الشعر استوحى الرسم أكثر مما استوحى غيره من الفنون
الناقد المصري عبدالغفار مكاوي يرصد الشعر والتصوير عبر العصور.
السبت 2023/12/02
ShareWhatsAppTwitterFacebook
بين الشعر والرسم علاقة قديمة
تمتد قصة التأثير المتبادل بين الفنون، خصوصا فن الشعر وفن الرسم، إلى ما يقدر بثلاثة آلاف سنة أو يزيد في تاريخ الأدب والفن في الغرب والشرق. وهي قصة مثيرة ومحيرة تطرح أكثر من سؤال وجواب عن تلقي الشعراء لأعمال الفن، واستقبال الفنانين لفيض الشعراء، وعن العلاقة بين الفنون الجميلة بوجه عام، وفني الشعر والتصوير بوجه خاص، والحدود بينهما.
من هوميروس وفيرجيل إلى كيتس ورامبو ورلكه وجئورجه وأودين.. إلخ، في الأدب الغربي، ومن امرؤ القيس وذي الرمة وشعراء “الديارات” وأبي نواس والبحتري والمتنبي وابن الرومي وابن المعتز وابن زيدون، إلى شوقي ومطران وأحمد زكي أبوشادي وبعض شعراء حركة “أبولو”، وصلاح عبدالصبور وحجازي والبياتي وحميد سعيد وسعدي يوسف في شعرنا العربي الجديد، ومن شعراء في الشرقين الأقصى والأدنى يصعب حصرهم من العصور الوسطى حتى يومنا الحاضر، نجد من استلهم أعمال الفن التشكيلي في الرسم والتصوير والنحت والعمارة بل والموسيقى وسجلها في قصائد، كما سنجد، بدرجة أقل، رسوما ولوحات وآثارا فنية أخرى يمكن أن نصفها تجاوزا بأنها قصائد شعرية مصورة أو مجسمة أو منغمة.
يقف كتاب “قصيدة وصورة: الشعر والتصوير عبر العصور” للناقد والمترجم المصري عبدالغفار مكاوي أمام صور ورسوم وتماثيل تأملها شعراء غربيون من مختلف العصور والجنسيات واللغات والآداب مؤكدا أن الشعراء أقدر على الرؤية مني ومنك “إلا إن كنت واحدا منهم”، ولهذا تعددت محاولاتهم للغوص في أغوار العمل الفني وفك طلاسم “شفرته”. وتفاوتت بطبيعة الحال قدراتهم على ذلك بدءا من الوصف المباشر، أو السخرية الفجة، إلى التأمل الهادئ ورؤية “الحقيقة” التي تجلت لهم من خلال الصورة أو التمثال.
قصيدة الصورة
الأعمال التشكيلية حركت الوجدان الشعري فحاول عدد من الشعراء أن يخلدها أو يعبر عن انطباعه عنها في صيغ لغوية فنية
يشير مكاوي إلى أن تاريخ الأدب الغربي عرف هذا الجنس الأدبي المتميز الذي يمكن أن نسميه قصيدة الصورة منذ العصرين الإغريقي والروماني، حتى يمكن القول إنها قديمة قدم الأدب والفن نفسيهما، وأن الأعمال التشكيلية حركت الوجدان الشعري فحاول أن يخلدها أو يعبر عن انطباعه عنها في صيغ لغوية فنية كتب لبعضه حظ البقاء، وأن قصيدة الصورة أقدم من النقد الفني، وربما كانت في رأي بعض المنظرين أعلى منه قيمة، وأن القرن العشرين يستطيع أن يزهو على القرون السابقة بعدد هائل من هذه الكنوز اللغوية التي تحظى اليوم باهتمام النقاد وحب القراء والمتذوقين.
