انتشار الولادة القيصرية في الدول العربية تجارة مقننة بلا رقابة
ارتباط مفهوم الرفاهية بالراحة عند الولادة يزيد من انتشار الظاهرة.
الأحد 2023/12/03
انشرWhatsAppTwitterFacebook
السلطات الطبية لا تملك أدوات المواجهة لنشر الثقافة الصحية بين النساء
انخفضت معدلات الولادة الطبيعية في العديد من الدول العربية مع ارتباطها بالرفاهية والوجاهة الاجتماعية والهروب من آلام الولادة مع تشجيع الأطباء لهذا الخيار بهدف زيادة الأرباح.
القاهرة - حملت بعض الأرقام التي صدرت مؤخرا عن منظمة الصحة العالمية والاتحاد العالمي لطب النساء والتوليد حول معدلات الولادات القيصرية في الدول العربية، مؤشرا خطيرا بشأن ارتفاع الظاهرة إلى مستويات قياسية وسط عجز السلطات الصحية في العديد من الدول عن مواجهة استسهال الكثير من النساء “شق البطن”، بعيدا عن الشعور بآلام الولادات الطبيعية.
وأظهر مؤتمر عقدته نقابة الأطباء المصريين قبل أيام للتشجيع على الولادة الطبيعية، أن العمليات القيصرية أصبحت القاعدة الأساسية في معظم الدول العربية، والطبيعية هي الاستثناء، في ظل إقبال غير مسبوق من قبل سيدات حوامل على الولادة بدون ألم وهو ما يشجعه الكثير من الأطباء بلا رقابة من المؤسسات الصحية عليهم.
في المقابل انخفضت الولادات القيصرية في غالبية الدول الأوروبية، لأن السلطات الصحية فيها تلتزم بقواعد حددتها منظمة الصحة العالمية حول الإنجاب بشق البطن، حيث تلتزم كل مؤسسة طبية بتحليل الأسباب التي دفعت الطبيب إلى الولادة القيصرية لبيان إذا كانت طبقا لاحتياج فعلي أم لا، لكن ذلك لا يحدث في عدد كبير من الدول العربية.
وسجلت دول عربية ارتفاعا ملحوظا في نسب الولادة القيصرية، ففي الجزائر تجاوزت 50 في المئة سنويا، وهي ذات النسبة تقريبا في تونس، فيما كشف إحصاء طبي في المغرب أنها وصلت إلى 66 في المئة، وفي السعودية 35 في المئة، بينما تتربع مصر على قائمة دول العالم بمعدلات بلغت 72 في المئة، مع أن منظمة الصحة العالمية أوصت بألا تزيد النسبة عن 15 في المئة فقط.
استسهال المرأة والطبيب
72
في المئة نسبة الولادات القيصرية في مصر التي تتربع على قائمة دول العالم في هذا المجال
ما يثير استياء الهيئات الصحية العربية أن الولادة القيصرية للنساء تجرى أحيانا بلا مبررات طبية منطقية، إذ يفضل الطبيب عدم إرهاق نفسه في ولادة طبيعية قد تستغرق ساعات، والأم لا ترغب في أن تطول معاناتها عند الإنجاب، لذلك تطلب أن تلد قيصريا أو تنصاع لوجهة نظر الطبيب في أن تُنجب بأقل مجهود وألم.
ولا توجد رقابة صارمة على الأطباء العاملين في المؤسسات الصحية الخاصة ببعض البلدان العربية، مع أن هذه المؤسسات تشهد معدلات غير منطقية في الولادات القيصرية لتعظيم الأرباح، مقارنة بنظيراتها الحكومية التي تخضع لإشراف ورقابة ويكون اللجوء فيها إلى العمليات الجراحية في الولادة هو آخر الحلول لإنقاذ حياة الطفل والأم.
واعترف الطبيب أحمد شجاع، وهو متخصص في النساء والتوليد بأحد مستشفيات القاهرة، بأن انخفاض معدلات الولادة الطبيعية في بعض الدول العربية سببه الأول أن المرأة لا تهيئ نفسها للإنجاب بشكل طبيعي، مع حالة الاستسهال التي تعيشها الكثير من النساء ورفض الاستمرار في آلام الولادة مع أنها قد تستريح في بضع دقائق.
