الروائية السورية كلاديس مطر: أنا لست نسوية ولا أتطلع إلى المساواة
إرث ثقافي مهول ديني وسياسي واجتماعي يقف وراء مشاكلنا.
الأحد 2023/12/03
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ليست كل النساء ملائكة ولا كل الرجال شياطين
التفرغ للكتابة دون أن تطلب منها منافع ما، مادية أو غيرها، هو رسالة الأديب المتماهي مع حقيقته الإنسانية، الصادق في فعله والمكرس حياته للبحث والتأمل والكتابة لأجل الإنسان فيه وخارجه. هذا ما اختارته الكاتبة السورية كلاديس مطر رغم أنه ليس بالأمر السهل. “العرب” كان لها معها هذا الحوار حول تجربتها ورؤاها للأدب وقضايا ثقافية أخرى.
كلاديس مطر كاتبة وروائية سورية من مدينة اللاذقية لها أسلوبها المتميز في الكتابة، وجرأتها المتفردة في طرح آراء وأفكار مبتكرة قادرة على جذب فكر القارئ واهتمامه بمضامين مشوقة وكلمات رشيقة ولغة أنيقة.
تجربة الكاتبة في الرواية جعلتها تقدم العديد من المؤلفات لتتوج من خلالها بعدد من الجوائز المحلية والعربية في القصة والمقالة (جائزة المرأة العربية والشرق الأوسط، واتحاد الكتاب العرب)، وهي متفرغة للبحث والتأليف الأدبي ولنشاطها في الأمسيات والمحاضرات الدورية في سوريا والبلدان العربية، كما تنشر مقالاتها في العديد من المطبوعات التخصصية السورية والعربية وكذلك في الصحف العربية التي تصدر في أميركا.
لم تقتصر كتابات كلاديس على الرواية فلها عدد من المجموعات القصصية، نذكر منها “حتى يزهر الصوان” و”فرح عابر” و”رغبة غافية” و”حب على قياس العالم”، وهي مجموعة قصصية مخصصة للمطالعة في مدارس لبنان العامة والخاصة لطلاب المرحلة الإعدادية والثانوية.
وكان إنتاجها الأكثر انتشارا في مجال الرواية الذي أصدرت فيه روايات “ثورة المخمل” و”عرب أمريكا” وغيرهما. ولها أيضا عدة مؤلفات بحثية مثل “خلف حجاب الأنوثة” وهو بحث سوسيولوجي – سيكولوجي عن الأنوثة الوجدانية للمرأة العربية المعاصرة، و”خارج السرب” وهو بحث في مفهوم الفن بالمطلق.
الأسئلة والنسوية
فكرة الجائزة أن هناك كِتَابًا مَّا هو الأفضل وحين نقرأه نعرف إلى أين يُراد للحركة الأدبية أن تتجه
العرب: كيف كانت بداية شغفك بالكتابة؟
كلاديس مطر: في الحقيقة لا أذكر أين بدأ كل هذا، ولكني أعرف وعرفت دائما أنني ولدت بهذه الرغبة الحارقة في الكتابة. بدأت بالنصوص البسيطة القصيرة عندما كنت في السابعة إلى أن فزت بجائزة القصة القصيرة (نظمها اتحاد الكتاب العرب في حينها للأدباء الشباب في مدينة اللاذقية السورية) عندما كنت في التاسعة عشرة، الأمر الذي لفت انتباهي إلى أنه ربما هذا هو الشيء الوحيد الذي أرغب في القيام به في حياتي، كهواية واحتراف، وهذا ما حصل لاحقا، وكان والدي عارفا ومنتبها لكل هذا وهو الذي شجعني بأن جعل المنزل مليئا بالكتب والحوارات الفكرية التي لا تنتهي.
الحق، كنت أقرأ كل شيء يقع بين يدي، ابتداء من قصص سوبرمان التي كنت مولعة بها وانتهاء بأكثر الروايات والكتب الفكرية تعقيدا. كنت أكتشف نفسي تدريجيا عبر القراءة الكثيفة، أريد أن أعرف من أنا حقا وماذا أريد.
ليس “النوع” الأدبي ما كان يشغل بالي بقدر هذه الأسئلة الوجودية الكثيرة التي كنت أبحث عن أجوبة لها بكل قوتي إلى أن اهتديت إليها، كلها تقريبا، في فترة لاحقة أكثر نضجا من حياتي. لقد عثرت عليها كلها في ذاتي، في الداخل الخام حيث الحقيقة الصافية التي لا تريد أن تتأثر بشيء أو بأحد.