ويضيف أن الحديث عن قصيدة الصورة حديث محفوف بالمخاطر والإشكاليات والمقارنة بين القصيدة والأصل الفني الذي حاول الشاعر أن يصفه، أو يسجل خواطره عنه، أو يعبر عن اندماجه في جوه وروحه، أو يجعله مناسبة لنقد العصر وقيمه. هذه المقارنة نفسها ليست بالأمر الهين البسيط، فهي بقدر ما تتيح لنا الموازنة بين عملين فنيين ومعايشتهما في وقت واحد، تفتح أكثر من باب تهب منه رياح الأسئلة عن طبيعة الفن ونظريته ووظيفته، وعلاقته بالحياة والواقع والمجتمع، وعلاقة الفنون بعضها ببعض.
يقول الشاعر الأميركي عزرا باوند “إن العمل الفني المثمر حقا هو ذلك الذي يحتاج تفسيره إلى مئة عمل من جنس أدبي آخر. والعمل الذي يضم مجموعة مختارة من الصور والرسوم هو نواة مئة قصيدة”. هذه العبارة التي قالها شاعر كبير معروف بثقافته الواسعة، واطلاعه المذهل على الآداب واللغات العالمية، تبين أن استيحاء الشعراء للأعمال الفنية أمر مشروع، وأن العمل الفني الحق، هو الذي يوحي بأكثر من عمل فني لأن الإبداع في فن من الفنون لا بد من أن يدفع المنتجين في الفنون الأخرى إلى المزيد من الإبداع.
كل هذه أمور تتماشى مع ما تؤكده فلسفة الفن والنقد الأدبي الحديث من أن قراءة القصيدة أو تأمل اللوحة نوع من إعادة خلقها، وأن القصيدة أو الصورة يمكن أن توحي كلتاهما بعدد من الدلالات بقدر ما يتاح لهما من قراءات. ومن الطبيعي بعد هذا أن تكون قصيدة الصورة حقيقة ملموسة تعززها المئات من الأعمال الشعرية في تاريخ الأدب الغربي بوجه خاص، وأن يكون التفاعل بين الفنون حافزا على المزيد من الإبداع في الفن وفي نظرية الفن على السواء.. ومع ذلك فقد عرف تاريخ الفن والنقد كثيرا ممن ألقوا ظلال الشك على هذا الجنس الأدبي، وحذروا من المبالغة في تضخيم أهمية الفن والأدب المقارنين، ومن إلقاء ألفاظ مبهمة من نوع الإلهام، والاستيحاء، والتأمل المقارن، وشعر الرسم، ورسم الشعر، وغيرها من الألفاظ التي يحفل بها تاريخ النقد الفني منذ أن أطلق أرسطو وهوراس عباراتها المشهورة.
ويؤكد مكاوي أن العلاقة بين الفنون تكاد تكون أمرا بديهيا، ويكفي أن ننظر في بعض الكلمات والتعبيرات الشائعة في النقد الفني والأدبي لنعرف أنها توحي بهذه العلاقة الحقيقية والغامضة في آن واحد؛ إيقاع البناء، معمار الرواية، تصوير الكلمة وموسيقاها، تجسيم الموقف والفكرة، لون النغمة والشخصية.. إلخ. والفنون بأشكالها المختلفة، كما يؤكد أرسطو في بداية كتابه عن فن الشعر، تصور الحياة وتشترك في خاصية أساسية هي “المميزيس” أو المحاكاة. ولذلك ينبغي للشعر والتصوير، بوصفهما فنين قائمين على المحاكاة، أن يستخدما مبدأ واحدا بعينه للتكوين أو البناء، وهو الحكاية أو العقدة في المأساة (التراجيديا) والتصميم أو التخطيط في الرسم، فالشعر عند أرسطو فن، وهو فن محاكاة: إن الشاعر محاك مثله مثل المصور أو أي محاك آخر.
