الفنان الفلسطيني حازم بيطار ودم العالم مهروقا بين الأسطورة والواقع
لوحات واقعية عن فلسطين، حاضرها، ماضيها ومستقبلها.
الجمعة 2023/10/27
ShareWhatsAppTwitterFacebook
اتحاد الخيال مع الواقع
بأسلوب فني يزاوج بين التقنيات السينمائية والتشكيلية حوّل الفنان التشكيلي حازم بيطار فلسطين إلى رواية وأسطورة مبهرة تذكّر العالم بالألم الذي يعانيه كل فلسطيني سواء كان داخل وطنه أو خارجه، وتحول الواقع البشع إلى أحلام لأناس وأماكن وحيدة.
يواصل الفنان الفلسطيني متعدد الوسائط حازم بيطار بسيل من الأعمال الفنية التي يمكن اعتبارها مُحركات لأفكار وجودية وروحية على أكثر من مستوى. أعمال تنضح باهتمامات الفنان الواسعة وانغماسه بشتى أنواع التعبير. لذا يمكن اعتبار الفنان شبها بابن أبولون في الأسطورة الإغريقية.
تقول الأسطورة، باختصار شديد، إن ابن الإله أبولون طلب من والده أن يدعه يقود عربته في السماء ولو لمرة واحدة. بعد إصراره كان له ما طلب. فأخذ العربة مع حصانين وانطلق في السماء.
فلسطيني متمرّس استخدم خبرته السينمائية في الإخراج وفي فن الرسم ليخلد فلسطين الأسطورة والواقع
وفي حين اضطربت الأرض والسماء كنتيجة لانعدام خبرة وتهور الابن، استطاع الفنان حازم بيطار أن يقود حصانيه الجامحين تحت قياده واحدة: قيادة فنان فلسطيني متمرس استخدم خبرته السينمائية في الإخراج وفي فن الرسم الكلاسيكي والديجيتالي ليخلد فلسطين الأسطورة والواقع على أنهما يتغذيان من بعضهما بعضا حتى يكاد المرء الناظر إلى اللوحات لا يعرف كيف يفصل بينهما لشدة تلاحمهما في المصداقية والثبات في الصيغة البصرية العامة التي اعتمدها الفنان.
تنوع في الأساليب
في حين يُعتبر الاختلاف في الأسلوب الفني عند فنان واحد نوعا من الضعف، يتقلّب الفنان حازم بيطار في سياق عمله الفني من أسلوب إلى أسلوب، ومن جوّ نفسي إلى آخر حسب ما يملي عليه القلب والعقل جاعلا من نصه واحدا ولكن بتفرعات عديدة.
الناظر إلى أعمال هذا الفنان الفلسطيني يمكنه بكل سهولة التعرف على تشربه بالمنطق السينمائي الذي يحكم الصورة. المنطق المرتكز على عوامل الوقت والمكان والتتابع والتسارع والارتجاع والتباطؤ والسكون حيث تتجمد كل حركة لتصحب حركة الذهن وتتوالد المشاعر إلى مكان آخر لم يحدده الفنان حكما وتركه مفتوحا أمام مُشاهدي لوحاته.
مجموعة من لوحاته تقدم مشاهد مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحدث الجاري. مثال على ذلك اللوحات التي ينجزها اليوم تحت وقع الملحمة الغزاوية. بعضها الآخر يتناول مشاهد تليق بأي يوم من أيام فلسطين ولياليها تحت القصف أو الهدنة وفي السجون الظالمة وفي وسع سماء تتلقف وتعد أهلها بيوم لناظره قريب. وهناك نوع آخر من لوحاته مأخوذ بالتعبير عن الإنسانية أو غيابها بشكل عام/عالمي.
فن من الواقع الفلسطيني
يستحيل أن يقدم فنان لوحات بهذا الزخم -رغم أن بعضها أقوى من بعضها الآخر- دون أن تشير إلى وسع ثقافته واطلاعه على النواحي الصوفية والفيزيائية والفلسفية من الحياة بمعناها المُطلق. ولعل هذا الزخم المشحون بمعارف عديدة إضافة إلى صدق المشاعر كفيل بأن يجعل منه فنانا يخترق سمع العالم وبصره بفلسطينه -وليس بفلسطينيته- كما تخترق الأسهم النارية كبد السماء.