هناك، في الداخل، حيث الإنسان يعرف كنه الأشياء من دون مقدمات، حيث أنا التي عرفت وأعرف كنه الأشياء من دون مقدمات، بدأت القصة الفعلية لحياة الكتابة والتأليف، ومع الوقت وتقدمي في العمر تمسكت بموضوعات أكثر من غيرها؛ الوحدة الوطنية، التغيير والإصلاح الاجتماعي، المرأة والتكامل وليس المساواة مع الرجل، وكذلك الأنثروبولوجيا وكل ما يتعلق بالإنسان ككائن حر ذي فطرة سليمة وقدرة على تقرير المصير لا لبس فيها.
العرب: من هم الأدباء والكتاب الذين أثّروا في حياتك؟
كلاديس مطر: لا يوجد أدباء ومؤلفون بعينهم وإنما هناك كتب بعينها غيرت الكثير من حياتي الداخلية وساهمت في نضجي. مع ذلك، فأنا أرى في غابرييل مركيز كاتبا عبقريا كما تعجبني كتابات أمين معلوف وربيع جابر والكثير من المقالات والنصوص التي لم تأت ضمن كتب، ولكني رأيت فيها ضالتي.
العرب: كيف ترين الخطاب الذي لم يزل متعثرا لدى المرأة عموما؟
كلاديس مطر: التعثر، إن كان موجودا، يأتي من نكران المرأة لطبيعتها كامرأة. لا تستطيع المرأة أن تكتب عن نفسها وهي تفترض نفسها رجلا. التعثر تحديدا يأتي من هنا، من وقوع المرأة في فخ القوانين الاجتماعية المعاصرة التي تحكم العالم اليوم والتي توعز لها بأن عليها أن تتصرف وكأنها “هو” تحت مسمى المساواة. هذا خطأ جسيم ترتكبه المرأة الكاتبة أيضا.
والحق، إن العديد من الكتابات النسوية المعاصرة تمتلئ بالكثير من المواقف التي لا تشبه طبيعة المرأة، ابتداءً بالبوح الجنسي الفالت من عقاله وانتهاء بسرد سلوكيات خارجة عن مألوف الطبيعة الحقيقية للمرأة. إن لدي تعريفا أكثر عمقا للحرية والمساواة فيما يتعلق بالمرأة، ولقد ذكرت كل ما أفكر به حول هذا الموضوع في كتابي ” تأخير الغروب: بحث في بنية العقل النسوي العربي”.
العرب: في حوار صحفي سابق أشرت إلى أن هناك عقلا نسويا عربيا وآخر غربيا، على اعتبار أن هناك عقلا نسويا وآخر ذكوريا، ما القصد من ذلك؟ وما الفرق بين العقلين؟
كلاديس مطر: من دون شك أن عقل المرأة واحد، بمعنى آليات عمل هذا العقل المتأثرة بفيزيولوجيا المرأة الخاصة هي واحدة. لكن وجود عقلين بالمعنى المجازي والفعلي إنما يعود إلى “نوعية” المعطيات المستدخلة في كلا العقلين، العربي والغربي، خلال مراحل نموهما.
هناك بلا شك كتّاب في وطننا العربي ذوو موهبة خلاقة لكنهم ليسوا من بين “الأفضل” لعدة اعتبارات
إن هذه المعطيات (والتي هي حصيلة لعملية التربية والتعليم والتجارب الشخصية، والقوانين الاجتماعية والدينية) تترك أثرا لا لبس فيه على آليات عمل هذين العقلين وتطويع بنيتهما.
لقد عشت في كلا العالمين لفترة طويلة، العربي والغربي، وأنا أفهم بشكل كبير طبيعة العقلين ولهذا من الضروري العمل على أن تحتفظ المرأة بطبيعتها التي منت الطبيعة عليها بها وألا تعمل على تشويهها بأي دجل معاصر كل همه صب المزيد من النقد في حسابات رؤوس الأموال على حساب كينونتها.
كما ترى، أنا لست نسوية بالمعنى التقليدي للكلمة ولا أتطلع إلى عملية المساواة كما هي مطروحة اليوم على الإطلاق وإنما تهمني “الآلية الطبيعية” لعقل المرأة والحفاظ على هذه الآلية بعيدا عن هذا الجيش من “المعلمين” الذين يريدون أن يشوهوا لا طريقة تفكيرها فقط وإنما يريدون أن يعلموها كيف تنكرها كليًّا.
العرب: ألا ترين أنك منحازة إلى المرأة أكثر من الرجل؟
كلاديس مطر: هذا الكلام اعتباطي وغير دقيق. من المستحيل أن يطلع أحد على أي من كتبي ويصل إلى هذا الاستنتاج. أنا لست نسوية بالمطلق، بالمعنى الذي شرحته سابقا، وهذا الموقف النسوي بالوقوف ضد الرجل هو موقف طفولي وسطحي.