ومن الطبيعي أن تقوم بين الفنون علاقات متبادلة، وإن تكن كما قال شيشرون (106 - 43 ق.م) “بعد ذلك علاقات دقيقة رهيفة”. وليس من الصعب على أي إنسان أن يربط لأول وهلة بين الشعر والموسيقى، وأن يحس بنفسه أن العلاقة المباشرة بينهما تمد جذورا في مفهوم الشعر نفسه؛ إذ يكفي أن يتذكر أن الشعر لا ينفصل عن الوزن والإيقاع والتنغيم والإلقاء، وأن كلمة الشعر الغنائي نفسها في أصلها اليوناني جاءت من الآلة الموسيقية “ليرا” التي كانت تصاحب الغناء، كما أن الشعر بقي مرتبطا بالغناء والعزف طوال العصر الوسيط، في الموشح الأندلسي، وأغاني الطروبادور في البروفانس، والمينة زانج عند الجرمان، حتى أصبحت الموسيقى المحضة عند الرمزيين في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي المثل الأعلى والمطلق للشعر والشعراء.
ولو قلبت في تاريخ الفن والنقد والأدب لعثرت على نصوص كثيرة تقرب بين الفنون، وتلتمس الوحدة المشتركة بينها في البناء والغاية، على الرغم من اختلافها من حيث الترتيب على سلم القيمة ومدارج القدرة على التعبير. ولن تعدم مثلا من يصف بناء المعبد الإغريقي بأنه تكوين موسيقي، ومن يميل للمقارنة بينه وبين المأساة (التراجيديا) الإغريقية، أو من يؤكد تأثير الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى على عمارة الكنيسة القوطية إلى حد التطابق بينهما في الدلالة على عظمة الله وروعة خلقه.
ويشير مكاوي إلى أنه “لا سبيل لإنكار العلاقة بين الفنون، سواء تصورناها علاقة تواز أو تبادل وتفاعل وتأثير وتأثر عبر العصور والآداب. غير أن المسألة لا تبدو بديهية حين نتأملها بشيء قليل من التفكير، وحين نبحث نوع هذه العلاقة بين الفنون من حيث طبيعتها ووظيفتها ووسائلها وأشكالها الجمالية. ولو حاولنا تتبع الأمر في تاريخ الأدب والفن والنقد لوجدنا أحكاما متضاربة وآراء متفاوتة إلى حد الخلط والاضطراب أو التشكك والارتياب؛ فأديب الرومانطيقية الألمانية وناقدها أوجست فيلهلم شليجل، مثلا، يرى أن الأدب الكلاسيكي أقرب بطبيعته إلى النحت، في حين أن الأدب الحديث والرومانطيقي أقرب إلى الرسم والتصوير.
الشعر والرسم
القصيدة أو الصورة يمكن أن توحي كل منها للأخرى بعدد من الدلالات بقدر ما يتاح لهما من قراءات وتأويلات متعددة
الناقد الفني هربرت ريد في مقالته عن التوازي بين الرسم الإنجليزي والشعر ضمن كتابه “في الدفاع عن شيللي ومقالات أخرى” (1939) يذهب إلى أن أوزان الشعر عند الأنجلوسكسونيين يمكن أن تقارن بزخارفهم، وأن منظرا طبيعيا رسمه الفنان جينز بورو (1727 – 1788) في شبابه يذكرنا بقصيدة كولينز (1721 - 1759) “أنشودة للمساء”، بينما تذكرنا المناظر الطبيعية التي رسمها ذلك الفنان في أواخر حياته ببعض خصائص شعر وردزورث “1770 - 1850”. ومن النقاد من اكتشف تأثيرات من عمارة عصر الباروك على قصائد شعراء مثل طومسون ويونج وجراي وكولينز، بل حيرنا بعض هؤلاء النقاد عندما راحوا يقارنون شعر كيتس “1795 - 1821” بالتصوير مرة والنحت أخرى والموسيقى مرة ثالثة! فأنشودته المشهورة عن وعاء أفريقي تسمح بالمقارنة بينها وبين النحت البارز وبينها وبين الرسم. وقد قال عنه الشاعر الأيرلندي ييتس إنه يرسم في شعره صورا لا تنسى، غنية بالإيقاع غنى الرسم الصيني.