وقال لـ”العرب” إن النسبة الأكبر من الأطباء في الدول العربية يخشون من المضاعفات الصحية الخطيرة على الأم والجنين أثناء الولادة الطبيعية، وكي لا يدفعون بأنفسهم إلى التهلكة والتعرض للمحاسبة القانونية يضربون أكثر من عصفور بحجر واحد، حيث يحققون مكاسب مالية، ولا يرهقون أنفسهم، ويوفرون الأمان للأم والطفل.
وأكد أن المرأة تتحمل وحدها سبب لجوء الطبيب إلى القيصرية، خاصة إذا كانت مستقلة القرار وترفض أن يتدخل زوجها أو عائلتها في شأن الولادة، وتختار الولادة غير الطبيعية لأسباب ترتبط بشغفها بالولادة بلا ألم، وتختار اليوم الذي تلد فيه، ولا تعيش رهبة المشاهد التي تراها وتسمع عنها وتنأى بنفسها عن أي مصير مجهول.
القرار الفصل
عمرو حسن: المرأة الرقم الأهم في معادلة تغيير ثقافة المجتمع تجاه الولادة القيصرية
وتصل المبالغ المالية التي تدفعها الأم في الولادة القيصرية إلى أكثر من خمسة أضعاف قيمة الإنجاب بشكل طبيعي، وهي نقطة تبدو فاصلة في قرار الكثير من الأطباء، حيث أخفقت الكثير من الحكومات العربية في وضع حلول جذرية لتلك الإشكالية، ولا تفرض على الطبيب أن يقدم ما يثبت أن الأم كانت في حالة خطرة استدعت القيصرية، لذلك انتشرت القيصرية كالوباء.
وهناك سيدات لا يعبأن بمشكلة الولادة منذ اليوم الأول للحمل، وتبلغ الطبيب الذي يتابع حالتها بأنها سوف تلد قيصريا كأمان لها وللمولود، ولا يتدخل الزوج في قرار الزوجة، كي لا يُفهم من ذلك أنه يبخل في الإنفاق على ولادتها أو يرفض دفع مبالغ مالية نظير القيصرية وينصاع لرغبتها إلا إذا كانت تعيش في بيئة تنتشر فيها الولادة الطبيعية.
وأظهرت طلبات الإحاطة البرلمانية المقدمة في مجلس النواب المصري ضد إخفاق الحكومة في السيطرة على الولادات القيصرية إلى أي درجة لم تعد السلطات الطبية لديها أدوات للمواجهة ولو بشكل توعوي من خلال نشر الثقافة الصحية للإنجاب لتقتنع السيدات بأن الولادة الطبيعية هي الأصل والقيصرية هي الاستثناء، ويُفرض ذلك على الأطباء.
وحسب نائبات البرلمان المصريات اللاتي تقدمن بطلبات إحاطة للحكومة، فإن معدلات الولادة القيصرية ارتفعت منذ عام 2000 وحتى 2021، إلى أكثر من سبعة مرات، وهناك دعاية علنية من جانب بعض الأطباء والمنشآت الصحية الخاصة لهذا النوع من الولادة بعد أن أصبحت أشبه بتجارة مقننة بلا رقابة، ووصلت المبالغ التي تُدفع سنويا للولادة القيصرية إلى 14 مليار جنيه (300 مليون دولار)، مقارنة بالطبيعية التي لم تتجاوز فاتورتها 3.5 مليار جنيه (75 مليون دولار).
ويرى متخصصون في شؤون الأسرة أن انتشار ثقافة الولادة القيصرية في الكثير من المجتمعات العربية يرتبط باختلاف حياة المرأة المعاصرة، من حيث استقلالية قرار الإنجاب وحياة الرفاهية والتعامل مع ظروف الحمل بحساسية مفرطة، وكلها أمور دفعت بعض النساء إلى عدم القيام بأعمال منزلية كانت تعرف بأنها تمارين رياضية تسهل الولادة الطبيعية.
رفاهية زائدة
العمليات القيصرية تحولت إلى وجاهة اجتماعية
ودعمت رحاب العوضي، الباحثة المتخصصة في قضايا الأسرة بالقاهرة، هذا الرأي بتأكيدها أن الرفاهية الزائدة عند بعض فتيات الجيل الحالي تدفعهن إلى اختيار الراحة عند الولادة، ما يجعلهن يلجأن إلى طريقة للإنجاب بلا آلام، إضافة إلى أن بعضهن يخترن القيصرية بحجة الحفاظ على جمال الجسد، مع أن بعض الأطباء يقولون إن الولادة الطبيعية تحافظ على القوام الرشيق.
