تحلية وتجليد المصاحف .. كتاب مصوّر الخط العربي .. ناجي زين الدين
تحلية وتجليد المصاحف
كانت كراهية تحلية المصاحف بالذهب في صدر الاسلام معروفة حتى انه ورد في كتاب المصاحف لأبي داود السجستاني المتوفى سنة ٣١٦ هـ ( ص ١٥٢ ) حديث مسنداً عن المغيرة انه قال : كان يكره أن تكتب المصاحف بالذهب حتى قيل « اذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فعليكم الدثار » وقيل في حديث آخر • « ان أحسن ما زين به المصحف تلاوته في الحق » الا ان العناية بالدواوين العلمية والتدوين والسجلات وتجليدها اباحت ذلك وكان سبب ذلك ما وقع من ضخامة الدولة وتوابع الحضارة كما ذكر ابن خلدون في المقدمة ص ٤٢١ .
ولقد تعلم المسلمون صناعة تجليد الكتب عن الاقباط المصريون ، ونقلوه الى سائر انحـاء الدولة الاسلامية .
وجعلوا جلود المصاحف الاولى من الخشب المغطى بالجلد المزين بالزخارف ذات الخطوط المتشابكة ، ثم استخدم الورق المضغوط المدهون بطبقة من مادة اللاكية « وكانت ، طرائق التجليد متشابهة في الاقطار الاسلامية الى حد بعيد ، واقـدم جلـود الكتب المعروفة في العصور الاسلامية صنعت في مصر وتاريخها بين القرنين الثاني والخامس الهجرى ا ( ۸ – ۱۱ م ) .
وتلك الطرائق المتشابهة أنواع ، منها " ان يضغط الجلـد او يختم بدونه او بالقص واللصق على الارضية الملونة .
وقد استعملت في بعض الاحيان طريقة قوامها طبقتان من الجلد تلصق احداهما فوق الأخرى . ومن الثابت ان التجليد كان منتشرا في مصر والتركستان الشرقية في بداية العصر العباسي . وقد اكتشف بين المخطوطات « المانوية » التي عثر عليها في اثناء التنقيب في اطلال مدينة ( خوجو ) عاصمة قبائل الاويغور ( بالتركستان الصينية !! ؟ ويرجح ان تجليد الكتب في تلك الاقاليم التركستانية قد تأثر بتجليد الكتب القبطية على ايدى المبشرين النساطرة الذين انتشرت جماعاتهم في الشرق الاوسط والشرق الادنى منذ تأسيس كنيستهم . وربما دخلت هذه الصناعة من هناك الى ايران ، كما انتقل فن تجليد الكتب من الشرق الادنى الى ايطاليا عن طريق البندقية .
ويعتبر عمل المجلد في فنون الكتاب متمما لعمل الخطاط والرسام ، اذ يلتزم المجلد بمسئولية حفظ اوراق المخطوط او المصحف من التلف والعنـاية بمظهره الخارجي بحيث يتلائم هذا مع الكتاب ومحتوياته .
ولم تقتصر الزخرفة والتذهيب على الغلاف الخارجي لجلدة الكتاب ولسانه ، ولكنها امتدت الى باطن الغلاف وصفحاته الاولى ؛ اذ زينت هي الاخرى ابدع تزيين . وقد قلل الجلد هو المادة المثالية للتجليد . كما استعملت طريقة التمحيط في زخرفة جلود الكتب •
ويمتاز تجليد الكتب المصرية العربية في العصر المملوكي فيما بين القرن السابع والتاسع بتغطية جلدة المصاحف كلها بزخارف هندسية متشابكة - ممحطة يزيد في رونقها نقط ذهبية مضغوطة ، وبزخارف من وريدات وخطوط مجدولة ، وتتوسط بعض الجلود المملوكية هذه جامات نجمية كبيرة ، وكتابات في اطارها بخط كوفي من آيات القرآن الكريم ، تزينها زخرفة نباتية ملونة ، يضاف اليها احيانا اشکال ازهار منوعة متناظرة الاغصان كما نراها في جلدة كتابنا هذا .
ومن المعروف لدى مؤرخي الفن الاسلامي ، ان فن تذهيب المصاحف والكتب وجلودها الما نشا اول ما نشا في المغرب لقربه من مصر ومن أقدم ما عرف منها في العالم الاسلامي ما ارسلته حكومة تونس ، مما عشر عليه قبل عشر سنوات في مستودع مهجور ، من اقبية جامع القيروان .
ويرى الاخصائيون ان فن التجليد الاسلامي كان مجهولا قبل اكتشاف طريقة التجليد المستعملة في القيروان في تونس . وهذه الجلود تكشف بصورة جلية الروابط القائمة بين الطرائق الفنية التي تبرز في الجلود التي تعود لمجلدين مسلمين في الحقبة الاولى من التاريخ الاسلامي . وهي كذلك تعطينا صورة عن التطور والتحسين الدين امكن ادخالهما على فن التجليد في العهد الاسلامي ، ومنه اتصل الى اوروبا .
وقد ورد في بعض المصادر فن التجليد ما ياتي :
باب في معرفة البلاطة والمسن والشفرة والسيف ، والكسفار والمقص والكازن والابرة والمعصرة والمساطير والبراكير .
فاما البلاطة ينبغي ان تكون من الرخام الابيض والاسود الجيد وتكون صحيحة الوجه تمر عليها مسطرة واحدة ليفسح البشر والتحمر .
ثم المسن ينبغي ان يكون معتدل الوجه صحيحا ولا ينبغي ان يكون لينا فيحفره الحديد ولا صلبا فيسرد الحديد ومن الصناع من يأخذ المسن فيعيد تعديله ويصلحه على ما يريد ثم يرفعه إلى الراوس فيسيسه في التنور ليلة ليشرب الدهن فهو اجود والشفرة ينبغي ان تكون حديدا جيدا غير لينة ولا صلبة ويكون مقدارها في الثقل والخفة على قدر يد الصانع والكازن وهو يعمل في اللزق .
والشفار دقيقا جيد والمفص معتدلا جيدا ليقطع الجلد وغيره والابر صنفين فمنها ما يصلح للخزم ومنها ما يصلح للخيط فاما التي للخزم فتكون تامة قليل دقيقة البدن والتي للخيط تكون دونها في الطول والدقة والسيف يجب ان يكون طوله الى ما دون ذلك ويكون جيدا عريض البدن جيد السقى ومن الصناع من لا يرى بالسيف ويكون نصابه هو الكف . وبلغني ان قوما من اهل هذه الصناعة لا يعمل بسيف قط ولا يحسنون العمل به وذلك ان لهم شفرة طويلة الحديد يقطعون بها على ما الفوه واعتادوه .