تعبّر مشاهده عن الآن والواقع ولكن ملتحفين برداء الأساطير والملاحم الكبرى. فالدخان في لوحاته، على سبيل المثال، مُصور كطاقة كبرى تعتمل وتنقذف إلى وسع السماء غضبا أو رفضا أو إحاطة بالجرح وتكاد أن تهدّئ من روعه بسكونها الضاغط.
دخان مُحمّل بالرطوبة الفضية مُلتبسة التكوين أم غيوم رمادية مُشبّعة بسخام خانق في الآن ذاته يحضر فيها سكون غرائبي يُذكر بما ذكره شهود حين تمّ إسقاط القنبلة الذرية في هيروشيما: تجمد الوقت وهو في عزّ تجلياته المُبصرة بوهج شديد القوة.
في هذا السياق نذكر أن العديد من أعمال حازم بيطار تبدو وكأنها مشاهد في السماء. متواضعة وواقعية على الأرض ومرتقية إلى مستوى لا يطاله الزمن وسيوفه المتمثلة بالعفن والصدأ فالاندثار والموت.
على الرغم من النبرة المأسوية التي نادرا ما رضيت بأن تكون أقل من ملحمة بصرية هناك فرح غرائبي يسكن معظم اللوحات، فرح مُحيّر. ليس بتفاؤل أو تغاض عن الجراح، وليس رائيا يبصر ويقرّ بالضوء في آخر النفق، إنما هو عنف لا يُراد به سوء كالضرب على صدر من خذله قلبه. ضرب على صدر العالم تفاديا لموت محتم.
سكون غرائبي
تتأتى عن ذلك غنائية منقطعة النظير في العديد من لوحاته. ونذكر من هذه اللوحات ما أطلق عليها الفنان هذه العناوين “بردا وسلاما” و”أرقدي بسلام يا هبة زقوت، أيتها الأم والفنانة” و”صبرا وشاتيلا: زهرة الأمل” و”زيارات عائلية في جنين” و”في البيت وحيدا”. وقد علق الفنان على هذا العمل على صفحة فيسبوك الخاصة به نقلا عما قاله الطبيب الفلسطيني غسان أبوستة الذي يسعف ضحايا القصف الإسرائيلي على غزة “لا مكان في هذا العالم أكثر وحدة من الوقوف أمام سرير يرزح فيه طفل جريح قد فقد كل من كانوا يعتنون به”.
فلسطين مرآة العالم
لا أدري لماذا جاء إلى ذاكرتي حين رؤيتي لهذا العمل وقراءتي لكلمات الطبيب غسان أبوستة عمل فني رائع للفنان البلجيكي الشهير رونيه ماغريت وحمل عنوان “صوت الدم” مع أنه لا يحيل إليه بصريا بشكل مباشر. ربما لأن المشهد، المُتخايل والواقعي بدون شك لهذا الطبيب في مستشفى قرب سرير طفل جريح، تسيده دم بريء مهدور يهمس في أذن الطبيب كلمات تتقطر ببطء وسط الصراخ والعويل كما تفعل الدماء الهامسة في عروق وأغصان وأوراق شجرة الفنان رونيه ماغريت الرقيقة. الشجرة الكامنة في العتمة التي تملك بابا يقود إليها وإلى دمائها.
أما لوحة الفنان حازم بيطار التي اختار أن يرفقها بكلام الطبيب فتحتضن بدورها توهج الحُمرة في شموع مضاءة على طاولة وانعكاسها على وجه سيدة عجوز في وحدتها العميقة تجلس إلى جانب باب من نوع آخر: فجوة أحدثها القصف الإسرائيلي تطل على مشهد لدمار شامل.