وأكدت لـ”العرب” أنه يصعب فصل اللجوء إلى الولادة القيصرية عن ارتفاع معدلات الزواج المبكر في بعض المجتمعات العربية، ما يجعل الأسرة والأطباء يخشون التداعيات التي قد تنتج عن الولادة الطبيعية، لأن الفتاة ليست مستعدة لذلك، كما أن النساء في الماضي كن أقوى جسديا وأكثر تحملا من فتيات الجيل الحالي، لذلك لا يتحملن الإنجاب بشكل طبيعي من دون اللجوء إلى العمليات الجراحية.
وتوجد مجتمعات عربية تعتبر الولادة القيصرية أحد أنواع الوجاهة، وبعض العائلات ترى أن خضوع السيدة للإنجاب بشكل طبيعي يعكس عجزها عن توفير المبالغ المالية المطلوبة للقيصرية المريحة للمرأة، وهي ثقافة متجذرة ومنتشرة على نطاق واسع.
توعية النساء بالإنجاب الطبيعي ضرورة مع أهمية تغيير ثقافة المجتمع ككل إلى جانب تعزيز الرقابة في المؤسسات الصحية الخاصة
وترتبط هذه الوجاهة بعوامل عديدة، ففي مصر يصعب أن يوافق مستشفى حكومي على خضوع امرأة للولادة القيصرية لأن هناك قرارا صارما من وزارة الصحة بالاعتماد على الولادة الطبيعية إلا في حالات شديدة الخطورة، ويستسهل الناس الذهاب إلى المراكز الطبية الخاصة ذات التكاليف المرتفعة للمزيد من التباهي والظهور أمام الأهل والمعارف والأصدقاء بأن هذه الأسرة تعيش حياة جيدة ماديا.
ولدى الكثير من النساء معتقدات خاطئة عن الولادة الطبيعية، توارثتها الأجيال الجديدة بشكل عشوائي من أعمال درامية وسينمائية، من حيث زيادة الألم وطول فترة الولادة ووصول الأمر حد التعذيب للمرأة، وإمكانية أن تتعرض للموت في أي لحظة، وهي معضلة لم تتصد لها المؤسسات الصحية بنشر المزيد من الوعي.
واتجهت بعض الدول منذ فترة طويلة إلى الولادة الطبيعية بالإنجاب تحت الماء لتشجيع السيدات على التغاضي عن شق البطن، وبدأت دولة مثل الإمارات بذلك من خلال نشر ثقافة الولادة الطبيعية بشكل مبسط وسهل ودون آلام، والحفاظ على الأم ومولودها دون اللجوء إلى القيصرية إلا في أضيق الحدود، لكن التجربة لا تزال محدودة في دول عربية أخرى.
وأشارت تجارب سابقة إلى أن الولادة تحت الماء أسهل ولا تتطلب مواد مخدرة موضعية، وتجنب المرأة عمليات توسيع الرحم جراحيا، وتستغرق وقتا أقصر بشكل واضح بنحو ربع زمن الولادة القيصرية أو حتى الطبيعية، حيث يتم غمر السيدة في حوض مليء بالماء الدافئ، تتراوح درجة حرارته ما بين 35 و37 درجة مئوية، وهي نفس درجة حرارة الجسم التي يعيش فيها الطفل داخل بطن أمه، وهذا الحوض يرخي العضلات وتخفيف الشعور بالألم لحظة الإنجاب عبر تدفق الدم في الجسم.
رقابة منعا للابتزاز
ولادة قيصرية بلا مبررات طبية
ويعتقد متابعون لظاهرة القيصرية أنه ما لم تكن هناك رقابة صارمة على المؤسسات الصحية سوف تظل المرأة عرضة للابتزاز المادي والطبي أثناء الولادة أمام غياب تثقيف وتوعية النساء بمزايا الإنجاب الطبيعي مقابل مساوئ ومخاطر القيصرية، ودفعهن إلى الضغط على الأطباء بعدم اللجوء إلى العمليات الجراحية دون مبررات منطقية، مع وضع حد لتحول الولادة في بعض الدول العربية إلى تجارة رائجة دون حساب.