ويأتي ناقد آخر فيشبه اللون الأزرق عنده باللون الأزرق في لوحات المصور الإنجليزي رينولدز “1723 - 1792”، كما يربط ناقد ثالث بين أنشودته إلى عندليب وبين الحركة البطيئة “الإندانتي” في السيمفونية الأولى لبرامز، ويشبه ناقد رابع تأثير أشعارهما على نفوس قرائها بتأثير صور تيرنر “1775 - 19851” لكل من يشاهدها ويتذوق جمالها.
هذه الأمثلة وغيرها تبين أن العلاقة بين الشعر والرسم شغلت الشعراء والنقاد أكثر بكثير من العلاقة بين الشعر وسائر الفنون. ولسنا بحاجة إلى اللجوء إلى الإحصاءات لنعرف أن الشعراء كتبوا عن الرسم والرسامين أكثر مما كتبوا عن النحت والنحاتين والبناء والبنائين، وإن كان هذا لا يمنع أن تكون الفنون الأخيرة ألهمت عددا من الشعراء طائفة من أجمل قصائدهم، نذكر منهم هلدرين، ورامبو، ورلكه، وستيفان جئورجه. وتبقى الحقيقة مع ذلك ناصعة ساطعة الضوء؛ إن الشعر استوحى الرسم أكثر مما استوحى غيره من الفنون.
ويلفت إلى أن أقدم نص نعرفه في تاريخ الأدب والنقد الغربي عن هذه العلاقة الساحرة الغامضة بين الشعر والفنون التشكيلية هي العبارة المنسوبة إلى سيمونيدس الكيوسي (556 - 468 ق.م) التي يقول فيها إن الشعر صورة ناطقة أو رسم ناطق، وإن الرسم أو التصوير شعر صامت. ولا تلبث أن ترد على الخاطر تلك العبارة من كتاب “فن الشعر” للشاعر الروماني هوراس (65 - 8 ق.م)، وهي التي يشبه فيها القصيدة بالصورة، كما يطالب ببذل الجهد لصقل البيت الشعري وتشكيله. والمهم في هذه العبارة التي تعددت شروحها عبر العصور أنها أكدت التشابه بين الفنون، وخصوصا بين الشعر والرسم، إلى الحد الذي جعل النقاد في عصر النهضة يقرأونها على الوجه الآخر: كما يكون الشعر يكون الرسم.
كانت هذه العبارة القصيرة وراء التأملات العديدة التي دارت حول نظرية الفن والعلاقة بين الفنون، خصوصا منذ القرن الـ16 إلى معظم القرن الـ18. وبينما ذهبت قلة من الشعراء إلى تفوق الرسم على الشعر لا محاكاة الطبيعة البشرية، جعلت الأغلبية من نفسها حماة للشعر، وراحت تؤكد أن الشعراء هم أعظم الرسامين.
ومنذ أن وصف الكاتب الإغريقي الساخر لوكيان (120 - 180م) شاعر الإغريق الأكبر هوميروس بأنه رسام مجيد، وأيده في هذا شاعر عصر النهضة بترارك (1304 – 1374م) انطبقت صفة الرسامين أو المصورين العظام على عدد كبير من الشعراء يمتد من ثيوكريتيس، وفرجيل، وتوركواتو تاسو، وأوريوستو إلى سبنسر، وشكسبير، وملتون وجماعة الشعراء الذين سموا أنفسهم في القرن الـ19 باسم “السابقين على رافائيل”، والبارناسيين وعدد كبير من شعراء العصر الحديث. ولم يخل الأمر من ناحية أخرى من وجود نقاد يؤكدون أن الرسامين والمصورين شعراء، وأن فنانا رائع الخيال مثل أنجلو يشهد على شاعرية فن الرسم ويسمح بمقارنة الرسامين الشعراء بالشعراء الرسامين.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
الناقد المصري عبدالغفار مكاوي يرصد الشعر والتصوير عبر العصور.