واما المعصرة : وهي نوعان فنوع منها المعصرة ذات الحبل وهي التي يسمونها اهل العراق واهل مصر وبعض اهل خراسان ذات الحبل ، والمعصرة الاخرى معصرة المنازل يسمونها المجلدون والنجارون لحم سليمان ويسمونها اللزومة الكلخيون واهل العراق يستعملونها ، واما المعصرة ذات الحبل فينيقي ان يكون طولها على قدر الجزء الذي يشرفها انصاف المعصورة وينبغي ان تكون المعصرة اطول من الكتاب وان يكون الكتاب في وسط المعصرة وذلك اخف على الصناع وآمن له عند المسح وتكون جيدة العصر صحيحة المقدام وذلك اذا اردت اطباقها على ورقة لم يدر عليها من الحبل الذي يصلح لها ، واجود ما يكون من الشعر الحي اذا كان مغزولا وان يكون تاما اسود مليح السواد ولا يكون له رائحة غير طيبة وليس له بقايا في الدباغين الذين يعملون به للجر فيجب ان يعمل لهذه المعصرة حبل جيد من الشعر الذي ذكرناه ، ويكون دقيق ادق من القنب وطوله ما يلف على المعصرة من كل جانب اربع طاقات فان زاد على هذا القدر كان اقل تعبا للصانع لانه كل ما زاد طاقة قل شدته بيده فافهم . ومثاله الحبل اذا كان من كل جانب احتجنا الى المراوق فيه دفعات فلما صار اربع طاقات فتلنا دون ذلك وهي اربع فتلات والمرواق طوله طول اصبع ، ويكون رقيقا لينا سلسا وينبغي لهذه المعصرة ان تكون ملوية الجانبين الى ناحية العين في الموضع الذي يقع فيه المرواق وذلك اجود للمسح ، واذا كان جانبي المعصرة ملويا ليقع السيف على طرف المعصرة ولا ياخذ من جسمها شيئا .
والمسطرة اجود ما يكون من الابنوس ومن البقس واما المرسم والتحبير والتكحيل فلا بأس بها ان تكون من هدين الخشبين .
واما مسطرة الشغل فينبغي ان تكون من خشب الصفصاف وذلك ان الصفصاف بعضه من بعض تشتعل حافتاه اعنى جنبي المسطرة اذا اخذه النار وذلك ان الابنوس النار تحرقه وتؤثر فيه . وحد المسطرة الابنوس اذا مر عليها بخيط مثلها تحك بعضها بعضا اثرت في المسطرة الابنوس .
ومسطرة الرسم يجب ان تكون طويلة جيدة لا تخينة ولا رقيقة جدا لانها تمشي تحت الاصبعين . واما مسطرة التكحيل فينبغي ان تكون مثل ذلك في الرقة والخفة وسترى التكحيل في باب النقش .
واما مسطرة الريح وهي التي تصنع بها الجلد والتصبيغ لاخراج الريح من الجلد والتشنج والعوج واقامته على الاستواء فيجب ان تكون ثخينة جدا ويكون طولها شبرا وتكون من الخشب السنديان الجيد وتكون مربعة رقيقة الحافة حتى اذا مرت على الجلد عدلته .
ثم ان النصاب من السنديان وذلك ان العاج والبقس اذا مسه النار والمعصرة بسطت حوافيه و تكسرت .
ثم البيكار ( الفرجار ) ان كان جيدا فيجب ان يكون خفيف البدن دقيق الساقين لترق خطوطه ويكون صحيح المسمار ويكون غلقه شيئا واحدا وان كان خشبا فيجب ان يكون مثل ذلك ، بالبيكار تستخرج الشموس وهي الدوائر المنقوشة التي تقع في وسط ( جلدة ) الغلاف وسترى صفته وصفة العمل به في موضعه .
ثم الحديد الذي للنقش وهي اللغدة والمسائل فهذا يسمى الدسـت ثـم صفال دقيق والمناقش مختلفة فمنها شيء بعد شيء ثم نقط النقش وذلك ان منهـاما سترى في موضعه ان شاء الله . فهذه جملة الآلة والذي يحتاج اليه ملتمس هذه الصناعة سرعة الفهم وجودة العصر وحلاوة اليد وترك السرعة ، والتثبت والتاني وحسن الجلوس وملاحة الاستمالة وحسن الخلق .
واول ما تبدا من هذه الصناعة ان تضع الجزء بحداك على بلاطة ، تضعه على شمالها ثم تشد اولا كراسة فتجعلها في يدك اليسرى وتفتحها باصبع يدك اليمنى ثم تضعها على البلاطة مفتوحة ، ثم تمر عليها بالنصاب وهو وسطها بموضع يقع فيه حزم الخيط ثم تطبقها وتقطع على ورقة البطاين وهي ورقتين ، فواحدة تكون في الجلد وأخرى باقية على الكراريس لتصون الكتاب من الاذى والوسخ ، ثم يفعل ذلك بساير الكراريس حتى تأتي على آخرها ، فاذا فرغت من ذلك فتلت خيط الحزم ، ويكون على ثلاث طاقات على قدر الخيط وغلظته ورقته ، واجوده يكون الخيط رقيقا جيد الفتل لانه . اذا كان غليظا افسد الجزء لانه يدور في كل كراسة فيصير له حزم كبير ، فاذا غلط وشددت الكتاب وقعت المسطرة على طرف الخيط ويبقى الكتاب مسيبا لا يقع عليه شد ومثاله اذا اخذت الخيط لففته على اصبعك آخره فكذلك ثخانته في الكتاب في داخله ، والحزم هي انواع فمنه ما يستعمله الصناع لخفته وسرعته وهو الذي ينفذ منه الابرة في موضعين ، وغيره يعمل بابرتين وثلاثة ، ورايت الروم يعملون منه شيئا غير اني لا اوافق عليه .
وصفة حزمه الجزء وقشده بخيط ثم ادفع الموضع المحزوم بالنصاب الذي قد تقدم ثم ضعه بين ركبتيك ثم خذ المعصرة فحز فردة الى اخرى فدعها في ركبتك الشمال ثم خذ الفردة الاخرى ودعها على ركبتك اليمنى والكتاب في الوسط بين ركبتيك ثم خذ طرف الحبل فدعه في يدك اليسرى وادره على المعصرة حتى يفرغ ثم طويه ثم اتركه بين ركبتيك وهو في المعصرة ودعه على البلاطة اعنى اسفل الكتاب ثم حف اطراف الورق بالكتاب حتى تحته كله وتصير اطرافه ووسطه سواء ، ثم تشيله على ركبتك ثم تأخذ العودين اللذين تسمى المراويد تشدهما خفيفا لا بالكثير كيلا تقلب اسفل الكتاب وتفسده ، ثم تذيب الاشراس وهو أن تأخذ قدرا صغيرة فتصب فيها ماء قليلا وتذر فيها شيئا من الاشراس فتصيته وتحركه باصبعك الاوسط من يدك اليمني ويكون سلسة لا يكون شديدا ان كان جيدا وان كان سيئا فينبغي فيه شدة وذلك لسرعة جفافه ، ثم تأخذ ورقة دقيقة فتطويها وتقطعها من الوسط ويكون كل نصف منها على وسع اسفل الجزء باصبعين ثم تأخذ الاشراس على الكتاب ولا يقع شيء تبله ثم تطبق ورقة من الورق ويكون فاضلها الى الجانب الواحد ثم يلطخ فوقها ثم يضع الاخرى مخالفة . واما قولى مخالفة ليقع فاضلها في الجانب الآخر ثم يضع ورقة وتمسكها بيسارك وتصقل عليها ( الاند ) اذا وضعت النصاب على الورق المبلول افسده وقلعه وهذا من سرائر هذا العمل فاذا فعلت ذلك تركته في الهواء وان شئت في الشمس وان كان عجلة فاتركه بقرب نار لينة ولا تعلقه حتى يجف جفافا مستويا والا القلب عليك فاحذر ذلك .