وحاولت بعض الدول (منها مصر) علاج هذه الإشكالية عندما قررت وزارة الصحة أن تجعل التكلفة المالية التي يتحصل عليها الأطباء والطواقم الطبية عن الولادات الطبيعية مساوية لما يتحصلون عليه في القيصرية، مع تخصيص حافز مالي للفريق الطبي الذي يحقق معدلات أعلى للولادة الطبيعية، لكن التحرك اقتصر على المؤسسات الصحية التابعة للحكومة بصورة غير ملزمة لمستشفيات ومراكز خاصة.
وذكر عمرو حسن، مقرر المجلس القومي للسكان في مصر سابقا، أن هناك مشكلة مجتمعية معقدة في بعض الدول العربية ترتبط بوجود ثقافة لدى بعض البيئات السكنية بأن من تلد بشكل طبيعي امرأة رجعية وغير متحضرة، وتكريس مثل هذه القناعات أمر شديد الخطورة يساعد على انتشار الولادات القيصرية، بالتالي فتوعية النساء بالإنجاب الطبيعي ضرورة مع أهمية تغيير ثقافة المجتمع ككل.
وأوضح لـ”العرب” أن المرأة الرقم الأهم في معادلة تغيير ثقافة المجتمع تجاه الولادة القيصرية، ولا يجب أن تنصاع لرغبة طبيب أو أسرة، وعليها أن تكون أكثر وعيا وفهما للمخاطر التي تنتظرها في المستقبل إذا كان بإمكانها أن تلد بشكل طبيعي لكنها استسهلت الأمر وفضلت العملية الجراحية، لأن ذلك يجلب لها متاعب صحية تندم عليها لاحقا، وهو ما يجب أن يركز عليه الإعلام والتعليم والمجتمع المدني.
ولا تدرك النساء اللاتي يفضلن القيصرية أن الزوجة التي تجري عملية جراحية لأول مرة تكون جميع الولادات التالية قيصرية غالبا، والمعضلة أن بعض الأطباء لا يقومون بتوعية السيدات بهذا الخطر، ما يفرض على السلطات الصحية العربية حتمية إطلاق مشروع لتثقيف النساء بالمخاطر التي تحدث نتيجة شق البطن، والأمراض التي تنتج عن ذلك، مع وضع ضوابط تمنع التجارة بآلام المرأة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
أحمد حافظ
كاتب مصري
ارتباط مفهوم الرفاهية بالراحة عند الولادة يزيد من انتشار الظاهرة.
الأحد 2023/12/03
انشرWhatsAppTwitterFacebook
السلطات الطبية لا تملك أدوات المواجهة لنشر الثقافة الصحية بين النساء
انخفضت معدلات الولادة الطبيعية في العديد من الدول العربية مع ارتباطها بالرفاهية والوجاهة الاجتماعية والهروب من آلام الولادة مع تشجيع الأطباء لهذا الخيار بهدف زيادة الأرباح.
القاهرة - حملت بعض الأرقام التي صدرت مؤخرا عن منظمة الصحة العالمية والاتحاد العالمي لطب النساء والتوليد حول معدلات الولادات القيصرية في الدول العربية، مؤشرا خطيرا بشأن ارتفاع الظاهرة إلى مستويات قياسية وسط عجز السلطات الصحية في العديد من الدول عن مواجهة استسهال الكثير من النساء “شق البطن”، بعيدا عن الشعور بآلام الولادات الطبيعية.
وأظهر مؤتمر عقدته نقابة الأطباء المصريين قبل أيام للتشجيع على الولادة الطبيعية، أن العمليات القيصرية أصبحت القاعدة الأساسية في معظم الدول العربية، والطبيعية هي الاستثناء، في ظل إقبال غير مسبوق من قبل سيدات حوامل على الولادة بدون ألم وهو ما يشجعه الكثير من الأطباء بلا رقابة من المؤسسات الصحية عليهم.
في المقابل انخفضت الولادات القيصرية في غالبية الدول الأوروبية، لأن السلطات الصحية فيها تلتزم بقواعد حددتها منظمة الصحة العالمية حول الإنجاب بشق البطن، حيث تلتزم كل مؤسسة طبية بتحليل الأسباب التي دفعت الطبيب إلى الولادة القيصرية لبيان إذا كانت طبقا لاحتياج فعلي أم لا، لكن ذلك لا يحدث في عدد كبير من الدول العربية.