السبت 2023/12/02
ShareWhatsAppTwitterFacebook
بين الشعر والرسم علاقة قديمة
تمتد قصة التأثير المتبادل بين الفنون، خصوصا فن الشعر وفن الرسم، إلى ما يقدر بثلاثة آلاف سنة أو يزيد في تاريخ الأدب والفن في الغرب والشرق. وهي قصة مثيرة ومحيرة تطرح أكثر من سؤال وجواب عن تلقي الشعراء لأعمال الفن، واستقبال الفنانين لفيض الشعراء، وعن العلاقة بين الفنون الجميلة بوجه عام، وفني الشعر والتصوير بوجه خاص، والحدود بينهما.
من هوميروس وفيرجيل إلى كيتس ورامبو ورلكه وجئورجه وأودين.. إلخ، في الأدب الغربي، ومن امرؤ القيس وذي الرمة وشعراء “الديارات” وأبي نواس والبحتري والمتنبي وابن الرومي وابن المعتز وابن زيدون، إلى شوقي ومطران وأحمد زكي أبوشادي وبعض شعراء حركة “أبولو”، وصلاح عبدالصبور وحجازي والبياتي وحميد سعيد وسعدي يوسف في شعرنا العربي الجديد، ومن شعراء في الشرقين الأقصى والأدنى يصعب حصرهم من العصور الوسطى حتى يومنا الحاضر، نجد من استلهم أعمال الفن التشكيلي في الرسم والتصوير والنحت والعمارة بل والموسيقى وسجلها في قصائد، كما سنجد، بدرجة أقل، رسوما ولوحات وآثارا فنية أخرى يمكن أن نصفها تجاوزا بأنها قصائد شعرية مصورة أو مجسمة أو منغمة.
يقف كتاب “قصيدة وصورة: الشعر والتصوير عبر العصور” للناقد والمترجم المصري عبدالغفار مكاوي أمام صور ورسوم وتماثيل تأملها شعراء غربيون من مختلف العصور والجنسيات واللغات والآداب مؤكدا أن الشعراء أقدر على الرؤية مني ومنك “إلا إن كنت واحدا منهم”، ولهذا تعددت محاولاتهم للغوص في أغوار العمل الفني وفك طلاسم “شفرته”. وتفاوتت بطبيعة الحال قدراتهم على ذلك بدءا من الوصف المباشر، أو السخرية الفجة، إلى التأمل الهادئ ورؤية “الحقيقة” التي تجلت لهم من خلال الصورة أو التمثال.
قصيدة الصورة
الأعمال التشكيلية حركت الوجدان الشعري فحاول عدد من الشعراء أن يخلدها أو يعبر عن انطباعه عنها في صيغ لغوية فنية
يشير مكاوي إلى أن تاريخ الأدب الغربي عرف هذا الجنس الأدبي المتميز الذي يمكن أن نسميه قصيدة الصورة منذ العصرين الإغريقي والروماني، حتى يمكن القول إنها قديمة قدم الأدب والفن نفسيهما، وأن الأعمال التشكيلية حركت الوجدان الشعري فحاول أن يخلدها أو يعبر عن انطباعه عنها في صيغ لغوية فنية كتب لبعضه حظ البقاء، وأن قصيدة الصورة أقدم من النقد الفني، وربما كانت في رأي بعض المنظرين أعلى منه قيمة، وأن القرن العشرين يستطيع أن يزهو على القرون السابقة بعدد هائل من هذه الكنوز اللغوية التي تحظى اليوم باهتمام النقاد وحب القراء والمتذوقين.