ويجب ان تكون اخذت قدر الكتاب قبل تركك له في المعصرة فضع القدر حذاك على البلاط والطخه باشراس كما وصفت لك ثم اطبق عليه ورقة أخرى واتركها فوقه وامسح الورقة بخرقة ثم بعد ذلك بالنصاب وتطبق اخرى على قدر ما يصلح . واما العراقيون فانهم يلصقون الكتاب بورقة منه بلا هذه البطاين وتسمى البغاوى ورأى قوم آخرون وذلك انهم يصونون الكتاب وان مثلها في قوتها مثل الثوب في التخت ، واذا جف الجزء وجفت البغاوى واخرج الجزء من المعصرة ودعه على البلاطة واقلب الورقتين الفاضلة عليه ثم اعمد الى البغاوى فاصقلها صقلا جيدا ثم ضع المسطرة على حافتها ثم خط خطا وانصفه بالمقص والزقه على الجزء وهو ان تشيل الورقة التي الصقتها اسفله وتضع الرموثة مع الكتاب فيجيء طرفها مع الذي قصت اسفل الجزء ثم تلصقه فاذا الصقته مع الجانبين اخذت ورقة طويلة قليلة العرض يكون عرضها اصبعين فتلصقها عليه من الجانب الآخر ليمنعه ان ينفتح فاذا بلغ هذا الحد فصلت عليه الجلد • انتهى •
ومن اجمل القطع التي عرضت في معرض - بلتيمور للفنون الجميلة وهو الأول من نوعه في الولايات المتحدة الاميركية ، الجلود التي تجلت فيها المهارة الاسلامية الفنية التي بلغها رجال هذه الصناعة في الاسلام - اذ هم الذين تفننوا وابدعوا وابتكروا فن التذهيب والتزميك •
وفي ذلك المعرض عرضت نحو خمسمائة قطعة مختلفة من المواد التي ادخلت في تجليد الكتب من جلود وعاج وذهب وغيرها من المواد الغالية الثمن • بحيث يستطيع المشاهد ان يرى ويتتبع تطور فن التجليد في الاسلام من القرن الرابع الهجري الى يومنا .
وهذه المعروضات جيء بها من شتى البلاد الاسلامية ؛ من تونس ومراكش ومصر وسورية والمملكة السعودية ، وايران ، وتركيا ، والهند . اما المجلدات التي جيء بها من بعض المجموعات الخاصة والعامة من اميركا واوربا ، منها مجموعة « بوسطن ، للفنون الجميلة ، ومجموعة مكتبة - بيربونت مورغان ، ومجموعة متحف
« متروبوليتان » ومجموعة مكتبة « الكونغرس » ومجموعة « مارتن » ومكتبة الدولة في ميونيخ بالمانيا والمكتبة الاهلية بباريس ، ومتحف بلنسية دي دون خوان بمدريد ومجموعة « السيد محمد بن داود ، بتطوان ومصاحف من غرناطة في مجموعة اوبنهيم ، ومكتبة الاسكوريال التي فيها المصحف المعروف بمصحف مولای زيدان ، ومن كل من دار الكتب المصرية ومكتبة جامع الجزائر .
واما في ايران فقد ذكر ان ليس ثمة ما يدل على ان تجليد الكتب كان معروفا في العصر الساساني - على ان جلود الكتب الايرانية التي صنعـت في القرن التاسع الهجري في مدينة « هراة » تعد من ابدع ما صنع ؛ من الناحية الفنية في دقة الصناعة وجمال الرسوم في العهد التيموري الذي عرف فيـه تزيين الجلود بالزخارف المفرغة المضغوطة . واستمرت تلك الطريقة الى العصر الصفوى الذي استعمل في الزخارف رسوما تمثل الطيور والغزلان في مناظر برية . واختلفت في صناعاتها عن مثيلاتها في العصر التيموری • اذ انها بدلا من ان تضغط باليد او تدق دقا ، ضغطت بقوالب كبيرة من النحاس او الصلب ، فظهر فيها النتوات الشديدة البروز على هيئـة العناصر الزخرفية المختلفة الاشكال •
وكانت عمليتا الضغط والتذهيب غالبا ما تتمان في وقت واحد . الا ان الجلد كان في بعض الاحيان يذهب قبل ان يضغط بالقالب الساخن . وتزخرف صحائف باطن جلدة المصحف او الكتاب المخطوط برقائق من الذهب المخرم . وهي طريقة حلت محل الجلد المضغوط التي ذكرناها آنفا •
وقد ثبتت هذه الرقائق الذهبية المخرمة على ارضية من الألوان الزاهية ؛ من احمر ، وازرق فيروزي ، واخضر ، واسود ، وبنفسجی ، وارجوانی • وشاعت في عصر الشاه طهماسب طريقة تزيين جلود الكتب بزخرفتها وطلائهـا بطبقة من « اللاكيه » ، وهذه الجلود موجودة في متاحف باريس وبرلين ودسلدروف ولندن وعندى •
اما المصاحف الأثرية المجلدة تجليدا نفيسا والمحفوظة في متحف طوب قبو باستانبول فتشير الى ان تاريخ البدء بزخرفة الجلود يرجع الى العصر العباسي . اذ كانوا المجلدون يستعملون الواحا رقيقة من الخشب المغطى بالجلد ، ثم يتفننون بتزيينه بتلك الزخارف التي تلون وتذهب ، ثـم تطور ذلك الى الاستعاضة عن الخشب بالورق المكبوس بالضغط « المقوى ، او الكارتون » • بالكابسة - المنكنة ، كما استعملوا التخريم والتبريز والدهان والتلبيس بالقماش المزركش اكساء مثبتا . وهكذا نجد بعض الجلود تجمع بين عدة اساليب صناعية في الزخرفة ، فبعض زخارفها مطبوعة بالة محماة ، وبعضها ملئت اجزاؤها المنخفظة بصبغات دهنية ، وبعضها يثبت التذهيب فيها بضغط الآلات المحامة على صفحات مذهبة ، وبعضها يتألف من شرائح صغيرة ملصوقة على مهاد •
وكانت العناية بزخرفة باطن جلدة المصاحف وفن التزويق لا يقل عن عنايتهم بالجزء الخارجي للمصحف او الكتاب من تذهيب . وكانت صنعة التذهيب والخط لا تجتمعان في شخص واحد ، فكان الخطاط يتم كتابة ( او نسخ ) المخطـوط تاركة فيه الفراغات التي يطلب زخرفتها او تلوينها او تذهيبها . وكان الذي يحوز الصنعتين من الموهوبين القلائل الذين ذكرهم التاريخ . كما يشهد بذلك مصحف ابن البواب ومن جاء من بعده •