وسجلت دول عربية ارتفاعا ملحوظا في نسب الولادة القيصرية، ففي الجزائر تجاوزت 50 في المئة سنويا، وهي ذات النسبة تقريبا في تونس، فيما كشف إحصاء طبي في المغرب أنها وصلت إلى 66 في المئة، وفي السعودية 35 في المئة، بينما تتربع مصر على قائمة دول العالم بمعدلات بلغت 72 في المئة، مع أن منظمة الصحة العالمية أوصت بألا تزيد النسبة عن 15 في المئة فقط.
استسهال المرأة والطبيب
72
في المئة نسبة الولادات القيصرية في مصر التي تتربع على قائمة دول العالم في هذا المجال
ما يثير استياء الهيئات الصحية العربية أن الولادة القيصرية للنساء تجرى أحيانا بلا مبررات طبية منطقية، إذ يفضل الطبيب عدم إرهاق نفسه في ولادة طبيعية قد تستغرق ساعات، والأم لا ترغب في أن تطول معاناتها عند الإنجاب، لذلك تطلب أن تلد قيصريا أو تنصاع لوجهة نظر الطبيب في أن تُنجب بأقل مجهود وألم.
ولا توجد رقابة صارمة على الأطباء العاملين في المؤسسات الصحية الخاصة ببعض البلدان العربية، مع أن هذه المؤسسات تشهد معدلات غير منطقية في الولادات القيصرية لتعظيم الأرباح، مقارنة بنظيراتها الحكومية التي تخضع لإشراف ورقابة ويكون اللجوء فيها إلى العمليات الجراحية في الولادة هو آخر الحلول لإنقاذ حياة الطفل والأم.
واعترف الطبيب أحمد شجاع، وهو متخصص في النساء والتوليد بأحد مستشفيات القاهرة، بأن انخفاض معدلات الولادة الطبيعية في بعض الدول العربية سببه الأول أن المرأة لا تهيئ نفسها للإنجاب بشكل طبيعي، مع حالة الاستسهال التي تعيشها الكثير من النساء ورفض الاستمرار في آلام الولادة مع أنها قد تستريح في بضع دقائق.
وقال لـ”العرب” إن النسبة الأكبر من الأطباء في الدول العربية يخشون من المضاعفات الصحية الخطيرة على الأم والجنين أثناء الولادة الطبيعية، وكي لا يدفعون بأنفسهم إلى التهلكة والتعرض للمحاسبة القانونية يضربون أكثر من عصفور بحجر واحد، حيث يحققون مكاسب مالية، ولا يرهقون أنفسهم، ويوفرون الأمان للأم والطفل.
وأكد أن المرأة تتحمل وحدها سبب لجوء الطبيب إلى القيصرية، خاصة إذا كانت مستقلة القرار وترفض أن يتدخل زوجها أو عائلتها في شأن الولادة، وتختار الولادة غير الطبيعية لأسباب ترتبط بشغفها بالولادة بلا ألم، وتختار اليوم الذي تلد فيه، ولا تعيش رهبة المشاهد التي تراها وتسمع عنها وتنأى بنفسها عن أي مصير مجهول.
القرار الفصل
عمرو حسن: المرأة الرقم الأهم في معادلة تغيير ثقافة المجتمع تجاه الولادة القيصرية
وتصل المبالغ المالية التي تدفعها الأم في الولادة القيصرية إلى أكثر من خمسة أضعاف قيمة الإنجاب بشكل طبيعي، وهي نقطة تبدو فاصلة في قرار الكثير من الأطباء، حيث أخفقت الكثير من الحكومات العربية في وضع حلول جذرية لتلك الإشكالية، ولا تفرض على الطبيب أن يقدم ما يثبت أن الأم كانت في حالة خطرة استدعت القيصرية، لذلك انتشرت القيصرية كالوباء.
وهناك سيدات لا يعبأن بمشكلة الولادة منذ اليوم الأول للحمل، وتبلغ الطبيب الذي يتابع حالتها بأنها سوف تلد قيصريا كأمان لها وللمولود، ولا يتدخل الزوج في قرار الزوجة، كي لا يُفهم من ذلك أنه يبخل في الإنفاق على ولادتها أو يرفض دفع مبالغ مالية نظير القيصرية وينصاع لرغبتها إلا إذا كانت تعيش في بيئة تنتشر فيها الولادة الطبيعية.
