يصادف تاريخ 28 نونبر ذكرى ميلاد شريك كارل ماركس المعروف، أحد مؤسسي الماركسية، و معلمي البروليتاريا، فريدريك انجلس.
و رغم أن انجلس كان يصرح دائما بكل تواضع أن دوره في تأسيس الماركسية كان دورا ثانويا إلى جانب كارل ماركس، إلا أنه يجب الإقرار من باب الإنصاف أن انجلس هو واحد من أعظم الشخصيات التي مرت في تاريخ البشرية، و أنه ساهم إسهاما عظيما في إرساء أسس الماركسية بوصفها النظرة العلمية إلى العالم و سلاح البروليتاريا من أجل تحرير نفسها و تحرير المجتمع بأسره.
و نتاجا لتقسيم الأدوار بينهما، انصب اهتمام ماركس على علم الإقتصاد السياسي و التاريخ، أما مهمة انجلس فقد تركزت بشكل رئيسي حول البحث في الفلسفة و العلوم. ففي خضم صراعه ضد الإتجاهات المثالية و اللأدرية في الفلسفة، دفع انجلس الفلسفة المادية خطوات عظيمة نحو الأمام. و تكمن أيضا أهمية أعماله الثورية في المجال النظري أنه استطاع إلى جانب ماركس إنقاذ الديالكتيك من مثاليته كما كان لدى هيغل و إعطائه بالتالي مضمونا ماديا، فقد برهن بكل براعة، خصوصا في "أونتي دوهرينغ" و "ديالكتيك الطبيعة" أن قوانين الديالكتيك هي قوانين عامة لحركة المادة، أي أنها قوانين تحكم حركة سائر الطبيعة و المجتمع، و أن ديالكتيك الفكر ليس إلا إنعكاسا للديالكتيك الموضوعي في ذهن الإنسان.
ويقينا أنه لم يكن بإمكان انجلس أن يحقق إلى جانب ماركس هذه الإكتشافات العظيمة في تاريخ الفكر البشري لولا إطلاعه الواسع على العلوم، فقد كان ذي معرفة واسعة وعميقة لتاريخ العلم، و ذا إلمام شامل بآخر المنجزات و الإكتشافات العلمية في عصره، و كانت له رؤية مستقبلية حول المسار الذي سيسلكه تطور العلم لاحقا، فقد تنبأ بالعديد من الإكتشافات العلمية قبل حدوثها، مثل إكتشاف الإلكترون، حيث كان يرى أنه "ينتظر علم الكهرباء إكتشاف حاسم مماثل لإكتشاف دالتون في الكمياء سيمكن العلماء من تفسير الظاهرة الكهربائية"، فلما كانت تعوم فوضى بين أراء العلماء حول الكهرباء، كان انجلس بتصوره المادي يرى أن الكهرباء مثلها مثل باقي ظواهر الطبيعة الأخرى، ليست سوى مظهر من مظاهر حركة المادة، ففي علم الكمياء اعتبرت الذرة التي اكتشفها دالتون المادة الحقيقية المسؤولة عن الظواهر الكميائية، و فيما يخص الحرارة أيضا كان معروفا أن الجزيئات هي المسؤولة عن الظاهرة الحرارية، و بالتالي، فإن معنى الإكتشاف الحاسم في علم الكهرباء هو إكتشاف المادة المسؤولة عن الظاهرة الكهربائية، و بهذا المعنى تحدث انجلس في ديالكتيك الطبيعة عن " ماهية القوام المادي الحقيقي للحركة الكهربائية، أي عن ماهية الشيئ الذي عن حركته تنجم الظواهر الكهربائية"، و في مكان آخر من نفس المؤلف كتب " بفضل إكتشاف دالتون للأوزان الذرية، نجد انتظاما، ثباتا نسبيا للنتائج التي اكتشفت ذات مرة، و هجوما منظما على المنطقة التي لم تذلل بعد، هجوما أشبه بحصار حقيقي لإحدى القلاع". و قد جاء إكتشاف الإلكترون من قبل ج. تومسون في عام 1897 (أي سنتين بعد وفاة انجلس) ليؤكد صحة نبوءة انجلس حول طبيعة الظواهر الكهربائية، و قد جاء هذا الإكتشاف مماثل مبدئيا لإكتشاف دالتون للذرة و لطبيعة العمليات الكميائية.