ولقد اطلعنا على شتى الزخارف مصاحف ومتاحف كتب استانبول والقاهره وطهران ، ولم يسعدنا الحظ ان نرى ما في كنوز شمالی افريقية من نفائس كان لصناعتها الاثر العظيم في تاريخ الدول الاسلامية ، ونستطيع ان نقول ان انتشار هذه الآثار الفنية كان من مدرسة بغداد في عهد ازدهارها العجيب عاصمة الدولة العباسية . ونرى ان نتجنب محاولة الموازنات والمقارنات التي قد تؤدي بنا الى استنباط احکام غير صحيحة ، فنكتفي بتقديم هذه النماذج الجميلة بغير تعليق عليها ، والبحث في أوصافها والاطناب في الوانها فهي تعطينا الفكرة في تجويد صنع الانسان كامثلة لما بلغه هذا الفن من غير ان نلجا الى الشرح للطريقة التي يجب اتباعها في الزخرفة العربية او تقليدها او مضاهاتها على قدر الامكان لما لهذا الفن العظيم من دقائق في الصناعة •
وهذه النماذج التي ننشرها تحوى الكثير من الموضوعات العلمية في فنون الرسم الزخرفي الذي يدعو كل دارس الى المزيد من التعمق في ممارستها عـن اساتذتها وأشياخها من المزخرفين العثمانيين والمغاربة والفرس ومدارس الفنون الجميلة الحديثة . ومن دواعي الاسف انا لم نر من تصدى من ابناء الامة العربية في الزمن الحاضر للبحث في هذا الموضوع القيم على حين ان مادة البحث متوفرة ، والوثائق التاريخية مدير المتاحف ، والمكتبات الإسلامية زاخرة بما يبهج النفوس من هذا التراث الاسلامي الرفيع •
ولقد استوقفتنا تلك الزخارف الرفيعة في مصاحفها الاصلية اوقاتا طويلة ونظرنا فيها اياما عديدة ماخوذين بسحرها وعظمة صناعتها التي تناسب جلال القرآن الكريم الذي لا يضارعه لدى المسلمين اي كتاب في الدنيا .
وبعد ، فقد ملكت اعجابنا هذه الزخارف والخطوط ونحن نفكر برسومها السحرية التي تملأ مخيلتنا بتحف الماضي البعيد وكانت ابداعا فنيا خلقته انامل الفنانين المسلمين وأقلامهم التي اشغلت افكار عددا لا يحصى من البشر قرونة عديدة حتى يومنا هذا وسيبقى خالدا ساحرا للناظرين الى يوم الدين •
ويسرني وقد يسر الله لى الانتهاء ان اتقدم بشكري الى الاستاذ الدكتور جميل سعيد عميد كلية الآداب بجامعة بغداد وعضو المجمع العلمي العراقي ؛ اذ تفضل ـ على ضيق وقته ـ فنظر في مسودات هذا الكتاب الذي اشتغلت بجمع اصوله وتأليفه ربع قرن من الزمن وأشار على باشارات اخذت بها شاكرا كما انه تكرم بمراجعته فأصلح بعض جمله وعباراته مما جعله ان يتفق إلى حد ما مع المقتضيات العلمية الحديثة قمينا برضى الباحثين في هذا التراث الفخم القيم ولعله اتعبه هذا •
وانني لأرجو مخلصا من الفضلاء ان يصفحوا عما يجدوه فيه من اخطاء وليشيروا اليها لأكون على بينة من الامر . واما الاقتباسات فلا يوآخذ عليها المؤلفون وهي حالة معروفة قديما اذ اورد بن خلدون في المقدمة ص ٤٢٦ : « .. ثم لما وقفت عناية اهل العلوم على ضبط الدواوين العلمية وتصحيحها بالرواية المسندة إلى مؤلفيها وواضعيها لانه الشأن الاهم اذ بذلك تسند الاقوال الى قائلها .. » الى آخره . وهذا ابن النديم قد اعتمد على مباحث كثيرة لابن الكوفي ابو الحسن علی بن محمد المتوفى سنة ٣٤٨ هـ فوجد انه نقل فصولا طوالا فی ۲۹ موضعا من كتابه ربما اوشكت ان تبلغ مقدار عشر الفهرست تقريبا وكذلك الحال في المقتطف من كتاب تحفة القادم – لأبن الأبار الاندلسي . وما استل من كتاب عيون الاخبار - لابن قتيبة الدينوري مما لايدخل تحت حصر من الكتب الاسلامية •
وذلك تأكيد على ان المبدع لا يأتي بكل شيء جديد ، انما هو يربط ويؤلف بين الاشياء . وقد ورد في مثل هذا المعنى عن ارسطو حينما سأل احد تلاميذه : . مما يتكون الوجود ؟ فقال : من كل موجود ، فقال : ومما يتكون الموجود ، فقال من اصله ۰۰ » وها انني اضع بين ايديكم ما وجدته في أمهات الموجودات ما يفيد العالم والمتعلم في صناعة اهل الخط بعد استقصاء بعيد الحدود . وفي رايي انه لم يخرج بالشكل الذي اردت . وذلك تسليما لتقادير كانت تجرى في اعنتها كما ذكر في فاتحة هذا الكتاب •
فاذا استجيب ما ارجوه فاكون قد بلغت غاية ما بعدها غاية ، ولقد كدنا ان نخرج عن الغرض فعزمنا ان نقبض العنان عن اكثر من هذا القول ولعل من ياتي من بعدنا ممن أيده الله بعلم مبين فيكمل ويصلح ويغوص في مسائل اكثر عمقا مما غصنا وكتبنا في كتابنا هذا والكمال الله وحده •
وان لله في كل نعمة انعم بها حقا ، فزكاة المال الصدقة ، وزكاة الشرف التواضع ، وزكاة الجاه بذله ، وزكاة العلم نشره لوجه تعـالى ، « يرفع من يشاء درجات وفوق كل ذی علم علیم » •
وقد وقع الفراغ منه بمدينة السلام بغداد في شهر رمضان المبارك سنة ثمان وثمانين وثلثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية ( ١٣٨٨ ) الشريفة ( ١٩٦٨ ) ميلادية حامدا الله تعالى على نعمه ومصليا على نبي الرحمة وشفيع الأمة محمد سيد المرسلين وآله اجمعين وصحبه الطيبين ومسلما •
تحلية وتجليد المصاحف
كانت كراهية تحلية المصاحف بالذهب في صدر الاسلام معروفة حتى انه ورد في كتاب المصاحف لأبي داود السجستاني المتوفى سنة ٣١٦ هـ ( ص ١٥٢ ) حديث مسنداً عن المغيرة انه قال : كان يكره أن تكتب المصاحف بالذهب حتى قيل « اذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فعليكم الدثار » وقيل في حديث آخر • « ان أحسن ما زين به المصحف تلاوته في الحق » الا ان العناية بالدواوين العلمية والتدوين والسجلات وتجليدها اباحت ذلك وكان سبب ذلك ما وقع من ضخامة الدولة وتوابع الحضارة كما ذكر ابن خلدون في المقدمة ص ٤٢١ .