وأظهرت طلبات الإحاطة البرلمانية المقدمة في مجلس النواب المصري ضد إخفاق الحكومة في السيطرة على الولادات القيصرية إلى أي درجة لم تعد السلطات الطبية لديها أدوات للمواجهة ولو بشكل توعوي من خلال نشر الثقافة الصحية للإنجاب لتقتنع السيدات بأن الولادة الطبيعية هي الأصل والقيصرية هي الاستثناء، ويُفرض ذلك على الأطباء.
وحسب نائبات البرلمان المصريات اللاتي تقدمن بطلبات إحاطة للحكومة، فإن معدلات الولادة القيصرية ارتفعت منذ عام 2000 وحتى 2021، إلى أكثر من سبعة مرات، وهناك دعاية علنية من جانب بعض الأطباء والمنشآت الصحية الخاصة لهذا النوع من الولادة بعد أن أصبحت أشبه بتجارة مقننة بلا رقابة، ووصلت المبالغ التي تُدفع سنويا للولادة القيصرية إلى 14 مليار جنيه (300 مليون دولار)، مقارنة بالطبيعية التي لم تتجاوز فاتورتها 3.5 مليار جنيه (75 مليون دولار).
ويرى متخصصون في شؤون الأسرة أن انتشار ثقافة الولادة القيصرية في الكثير من المجتمعات العربية يرتبط باختلاف حياة المرأة المعاصرة، من حيث استقلالية قرار الإنجاب وحياة الرفاهية والتعامل مع ظروف الحمل بحساسية مفرطة، وكلها أمور دفعت بعض النساء إلى عدم القيام بأعمال منزلية كانت تعرف بأنها تمارين رياضية تسهل الولادة الطبيعية.
رفاهية زائدة
العمليات القيصرية تحولت إلى وجاهة اجتماعية
ودعمت رحاب العوضي، الباحثة المتخصصة في قضايا الأسرة بالقاهرة، هذا الرأي بتأكيدها أن الرفاهية الزائدة عند بعض فتيات الجيل الحالي تدفعهن إلى اختيار الراحة عند الولادة، ما يجعلهن يلجأن إلى طريقة للإنجاب بلا آلام، إضافة إلى أن بعضهن يخترن القيصرية بحجة الحفاظ على جمال الجسد، مع أن بعض الأطباء يقولون إن الولادة الطبيعية تحافظ على القوام الرشيق.
وأكدت لـ”العرب” أنه يصعب فصل اللجوء إلى الولادة القيصرية عن ارتفاع معدلات الزواج المبكر في بعض المجتمعات العربية، ما يجعل الأسرة والأطباء يخشون التداعيات التي قد تنتج عن الولادة الطبيعية، لأن الفتاة ليست مستعدة لذلك، كما أن النساء في الماضي كن أقوى جسديا وأكثر تحملا من فتيات الجيل الحالي، لذلك لا يتحملن الإنجاب بشكل طبيعي من دون اللجوء إلى العمليات الجراحية.
وتوجد مجتمعات عربية تعتبر الولادة القيصرية أحد أنواع الوجاهة، وبعض العائلات ترى أن خضوع السيدة للإنجاب بشكل طبيعي يعكس عجزها عن توفير المبالغ المالية المطلوبة للقيصرية المريحة للمرأة، وهي ثقافة متجذرة ومنتشرة على نطاق واسع.
توعية النساء بالإنجاب الطبيعي ضرورة مع أهمية تغيير ثقافة المجتمع ككل إلى جانب تعزيز الرقابة في المؤسسات الصحية الخاصة
وترتبط هذه الوجاهة بعوامل عديدة، ففي مصر يصعب أن يوافق مستشفى حكومي على خضوع امرأة للولادة القيصرية لأن هناك قرارا صارما من وزارة الصحة بالاعتماد على الولادة الطبيعية إلا في حالات شديدة الخطورة، ويستسهل الناس الذهاب إلى المراكز الطبية الخاصة ذات التكاليف المرتفعة للمزيد من التباهي والظهور أمام الأهل والمعارف والأصدقاء بأن هذه الأسرة تعيش حياة جيدة ماديا.
ولدى الكثير من النساء معتقدات خاطئة عن الولادة الطبيعية، توارثتها الأجيال الجديدة بشكل عشوائي من أعمال درامية وسينمائية، من حيث زيادة الألم وطول فترة الولادة ووصول الأمر حد التعذيب للمرأة، وإمكانية أن تتعرض للموت في أي لحظة، وهي معضلة لم تتصد لها المؤسسات الصحية بنشر المزيد من الوعي.