و في الوقت الذي كانت الأغلبية الساحقة من العلماء تظن أن الذرة هي أصغر جسم في الطبيعة، عارض انجلس بشدة هذه الرؤية، و كان يرى أن الطبيعة لا يمكن أن تكون متناهية في الصغر، و أن الذرة لها بنية معقدة جدا، و تحتوي بدورها على جسيمات أصغر و أدق منها، كما قال في ديالكتيك الطبيعة:" إن الذرات ليست بسيطة أبدا، و ليست على العموم هي أصغر الدقائق المعروفة".
.صحيح أن أغلبية علماء الطبيعيات في القرن التاسع عشر كانو ماديين، و لكن تصوراتهم حول المادة كانت تصورات خاطئة، كانت تصورات ميتافيزيائية و ميكانيكية تفسح الباب أمام المثالية و اللهوت لكي تجد لنفسها موطئ قدم داخل علم الطبيعة، كانوا يحاولون مثالا إيجاد شكل واحد للمادة، كانوا مثالا، نظرا لأن الذرة هي أصغر جسيم معروف حتى ذاك الوقت، و نظرا لاعتقادهم أن كل شيئ في العالم يتألف من الذارت، كانوا لهذه الأسباب يعتقدون أن المادة هي الذرات. أما انجلس الذي أسس إلى جانب شريكه ماركس المادية الديالكتيكية بوصفها فلسفة الماركسية، كان يرى أنه لا يمكن أن يكون هناك شكل واحد للمادة، فقد كتب في "ديالكتيك الطبيعة" قائلا: " إن المادة في حد ذاتها، هي نتاج بحت للفكر، هي تجريد محض. إننا نغض النظر عن الإختلافات الكيفية بين الأشياء، فندرجها كأشياء موجودة عيانيا تحت مفهوم المادة... و عندما يسعى علماء الطبيعة إلى العثور على مادة بحد ذاتها، لها شكل واحد، و تحاول رد الإختلافات الكيفية إلى مجرد اختلافات كمية ناتجة عن تألف الدقائق الصغيرة المتماثلة، يكونون أشبه بمن ينشد رؤية فاكهة بحد ذاتها عوضا عن الكرز، و الإجاص، و التفاح؛ أم رؤية حيوان ثديي بحد ذاته عوضا عن القطط، و الأغنام، الخ؛ أو رؤية غاز بحد ذاته، و معدن بحد ذاته، و مركب كميائي بحد ذاته، و حركة بحد ذاتها". كان غالب علماء القرن التاسع يعتقدون أن المادة بحد ذاتها هي الذرة، و أن الإختلاف الكيفي بين مواد العالم يعود فقط، و فقط إلى الإختلاف الكمي في عدد الذرات التي تؤلف هذه المواد. لكن انجلس كان يرى عن حق أن هذه القاعدة ليست صحيحة بشكل مطلق، و أن الذرة ليست هي المادة بحد ذاتها، ليست هي الشكل الوحيد للمادة، بل هي شكل فقط من أشكال المادة، و أنها لا تمثل إلا مرحلة من مراحل تطور العلم الطبيعي، و أن تقدم العلم سيمضي لا محالة إلى إكتشاف أشكال أخرى من المادة لم تكن معروفة من قبل... و بالفعل بينت الإكتشافات المتتالية في علم الفيزياء صحة نظرات انجلس الديالكتيكية و إفلاس النظرات الميتافزيائية و الميكانيكية لدى الكثير من فحول العلم في عصره، فمنذ إكتشاف الإلكترون في عام 1897 على يد جوزيف تومسون تم إكتشاف عدد كبير من الجسيمات الدون الذرية الأخرى، و اتضح أن إختلافتها الكيفية لا تعود إلى أي اختلافات كمية.