ولقد تعلم المسلمون صناعة تجليد الكتب عن الاقباط المصريون ، ونقلوه الى سائر انحـاء الدولة الاسلامية .
وجعلوا جلود المصاحف الاولى من الخشب المغطى بالجلد المزين بالزخارف ذات الخطوط المتشابكة ، ثم استخدم الورق المضغوط المدهون بطبقة من مادة اللاكية « وكانت ، طرائق التجليد متشابهة في الاقطار الاسلامية الى حد بعيد ، واقـدم جلـود الكتب المعروفة في العصور الاسلامية صنعت في مصر وتاريخها بين القرنين الثاني والخامس الهجرى ا ( ۸ – ۱۱ م ) .
وتلك الطرائق المتشابهة أنواع ، منها " ان يضغط الجلـد او يختم بدونه او بالقص واللصق على الارضية الملونة .
وقد استعملت في بعض الاحيان طريقة قوامها طبقتان من الجلد تلصق احداهما فوق الأخرى . ومن الثابت ان التجليد كان منتشرا في مصر والتركستان الشرقية في بداية العصر العباسي . وقد اكتشف بين المخطوطات « المانوية » التي عثر عليها في اثناء التنقيب في اطلال مدينة ( خوجو ) عاصمة قبائل الاويغور ( بالتركستان الصينية !! ؟ ويرجح ان تجليد الكتب في تلك الاقاليم التركستانية قد تأثر بتجليد الكتب القبطية على ايدى المبشرين النساطرة الذين انتشرت جماعاتهم في الشرق الاوسط والشرق الادنى منذ تأسيس كنيستهم . وربما دخلت هذه الصناعة من هناك الى ايران ، كما انتقل فن تجليد الكتب من الشرق الادنى الى ايطاليا عن طريق البندقية .
ويعتبر عمل المجلد في فنون الكتاب متمما لعمل الخطاط والرسام ، اذ يلتزم المجلد بمسئولية حفظ اوراق المخطوط او المصحف من التلف والعنـاية بمظهره الخارجي بحيث يتلائم هذا مع الكتاب ومحتوياته .
ولم تقتصر الزخرفة والتذهيب على الغلاف الخارجي لجلدة الكتاب ولسانه ، ولكنها امتدت الى باطن الغلاف وصفحاته الاولى ؛ اذ زينت هي الاخرى ابدع تزيين . وقد قلل الجلد هو المادة المثالية للتجليد . كما استعملت طريقة التمحيط في زخرفة جلود الكتب •
ويمتاز تجليد الكتب المصرية العربية في العصر المملوكي فيما بين القرن السابع والتاسع بتغطية جلدة المصاحف كلها بزخارف هندسية متشابكة - ممحطة يزيد في رونقها نقط ذهبية مضغوطة ، وبزخارف من وريدات وخطوط مجدولة ، وتتوسط بعض الجلود المملوكية هذه جامات نجمية كبيرة ، وكتابات في اطارها بخط كوفي من آيات القرآن الكريم ، تزينها زخرفة نباتية ملونة ، يضاف اليها احيانا اشکال ازهار منوعة متناظرة الاغصان كما نراها في جلدة كتابنا هذا .
ومن المعروف لدى مؤرخي الفن الاسلامي ، ان فن تذهيب المصاحف والكتب وجلودها الما نشا اول ما نشا في المغرب لقربه من مصر ومن أقدم ما عرف منها في العالم الاسلامي ما ارسلته حكومة تونس ، مما عشر عليه قبل عشر سنوات في مستودع مهجور ، من اقبية جامع القيروان .
ويرى الاخصائيون ان فن التجليد الاسلامي كان مجهولا قبل اكتشاف طريقة التجليد المستعملة في القيروان في تونس . وهذه الجلود تكشف بصورة جلية الروابط القائمة بين الطرائق الفنية التي تبرز في الجلود التي تعود لمجلدين مسلمين في الحقبة الاولى من التاريخ الاسلامي . وهي كذلك تعطينا صورة عن التطور والتحسين الدين امكن ادخالهما على فن التجليد في العهد الاسلامي ، ومنه اتصل الى اوروبا .
وقد ورد في بعض المصادر فن التجليد ما ياتي :
باب في معرفة البلاطة والمسن والشفرة والسيف ، والكسفار والمقص والكازن والابرة والمعصرة والمساطير والبراكير .
فاما البلاطة ينبغي ان تكون من الرخام الابيض والاسود الجيد وتكون صحيحة الوجه تمر عليها مسطرة واحدة ليفسح البشر والتحمر .
ثم المسن ينبغي ان يكون معتدل الوجه صحيحا ولا ينبغي ان يكون لينا فيحفره الحديد ولا صلبا فيسرد الحديد ومن الصناع من يأخذ المسن فيعيد تعديله ويصلحه على ما يريد ثم يرفعه إلى الراوس فيسيسه في التنور ليلة ليشرب الدهن فهو اجود والشفرة ينبغي ان تكون حديدا جيدا غير لينة ولا صلبة ويكون مقدارها في الثقل والخفة على قدر يد الصانع والكازن وهو يعمل في اللزق .
والشفار دقيقا جيد والمفص معتدلا جيدا ليقطع الجلد وغيره والابر صنفين فمنها ما يصلح للخزم ومنها ما يصلح للخيط فاما التي للخزم فتكون تامة قليل دقيقة البدن والتي للخيط تكون دونها في الطول والدقة والسيف يجب ان يكون طوله الى ما دون ذلك ويكون جيدا عريض البدن جيد السقى ومن الصناع من لا يرى بالسيف ويكون نصابه هو الكف . وبلغني ان قوما من اهل هذه الصناعة لا يعمل بسيف قط ولا يحسنون العمل به وذلك ان لهم شفرة طويلة الحديد يقطعون بها على ما الفوه واعتادوه .
