الذين نقل المخرج أصواتهم، ومن بين الجمل التي بقت عالقة في ذهن المشاهد هو ما قاله أحد الأطفال بحسرة وحزن كبيرين: "أنا نفسي أعيش أروح ع المدرسة، مفيش خوف ولا قنابل زي الناس التانية، وميضربوش دارنا، يصير هدوء وأعيش زي ما أطفال تانية عايشين".
وتبقى هذه الصيحة تدوي في كل زمان ومكان، عسى أن يسمعها العالم اليوم، خاصة وأنها مشحونة بنفس عواطف الفقد التي كانت مشحونة به قبل حوالي تسع سنوات.
وقد عرض الفيلم في العديد من المهرجانات الدولية والمنصات، ونال جوائز واستحسان العديد من الجهات، خاصة وأن المخرج يملك مصداقية كبيرة وسبق له أن انجز العديد من الأعمال السينمائية والاستقصائية المشابهة.
"غزة تقاتل من أجل الحرية": مسيرة العودة الكبرى
استطاعت الصحافية ومعدة البرامج والمخرجة الأميركية آبي مارتن (39 عامًا) أن تواجه آلة الدعاية الإسرائيلية وأذرعها المتشابكة والقوية في الولايات المتحدة من أجل أن تكف عما تقوم به، وهو نصرتها للقضايا العادلة والتمييز العنصري والحقوق المدنية والقضية الفلسطينية، ووصل بهم الحد إلى أن قدموا لها وثيقة تعهد بالولاء لدولة الاحتلال الإسرائيلي، لكنها رفضت بشدة، ما جعلها تصطدم بالعديد من المطبات في بلدها الأم، من بينها قيام ولاية جورجيا الأميركية بمنعها من تقديم كلمة في جامعتها، لا لشيء سوى لأنها رفضت الانخراط في خندق إسرائيل المظلم والظالم، وهذا يوم 28 فبراير/ شباط 2020، كما سبق أن رفض طلبها من أجل الدخول إلى قطاع غزة لتغطية الأحداث التي كانت تجري فيه وتغطية مظاهرات "مسيرة العودة الكبرى" في قطاع غزة، والتي تمت مواجهتها بآلة القتل، عن طريق قنّاصة الاحتلال الإسرائيلي الذي قتل أكثر من 200 أعزل، كل همهم أنهم رفعوا الرايات الفلسطينية وقالوا لا للقتل والحصار والتجويع، وهذا سنة 2018، لهذا غيّرت المخرجة والناشطة والصحافية آبي مارتن بوصلتها الصحافية، ووجهتها صوب الفن السابع، حيث أنجزت فيلمًا وثائقيًا مميزًا اختارت له عنوانًا استفز الاحتلال الإسرائيلي كثيرًا، وهو: "غزة تقاتل من أجل الحرية"(Gaza Fights for Freedom) وقد صدر سنة 2019.
أثار الفيلم جدلًا عالميًا بعد عرضه، نظرًا للفظائع الكبيرة التي نقلها وصورها، وهذا ما أدخل الاحتلال الإسرائيلي ومن يساندونه في حرج كبير، وفي مقال كتبه الناقد السينمائي أمير العمري ونشره في موقع "الجزيرة الوثائقية" قال عن الفيلم: سيقف أي مشاهد للفيلم مذهولًا وهو يشاهد النساء الفلسطينيات في الصفوف الأولى للتظاهرات، وهن يحاولن اقتحام الحاجز، ولا سيما النساء العجائز اللاتي يرفعن العلم الفلسطيني، ويرددن بأنهن لسن خائفات من رصاصات العدو. ونرى قوات الاحتلال تطلق على المحتجين الغاز الذي يسبب الاختناق والهلوسة ثم الموت، كما يستخدم الرصاص المحرم دوليًا الذي يخترق الأحشاء والأعضاء الداخلية... ونرى في الفيلم أيضًا لقطات استثنائية لقنص رؤوس الأطفال، وهناك أيضًا لقطة فيديو مصورة من الجانب الإسرائيلي من وجهة نظر الجنود، وأحدهم يشجع زميله على التصويب، ويقتل أحد الأطفال، فيفعل ليهلل زملاؤه المحيطون به ويضحكون في سعادة وابتهاج، بينما يقول أحدهم: "انظر إنهم يهرعون لإسعافه... صوّر هذا... أبناء العاهرات".
"أثار فيلم "غزة تقاتل من أجل الحرية" جدلًا عالميًا بعد عرضه، نظرًا للفظائع الكبيرة التي نقلها وصورها، وهذا ما أدخل الاحتلال الإسرائيلي ومن يساندونه في حرج كبير" |
لم تكن القضية الفلسطينية ومآسي غزة حكرًا على المخرجين الفلسطينيين فقط، ومحبة هذا البلد لم تكن في يوم من الأيام مقتصرة على أبناء البلد وحتى العرب فقط، بل تعدتهم للعالم أجمع، والدليل ما سقته أعلاه، من خلال مخرجين تكبدوا عناء المنع والمحاصرة والاستبعاد من أجل التعريف بهذه القضية العادلة، كما كان للعرب الذين ولدوا ودرسوا وتربوا في تربة غير التربة العربية نصيب في هذا الحيز السينمائي، وهذا ما حدث مع الفرنسيين من ذوي الأصول العربية، سمير عبد الله (لبناني) وخير الدين مبروك (جزائري)، اللذين أخرجا الفيلم الوثائقي "قصيدة غزة... فلسطين" (Gaza-Strophe, Palestine) وهو من أهم الأفلام التي قامت بتسجيل وتوثيق آثار الاعتداء الغاشم على غزة في سنة 2009 من طرف الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يتوقف مطلقًا، وقد صدر الفيلم الذي بلغت مدته الزمنية (95 دقيقة) سنة 2011، وهذا بعد تاريخ الاعتداء المذكور أعلاه بسنتين، ولقد وقف المخرجان على هول ما تركه المحتل في قطاع غزة، وفي نفس الوقت استمعا للفرد الفلسطيني والوقوف على يومياته، وكيفية تعامله مع الأشياء، كيفية روايته للقصص والنكات والحكايا المتعددة، وبذلك نقلا للآخر ذات الفلسطيني، الذي يحب ويكره مثل غيره، ويملك طموحًا وأحلامًا يريد أن يحققها، لكن الاحتلال الإسرائيلي بقى جاثمًا على صدره، من خلال عدوانه المستمر وحصاره المستميت لقطاع غزة من كل جانب.