و عندما كان أيضا أغلب العلماء في عصر انجلس يرون أنه الشكل الوحيد للحركة هو الحركة الميكانيكية، أي الحركة المكانية الكمية، و أن الظواهر الطبيعية هي مظاهر للحركة الميكانيكية، و أنه يمكن بالتالي إسقاط قوانين علم الميكانيك على كل الطبيعة و تفسير الظواهر الطبيعية عن طريق قوانين ميكانيك نيوتن. في هذا الوقت كان انجلس يرى أن الحركة الميكانيكية ليست هي الشكل الوحيد لحركة المادة، بل هي فقط شكل من أشكالها، و أن ميكانيك نيوتن ليست مطلقة، و لا يمكن أن تكون صحيحة إلا بشكل نسبي، إلا ضمن مجال ضيق، هو مجال حركة الأجسام الكبيرة مثل الكواكب، و بالفعل بينت التجارب في الفيزياء أن العديد من الظواهر الفيزيائية على رأسها حركة الجسيمات الدون الذرية و الحركات التي تقارب سرعتها سرعة الضوء يستحيل تفسيرها عن طريق تطبيق قوانين الميكانيك الكلاسيكية.
هناك نقطة أخرى مهمة تتعلق بتنبؤات انجلس العبقرية في مجال
العلوم، و هي الصلة بين ظواهر الطبيعة، و منها الصلة بين العلوم التي تدرس هذه الظواهر. كانت النظرة الميتافزيائية، و الميكانيكية تعتقد أن عمليات الطبيعة منفصلة كل واحدة عن الأخرى و لا يربط بينها أي رابط، و هذه النظرة أدت إلى إعتبار فروع العلوم الطبيعية منعزلة فيما بينها، و في ظل هذه الأراء السائدة كانت لإنجلس أفكار مغايرة ثورية، كان ينطلق من موقع الديالكتيك على أن ظواهر الطبيعة باعتبارها أشكال مختلفة لحركة المادة لا يمكن أن تقوم بينها حواجز يستحيل تجاوزها من ظاهرة إلى أخر، بل أن هذه الأشكال، رغم تمايزها إنما تتداخل فيما بينها، و يمكن لأي واحدة أن تتحول إلى الأخرى، و أنه لما كانت مهمة العلوم هي الكشف عن القوانين الخاصة لهذه الأشكال المختلفة للحركة، فإن كل مختلف فروع العلوم رغم تمايزها يجب أن تلتقي و أن تتكامل فيما بينها. فقد لاحظ انجلس كما كان معروفا أن العمل الميكانيكي يولد الحرارة، و أن العكس يؤدي إلى العكس، أي أنه يمكن للحركة الميكانيكية أن تتحول إلى الحرارة، و هنا حدث أول إلتقاء بين فرعين من فروعع العلم. كان هذا فيما يخص الميكانيك و الحرارة، أما فيما يخص الصلة بين العلوم الأخرى، مثل الصلة بين الفيزياء و الكمياء، أو الصلة بين الكمياء و البيولوجيا، فلم تكون معروفة إلى حدود ذاك الوقت. و لكن فكر انجلس الثاقب منذ عام 1873 بدأ يهتم بالتأثيرات المتبادلة بين أشكال مختلفة للحركة، و ما يوازيها من العلاقات بين العلوم التي تدرسها، و تنبأ بأن عملية تطور المعرفة البشرية تسير في اتجاه تشكيل علوم جديدة تدرس التأثيرات المتبادلة بين مختلف أشكال الحركة، مثل الكمياء الفيزيائية، و الكمياء العضوية، و البيوكمياء، و البيولوجيا الجزيئية... الخ.
و الحقيقة أن تطور مجمل العلوم الطبيعية اللاحق لم يخرج عن الإطار العام الذي رسمته رؤية انجلس العبقرية
و هذه ليست كل إنجازات انجلس في مجال العلم، بل هي مجرد إشارات قليلة جدا جدا، لأن إنجازاته في العلم و المعرفة غزيرة جدا إلى دراجة أنها لا يمكن حصرها.
و بالإضافة إلى أن انجلس كان موسوعة عصره في مجال العلوم و المعرفة، إلا أن ذلك لم يكون يمثل حتى نصف الرجل. فلم يكون انجلس مجرد عالم، مجرد مفكر عظيم، بل كان قبل كل شيئ، و هذا هو الأهم، مناضلا ثوريا، كان همه الأول هو الإسهام قدر الإمكان، و بشتى الطرق في البروليتاريا ومن ثم تحرر المجتمع بأكمله.