واما المعصرة : وهي نوعان فنوع منها المعصرة ذات الحبل وهي التي يسمونها اهل العراق واهل مصر وبعض اهل خراسان ذات الحبل ، والمعصرة الاخرى معصرة المنازل يسمونها المجلدون والنجارون لحم سليمان ويسمونها اللزومة الكلخيون واهل العراق يستعملونها ، واما المعصرة ذات الحبل فينيقي ان يكون طولها على قدر الجزء الذي يشرفها انصاف المعصورة وينبغي ان تكون المعصرة اطول من الكتاب وان يكون الكتاب في وسط المعصرة وذلك اخف على الصناع وآمن له عند المسح وتكون جيدة العصر صحيحة المقدام وذلك اذا اردت اطباقها على ورقة لم يدر عليها من الحبل الذي يصلح لها ، واجود ما يكون من الشعر الحي اذا كان مغزولا وان يكون تاما اسود مليح السواد ولا يكون له رائحة غير طيبة وليس له بقايا في الدباغين الذين يعملون به للجر فيجب ان يعمل لهذه المعصرة حبل جيد من الشعر الذي ذكرناه ، ويكون دقيق ادق من القنب وطوله ما يلف على المعصرة من كل جانب اربع طاقات فان زاد على هذا القدر كان اقل تعبا للصانع لانه كل ما زاد طاقة قل شدته بيده فافهم . ومثاله الحبل اذا كان من كل جانب احتجنا الى المراوق فيه دفعات فلما صار اربع طاقات فتلنا دون ذلك وهي اربع فتلات والمرواق طوله طول اصبع ، ويكون رقيقا لينا سلسا وينبغي لهذه المعصرة ان تكون ملوية الجانبين الى ناحية العين في الموضع الذي يقع فيه المرواق وذلك اجود للمسح ، واذا كان جانبي المعصرة ملويا ليقع السيف على طرف المعصرة ولا ياخذ من جسمها شيئا .
والمسطرة اجود ما يكون من الابنوس ومن البقس واما المرسم والتحبير والتكحيل فلا بأس بها ان تكون من هدين الخشبين .
واما مسطرة الشغل فينبغي ان تكون من خشب الصفصاف وذلك ان الصفصاف بعضه من بعض تشتعل حافتاه اعنى جنبي المسطرة اذا اخذه النار وذلك ان الابنوس النار تحرقه وتؤثر فيه . وحد المسطرة الابنوس اذا مر عليها بخيط مثلها تحك بعضها بعضا اثرت في المسطرة الابنوس .
ومسطرة الرسم يجب ان تكون طويلة جيدة لا تخينة ولا رقيقة جدا لانها تمشي تحت الاصبعين . واما مسطرة التكحيل فينبغي ان تكون مثل ذلك في الرقة والخفة وسترى التكحيل في باب النقش .
واما مسطرة الريح وهي التي تصنع بها الجلد والتصبيغ لاخراج الريح من الجلد والتشنج والعوج واقامته على الاستواء فيجب ان تكون ثخينة جدا ويكون طولها شبرا وتكون من الخشب السنديان الجيد وتكون مربعة رقيقة الحافة حتى اذا مرت على الجلد عدلته .
ثم ان النصاب من السنديان وذلك ان العاج والبقس اذا مسه النار والمعصرة بسطت حوافيه و تكسرت .
ثم البيكار ( الفرجار ) ان كان جيدا فيجب ان يكون خفيف البدن دقيق الساقين لترق خطوطه ويكون صحيح المسمار ويكون غلقه شيئا واحدا وان كان خشبا فيجب ان يكون مثل ذلك ، بالبيكار تستخرج الشموس وهي الدوائر المنقوشة التي تقع في وسط ( جلدة ) الغلاف وسترى صفته وصفة العمل به في موضعه .
ثم الحديد الذي للنقش وهي اللغدة والمسائل فهذا يسمى الدسـت ثـم صفال دقيق والمناقش مختلفة فمنها شيء بعد شيء ثم نقط النقش وذلك ان منهـاما سترى في موضعه ان شاء الله . فهذه جملة الآلة والذي يحتاج اليه ملتمس هذه الصناعة سرعة الفهم وجودة العصر وحلاوة اليد وترك السرعة ، والتثبت والتاني وحسن الجلوس وملاحة الاستمالة وحسن الخلق .
واول ما تبدا من هذه الصناعة ان تضع الجزء بحداك على بلاطة ، تضعه على شمالها ثم تشد اولا كراسة فتجعلها في يدك اليسرى وتفتحها باصبع يدك اليمنى ثم تضعها على البلاطة مفتوحة ، ثم تمر عليها بالنصاب وهو وسطها بموضع يقع فيه حزم الخيط ثم تطبقها وتقطع على ورقة البطاين وهي ورقتين ، فواحدة تكون في الجلد وأخرى باقية على الكراريس لتصون الكتاب من الاذى والوسخ ، ثم يفعل ذلك بساير الكراريس حتى تأتي على آخرها ، فاذا فرغت من ذلك فتلت خيط الحزم ، ويكون على ثلاث طاقات على قدر الخيط وغلظته ورقته ، واجوده يكون الخيط رقيقا جيد الفتل لانه . اذا كان غليظا افسد الجزء لانه يدور في كل كراسة فيصير له حزم كبير ، فاذا غلط وشددت الكتاب وقعت المسطرة على طرف الخيط ويبقى الكتاب مسيبا لا يقع عليه شد ومثاله اذا اخذت الخيط لففته على اصبعك آخره فكذلك ثخانته في الكتاب في داخله ، والحزم هي انواع فمنه ما يستعمله الصناع لخفته وسرعته وهو الذي ينفذ منه الابرة في موضعين ، وغيره يعمل بابرتين وثلاثة ، ورايت الروم يعملون منه شيئا غير اني لا اوافق عليه .
وصفة حزمه الجزء وقشده بخيط ثم ادفع الموضع المحزوم بالنصاب الذي قد تقدم ثم ضعه بين ركبتيك ثم خذ المعصرة فحز فردة الى اخرى فدعها في ركبتك الشمال ثم خذ الفردة الاخرى ودعها على ركبتك اليمنى والكتاب في الوسط بين ركبتيك ثم خذ طرف الحبل فدعه في يدك اليسرى وادره على المعصرة حتى يفرغ ثم طويه ثم اتركه بين ركبتيك وهو في المعصرة ودعه على البلاطة اعنى اسفل الكتاب ثم حف اطراف الورق بالكتاب حتى تحته كله وتصير اطرافه ووسطه سواء ، ثم تشيله على ركبتك ثم تأخذ العودين اللذين تسمى المراويد تشدهما خفيفا لا بالكثير كيلا تقلب اسفل الكتاب وتفسده ، ثم تذيب الاشراس وهو أن تأخذ قدرا صغيرة فتصب فيها ماء قليلا وتذر فيها شيئا من الاشراس فتصيته وتحركه باصبعك الاوسط من يدك اليمني ويكون سلسة لا يكون شديدا ان كان جيدا وان كان سيئا فينبغي فيه شدة وذلك لسرعة جفافه ، ثم تأخذ ورقة دقيقة فتطويها وتقطعها من الوسط ويكون كل نصف منها على وسع اسفل الجزء باصبعين ثم تأخذ الاشراس على الكتاب ولا يقع شيء تبله ثم تطبق ورقة من الورق ويكون فاضلها الى الجانب الواحد ثم يلطخ فوقها ثم يضع الاخرى مخالفة . واما قولى مخالفة ليقع فاضلها في الجانب الآخر ثم يضع ورقة وتمسكها بيسارك وتصقل عليها ( الاند ) اذا وضعت النصاب على الورق المبلول افسده وقلعه وهذا من سرائر هذا العمل فاذا فعلت ذلك تركته في الهواء وان شئت في الشمس وان كان عجلة فاتركه بقرب نار لينة ولا تعلقه حتى يجف جفافا مستويا والا القلب عليك فاحذر ذلك .