"يلا غزة": الفلسطينيون يحبون الحياة أيضًا
استطاع المنتج والمخرج الفرنسيّ رولان نورييه أن يقدّم فيلمًا وثائقيًا مليئًا بالفرح والحب والجمال عن الفلسطينيين، بعنوان "يلا غزة"، وقد صدر هذا العمل حديثًا، خلال بداية النصف الثاني من السنة الجارية، وهو عمل حسب ملخصه: "ناطقٌ بلغاتٍ مختلفةٍ ويروي تاريخ مدينة غزّة وفلسطين بشكل عامٍّ. كما يبرز حبّ الفلسطينيين إلى الحياة وتشبّثهم بها رغم معاناتهم المستمرة في ظل الاحتلال".
ويضيف الملخص بأن "الفنّ يمثل بالنسبة إلى الشباب الأمل الذي يسمح لهم بالاستمرار. فالرقص والدبكة لغةٌ يوصل من خلالها الفنّانون الفلسطينيون رسائل إصرارٍ وحياةٍ وإبداعٍ يفهمها كلّ العالم ذلك أنّ لغة الجسد هي لغة موحّدة على حدّ عبارة الضيوف وهي لغة يتقاسمها كما يفهمها كلّ العالم".
استطاع الفيلم أن يقدم صورة بانورامية عن بداية معاناة الفلسطينيين مع إسرائيل بداية من النكبة سنة 1948، وهذا انطلاقًا من العديد من المقابلات المباشرة وغير المباشرة مع الضيوف، وبالتالي وضع فيلمه في خانة البناء التقليدي الذي يعتمد عادة على المقابلات والأرشيف ويستأنس بهما، وهو سلوك متعمد من المخرج من أجل وضع الأحداث في سياقها العلمي والصحيح، بعد أن أخذ يتجول في العديد من الفضاءات بغزة، أسواقها وبساتينها وبيوتها، حتى يستخرج ما يمكن أن يميز الغزاويين عن غيرهم، ومدى صلتهم وقربهم من الفنون، خاصة الرقص الذي تعكسه الدبكة الفلسطينية التي تعد تراثًا خاصًا تعكس هويتهم وانتماءهم.
كما استطاع المخرج أن ينقل شهادة العديد من الأفراد والأجانب الذين يعيشون في غزة، من بينهم الطبيب الفرنسي كريستوف أوبرلين الذي يعمل ويدرب الأطباء الغزاويين، ويعرف المعطيات جيدًا، خاصة بعد فوز حماس بالانتخابات سنة 2006، وهي السنة التي بدأ فيها الاحتلال الإسرائيلي ممارسة ألاعيبه السياسية والحربية القذرة، بداية بالحصار الاقتصادي والمالي والحقيقي على كل جزء من غزة، ووسط كل هذا استطاع المخرج أن ينقل خلاصة تفيد بأن الغزاويين قادرون هم أيضًا على الفرح، ويحبون مثل غيرهم الحياة بحلوها ومرها، ويكل ما فيها من أحلام وكوابيس، ويتطلعون لغد أفضل لا قتل فيه ولا قنابل.
السينما التسجيلية كأداة تبليغ وتوثيق
كثيرة هي الأفلام التسجيلية التي وثّقت مآسي غزة بشكل خاص وجراح فلسطين بشكل عام، ويُعتقد بأن أول الأفلام التسجيلية التي دشّنت هذه المرحلة المهمة هو من إخراج بي هولمكويست، وجوان مانديل، وبيير بيوركلوند، وقبلهم كانت تنتشر بعض التقارير المصورة والتلفزيونية، لكن الفيلم المذكور الذي اختاروا له عنوان "غيتو غزة" (1985) هو من الأفلام التي تملك الشرط السينمائي وتنتصر لجنسها التسجيلي، ويتمحور الفيلم حسب ما جاء في ملخصه "حول الحياة تحت الاحتلال العسكري في جباليا، أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، حيث يولد طفل ويموت طفل، لندرك تأثير عقود من الحرب والنزوح على الحياة اليومية والطقوس العائلية، كما أعطى المخرجون الصوت لبعض الأصوات من الاحتلال الإسرائيلي من جنود في دورية، ومستوطنين، ومهندسي الاحتلال العسكري الحكومي، ومن بينهم أرييل شارون".
وهناك العديد من الأفلام الأخرى التي ركزت بشكل استثنائي على قطاع غزة، وهي متنوعة وتحمل تواقيع العديد من الجنسيات وتم إخراجها في حقب زمنية مختلفة، غير أننا اخترنا بعض النماذج لإظهار قوة السينما في نقل الحقائق المغيبة عن المشاهد العالمي، وهي من أدوات المقاومة المهمة التي يجب استعمالها لتكون رديفًا للمقاومة في الميدان.