واتجهت بعض الدول منذ فترة طويلة إلى الولادة الطبيعية بالإنجاب تحت الماء لتشجيع السيدات على التغاضي عن شق البطن، وبدأت دولة مثل الإمارات بذلك من خلال نشر ثقافة الولادة الطبيعية بشكل مبسط وسهل ودون آلام، والحفاظ على الأم ومولودها دون اللجوء إلى القيصرية إلا في أضيق الحدود، لكن التجربة لا تزال محدودة في دول عربية أخرى.
وأشارت تجارب سابقة إلى أن الولادة تحت الماء أسهل ولا تتطلب مواد مخدرة موضعية، وتجنب المرأة عمليات توسيع الرحم جراحيا، وتستغرق وقتا أقصر بشكل واضح بنحو ربع زمن الولادة القيصرية أو حتى الطبيعية، حيث يتم غمر السيدة في حوض مليء بالماء الدافئ، تتراوح درجة حرارته ما بين 35 و37 درجة مئوية، وهي نفس درجة حرارة الجسم التي يعيش فيها الطفل داخل بطن أمه، وهذا الحوض يرخي العضلات وتخفيف الشعور بالألم لحظة الإنجاب عبر تدفق الدم في الجسم.
رقابة منعا للابتزاز
ولادة قيصرية بلا مبررات طبية
ويعتقد متابعون لظاهرة القيصرية أنه ما لم تكن هناك رقابة صارمة على المؤسسات الصحية سوف تظل المرأة عرضة للابتزاز المادي والطبي أثناء الولادة أمام غياب تثقيف وتوعية النساء بمزايا الإنجاب الطبيعي مقابل مساوئ ومخاطر القيصرية، ودفعهن إلى الضغط على الأطباء بعدم اللجوء إلى العمليات الجراحية دون مبررات منطقية، مع وضع حد لتحول الولادة في بعض الدول العربية إلى تجارة رائجة دون حساب.
وحاولت بعض الدول (منها مصر) علاج هذه الإشكالية عندما قررت وزارة الصحة أن تجعل التكلفة المالية التي يتحصل عليها الأطباء والطواقم الطبية عن الولادات الطبيعية مساوية لما يتحصلون عليه في القيصرية، مع تخصيص حافز مالي للفريق الطبي الذي يحقق معدلات أعلى للولادة الطبيعية، لكن التحرك اقتصر على المؤسسات الصحية التابعة للحكومة بصورة غير ملزمة لمستشفيات ومراكز خاصة.
وذكر عمرو حسن، مقرر المجلس القومي للسكان في مصر سابقا، أن هناك مشكلة مجتمعية معقدة في بعض الدول العربية ترتبط بوجود ثقافة لدى بعض البيئات السكنية بأن من تلد بشكل طبيعي امرأة رجعية وغير متحضرة، وتكريس مثل هذه القناعات أمر شديد الخطورة يساعد على انتشار الولادات القيصرية، بالتالي فتوعية النساء بالإنجاب الطبيعي ضرورة مع أهمية تغيير ثقافة المجتمع ككل.
وأوضح لـ”العرب” أن المرأة الرقم الأهم في معادلة تغيير ثقافة المجتمع تجاه الولادة القيصرية، ولا يجب أن تنصاع لرغبة طبيب أو أسرة، وعليها أن تكون أكثر وعيا وفهما للمخاطر التي تنتظرها في المستقبل إذا كان بإمكانها أن تلد بشكل طبيعي لكنها استسهلت الأمر وفضلت العملية الجراحية، لأن ذلك يجلب لها متاعب صحية تندم عليها لاحقا، وهو ما يجب أن يركز عليه الإعلام والتعليم والمجتمع المدني.
ولا تدرك النساء اللاتي يفضلن القيصرية أن الزوجة التي تجري عملية جراحية لأول مرة تكون جميع الولادات التالية قيصرية غالبا، والمعضلة أن بعض الأطباء لا يقومون بتوعية السيدات بهذا الخطر، ما يفرض على السلطات الصحية العربية حتمية إطلاق مشروع لتثقيف النساء بالمخاطر التي تحدث نتيجة شق البطن، والأمراض التي تنتج عن ذلك، مع وضع ضوابط تمنع التجارة بآلام المرأة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
أحمد حافظ
كاتب مصري