لا أحد يقف ضد نفسه أو يعلن حربا بين الكائنين الوحيدين المتكاملين على هذه الأرض. مجرد التصنيف مضحك. هناك إرث ثقافي مهول، ديني وسياسي واجتماعي، يقف وراء مشاكلنا الاجتماعية وليس هذا التصنيف الباهت. ليست كل النساء ملائكة ولا كل الرجال شياطين والعكس صحيح. إن مشاكلنا تقع على أكتاف كل منهما؛ الرجل والمرأة، والحل هو البحث عن جذور المشكلة وليس اتهام أحدنا للآخر.
الكتابة والجوائز
العرب: ما هو مضمون عناوين رواياتك “ثورة المخمل” و”غبار مئة حرب” و”قانون مريم”؟ وما هي الأفكار الرئيسية لتلك الروايات؟
كلاديس مطر: العناوين تلد في مرحلة من مراحل كتابة الرواية أو العمل البحثي لدي، وأحيانا من كلمة عابرة سمعتها أو قرأتها، فتفتح في عقلي بابا كان مواربا بالنسبة إلى روح العنوان.
“ثورة المخمل” هي قصة شعب وادي الرماد (مكان متخيل) يحارب زعماؤه أعداءهم برايات من الشراشف المطرزة والسكر والتحالفات التنازلية. أما “غبار مئة حرب” فهي مجموعة من القصص القصيرة التي كتبت قبل الحرب على سوريا ولكن في مضامينها تجد التمهيد لكل ما حدث سابقا، في حين أن “قانون مريم” هو قانون المرأة الوطنية التي تركت كل شيء وراءها من زواج وفرص ثمينة للعمل وانتقال للعيش في مكان هواها لأن فيهما مساومة على حبها لوطنها، وفضلت البقاء في هذا الجانب من العالم الذي هو “بالأبيض والأسود” كما تقول لأنه الجانب “الصح”.
العرب: ما هو رأيك في مستوى الحركة الأدبية في سوريا خصوصا والعربية عموما؟
كلاديس مطر: أنا لست من المتابعين الحثيثين لما يكتب. إنني انتقائية بطبعي. لكن تلفت نظري الكتب التي تمنح جوائز أدبية باعتبارها الأفضل. إن “فكرة” الجائزة تعني أن هناك كتابًا مَّا هو الأفضل، وحين نقرأ أحيانا هذا “الأفضل” نعرف إلى أين “يُراد” للحركة الأدبية أن “تتجه”.
من الضروري أن تحتفظ المرأة بطبيعتها وألّا تعمل على تشويهها بأي دجل معاصر تحركه رؤوس الأموال
هناك من دون شك كتّاب في وطننا العربي ذوو موهبة خلاقة خارقة، لكنهم ليسوا من بين “الأفضل” لاعتبارات سياسية معينة. لهذا، مثل هذا السؤال صعب علي أن أكون دقيقة في الإجابة عليه.
الحضور الأدبي
العرب: هناك جيل شبابي يحب الكتابة ولكنه لا يعرف كيف يظهر أعماله إلى النور، ما هي النصيحة التي تقدمينها إليه؟
كلاديس مطر: من المفروض أن تكون هناك خطوات يتخذها الكاتب الشاب الناشئ الذي يريد أن يكتب أعمالا تنشر وتباع. هذه الخطوات موجودة ويمكن الاطلاع عليها بالنسبة إلى الكاتب الشاب الغربي. إن سوق النشر في تلك البلاد تحكمه قوانين جيدة وحقوق نشر… إلخ، لكن بالنسبة إلينا الأمور أكثر عشوائية. فأنت حتى لو وقعت عقد كتابك مع أهم دار نشر، فأنت غير قادر على التحكم في أي شيء تقريبا.
النشر لدينا تحكمه أشياء كثيرة مثل القدرة المادية لدى الكاتب الناشئ والعلاقات العامة وحتما جودة النص الذي يكتبه إذا كانت دار النشر تهتم بنوعية الكتب التي تصدرها، في النهاية على الكاتب الشاب أن يعبر طريقه في هذا الحقل أولا، بداية من المواظبة على تثقيف نفسه والعمل على تجويد أسلوبه وتعددية مصادر المعرفة التي بين يديه؛ أي عليه أن يكون كاتبا أولا وإلا أي خطوة لاحقة ليس لها أي معنى ولن تؤدي إلى أي مكان.
العرب: ما أهمية أن يكون الكاتب الشاب مطلعا على الأعمال العالمية بشكل مستمر؟ وهل يؤثر ذلك على إبداعه؟
كلاديس مطر: أكيد. إن الاطلاع على ما يكتب خارج الدائرة الثقافية العربية مهم جدا. إنني أواظب على الذهاب إلى المكتبات وقراءة العناوين الجديدة وملخصاتها ثم بعد ذلك أقوم بانتقاء ما أعتقد أنه جيد بالنسبة إلي.