يأخذنا الفنان بيطار على متن عربته الخارقة إلى حيث تلتحم الحكايات التراثية ببصرياتها بالواقع البحت وحيث تتحد السوريالية بالرمزية وبالغنائية والتعبيرية والكلاسيكية والوحشية وصولا إلى الفن الديجيتالي. تخف نبرة واحدة على حساب أخرى حسب اختلاف الظروف المؤسسة لها وكيف لا يستطيع الفنان أن يخالط ما بين كل هذه الأساليب الفنية وفلسطين الذاكرة والحاضر تستطيع أن تعبر في دفعة واحدة عن كل ذلك؟
مشهد مُحمّل بالمعاني
وهنا نصل إلى الفكرة المركزية التي تنطلق من هذه البراعة في التنفيذ والتعبير الصادق عن الزخم العاطفي الذي يضوج في نفس الفنان حازم بيطار والحس الجمالي الذي يجول في مخيلته. فجلّ ما يقدمه الفنان الفلسطيني لا يتوقف عند ما قدمه ولا يزال فنانون فلسطينيون لامعون عن فلسطين الذاكرة أو العرس الجنائني أو الحاضر الكئيب تارة، والمناضل تارة أخرى، بل يتخطاه إلى فلسطين الزمن الآتي عبر رفعها إلى مستوى أسطورة حديثة ليست كباقي الأساطير القديمة مبنية كليا أو شبه كلي على الخيال والمبالغة. بل أسطورة من صلب الواقع بجمالية فائقة تذبل أمامها كل الأساطير لأنها تشكل اتحادا للخيال مع الواقع الفج وذلك في أبهى الصور.
على سبيل المثال نذكر اللوحة التي يحوّل فيها الفنان خيمة لجوء إلى قبة سماوية تهبط أو ترتفع ضمن جدران العزل، يكتب عليها الفنان بذكاء لاذع “الأمم المتحدة”: إنها المبالغة السردية في حضن الواقع المحض، والالتباس في عزّ الوضوح.
ومن اللوحات التي تبدو واضحة ومباشرة وهي ليست كذلك، اللوحة التي يظهر فيها شخصان في مقهى وأمامهما نافذة شاسعة تطل على مشهد مسجد القبة الذهبية في ليلة ماطرة. وضعية الجلوس لهذين الشخصين الناظرين إلى ما خلف الواجهة الزجاجية الواسعة وهما غارقان في العتمة تدفع المُشاهد للتساؤل حول ما يدور في ذهنيهما أمام مشهد عادي/غير عادي ومُحملّ بالمعاني.
يرسم الفنان فلسطين مُتضمنة حاضرها وماضيها وصولا إلى زمنها الآتي المُستمر مُلحا في ضمير العالم، أو على الأقل في وجدانه المتخاذل، عصية على المحو عند انعدام الضمير.
الفنان حوّل فلسطين بصريا إلى أسطورة ما بعد حداثية لا تخص الفلسطينيين وحدهم وإنما كل الإنسانية
حوّل الفنان فلسطين بصريا إلى أسطورة ما بعد حداثية لا تخص الفلسطينيين وحدهم ولا الشعب العربي وحده إنما كل الإنسانية. الإنسانية، ولكن في سكرات احتضارها. هكذا لم تعد محاولات اغتيال أعمال الفنانين الفلسطينيين بالسهولة التي كانت عليها في ما مضى (والتاريخ حافل بعمليات قمع انتشار الفن الفلسطيني إيمانا بأنه خطر يسيل كسم بطيء في دم القاتل) لم تعد بالسهولة كما في السابق لأن فلسطين الأرض والواقع حلّقت بعيدا عن مُغتصبها على أجنحة أعمال الفنانين الفلسطينيين الرواد والمعاصرين المتمكنين من الأدوات المعاصرة.
أصبحت فلسطين مرآة العالم، مرآة تعكس بشاعته ببسالة خارقة، اجترحت لذاتها وجودا مُضاعفا مزلزلا في عالم افتراضي مفتوح على المطلق لا تطاله رصاصة قاتلة ولا غارة متمكنة.
اليوم، يقوض المشهد الفلسطيني على الأرض كما في الأعمال الفنية عبر أثير العالم الافتراضي ما قاله يوما الروائي الأميركي هيرمان ميلفيل “لا تستطيع إراقة قطرة واحدة من الدم الأميركي دون إراقة دم العالم كله..”. الدم الفلسطيني المراق اليوم على أرض غزة هو الإراقة لدم العالم كله. هو الطعنة الجامعة في خاصرة البشرية والشاهد الملك على وحشيتها.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
ميموزا العراوي
ناقدة لبنانية
لوحات واقعية عن فلسطين، حاضرها، ماضيها ومستقبلها.
الجمعة 2023/10/27
ShareWhatsAppTwitterFacebook
اتحاد الخيال مع الواقع
بأسلوب فني يزاوج بين التقنيات السينمائية والتشكيلية حوّل الفنان التشكيلي حازم بيطار فلسطين إلى رواية وأسطورة مبهرة تذكّر العالم بالألم الذي يعانيه كل فلسطيني سواء كان داخل وطنه أو خارجه، وتحول الواقع البشع إلى أحلام لأناس وأماكن وحيدة.
يواصل الفنان الفلسطيني متعدد الوسائط حازم بيطار بسيل من الأعمال الفنية التي يمكن اعتبارها مُحركات لأفكار وجودية وروحية على أكثر من مستوى. أعمال تنضح باهتمامات الفنان الواسعة وانغماسه بشتى أنواع التعبير. لذا يمكن اعتبار الفنان شبها بابن أبولون في الأسطورة الإغريقية.
تقول الأسطورة، باختصار شديد، إن ابن الإله أبولون طلب من والده أن يدعه يقود عربته في السماء ولو لمرة واحدة. بعد إصراره كان له ما طلب. فأخذ العربة مع حصانين وانطلق في السماء.
فلسطيني متمرّس استخدم خبرته السينمائية في الإخراج وفي فن الرسم ليخلد فلسطين الأسطورة والواقع
وفي حين اضطربت الأرض والسماء كنتيجة لانعدام خبرة وتهور الابن، استطاع الفنان حازم بيطار أن يقود حصانيه الجامحين تحت قياده واحدة: قيادة فنان فلسطيني متمرس استخدم خبرته السينمائية في الإخراج وفي فن الرسم الكلاسيكي والديجيتالي ليخلد فلسطين الأسطورة والواقع على أنهما يتغذيان من بعضهما بعضا حتى يكاد المرء الناظر إلى اللوحات لا يعرف كيف يفصل بينهما لشدة تلاحمهما في المصداقية والثبات في الصيغة البصرية العامة التي اعتمدها الفنان.
تنوع في الأساليب
في حين يُعتبر الاختلاف في الأسلوب الفني عند فنان واحد نوعا من الضعف، يتقلّب الفنان حازم بيطار في سياق عمله الفني من أسلوب إلى أسلوب، ومن جوّ نفسي إلى آخر حسب ما يملي عليه القلب والعقل جاعلا من نصه واحدا ولكن بتفرعات عديدة.
الناظر إلى أعمال هذا الفنان الفلسطيني يمكنه بكل سهولة التعرف على تشربه بالمنطق السينمائي الذي يحكم الصورة. المنطق المرتكز على عوامل الوقت والمكان والتتابع والتسارع والارتجاع والتباطؤ والسكون حيث تتجمد كل حركة لتصحب حركة الذهن وتتوالد المشاعر إلى مكان آخر لم يحدده الفنان حكما وتركه مفتوحا أمام مُشاهدي لوحاته.
مجموعة من لوحاته تقدم مشاهد مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحدث الجاري. مثال على ذلك اللوحات التي ينجزها اليوم تحت وقع الملحمة الغزاوية. بعضها الآخر يتناول مشاهد تليق بأي يوم من أيام فلسطين ولياليها تحت القصف أو الهدنة وفي السجون الظالمة وفي وسع سماء تتلقف وتعد أهلها بيوم لناظره قريب. وهناك نوع آخر من لوحاته مأخوذ بالتعبير عن الإنسانية أو غيابها بشكل عام/عالمي.
فن من الواقع الفلسطيني
يستحيل أن يقدم فنان لوحات بهذا الزخم -رغم أن بعضها أقوى من بعضها الآخر- دون أن تشير إلى وسع ثقافته واطلاعه على النواحي الصوفية والفيزيائية والفلسفية من الحياة بمعناها المُطلق. ولعل هذا الزخم المشحون بمعارف عديدة إضافة إلى صدق المشاعر كفيل بأن يجعل منه فنانا يخترق سمع العالم وبصره بفلسطينه -وليس بفلسطينيته- كما تخترق الأسهم النارية كبد السماء.
تعبّر مشاهده عن الآن والواقع ولكن ملتحفين برداء الأساطير والملاحم الكبرى. فالدخان في لوحاته، على سبيل المثال، مُصور كطاقة كبرى تعتمل وتنقذف إلى وسع السماء غضبا أو رفضا أو إحاطة بالجرح وتكاد أن تهدّئ من روعه بسكونها الضاغط.
دخان مُحمّل بالرطوبة الفضية مُلتبسة التكوين أم غيوم رمادية مُشبّعة بسخام خانق في الآن ذاته يحضر فيها سكون غرائبي يُذكر بما ذكره شهود حين تمّ إسقاط القنبلة الذرية في هيروشيما: تجمد الوقت وهو في عزّ تجلياته المُبصرة بوهج شديد القوة.
في هذا السياق نذكر أن العديد من أعمال حازم بيطار تبدو وكأنها مشاهد في السماء. متواضعة وواقعية على الأرض ومرتقية إلى مستوى لا يطاله الزمن وسيوفه المتمثلة بالعفن والصدأ فالاندثار والموت.
على الرغم من النبرة المأسوية التي نادرا ما رضيت بأن تكون أقل من ملحمة بصرية هناك فرح غرائبي يسكن معظم اللوحات، فرح مُحيّر. ليس بتفاؤل أو تغاض عن الجراح، وليس رائيا يبصر ويقرّ بالضوء في آخر النفق، إنما هو عنف لا يُراد به سوء كالضرب على صدر من خذله قلبه. ضرب على صدر العالم تفاديا لموت محتم.
سكون غرائبي
تتأتى عن ذلك غنائية منقطعة النظير في العديد من لوحاته. ونذكر من هذه اللوحات ما أطلق عليها الفنان هذه العناوين “بردا وسلاما” و”أرقدي بسلام يا هبة زقوت، أيتها الأم والفنانة” و”صبرا وشاتيلا: زهرة الأمل” و”زيارات عائلية في جنين” و”في البيت وحيدا”. وقد علق الفنان على هذا العمل على صفحة فيسبوك الخاصة به نقلا عما قاله الطبيب الفلسطيني غسان أبوستة الذي يسعف ضحايا القصف الإسرائيلي على غزة “لا مكان في هذا العالم أكثر وحدة من الوقوف أمام سرير يرزح فيه طفل جريح قد فقد كل من كانوا يعتنون به”.
فلسطين مرآة العالم
لا أدري لماذا جاء إلى ذاكرتي حين رؤيتي لهذا العمل وقراءتي لكلمات الطبيب غسان أبوستة عمل فني رائع للفنان البلجيكي الشهير رونيه ماغريت وحمل عنوان “صوت الدم” مع أنه لا يحيل إليه بصريا بشكل مباشر. ربما لأن المشهد، المُتخايل والواقعي بدون شك لهذا الطبيب في مستشفى قرب سرير طفل جريح، تسيده دم بريء مهدور يهمس في أذن الطبيب كلمات تتقطر ببطء وسط الصراخ والعويل كما تفعل الدماء الهامسة في عروق وأغصان وأوراق شجرة الفنان رونيه ماغريت الرقيقة. الشجرة الكامنة في العتمة التي تملك بابا يقود إليها وإلى دمائها.
أما لوحة الفنان حازم بيطار التي اختار أن يرفقها بكلام الطبيب فتحتضن بدورها توهج الحُمرة في شموع مضاءة على طاولة وانعكاسها على وجه سيدة عجوز في وحدتها العميقة تجلس إلى جانب باب من نوع آخر: فجوة أحدثها القصف الإسرائيلي تطل على مشهد لدمار شامل.