ويجب ان تكون اخذت قدر الكتاب قبل تركك له في المعصرة فضع القدر حذاك على البلاط والطخه باشراس كما وصفت لك ثم اطبق عليه ورقة أخرى واتركها فوقه وامسح الورقة بخرقة ثم بعد ذلك بالنصاب وتطبق اخرى على قدر ما يصلح . واما العراقيون فانهم يلصقون الكتاب بورقة منه بلا هذه البطاين وتسمى البغاوى ورأى قوم آخرون وذلك انهم يصونون الكتاب وان مثلها في قوتها مثل الثوب في التخت ، واذا جف الجزء وجفت البغاوى واخرج الجزء من المعصرة ودعه على البلاطة واقلب الورقتين الفاضلة عليه ثم اعمد الى البغاوى فاصقلها صقلا جيدا ثم ضع المسطرة على حافتها ثم خط خطا وانصفه بالمقص والزقه على الجزء وهو ان تشيل الورقة التي الصقتها اسفله وتضع الرموثة مع الكتاب فيجيء طرفها مع الذي قصت اسفل الجزء ثم تلصقه فاذا الصقته مع الجانبين اخذت ورقة طويلة قليلة العرض يكون عرضها اصبعين فتلصقها عليه من الجانب الآخر ليمنعه ان ينفتح فاذا بلغ هذا الحد فصلت عليه الجلد • انتهى •
ومن اجمل القطع التي عرضت في معرض - بلتيمور للفنون الجميلة وهو الأول من نوعه في الولايات المتحدة الاميركية ، الجلود التي تجلت فيها المهارة الاسلامية الفنية التي بلغها رجال هذه الصناعة في الاسلام - اذ هم الذين تفننوا وابدعوا وابتكروا فن التذهيب والتزميك •
وفي ذلك المعرض عرضت نحو خمسمائة قطعة مختلفة من المواد التي ادخلت في تجليد الكتب من جلود وعاج وذهب وغيرها من المواد الغالية الثمن • بحيث يستطيع المشاهد ان يرى ويتتبع تطور فن التجليد في الاسلام من القرن الرابع الهجري الى يومنا .
وهذه المعروضات جيء بها من شتى البلاد الاسلامية ؛ من تونس ومراكش ومصر وسورية والمملكة السعودية ، وايران ، وتركيا ، والهند . اما المجلدات التي جيء بها من بعض المجموعات الخاصة والعامة من اميركا واوربا ، منها مجموعة « بوسطن ، للفنون الجميلة ، ومجموعة مكتبة - بيربونت مورغان ، ومجموعة متحف
« متروبوليتان » ومجموعة مكتبة « الكونغرس » ومجموعة « مارتن » ومكتبة الدولة في ميونيخ بالمانيا والمكتبة الاهلية بباريس ، ومتحف بلنسية دي دون خوان بمدريد ومجموعة « السيد محمد بن داود ، بتطوان ومصاحف من غرناطة في مجموعة اوبنهيم ، ومكتبة الاسكوريال التي فيها المصحف المعروف بمصحف مولای زيدان ، ومن كل من دار الكتب المصرية ومكتبة جامع الجزائر .
واما في ايران فقد ذكر ان ليس ثمة ما يدل على ان تجليد الكتب كان معروفا في العصر الساساني - على ان جلود الكتب الايرانية التي صنعـت في القرن التاسع الهجري في مدينة « هراة » تعد من ابدع ما صنع ؛ من الناحية الفنية في دقة الصناعة وجمال الرسوم في العهد التيموري الذي عرف فيـه تزيين الجلود بالزخارف المفرغة المضغوطة . واستمرت تلك الطريقة الى العصر الصفوى الذي استعمل في الزخارف رسوما تمثل الطيور والغزلان في مناظر برية . واختلفت في صناعاتها عن مثيلاتها في العصر التيموری • اذ انها بدلا من ان تضغط باليد او تدق دقا ، ضغطت بقوالب كبيرة من النحاس او الصلب ، فظهر فيها النتوات الشديدة البروز على هيئـة العناصر الزخرفية المختلفة الاشكال •
وكانت عمليتا الضغط والتذهيب غالبا ما تتمان في وقت واحد . الا ان الجلد كان في بعض الاحيان يذهب قبل ان يضغط بالقالب الساخن . وتزخرف صحائف باطن جلدة المصحف او الكتاب المخطوط برقائق من الذهب المخرم . وهي طريقة حلت محل الجلد المضغوط التي ذكرناها آنفا •
وقد ثبتت هذه الرقائق الذهبية المخرمة على ارضية من الألوان الزاهية ؛ من احمر ، وازرق فيروزي ، واخضر ، واسود ، وبنفسجی ، وارجوانی • وشاعت في عصر الشاه طهماسب طريقة تزيين جلود الكتب بزخرفتها وطلائهـا بطبقة من « اللاكيه » ، وهذه الجلود موجودة في متاحف باريس وبرلين ودسلدروف ولندن وعندى •
اما المصاحف الأثرية المجلدة تجليدا نفيسا والمحفوظة في متحف طوب قبو باستانبول فتشير الى ان تاريخ البدء بزخرفة الجلود يرجع الى العصر العباسي . اذ كانوا المجلدون يستعملون الواحا رقيقة من الخشب المغطى بالجلد ، ثم يتفننون بتزيينه بتلك الزخارف التي تلون وتذهب ، ثـم تطور ذلك الى الاستعاضة عن الخشب بالورق المكبوس بالضغط « المقوى ، او الكارتون » • بالكابسة - المنكنة ، كما استعملوا التخريم والتبريز والدهان والتلبيس بالقماش المزركش اكساء مثبتا . وهكذا نجد بعض الجلود تجمع بين عدة اساليب صناعية في الزخرفة ، فبعض زخارفها مطبوعة بالة محماة ، وبعضها ملئت اجزاؤها المنخفظة بصبغات دهنية ، وبعضها يثبت التذهيب فيها بضغط الآلات المحامة على صفحات مذهبة ، وبعضها يتألف من شرائح صغيرة ملصوقة على مهاد •
وكانت العناية بزخرفة باطن جلدة المصاحف وفن التزويق لا يقل عن عنايتهم بالجزء الخارجي للمصحف او الكتاب من تذهيب . وكانت صنعة التذهيب والخط لا تجتمعان في شخص واحد ، فكان الخطاط يتم كتابة ( او نسخ ) المخطـوط تاركة فيه الفراغات التي يطلب زخرفتها او تلوينها او تذهيبها . وكان الذي يحوز الصنعتين من الموهوبين القلائل الذين ذكرهم التاريخ . كما يشهد بذلك مصحف ابن البواب ومن جاء من بعده •