عندما أفعل ذلك أشعر بأنه يمكنني أن أعرف ما يدور حولي وأن أحدد مكاني بالنسبة إلى ما يدور. هل هذا يؤثر على إبداع الكاتب؟ نعم يؤثر؛ بمعنى أنه يكون، إذا كان روائيا مثلا، على اطلاع على تقنيات أسلوبية جديدة، أو أفكار ومقاربات لأفكار جديدة تغني وتكثف رؤيته ووجهة نظره. أعتقد أن هذا أمر حيوي.
العرب: كيف ترين مستوى الكتابة الروائية العربية؟ وهل تعتقدين أنك وصلت إلى العالمية؟
كلاديس مطر: أي كتاب مترجم إلى لغة أجنبية وخصوصا الإنجليزية ويقرأه قراء يتحدثون بهذه اللغة يمكن أن نعتبره قد وصل إلى العالمية، بمعنى أنه تعدى سور اللغة الواحدة. لكن الوصول إلى العالمية في واقع الأمر هو ترك أثر على المجتمع الإنساني الكبير وليس فقط ضمن المنطقة التي نشأ فيها الكاتب ويكتب بلغتها.
“ترك أثر” هو الوصول الحقيقي. نعم، هناك كتّاب ومفكرون عرب وصلوا إلى العالمية، ربما إدوار سعيد واحدا منهم، وأدونيس وطه حسين وجبران خليل جبران وكمال داوود وليلى سليماني، وآخرون وأخريات.
العرب: هل بإمكان المرأة الكاتبة أن تتقمص شخصية الرجل وتكتب عنه بإجادة شديدة؟
كلاديس مطر: نعم أعتقد أنها تستطيع. أنا قدرت على ذلك وبكل سهولة في رواية “ثورة المخمل”، لقد استطعت أن أكون السيد جاد الحق “الرجل الوقور التي تقض مضجعه قصة الهيبة والوقار والذي وقع في الحب في مرحلة متأخرة من عمره”، وكذلك الراوي الذي أمضى عمره يؤرخ حياة من حوله، وأيضا السلطان صدرالدين ابن صدرالدين ابن صدرالدين… إلخ الذي كان يحارب من غرفته في القصر حيث أطنان من المشروب وعشرات الجواري حوله.
كان الأمر سهلا بعد أن أمطت اللثام عن هذا الجزء مني، الموجود وغير المستعمل، جزء الذكورة. حين ندرك أن كل شيء في هذا الكون بدأ من داخل الإنسان وفي حوزته في آن، يمكننا أن نكون كل شيء وفي أي وقت نريده. هناك سحر في عملية الكتابة، الكاتب مثل الحاوي، مثل الساحر الذي يخرج أرنبا من قبعة بسيطة.
البيئة والطموح
العرب: البيئة تؤثر دائما في المبدع وهو يؤثر فيها، ماذا أضافت لكِ بيئتك المحيطة وخصوصا أنك من أرقى عائلات مدينة اللاذقية؟
كلاديس مطر: اللاذقية، مدينتي، تطل على البحر المتوسط المفتوح على حوض كبير وعظيم ولدت فيه وعاشت حضارات عظيمة. كما أنني أقطن على بعد بضعة كيلومترات من مدينة أوغاريت التاريخية. ليست هذه البقعة من العالم مزحة؛ إنها الدنيا كلها.
في كل مرة أكون فيها في اللاذقية أقضي ساعات طوالا أمشي في أزقتها القديمة وحدي. هذا هو العالم الصلب والحقيقي بالنسبة إلي مهما سافرت بعيدا. كان والدي مثقفا ممتازا الأمر الذي جعله متواضعا وشعبيا في آن وقريبا من الأرض والناس. بالنسبة إليه، كانت سوريا هي الدنيا كلها، وهكذا هي بالنسبة إلي.
العرب: ما هي مشاريعك الإبداعية الجديدة وما هو طموحك ككاتبة؟
كلاديس مطر: لدي رواية ستصدر قريبا عن دار عقل للدراسات والنشر في دمشق والقاهرة بعنوان “نبي دمشق”، وستطلق خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب بداية عام 2024، كما أنني أعمل على بحث جديد عن “العقل والهوية” وسوف يصدر أيضا في عام 2024.
وبالنسبة إلى الطموح ليس لدي أي طموح شخصي. أحلامي بسيطة؛ مكتب صغير، لابتوب، خط إنترنت، ومكتبة لكي أتمكن من العمل. أما ما في قلبي فهو أمنية أن أرى هذا الوطن العربي الحزين وقد استعاد وعيه وأراضيه وكرامته وإحساسه بالحياة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عمر شريقي
إرث ثقافي مهول ديني وسياسي واجتماعي يقف وراء مشاكلنا.