يأخذنا الفنان بيطار على متن عربته الخارقة إلى حيث تلتحم الحكايات التراثية ببصرياتها بالواقع البحت وحيث تتحد السوريالية بالرمزية وبالغنائية والتعبيرية والكلاسيكية والوحشية وصولا إلى الفن الديجيتالي. تخف نبرة واحدة على حساب أخرى حسب اختلاف الظروف المؤسسة لها وكيف لا يستطيع الفنان أن يخالط ما بين كل هذه الأساليب الفنية وفلسطين الذاكرة والحاضر تستطيع أن تعبر في دفعة واحدة عن كل ذلك؟
مشهد مُحمّل بالمعاني
وهنا نصل إلى الفكرة المركزية التي تنطلق من هذه البراعة في التنفيذ والتعبير الصادق عن الزخم العاطفي الذي يضوج في نفس الفنان حازم بيطار والحس الجمالي الذي يجول في مخيلته. فجلّ ما يقدمه الفنان الفلسطيني لا يتوقف عند ما قدمه ولا يزال فنانون فلسطينيون لامعون عن فلسطين الذاكرة أو العرس الجنائني أو الحاضر الكئيب تارة، والمناضل تارة أخرى، بل يتخطاه إلى فلسطين الزمن الآتي عبر رفعها إلى مستوى أسطورة حديثة ليست كباقي الأساطير القديمة مبنية كليا أو شبه كلي على الخيال والمبالغة. بل أسطورة من صلب الواقع بجمالية فائقة تذبل أمامها كل الأساطير لأنها تشكل اتحادا للخيال مع الواقع الفج وذلك في أبهى الصور.
على سبيل المثال نذكر اللوحة التي يحوّل فيها الفنان خيمة لجوء إلى قبة سماوية تهبط أو ترتفع ضمن جدران العزل، يكتب عليها الفنان بذكاء لاذع “الأمم المتحدة”: إنها المبالغة السردية في حضن الواقع المحض، والالتباس في عزّ الوضوح.
ومن اللوحات التي تبدو واضحة ومباشرة وهي ليست كذلك، اللوحة التي يظهر فيها شخصان في مقهى وأمامهما نافذة شاسعة تطل على مشهد مسجد القبة الذهبية في ليلة ماطرة. وضعية الجلوس لهذين الشخصين الناظرين إلى ما خلف الواجهة الزجاجية الواسعة وهما غارقان في العتمة تدفع المُشاهد للتساؤل حول ما يدور في ذهنيهما أمام مشهد عادي/غير عادي ومُحملّ بالمعاني.
يرسم الفنان فلسطين مُتضمنة حاضرها وماضيها وصولا إلى زمنها الآتي المُستمر مُلحا في ضمير العالم، أو على الأقل في وجدانه المتخاذل، عصية على المحو عند انعدام الضمير.
الفنان حوّل فلسطين بصريا إلى أسطورة ما بعد حداثية لا تخص الفلسطينيين وحدهم وإنما كل الإنسانية
حوّل الفنان فلسطين بصريا إلى أسطورة ما بعد حداثية لا تخص الفلسطينيين وحدهم ولا الشعب العربي وحده إنما كل الإنسانية. الإنسانية، ولكن في سكرات احتضارها. هكذا لم تعد محاولات اغتيال أعمال الفنانين الفلسطينيين بالسهولة التي كانت عليها في ما مضى (والتاريخ حافل بعمليات قمع انتشار الفن الفلسطيني إيمانا بأنه خطر يسيل كسم بطيء في دم القاتل) لم تعد بالسهولة كما في السابق لأن فلسطين الأرض والواقع حلّقت بعيدا عن مُغتصبها على أجنحة أعمال الفنانين الفلسطينيين الرواد والمعاصرين المتمكنين من الأدوات المعاصرة.
أصبحت فلسطين مرآة العالم، مرآة تعكس بشاعته ببسالة خارقة، اجترحت لذاتها وجودا مُضاعفا مزلزلا في عالم افتراضي مفتوح على المطلق لا تطاله رصاصة قاتلة ولا غارة متمكنة.
اليوم، يقوض المشهد الفلسطيني على الأرض كما في الأعمال الفنية عبر أثير العالم الافتراضي ما قاله يوما الروائي الأميركي هيرمان ميلفيل “لا تستطيع إراقة قطرة واحدة من الدم الأميركي دون إراقة دم العالم كله..”. الدم الفلسطيني المراق اليوم على أرض غزة هو الإراقة لدم العالم كله. هو الطعنة الجامعة في خاصرة البشرية والشاهد الملك على وحشيتها.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
ميموزا العراوي
ناقدة لبنانية