ولقد اطلعنا على شتى الزخارف مصاحف ومتاحف كتب استانبول والقاهره وطهران ، ولم يسعدنا الحظ ان نرى ما في كنوز شمالی افريقية من نفائس كان لصناعتها الاثر العظيم في تاريخ الدول الاسلامية ، ونستطيع ان نقول ان انتشار هذه الآثار الفنية كان من مدرسة بغداد في عهد ازدهارها العجيب عاصمة الدولة العباسية . ونرى ان نتجنب محاولة الموازنات والمقارنات التي قد تؤدي بنا الى استنباط احکام غير صحيحة ، فنكتفي بتقديم هذه النماذج الجميلة بغير تعليق عليها ، والبحث في أوصافها والاطناب في الوانها فهي تعطينا الفكرة في تجويد صنع الانسان كامثلة لما بلغه هذا الفن من غير ان نلجا الى الشرح للطريقة التي يجب اتباعها في الزخرفة العربية او تقليدها او مضاهاتها على قدر الامكان لما لهذا الفن العظيم من دقائق في الصناعة •
وهذه النماذج التي ننشرها تحوى الكثير من الموضوعات العلمية في فنون الرسم الزخرفي الذي يدعو كل دارس الى المزيد من التعمق في ممارستها عـن اساتذتها وأشياخها من المزخرفين العثمانيين والمغاربة والفرس ومدارس الفنون الجميلة الحديثة . ومن دواعي الاسف انا لم نر من تصدى من ابناء الامة العربية في الزمن الحاضر للبحث في هذا الموضوع القيم على حين ان مادة البحث متوفرة ، والوثائق التاريخية مدير المتاحف ، والمكتبات الإسلامية زاخرة بما يبهج النفوس من هذا التراث الاسلامي الرفيع •
ولقد استوقفتنا تلك الزخارف الرفيعة في مصاحفها الاصلية اوقاتا طويلة ونظرنا فيها اياما عديدة ماخوذين بسحرها وعظمة صناعتها التي تناسب جلال القرآن الكريم الذي لا يضارعه لدى المسلمين اي كتاب في الدنيا .
وبعد ، فقد ملكت اعجابنا هذه الزخارف والخطوط ونحن نفكر برسومها السحرية التي تملأ مخيلتنا بتحف الماضي البعيد وكانت ابداعا فنيا خلقته انامل الفنانين المسلمين وأقلامهم التي اشغلت افكار عددا لا يحصى من البشر قرونة عديدة حتى يومنا هذا وسيبقى خالدا ساحرا للناظرين الى يوم الدين •
ويسرني وقد يسر الله لى الانتهاء ان اتقدم بشكري الى الاستاذ الدكتور جميل سعيد عميد كلية الآداب بجامعة بغداد وعضو المجمع العلمي العراقي ؛ اذ تفضل ـ على ضيق وقته ـ فنظر في مسودات هذا الكتاب الذي اشتغلت بجمع اصوله وتأليفه ربع قرن من الزمن وأشار على باشارات اخذت بها شاكرا كما انه تكرم بمراجعته فأصلح بعض جمله وعباراته مما جعله ان يتفق إلى حد ما مع المقتضيات العلمية الحديثة قمينا برضى الباحثين في هذا التراث الفخم القيم ولعله اتعبه هذا •
وانني لأرجو مخلصا من الفضلاء ان يصفحوا عما يجدوه فيه من اخطاء وليشيروا اليها لأكون على بينة من الامر . واما الاقتباسات فلا يوآخذ عليها المؤلفون وهي حالة معروفة قديما اذ اورد بن خلدون في المقدمة ص ٤٢٦ : « .. ثم لما وقفت عناية اهل العلوم على ضبط الدواوين العلمية وتصحيحها بالرواية المسندة إلى مؤلفيها وواضعيها لانه الشأن الاهم اذ بذلك تسند الاقوال الى قائلها .. » الى آخره . وهذا ابن النديم قد اعتمد على مباحث كثيرة لابن الكوفي ابو الحسن علی بن محمد المتوفى سنة ٣٤٨ هـ فوجد انه نقل فصولا طوالا فی ۲۹ موضعا من كتابه ربما اوشكت ان تبلغ مقدار عشر الفهرست تقريبا وكذلك الحال في المقتطف من كتاب تحفة القادم – لأبن الأبار الاندلسي . وما استل من كتاب عيون الاخبار - لابن قتيبة الدينوري مما لايدخل تحت حصر من الكتب الاسلامية •
وذلك تأكيد على ان المبدع لا يأتي بكل شيء جديد ، انما هو يربط ويؤلف بين الاشياء . وقد ورد في مثل هذا المعنى عن ارسطو حينما سأل احد تلاميذه : . مما يتكون الوجود ؟ فقال : من كل موجود ، فقال : ومما يتكون الموجود ، فقال من اصله ۰۰ » وها انني اضع بين ايديكم ما وجدته في أمهات الموجودات ما يفيد العالم والمتعلم في صناعة اهل الخط بعد استقصاء بعيد الحدود . وفي رايي انه لم يخرج بالشكل الذي اردت . وذلك تسليما لتقادير كانت تجرى في اعنتها كما ذكر في فاتحة هذا الكتاب •
فاذا استجيب ما ارجوه فاكون قد بلغت غاية ما بعدها غاية ، ولقد كدنا ان نخرج عن الغرض فعزمنا ان نقبض العنان عن اكثر من هذا القول ولعل من ياتي من بعدنا ممن أيده الله بعلم مبين فيكمل ويصلح ويغوص في مسائل اكثر عمقا مما غصنا وكتبنا في كتابنا هذا والكمال الله وحده •
وان لله في كل نعمة انعم بها حقا ، فزكاة المال الصدقة ، وزكاة الشرف التواضع ، وزكاة الجاه بذله ، وزكاة العلم نشره لوجه تعـالى ، « يرفع من يشاء درجات وفوق كل ذی علم علیم » •
وقد وقع الفراغ منه بمدينة السلام بغداد في شهر رمضان المبارك سنة ثمان وثمانين وثلثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية ( ١٣٨٨ ) الشريفة ( ١٩٦٨ ) ميلادية حامدا الله تعالى على نعمه ومصليا على نبي الرحمة وشفيع الأمة محمد سيد المرسلين وآله اجمعين وصحبه الطيبين ومسلما •
تعليق