ويضيف أن الحديث عن قصيدة الصورة حديث محفوف بالمخاطر والإشكاليات والمقارنة بين القصيدة والأصل الفني الذي حاول الشاعر أن يصفه، أو يسجل خواطره عنه، أو يعبر عن اندماجه في جوه وروحه، أو يجعله مناسبة لنقد العصر وقيمه. هذه المقارنة نفسها ليست بالأمر الهين البسيط، فهي بقدر ما تتيح لنا الموازنة بين عملين فنيين ومعايشتهما في وقت واحد، تفتح أكثر من باب تهب منه رياح الأسئلة عن طبيعة الفن ونظريته ووظيفته، وعلاقته بالحياة والواقع والمجتمع، وعلاقة الفنون بعضها ببعض.
يقول الشاعر الأميركي عزرا باوند “إن العمل الفني المثمر حقا هو ذلك الذي يحتاج تفسيره إلى مئة عمل من جنس أدبي آخر. والعمل الذي يضم مجموعة مختارة من الصور والرسوم هو نواة مئة قصيدة”. هذه العبارة التي قالها شاعر كبير معروف بثقافته الواسعة، واطلاعه المذهل على الآداب واللغات العالمية، تبين أن استيحاء الشعراء للأعمال الفنية أمر مشروع، وأن العمل الفني الحق، هو الذي يوحي بأكثر من عمل فني لأن الإبداع في فن من الفنون لا بد من أن يدفع المنتجين في الفنون الأخرى إلى المزيد من الإبداع.
كل هذه أمور تتماشى مع ما تؤكده فلسفة الفن والنقد الأدبي الحديث من أن قراءة القصيدة أو تأمل اللوحة نوع من إعادة خلقها، وأن القصيدة أو الصورة يمكن أن توحي كلتاهما بعدد من الدلالات بقدر ما يتاح لهما من قراءات. ومن الطبيعي بعد هذا أن تكون قصيدة الصورة حقيقة ملموسة تعززها المئات من الأعمال الشعرية في تاريخ الأدب الغربي بوجه خاص، وأن يكون التفاعل بين الفنون حافزا على المزيد من الإبداع في الفن وفي نظرية الفن على السواء.. ومع ذلك فقد عرف تاريخ الفن والنقد كثيرا ممن ألقوا ظلال الشك على هذا الجنس الأدبي، وحذروا من المبالغة في تضخيم أهمية الفن والأدب المقارنين، ومن إلقاء ألفاظ مبهمة من نوع الإلهام، والاستيحاء، والتأمل المقارن، وشعر الرسم، ورسم الشعر، وغيرها من الألفاظ التي يحفل بها تاريخ النقد الفني منذ أن أطلق أرسطو وهوراس عباراتها المشهورة.
ويؤكد مكاوي أن العلاقة بين الفنون تكاد تكون أمرا بديهيا، ويكفي أن ننظر في بعض الكلمات والتعبيرات الشائعة في النقد الفني والأدبي لنعرف أنها توحي بهذه العلاقة الحقيقية والغامضة في آن واحد؛ إيقاع البناء، معمار الرواية، تصوير الكلمة وموسيقاها، تجسيم الموقف والفكرة، لون النغمة والشخصية.. إلخ. والفنون بأشكالها المختلفة، كما يؤكد أرسطو في بداية كتابه عن فن الشعر، تصور الحياة وتشترك في خاصية أساسية هي “المميزيس” أو المحاكاة. ولذلك ينبغي للشعر والتصوير، بوصفهما فنين قائمين على المحاكاة، أن يستخدما مبدأ واحدا بعينه للتكوين أو البناء، وهو الحكاية أو العقدة في المأساة (التراجيديا) والتصميم أو التخطيط في الرسم، فالشعر عند أرسطو فن، وهو فن محاكاة: إن الشاعر محاك مثله مثل المصور أو أي محاك آخر.
