"حمّى البحر المتوسط": أمواج السرديّة القابعة تحت نير الاحتلال
محمد جميل خضر 28 أكتوبر 2023
سينما
لقطة من فيلم "حمى البحر المتوسط"
شارك هذا المقال
حجم الخط
لم تجرِ عادتي أن أكتب عن فيلم، أو أي موضوع، سبقني إليه أحد زملائي، أو إحدى زميلاتي، لكن في حالة فيلم "حمّى البحر المتوسط" (2022)، الذي سبقتني إلى الكتابة عنه الزميلة ندى الأزهري ("حمّى البحر المتوسط": اكتئاب الكبار وحمّى الصغار"، "ضفة ثالثة"، 11 يونيو/ حزيران 2022)، وسبقت كتابتي عنه كتابات أخرى كثيرة، فإن الطوفان الذي لم يُبقِ لنا مساحةَ تناولٍ أُخرى حفّزني لإعادة قراءة الفيلم من زاوية واقع حال فلسطينيي الداخل قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ومعاينة التغيّرات المتوقعة على أحوالهم وآفاق غدهِم بعد هذا التاريخ.
استهلالٌ كابوسيّ
بموسيقى ناعمة، ومشهد كابوسيٍّ، يستهل الفيلم أحداثه، تناقضٌ تأسيسيٌّ بين أول موسيقات الفيلم، وبين المشهد الذي تلا ذلك، لتقول لنا مخرجة الفيلم مها الحاج أبو العسل في فيلمها الثاني بعد "أمور شخصية" (2017)، إن الواقع الفلسطينيّ بما هو عليه، وبالركود الذي ظلّ ينتابه على مختلف جبهاته؛ في جبهة الداخل (الفلسطينيون المقيمون داخل الأراضي التي احتُلت في عام 1948)، وجبهة فلسطينيي الضفة الغربية، وجبهة فلسطينيي غزة، وجبهة فلسطينيي الشتات، وبتراجع الأفق، أو حتى انعدامه، يحمل تناقضات تجرح الروح، وتقود إلى اكتئاب، وحمّى وجودية، رغم الهبّة التي تبناها فلسطينيو الداخل بعد عملية "سيف القدس" في عام 2021، التي انطلقت من غزّة، فإذا بصداها يطاول كل فلسطين، وكل الفلسطينيين.
المشهد الكابوسيّ الاستهلاليّ، ورغم بعض الكوميديا السوداء التي شفّت منه، إلا أنه ثقيلٌ بقدر ما هو الاحتلال الجاثم على النبض قبل الصدور ثقيل، وطويل من طول سنوات الواقع المعاش تحت سنام الاحتلال، قياسًا مع عمر البشر، لا قياسًا مع عمر الدول، وتبدلات التاريخ.
مشهدٌ ثقيلٌ وطويلٌ ومتناقض، والحال أن الحاج، وهي كاتبة النص والسيناريو، أرادت، ربما، أن تقول إن واقع الإنسان الفلسطينيّ في ظل المعطيات القائمة حتى تاريخ إنتاج الفيلم: ثقيلٌ وطويلٌ ومتناقض.
تناقضاتٌ آسِرة
لعلّ أكثر تناقضات الفيلم دهشة وساحرية هو طبيعة شخصيتيه الرئيستيْن: وليد (عامر حليحل) الكئيب حدّ الموت، وجلال (أشرف فرح) المنطلق، الموشوم، صاحب الكلبين الشرسين، عاشق الأغاني اللبنانية التي تتناسب مع كأس عرق، المتناقض بدوره بين أن يحنّ على صبيّ فيعطيه مما حصّله من والد الصبي من دين مبلغًا يكفي كي يشتري الصغير (بوط) رياضة جديد، بدل القديم البالي الذي ينتعله، وبين أن يطعن أحدهم بسبب تأخره بسداد ما عليه من دين لجلال!
التناقضات الكثيرة والغزيرة بين شخصيتيّ وليد وجلال خلقت بينهما كيمياء معقدة، وهي الكيمياء التي كشفت لنا سريعًا أن جزءًا كبيرًا من موجبات سلوكياتهما بين التمرّد الصاخب عند جلال، والنكوص المريع عند وليد، هي موجبات تتعلق بالاحتلال، وبالإقامة في (دولة) ترى فيهما مواطنين من الدرجة الثانية، رغم أنهما أصحاب الدار في الأساس، وأصحاب الأرض والدرج والشارع والجبل والبيوت الحيفاوية العتيقة التي جرى تصوير كثيرٍ من مشاهد الفيلم الخارجية حول سحر عتاقتها.
تناقض آخر يتعلّق بكآبة وليد، رغم مدى قرب بيته من البحر الأبيض المتوسط المفتوح على الأفق الذي لا يُحَد هناك على ضفافه الأخرى، حيث الزبائن الأوروبيين الذين كانوا يشترون، في زمن آخر، برتقال يافا!
ولعل ما يوجب الانشراح هنا هو نفسه الذي يسبب الكآبة، فالبحر، كما يرى وليد، لم يعد له، ولا للفلسطينيين الذين بقوا معه داخل فلسطين التاريخية ولم يبرحوها.
يقف في شرفة بيته، وكأني به يكاد يصرخ: "هذا البحر لي... هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي... هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ من خُطَايَ وسائلي المنويِّ... لي... ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي. ولي شَبَحي وصاحبُهُ. وآنيةُ النحاس وآيةُ الكرسيّ، والمفتاحُ لي... والبابُ والحُرَّاسُ والأجراسُ لي... لِيَ حَذْوَةُ الفَرَسِ التي طارت عن الأسوار... لي ما كان لي. وقصاصَةُ الوَرَقِ التي انتُزِعَتْ من الإنجيل لي".
التناقض الثالث أن وليد، ورغم كآبته كلّها، ربُّ بيتٍ خدوم مطيع؛ يغسل ويجلي ويحفر الكوسا ويوصل الأولاد إلى المدرسة، فزوجته تعمل، وهو ترك العمل وتفرغ لِوحي كتابة لا يجيء. وجلال رغم كل تمرّده إلا أن تمرّده هذا خارج بيته، فهو أيضًا (بيتوتي)، ويترك مزاجه يحدد ورشة العمل التي يمكن أن يلتحق بها عامل بناء، أو (قصارة)، أو دهّان، وما إلى ذلك.
شواهد
كثيرة هي شواهد الفيلم التي تعكس فلسطينيّته بوصفها محمولَه الأهم ومقولَته الجذرية: يورد جلال الاسم العبريّ لشارع ما (تسيونوت)، فيعترض وليد مصوّبًا: "شارع الجبل، هذا الشارع كان اسمه قبل الاحتلال شارع الجبل". طبيبة ابنه المصاب، كما تقول، بحمّى البحر المتوسط، تسأله باللغة العبرية عن هويته، فيخبرها بحدّة أنه عربيٌّ فلسطينيّ. حمّى ابنه يتبيّن أنها رد فعل باطنيّ لا شعوريّ للتهرّب من مساق الجغرافيا الذي في أول حصة منه، قالت لهم المعلمة إن القدس هي عاصمة (إسرائيل) فاعترض ابنه شمس قائلًا لها إن أباه أخبره أن القدس هي عاصمة فلسطين. حتى جلال الذي كان علّق في مشاهد الفيلم الأولى على فلسطينية وليد بالقول (هاي فلسطين انقعوها واشربوا ميّتها)، تبيّن لاحقًا أنه فلسطينيّ بامتياز، وأما انجرافه لبعض أجواء العصابات، وملاحقة دائنين له، وملاحقته هو بدوره لمديونين له، ما هو إلا شكلٌ من أشكال رفض واقع الاحتلال الكئيب والثقيل والقاسي. من شواهد فلسطينية الفيلم مشهد كاد فيه وليد يختنق ويلفظ أنفاسه عند دخوله بالسيارة، ومعه جلال، محطة غسيل السيارات. ومع عتمة السرداب المحتوي على فراشي غسل السيارات الأوتوماتيكية، يشعر وليد بحصارٍ يطبق عليه، حتى لتكاد روحه تهرب منه، في إشارة إلى رفضه الحصار الوجوديّ المحيط. لهجة أبطال الفيلم شاهد فلسطينية غامرة أخّاذة.
أما أكثر شواهده ومشاهده فلسطينية، فهو مشهد الفِداء في نهاية الفيلم، فالفلسطيني لا يعشق الموت، لكنه قد يقدم عليه ليفدي أخاه، أو جاره، أو شريكه في فلسطينية الأسى ويوميات الاختناق، أو يفدي وطنه.
بناء صارم
تعتمد الحاج في سيناريو الفيلم الأسلوب الصارم المحكم، بحيث تتجلّى فيه حتى التناقضات في السيناريو والأحداث والحوارات، بوصفها جزءًا من هذا البناء. فعلى سبيل المثال، نظام تطوّر الشخصية الذي اعتمدته المخرجة مع جلال وصل ذروته في المشهد الأكثر حزنًا وجنائزية (لعلنا نترك مساحة لمن يرغب مشاهدة الفيلم، فلا نفصّل أكثر حول هذا المشهد)، وظلّ جلال يحقق في كل مرحلة من مراحل تطوّر شخصيّته شكلًا منطقيًا من أشكال الإقناع الدراميّ والبنائيّ.
على عكس إقناعية شخصية جلال، تتبدّى شخصية وليد منكفئة، عنيدة، تأبى الانخراط الإيجابيّ رغم كثير من موجبات هذا الانخراط، لعل الحاج تريد أن تقول لنا إن ما يعاني منه وليد ليس عقم زوجته، أو فقر حاله، أو إصابته بإعاقة دائمة، أو فقدانه أحد أبنائه، بل هو نكوص وجوديّ لن يبرحه طالما هناك احتلال، فالاحتلال هو الذي يسبب كل أشكال الاختلال.
قفلةٌ موجعة
موجعةٌ قفلة الفيلم حدّ البكاء... ولعل الترنيمة التي اختارتها صاحبة الفيلم بُعيْد هذه القفلة، تقول بعض ما قد يجول في خواطرنا على وقع هكذا قفلة: "يا مريم البِكْر فُقتِ الشمسَ والقمرَ... وكل نجمٍ بأفلاك السماء سرى... يا أم يسوع يا أمّي ويا أملي... لا تهمليني متى عنّي الخطا صدرا"، ولعلّي سأسمح لنفسي أن أضيف مقطعًا من الترنيمة لم تورده الحاج في الترنيمة المُغناة في الفيلم بصوت نسويٍّ مؤثّر: "أنتِ ملاذي وعوني كلما ضعفت نفسي وجبرًا لقلبي كلما انكسرا".
تنويعات الهمّ الواحد
إذا كان ما يجتمع الفلسطينيون حوله هو رفض الاحتلال، فإن التعبير عن هذا الجامع الواحد والقاسم المشترك الأعظم يخوض تنويعات تتعلق بتنوّع الواقع الفلسطيني، فما يجري على فلسطينيي الداخل، لا ينطبق، بالتأكيد، على أهلنا في الضفة الغربية، وهؤلاء بدورهم لديهم خصوصيات ليست موجودة عند فلسطينيي الشتات وهلمّ جرًّا.
منذ انطلاق طوفان الأقصى، بدأ بعض السائلين يسألون أين فلسطينيي الداخل؟ وإجابتي أن أهل مكّة أدرى بشعابها، وهم خير من يقدّر ظروفهم، وهم وحدهم من يقرّرون لحظة مشاركتهم في الملحمة الفلسطينية القائمة، اليوم، فوق أرض آبائنا وأجدادنا. فطالما أن فلسطينيتهم ساطعة لا لبس فيها، فإن المسائل الأخرى تبقى تفاصيل. وفي عودة لاستهلالي حول الكتابة عن فيلم سبقني كثيرون بالكتابة عنه، فإن أكثر ما ألحّ عليّ أن أفعل هو الواجب المتعلّق بتأكيد أن قصة فلسطين وقضيّتها حيّة تمامًا في وجدان أهلها، هذا ما تصدح به سرديّة الفيلم، وهذا ما تلحّ عليه، وهذا ما تترجمه أشلاءَ أطفالِ غزّة ملءَ شاشات الوجع، وعلى امتداد سيناريو الدم والأسئلة.
يعترض وليد على اتهام جلال له بأنه جبان، فيقول له إنه ليس جبانًا، بدليل أنه لا يخاف من الموت، فالجبان هو من يخشى الموت، فيرد عليه جلال: الجبان هو من يخشى الحياة.
داخل سرديّاتٍ كثيرة، ليس أولها، ولا آخرها، سرديّة الموت والحياة، يواصل أهلنا داخل الأراضي المحتلة في عام 1948، البحث عن سرديّتهم وتاريخهم وجغرافيا أيامهم.
محمد جميل خضر 28 أكتوبر 2023
سينما
لقطة من فيلم "حمى البحر المتوسط"
شارك هذا المقال
حجم الخط
لم تجرِ عادتي أن أكتب عن فيلم، أو أي موضوع، سبقني إليه أحد زملائي، أو إحدى زميلاتي، لكن في حالة فيلم "حمّى البحر المتوسط" (2022)، الذي سبقتني إلى الكتابة عنه الزميلة ندى الأزهري ("حمّى البحر المتوسط": اكتئاب الكبار وحمّى الصغار"، "ضفة ثالثة"، 11 يونيو/ حزيران 2022)، وسبقت كتابتي عنه كتابات أخرى كثيرة، فإن الطوفان الذي لم يُبقِ لنا مساحةَ تناولٍ أُخرى حفّزني لإعادة قراءة الفيلم من زاوية واقع حال فلسطينيي الداخل قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ومعاينة التغيّرات المتوقعة على أحوالهم وآفاق غدهِم بعد هذا التاريخ.
استهلالٌ كابوسيّ
بموسيقى ناعمة، ومشهد كابوسيٍّ، يستهل الفيلم أحداثه، تناقضٌ تأسيسيٌّ بين أول موسيقات الفيلم، وبين المشهد الذي تلا ذلك، لتقول لنا مخرجة الفيلم مها الحاج أبو العسل في فيلمها الثاني بعد "أمور شخصية" (2017)، إن الواقع الفلسطينيّ بما هو عليه، وبالركود الذي ظلّ ينتابه على مختلف جبهاته؛ في جبهة الداخل (الفلسطينيون المقيمون داخل الأراضي التي احتُلت في عام 1948)، وجبهة فلسطينيي الضفة الغربية، وجبهة فلسطينيي غزة، وجبهة فلسطينيي الشتات، وبتراجع الأفق، أو حتى انعدامه، يحمل تناقضات تجرح الروح، وتقود إلى اكتئاب، وحمّى وجودية، رغم الهبّة التي تبناها فلسطينيو الداخل بعد عملية "سيف القدس" في عام 2021، التي انطلقت من غزّة، فإذا بصداها يطاول كل فلسطين، وكل الفلسطينيين.
"منذ انطلاق طوفان الأقصى، بدأ بعض السائلين يسألون أين فلسطينيي الداخل، وإجابتي أن أهل مكّة أدرى بشعابها" |
المشهد الكابوسيّ الاستهلاليّ، ورغم بعض الكوميديا السوداء التي شفّت منه، إلا أنه ثقيلٌ بقدر ما هو الاحتلال الجاثم على النبض قبل الصدور ثقيل، وطويل من طول سنوات الواقع المعاش تحت سنام الاحتلال، قياسًا مع عمر البشر، لا قياسًا مع عمر الدول، وتبدلات التاريخ.
مشهدٌ ثقيلٌ وطويلٌ ومتناقض، والحال أن الحاج، وهي كاتبة النص والسيناريو، أرادت، ربما، أن تقول إن واقع الإنسان الفلسطينيّ في ظل المعطيات القائمة حتى تاريخ إنتاج الفيلم: ثقيلٌ وطويلٌ ومتناقض.
تناقضاتٌ آسِرة
لعلّ أكثر تناقضات الفيلم دهشة وساحرية هو طبيعة شخصيتيه الرئيستيْن: وليد (عامر حليحل) الكئيب حدّ الموت، وجلال (أشرف فرح) المنطلق، الموشوم، صاحب الكلبين الشرسين، عاشق الأغاني اللبنانية التي تتناسب مع كأس عرق، المتناقض بدوره بين أن يحنّ على صبيّ فيعطيه مما حصّله من والد الصبي من دين مبلغًا يكفي كي يشتري الصغير (بوط) رياضة جديد، بدل القديم البالي الذي ينتعله، وبين أن يطعن أحدهم بسبب تأخره بسداد ما عليه من دين لجلال!
التناقضات الكثيرة والغزيرة بين شخصيتيّ وليد وجلال خلقت بينهما كيمياء معقدة، وهي الكيمياء التي كشفت لنا سريعًا أن جزءًا كبيرًا من موجبات سلوكياتهما بين التمرّد الصاخب عند جلال، والنكوص المريع عند وليد، هي موجبات تتعلق بالاحتلال، وبالإقامة في (دولة) ترى فيهما مواطنين من الدرجة الثانية، رغم أنهما أصحاب الدار في الأساس، وأصحاب الأرض والدرج والشارع والجبل والبيوت الحيفاوية العتيقة التي جرى تصوير كثيرٍ من مشاهد الفيلم الخارجية حول سحر عتاقتها.
تناقض آخر يتعلّق بكآبة وليد، رغم مدى قرب بيته من البحر الأبيض المتوسط المفتوح على الأفق الذي لا يُحَد هناك على ضفافه الأخرى، حيث الزبائن الأوروبيين الذين كانوا يشترون، في زمن آخر، برتقال يافا!
ولعل ما يوجب الانشراح هنا هو نفسه الذي يسبب الكآبة، فالبحر، كما يرى وليد، لم يعد له، ولا للفلسطينيين الذين بقوا معه داخل فلسطين التاريخية ولم يبرحوها.
يقف في شرفة بيته، وكأني به يكاد يصرخ: "هذا البحر لي... هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي... هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ من خُطَايَ وسائلي المنويِّ... لي... ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي. ولي شَبَحي وصاحبُهُ. وآنيةُ النحاس وآيةُ الكرسيّ، والمفتاحُ لي... والبابُ والحُرَّاسُ والأجراسُ لي... لِيَ حَذْوَةُ الفَرَسِ التي طارت عن الأسوار... لي ما كان لي. وقصاصَةُ الوَرَقِ التي انتُزِعَتْ من الإنجيل لي".
التناقض الثالث أن وليد، ورغم كآبته كلّها، ربُّ بيتٍ خدوم مطيع؛ يغسل ويجلي ويحفر الكوسا ويوصل الأولاد إلى المدرسة، فزوجته تعمل، وهو ترك العمل وتفرغ لِوحي كتابة لا يجيء. وجلال رغم كل تمرّده إلا أن تمرّده هذا خارج بيته، فهو أيضًا (بيتوتي)، ويترك مزاجه يحدد ورشة العمل التي يمكن أن يلتحق بها عامل بناء، أو (قصارة)، أو دهّان، وما إلى ذلك.
شواهد
كثيرة هي شواهد الفيلم التي تعكس فلسطينيّته بوصفها محمولَه الأهم ومقولَته الجذرية: يورد جلال الاسم العبريّ لشارع ما (تسيونوت)، فيعترض وليد مصوّبًا: "شارع الجبل، هذا الشارع كان اسمه قبل الاحتلال شارع الجبل". طبيبة ابنه المصاب، كما تقول، بحمّى البحر المتوسط، تسأله باللغة العبرية عن هويته، فيخبرها بحدّة أنه عربيٌّ فلسطينيّ. حمّى ابنه يتبيّن أنها رد فعل باطنيّ لا شعوريّ للتهرّب من مساق الجغرافيا الذي في أول حصة منه، قالت لهم المعلمة إن القدس هي عاصمة (إسرائيل) فاعترض ابنه شمس قائلًا لها إن أباه أخبره أن القدس هي عاصمة فلسطين. حتى جلال الذي كان علّق في مشاهد الفيلم الأولى على فلسطينية وليد بالقول (هاي فلسطين انقعوها واشربوا ميّتها)، تبيّن لاحقًا أنه فلسطينيّ بامتياز، وأما انجرافه لبعض أجواء العصابات، وملاحقة دائنين له، وملاحقته هو بدوره لمديونين له، ما هو إلا شكلٌ من أشكال رفض واقع الاحتلال الكئيب والثقيل والقاسي. من شواهد فلسطينية الفيلم مشهد كاد فيه وليد يختنق ويلفظ أنفاسه عند دخوله بالسيارة، ومعه جلال، محطة غسيل السيارات. ومع عتمة السرداب المحتوي على فراشي غسل السيارات الأوتوماتيكية، يشعر وليد بحصارٍ يطبق عليه، حتى لتكاد روحه تهرب منه، في إشارة إلى رفضه الحصار الوجوديّ المحيط. لهجة أبطال الفيلم شاهد فلسطينية غامرة أخّاذة.
أما أكثر شواهده ومشاهده فلسطينية، فهو مشهد الفِداء في نهاية الفيلم، فالفلسطيني لا يعشق الموت، لكنه قد يقدم عليه ليفدي أخاه، أو جاره، أو شريكه في فلسطينية الأسى ويوميات الاختناق، أو يفدي وطنه.
بناء صارم
تعتمد الحاج في سيناريو الفيلم الأسلوب الصارم المحكم، بحيث تتجلّى فيه حتى التناقضات في السيناريو والأحداث والحوارات، بوصفها جزءًا من هذا البناء. فعلى سبيل المثال، نظام تطوّر الشخصية الذي اعتمدته المخرجة مع جلال وصل ذروته في المشهد الأكثر حزنًا وجنائزية (لعلنا نترك مساحة لمن يرغب مشاهدة الفيلم، فلا نفصّل أكثر حول هذا المشهد)، وظلّ جلال يحقق في كل مرحلة من مراحل تطوّر شخصيّته شكلًا منطقيًا من أشكال الإقناع الدراميّ والبنائيّ.
"البحر، كما يرى وليد، لم يعد له، ولا للفلسطينيين الذين بقوا معه داخل فلسطين التاريخية ولم يبرحوها" |
على عكس إقناعية شخصية جلال، تتبدّى شخصية وليد منكفئة، عنيدة، تأبى الانخراط الإيجابيّ رغم كثير من موجبات هذا الانخراط، لعل الحاج تريد أن تقول لنا إن ما يعاني منه وليد ليس عقم زوجته، أو فقر حاله، أو إصابته بإعاقة دائمة، أو فقدانه أحد أبنائه، بل هو نكوص وجوديّ لن يبرحه طالما هناك احتلال، فالاحتلال هو الذي يسبب كل أشكال الاختلال.
قفلةٌ موجعة
موجعةٌ قفلة الفيلم حدّ البكاء... ولعل الترنيمة التي اختارتها صاحبة الفيلم بُعيْد هذه القفلة، تقول بعض ما قد يجول في خواطرنا على وقع هكذا قفلة: "يا مريم البِكْر فُقتِ الشمسَ والقمرَ... وكل نجمٍ بأفلاك السماء سرى... يا أم يسوع يا أمّي ويا أملي... لا تهمليني متى عنّي الخطا صدرا"، ولعلّي سأسمح لنفسي أن أضيف مقطعًا من الترنيمة لم تورده الحاج في الترنيمة المُغناة في الفيلم بصوت نسويٍّ مؤثّر: "أنتِ ملاذي وعوني كلما ضعفت نفسي وجبرًا لقلبي كلما انكسرا".
تنويعات الهمّ الواحد
إذا كان ما يجتمع الفلسطينيون حوله هو رفض الاحتلال، فإن التعبير عن هذا الجامع الواحد والقاسم المشترك الأعظم يخوض تنويعات تتعلق بتنوّع الواقع الفلسطيني، فما يجري على فلسطينيي الداخل، لا ينطبق، بالتأكيد، على أهلنا في الضفة الغربية، وهؤلاء بدورهم لديهم خصوصيات ليست موجودة عند فلسطينيي الشتات وهلمّ جرًّا.
منذ انطلاق طوفان الأقصى، بدأ بعض السائلين يسألون أين فلسطينيي الداخل؟ وإجابتي أن أهل مكّة أدرى بشعابها، وهم خير من يقدّر ظروفهم، وهم وحدهم من يقرّرون لحظة مشاركتهم في الملحمة الفلسطينية القائمة، اليوم، فوق أرض آبائنا وأجدادنا. فطالما أن فلسطينيتهم ساطعة لا لبس فيها، فإن المسائل الأخرى تبقى تفاصيل. وفي عودة لاستهلالي حول الكتابة عن فيلم سبقني كثيرون بالكتابة عنه، فإن أكثر ما ألحّ عليّ أن أفعل هو الواجب المتعلّق بتأكيد أن قصة فلسطين وقضيّتها حيّة تمامًا في وجدان أهلها، هذا ما تصدح به سرديّة الفيلم، وهذا ما تلحّ عليه، وهذا ما تترجمه أشلاءَ أطفالِ غزّة ملءَ شاشات الوجع، وعلى امتداد سيناريو الدم والأسئلة.
يعترض وليد على اتهام جلال له بأنه جبان، فيقول له إنه ليس جبانًا، بدليل أنه لا يخاف من الموت، فالجبان هو من يخشى الموت، فيرد عليه جلال: الجبان هو من يخشى الحياة.
داخل سرديّاتٍ كثيرة، ليس أولها، ولا آخرها، سرديّة الموت والحياة، يواصل أهلنا داخل الأراضي المحتلة في عام 1948، البحث عن سرديّتهم وتاريخهم وجغرافيا أيامهم.