الأحد 2023/12/03
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ليست كل النساء ملائكة ولا كل الرجال شياطين
التفرغ للكتابة دون أن تطلب منها منافع ما، مادية أو غيرها، هو رسالة الأديب المتماهي مع حقيقته الإنسانية، الصادق في فعله والمكرس حياته للبحث والتأمل والكتابة لأجل الإنسان فيه وخارجه. هذا ما اختارته الكاتبة السورية كلاديس مطر رغم أنه ليس بالأمر السهل. “العرب” كان لها معها هذا الحوار حول تجربتها ورؤاها للأدب وقضايا ثقافية أخرى.
كلاديس مطر كاتبة وروائية سورية من مدينة اللاذقية لها أسلوبها المتميز في الكتابة، وجرأتها المتفردة في طرح آراء وأفكار مبتكرة قادرة على جذب فكر القارئ واهتمامه بمضامين مشوقة وكلمات رشيقة ولغة أنيقة.
تجربة الكاتبة في الرواية جعلتها تقدم العديد من المؤلفات لتتوج من خلالها بعدد من الجوائز المحلية والعربية في القصة والمقالة (جائزة المرأة العربية والشرق الأوسط، واتحاد الكتاب العرب)، وهي متفرغة للبحث والتأليف الأدبي ولنشاطها في الأمسيات والمحاضرات الدورية في سوريا والبلدان العربية، كما تنشر مقالاتها في العديد من المطبوعات التخصصية السورية والعربية وكذلك في الصحف العربية التي تصدر في أميركا.
لم تقتصر كتابات كلاديس على الرواية فلها عدد من المجموعات القصصية، نذكر منها “حتى يزهر الصوان” و”فرح عابر” و”رغبة غافية” و”حب على قياس العالم”، وهي مجموعة قصصية مخصصة للمطالعة في مدارس لبنان العامة والخاصة لطلاب المرحلة الإعدادية والثانوية.
وكان إنتاجها الأكثر انتشارا في مجال الرواية الذي أصدرت فيه روايات “ثورة المخمل” و”عرب أمريكا” وغيرهما. ولها أيضا عدة مؤلفات بحثية مثل “خلف حجاب الأنوثة” وهو بحث سوسيولوجي – سيكولوجي عن الأنوثة الوجدانية للمرأة العربية المعاصرة، و”خارج السرب” وهو بحث في مفهوم الفن بالمطلق.
الأسئلة والنسوية
فكرة الجائزة أن هناك كِتَابًا مَّا هو الأفضل وحين نقرأه نعرف إلى أين يُراد للحركة الأدبية أن تتجه
العرب: كيف كانت بداية شغفك بالكتابة؟
كلاديس مطر: في الحقيقة لا أذكر أين بدأ كل هذا، ولكني أعرف وعرفت دائما أنني ولدت بهذه الرغبة الحارقة في الكتابة. بدأت بالنصوص البسيطة القصيرة عندما كنت في السابعة إلى أن فزت بجائزة القصة القصيرة (نظمها اتحاد الكتاب العرب في حينها للأدباء الشباب في مدينة اللاذقية السورية) عندما كنت في التاسعة عشرة، الأمر الذي لفت انتباهي إلى أنه ربما هذا هو الشيء الوحيد الذي أرغب في القيام به في حياتي، كهواية واحتراف، وهذا ما حصل لاحقا، وكان والدي عارفا ومنتبها لكل هذا وهو الذي شجعني بأن جعل المنزل مليئا بالكتب والحوارات الفكرية التي لا تنتهي.
الحق، كنت أقرأ كل شيء يقع بين يدي، ابتداء من قصص سوبرمان التي كنت مولعة بها وانتهاء بأكثر الروايات والكتب الفكرية تعقيدا. كنت أكتشف نفسي تدريجيا عبر القراءة الكثيفة، أريد أن أعرف من أنا حقا وماذا أريد.
ليس “النوع” الأدبي ما كان يشغل بالي بقدر هذه الأسئلة الوجودية الكثيرة التي كنت أبحث عن أجوبة لها بكل قوتي إلى أن اهتديت إليها، كلها تقريبا، في فترة لاحقة أكثر نضجا من حياتي. لقد عثرت عليها كلها في ذاتي، في الداخل الخام حيث الحقيقة الصافية التي لا تريد أن تتأثر بشيء أو بأحد.
هناك، في الداخل، حيث الإنسان يعرف كنه الأشياء من دون مقدمات، حيث أنا التي عرفت وأعرف كنه الأشياء من دون مقدمات، بدأت القصة الفعلية لحياة الكتابة والتأليف، ومع الوقت وتقدمي في العمر تمسكت بموضوعات أكثر من غيرها؛ الوحدة الوطنية، التغيير والإصلاح الاجتماعي، المرأة والتكامل وليس المساواة مع الرجل، وكذلك الأنثروبولوجيا وكل ما يتعلق بالإنسان ككائن حر ذي فطرة سليمة وقدرة على تقرير المصير لا لبس فيها.
العرب: من هم الأدباء والكتاب الذين أثّروا في حياتك؟
كلاديس مطر: لا يوجد أدباء ومؤلفون بعينهم وإنما هناك كتب بعينها غيرت الكثير من حياتي الداخلية وساهمت في نضجي. مع ذلك، فأنا أرى في غابرييل مركيز كاتبا عبقريا كما تعجبني كتابات أمين معلوف وربيع جابر والكثير من المقالات والنصوص التي لم تأت ضمن كتب، ولكني رأيت فيها ضالتي.
العرب: كيف ترين الخطاب الذي لم يزل متعثرا لدى المرأة عموما؟
كلاديس مطر: التعثر، إن كان موجودا، يأتي من نكران المرأة لطبيعتها كامرأة. لا تستطيع المرأة أن تكتب عن نفسها وهي تفترض نفسها رجلا. التعثر تحديدا يأتي من هنا، من وقوع المرأة في فخ القوانين الاجتماعية المعاصرة التي تحكم العالم اليوم والتي توعز لها بأن عليها أن تتصرف وكأنها “هو” تحت مسمى المساواة. هذا خطأ جسيم ترتكبه المرأة الكاتبة أيضا.
والحق، إن العديد من الكتابات النسوية المعاصرة تمتلئ بالكثير من المواقف التي لا تشبه طبيعة المرأة، ابتداءً بالبوح الجنسي الفالت من عقاله وانتهاء بسرد سلوكيات خارجة عن مألوف الطبيعة الحقيقية للمرأة. إن لدي تعريفا أكثر عمقا للحرية والمساواة فيما يتعلق بالمرأة، ولقد ذكرت كل ما أفكر به حول هذا الموضوع في كتابي ” تأخير الغروب: بحث في بنية العقل النسوي العربي”.
العرب: في حوار صحفي سابق أشرت إلى أن هناك عقلا نسويا عربيا وآخر غربيا، على اعتبار أن هناك عقلا نسويا وآخر ذكوريا، ما القصد من ذلك؟ وما الفرق بين العقلين؟
كلاديس مطر: من دون شك أن عقل المرأة واحد، بمعنى آليات عمل هذا العقل المتأثرة بفيزيولوجيا المرأة الخاصة هي واحدة. لكن وجود عقلين بالمعنى المجازي والفعلي إنما يعود إلى “نوعية” المعطيات المستدخلة في كلا العقلين، العربي والغربي، خلال مراحل نموهما.
هناك بلا شك كتّاب في وطننا العربي ذوو موهبة خلاقة لكنهم ليسوا من بين “الأفضل” لعدة اعتبارات
إن هذه المعطيات (والتي هي حصيلة لعملية التربية والتعليم والتجارب الشخصية، والقوانين الاجتماعية والدينية) تترك أثرا لا لبس فيه على آليات عمل هذين العقلين وتطويع بنيتهما.
لقد عشت في كلا العالمين لفترة طويلة، العربي والغربي، وأنا أفهم بشكل كبير طبيعة العقلين ولهذا من الضروري العمل على أن تحتفظ المرأة بطبيعتها التي منت الطبيعة عليها بها وألا تعمل على تشويهها بأي دجل معاصر كل همه صب المزيد من النقد في حسابات رؤوس الأموال على حساب كينونتها.
كما ترى، أنا لست نسوية بالمعنى التقليدي للكلمة ولا أتطلع إلى عملية المساواة كما هي مطروحة اليوم على الإطلاق وإنما تهمني “الآلية الطبيعية” لعقل المرأة والحفاظ على هذه الآلية بعيدا عن هذا الجيش من “المعلمين” الذين يريدون أن يشوهوا لا طريقة تفكيرها فقط وإنما يريدون أن يعلموها كيف تنكرها كليًّا.
العرب: ألا ترين أنك منحازة إلى المرأة أكثر من الرجل؟
كلاديس مطر: هذا الكلام اعتباطي وغير دقيق. من المستحيل أن يطلع أحد على أي من كتبي ويصل إلى هذا الاستنتاج. أنا لست نسوية بالمطلق، بالمعنى الذي شرحته سابقا، وهذا الموقف النسوي بالوقوف ضد الرجل هو موقف طفولي وسطحي.
لا أحد يقف ضد نفسه أو يعلن حربا بين الكائنين الوحيدين المتكاملين على هذه الأرض. مجرد التصنيف مضحك. هناك إرث ثقافي مهول، ديني وسياسي واجتماعي، يقف وراء مشاكلنا الاجتماعية وليس هذا التصنيف الباهت. ليست كل النساء ملائكة ولا كل الرجال شياطين والعكس صحيح. إن مشاكلنا تقع على أكتاف كل منهما؛ الرجل والمرأة، والحل هو البحث عن جذور المشكلة وليس اتهام أحدنا للآخر.
الكتابة والجوائز
العرب: ما هو مضمون عناوين رواياتك “ثورة المخمل” و”غبار مئة حرب” و”قانون مريم”؟ وما هي الأفكار الرئيسية لتلك الروايات؟
كلاديس مطر: العناوين تلد في مرحلة من مراحل كتابة الرواية أو العمل البحثي لدي، وأحيانا من كلمة عابرة سمعتها أو قرأتها، فتفتح في عقلي بابا كان مواربا بالنسبة إلى روح العنوان.
“ثورة المخمل” هي قصة شعب وادي الرماد (مكان متخيل) يحارب زعماؤه أعداءهم برايات من الشراشف المطرزة والسكر والتحالفات التنازلية. أما “غبار مئة حرب” فهي مجموعة من القصص القصيرة التي كتبت قبل الحرب على سوريا ولكن في مضامينها تجد التمهيد لكل ما حدث سابقا، في حين أن “قانون مريم” هو قانون المرأة الوطنية التي تركت كل شيء وراءها من زواج وفرص ثمينة للعمل وانتقال للعيش في مكان هواها لأن فيهما مساومة على حبها لوطنها، وفضلت البقاء في هذا الجانب من العالم الذي هو “بالأبيض والأسود” كما تقول لأنه الجانب “الصح”.
العرب: ما هو رأيك في مستوى الحركة الأدبية في سوريا خصوصا والعربية عموما؟
كلاديس مطر: أنا لست من المتابعين الحثيثين لما يكتب. إنني انتقائية بطبعي. لكن تلفت نظري الكتب التي تمنح جوائز أدبية باعتبارها الأفضل. إن “فكرة” الجائزة تعني أن هناك كتابًا مَّا هو الأفضل، وحين نقرأ أحيانا هذا “الأفضل” نعرف إلى أين “يُراد” للحركة الأدبية أن “تتجه”.
من الضروري أن تحتفظ المرأة بطبيعتها وألّا تعمل على تشويهها بأي دجل معاصر تحركه رؤوس الأموال
هناك من دون شك كتّاب في وطننا العربي ذوو موهبة خلاقة خارقة، لكنهم ليسوا من بين “الأفضل” لاعتبارات سياسية معينة. لهذا، مثل هذا السؤال صعب علي أن أكون دقيقة في الإجابة عليه.
الحضور الأدبي
العرب: هناك جيل شبابي يحب الكتابة ولكنه لا يعرف كيف يظهر أعماله إلى النور، ما هي النصيحة التي تقدمينها إليه؟
كلاديس مطر: من المفروض أن تكون هناك خطوات يتخذها الكاتب الشاب الناشئ الذي يريد أن يكتب أعمالا تنشر وتباع. هذه الخطوات موجودة ويمكن الاطلاع عليها بالنسبة إلى الكاتب الشاب الغربي. إن سوق النشر في تلك البلاد تحكمه قوانين جيدة وحقوق نشر… إلخ، لكن بالنسبة إلينا الأمور أكثر عشوائية. فأنت حتى لو وقعت عقد كتابك مع أهم دار نشر، فأنت غير قادر على التحكم في أي شيء تقريبا.
النشر لدينا تحكمه أشياء كثيرة مثل القدرة المادية لدى الكاتب الناشئ والعلاقات العامة وحتما جودة النص الذي يكتبه إذا كانت دار النشر تهتم بنوعية الكتب التي تصدرها، في النهاية على الكاتب الشاب أن يعبر طريقه في هذا الحقل أولا، بداية من المواظبة على تثقيف نفسه والعمل على تجويد أسلوبه وتعددية مصادر المعرفة التي بين يديه؛ أي عليه أن يكون كاتبا أولا وإلا أي خطوة لاحقة ليس لها أي معنى ولن تؤدي إلى أي مكان.
العرب: ما أهمية أن يكون الكاتب الشاب مطلعا على الأعمال العالمية بشكل مستمر؟ وهل يؤثر ذلك على إبداعه؟
كلاديس مطر: أكيد. إن الاطلاع على ما يكتب خارج الدائرة الثقافية العربية مهم جدا. إنني أواظب على الذهاب إلى المكتبات وقراءة العناوين الجديدة وملخصاتها ثم بعد ذلك أقوم بانتقاء ما أعتقد أنه جيد بالنسبة إلي.
عندما أفعل ذلك أشعر بأنه يمكنني أن أعرف ما يدور حولي وأن أحدد مكاني بالنسبة إلى ما يدور. هل هذا يؤثر على إبداع الكاتب؟ نعم يؤثر؛ بمعنى أنه يكون، إذا كان روائيا مثلا، على اطلاع على تقنيات أسلوبية جديدة، أو أفكار ومقاربات لأفكار جديدة تغني وتكثف رؤيته ووجهة نظره. أعتقد أن هذا أمر حيوي.
العرب: كيف ترين مستوى الكتابة الروائية العربية؟ وهل تعتقدين أنك وصلت إلى العالمية؟
كلاديس مطر: أي كتاب مترجم إلى لغة أجنبية وخصوصا الإنجليزية ويقرأه قراء يتحدثون بهذه اللغة يمكن أن نعتبره قد وصل إلى العالمية، بمعنى أنه تعدى سور اللغة الواحدة. لكن الوصول إلى العالمية في واقع الأمر هو ترك أثر على المجتمع الإنساني الكبير وليس فقط ضمن المنطقة التي نشأ فيها الكاتب ويكتب بلغتها.
“ترك أثر” هو الوصول الحقيقي. نعم، هناك كتّاب ومفكرون عرب وصلوا إلى العالمية، ربما إدوار سعيد واحدا منهم، وأدونيس وطه حسين وجبران خليل جبران وكمال داوود وليلى سليماني، وآخرون وأخريات.
العرب: هل بإمكان المرأة الكاتبة أن تتقمص شخصية الرجل وتكتب عنه بإجادة شديدة؟
كلاديس مطر: نعم أعتقد أنها تستطيع. أنا قدرت على ذلك وبكل سهولة في رواية “ثورة المخمل”، لقد استطعت أن أكون السيد جاد الحق “الرجل الوقور التي تقض مضجعه قصة الهيبة والوقار والذي وقع في الحب في مرحلة متأخرة من عمره”، وكذلك الراوي الذي أمضى عمره يؤرخ حياة من حوله، وأيضا السلطان صدرالدين ابن صدرالدين ابن صدرالدين… إلخ الذي كان يحارب من غرفته في القصر حيث أطنان من المشروب وعشرات الجواري حوله.
كان الأمر سهلا بعد أن أمطت اللثام عن هذا الجزء مني، الموجود وغير المستعمل، جزء الذكورة. حين ندرك أن كل شيء في هذا الكون بدأ من داخل الإنسان وفي حوزته في آن، يمكننا أن نكون كل شيء وفي أي وقت نريده. هناك سحر في عملية الكتابة، الكاتب مثل الحاوي، مثل الساحر الذي يخرج أرنبا من قبعة بسيطة.
البيئة والطموح
العرب: البيئة تؤثر دائما في المبدع وهو يؤثر فيها، ماذا أضافت لكِ بيئتك المحيطة وخصوصا أنك من أرقى عائلات مدينة اللاذقية؟
كلاديس مطر: اللاذقية، مدينتي، تطل على البحر المتوسط المفتوح على حوض كبير وعظيم ولدت فيه وعاشت حضارات عظيمة. كما أنني أقطن على بعد بضعة كيلومترات من مدينة أوغاريت التاريخية. ليست هذه البقعة من العالم مزحة؛ إنها الدنيا كلها.
في كل مرة أكون فيها في اللاذقية أقضي ساعات طوالا أمشي في أزقتها القديمة وحدي. هذا هو العالم الصلب والحقيقي بالنسبة إلي مهما سافرت بعيدا. كان والدي مثقفا ممتازا الأمر الذي جعله متواضعا وشعبيا في آن وقريبا من الأرض والناس. بالنسبة إليه، كانت سوريا هي الدنيا كلها، وهكذا هي بالنسبة إلي.
العرب: ما هي مشاريعك الإبداعية الجديدة وما هو طموحك ككاتبة؟
كلاديس مطر: لدي رواية ستصدر قريبا عن دار عقل للدراسات والنشر في دمشق والقاهرة بعنوان “نبي دمشق”، وستطلق خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب بداية عام 2024، كما أنني أعمل على بحث جديد عن “العقل والهوية” وسوف يصدر أيضا في عام 2024.
وبالنسبة إلى الطموح ليس لدي أي طموح شخصي. أحلامي بسيطة؛ مكتب صغير، لابتوب، خط إنترنت، ومكتبة لكي أتمكن من العمل. أما ما في قلبي فهو أمنية أن أرى هذا الوطن العربي الحزين وقد استعاد وعيه وأراضيه وكرامته وإحساسه بالحياة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عمر شريقي