ومن الطبيعي أن تقوم بين الفنون علاقات متبادلة، وإن تكن كما قال شيشرون (106 - 43 ق.م) “بعد ذلك علاقات دقيقة رهيفة”. وليس من الصعب على أي إنسان أن يربط لأول وهلة بين الشعر والموسيقى، وأن يحس بنفسه أن العلاقة المباشرة بينهما تمد جذورا في مفهوم الشعر نفسه؛ إذ يكفي أن يتذكر أن الشعر لا ينفصل عن الوزن والإيقاع والتنغيم والإلقاء، وأن كلمة الشعر الغنائي نفسها في أصلها اليوناني جاءت من الآلة الموسيقية “ليرا” التي كانت تصاحب الغناء، كما أن الشعر بقي مرتبطا بالغناء والعزف طوال العصر الوسيط، في الموشح الأندلسي، وأغاني الطروبادور في البروفانس، والمينة زانج عند الجرمان، حتى أصبحت الموسيقى المحضة عند الرمزيين في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي المثل الأعلى والمطلق للشعر والشعراء.
ولو قلبت في تاريخ الفن والنقد والأدب لعثرت على نصوص كثيرة تقرب بين الفنون، وتلتمس الوحدة المشتركة بينها في البناء والغاية، على الرغم من اختلافها من حيث الترتيب على سلم القيمة ومدارج القدرة على التعبير. ولن تعدم مثلا من يصف بناء المعبد الإغريقي بأنه تكوين موسيقي، ومن يميل للمقارنة بينه وبين المأساة (التراجيديا) الإغريقية، أو من يؤكد تأثير الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى على عمارة الكنيسة القوطية إلى حد التطابق بينهما في الدلالة على عظمة الله وروعة خلقه.
ويشير مكاوي إلى أنه “لا سبيل لإنكار العلاقة بين الفنون، سواء تصورناها علاقة تواز أو تبادل وتفاعل وتأثير وتأثر عبر العصور والآداب. غير أن المسألة لا تبدو بديهية حين نتأملها بشيء قليل من التفكير، وحين نبحث نوع هذه العلاقة بين الفنون من حيث طبيعتها ووظيفتها ووسائلها وأشكالها الجمالية. ولو حاولنا تتبع الأمر في تاريخ الأدب والفن والنقد لوجدنا أحكاما متضاربة وآراء متفاوتة إلى حد الخلط والاضطراب أو التشكك والارتياب؛ فأديب الرومانطيقية الألمانية وناقدها أوجست فيلهلم شليجل، مثلا، يرى أن الأدب الكلاسيكي أقرب بطبيعته إلى النحت، في حين أن الأدب الحديث والرومانطيقي أقرب إلى الرسم والتصوير.
الشعر والرسم
القصيدة أو الصورة يمكن أن توحي كل منها للأخرى بعدد من الدلالات بقدر ما يتاح لهما من قراءات وتأويلات متعددة
الناقد الفني هربرت ريد في مقالته عن التوازي بين الرسم الإنجليزي والشعر ضمن كتابه “في الدفاع عن شيللي ومقالات أخرى” (1939) يذهب إلى أن أوزان الشعر عند الأنجلوسكسونيين يمكن أن تقارن بزخارفهم، وأن منظرا طبيعيا رسمه الفنان جينز بورو (1727 – 1788) في شبابه يذكرنا بقصيدة كولينز (1721 - 1759) “أنشودة للمساء”، بينما تذكرنا المناظر الطبيعية التي رسمها ذلك الفنان في أواخر حياته ببعض خصائص شعر وردزورث “1770 - 1850”. ومن النقاد من اكتشف تأثيرات من عمارة عصر الباروك على قصائد شعراء مثل طومسون ويونج وجراي وكولينز، بل حيرنا بعض هؤلاء النقاد عندما راحوا يقارنون شعر كيتس “1795 - 1821” بالتصوير مرة والنحت أخرى والموسيقى مرة ثالثة! فأنشودته المشهورة عن وعاء أفريقي تسمح بالمقارنة بينها وبين النحت البارز وبينها وبين الرسم. وقد قال عنه الشاعر الأيرلندي ييتس إنه يرسم في شعره صورا لا تنسى، غنية بالإيقاع غنى الرسم الصيني.
ويأتي ناقد آخر فيشبه اللون الأزرق عنده باللون الأزرق في لوحات المصور الإنجليزي رينولدز “1723 - 1792”، كما يربط ناقد ثالث بين أنشودته إلى عندليب وبين الحركة البطيئة “الإندانتي” في السيمفونية الأولى لبرامز، ويشبه ناقد رابع تأثير أشعارهما على نفوس قرائها بتأثير صور تيرنر “1775 - 19851” لكل من يشاهدها ويتذوق جمالها.
هذه الأمثلة وغيرها تبين أن العلاقة بين الشعر والرسم شغلت الشعراء والنقاد أكثر بكثير من العلاقة بين الشعر وسائر الفنون. ولسنا بحاجة إلى اللجوء إلى الإحصاءات لنعرف أن الشعراء كتبوا عن الرسم والرسامين أكثر مما كتبوا عن النحت والنحاتين والبناء والبنائين، وإن كان هذا لا يمنع أن تكون الفنون الأخيرة ألهمت عددا من الشعراء طائفة من أجمل قصائدهم، نذكر منهم هلدرين، ورامبو، ورلكه، وستيفان جئورجه. وتبقى الحقيقة مع ذلك ناصعة ساطعة الضوء؛ إن الشعر استوحى الرسم أكثر مما استوحى غيره من الفنون.
ويلفت إلى أن أقدم نص نعرفه في تاريخ الأدب والنقد الغربي عن هذه العلاقة الساحرة الغامضة بين الشعر والفنون التشكيلية هي العبارة المنسوبة إلى سيمونيدس الكيوسي (556 - 468 ق.م) التي يقول فيها إن الشعر صورة ناطقة أو رسم ناطق، وإن الرسم أو التصوير شعر صامت. ولا تلبث أن ترد على الخاطر تلك العبارة من كتاب “فن الشعر” للشاعر الروماني هوراس (65 - 8 ق.م)، وهي التي يشبه فيها القصيدة بالصورة، كما يطالب ببذل الجهد لصقل البيت الشعري وتشكيله. والمهم في هذه العبارة التي تعددت شروحها عبر العصور أنها أكدت التشابه بين الفنون، وخصوصا بين الشعر والرسم، إلى الحد الذي جعل النقاد في عصر النهضة يقرأونها على الوجه الآخر: كما يكون الشعر يكون الرسم.
كانت هذه العبارة القصيرة وراء التأملات العديدة التي دارت حول نظرية الفن والعلاقة بين الفنون، خصوصا منذ القرن الـ16 إلى معظم القرن الـ18. وبينما ذهبت قلة من الشعراء إلى تفوق الرسم على الشعر لا محاكاة الطبيعة البشرية، جعلت الأغلبية من نفسها حماة للشعر، وراحت تؤكد أن الشعراء هم أعظم الرسامين.
ومنذ أن وصف الكاتب الإغريقي الساخر لوكيان (120 - 180م) شاعر الإغريق الأكبر هوميروس بأنه رسام مجيد، وأيده في هذا شاعر عصر النهضة بترارك (1304 – 1374م) انطبقت صفة الرسامين أو المصورين العظام على عدد كبير من الشعراء يمتد من ثيوكريتيس، وفرجيل، وتوركواتو تاسو، وأوريوستو إلى سبنسر، وشكسبير، وملتون وجماعة الشعراء الذين سموا أنفسهم في القرن الـ19 باسم “السابقين على رافائيل”، والبارناسيين وعدد كبير من شعراء العصر الحديث. ولم يخل الأمر من ناحية أخرى من وجود نقاد يؤكدون أن الرسامين والمصورين شعراء، وأن فنانا رائع الخيال مثل أنجلو يشهد على شاعرية فن الرسم ويسمح بمقارنة الرسامين الشعراء بالشعراء الرسامين.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي