التشكيلي مصطفى شيرزاد يمضي باحثا عن سماء تليق به

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التشكيلي مصطفى شيرزاد يمضي باحثا عن سماء تليق به

    التشكيلي مصطفى شيرزاد يمضي باحثا عن سماء تليق به


    فنان ابن بيئته نذر حياته لتصوير كردستان وطبيعتها.
    السبت 2023/10/21

    رصد لتشعبات العلاقات الاجتماعية

    يعد مصطفى شيرزاد أحد أبرز الرسامين الكبار في كردستان وإيران، تتلمذ على يديه العشرات من الفنانين الشباب، وترك برحيله أعمالا تتميز بالواقعية والطبيعية، تناولت في أغلبها طبيعة كردستان، ومن أبرز موضوعات رسوماته الدبكة الكردية والعرائس والخيول.

    قبل أيام قليلة وتحديدا يوم السبت الموافق للسابع من أكتوبر الجاري وعن عمر ناهز الثانية والثمانين، في أحد مستشفيات مدينة بوكان بكردستان إيران، غادرنا الفنان التشكيلي الكردي مصطفى شيرزاد أحد أبرز الأسماء التشكيلية في كردستان إيران على نحو خاص وفي إيران على نحو عام.

    ولد شيرزاد في مدينة مهاباد عام 1941، وأكمل تعليمه في مدينة تبريز وتخرج في كليتها للفنون الجميلة عام 1966، ليعمل بعد ذلك مدرسا لمادة الرسم في مدارس مهاباد قبل أن ينتقل إلى بوكان ويستقر فيها ويؤسس مدرسة -أو ما يسمى معهداً لتعليم الرسم وفنونه- كانت مركزا مضيئا لأجيال لاحقة، مركزا إليه كان يلجأ كل من يبحث عن الجمال وتعلمه، كان بيتا لجيل من الشباب منه ينهلون حضورهم.
    فنان مختلف


    شيرزاد سعى جاهدا إلى تبيان وتقديم العلاقة بين الفنان والمكان، ومؤثرات المكان في ذاتيته وبالتالي في تجربته

    ينبغي القول إن مصطفى شيرزاد بقي لفترة طويلة، تمتد إلى نصف قرن بل أكثر، يصوغ الجمال من وفي واقع الحال، يصوغ هذا التواصل العذب كأحد متطلبات الحياة وأهمها، بنبرة أداتية يتصف بها ويتخذها كلمة عمل في استخداماته، فهو الذي يفكر بأشياء ويفعلها، أقصد يلتقطها ويدونها لا بشكلية مجردة، بل بالشكل الذي يريد، والمستقل عن أوضاع محددة.

    الأمر لدى هذا الفنان المختلف هو أن يحقق حلولا تقنية، أن يقدم كل ما هو ممكن أن يبزغ من سيرته المتبقية، من حكاياه التي يرويها لنا في أعماله التي تكاد تلخص المجتمع الذي عاش فيه، فهي الحامل لعاداته وتقاليده وتراثه وأفراحه وأتراحه، الحامل لطموحه وآماله، على نحو ما نلتقط منها كل ما تكشفه تلك النزعات المتأصلة في تاريخ المكان، أشدها تماسكا وتلاحما، بقصد الوصف حينا وحينا آخر بقصد التوثيق، وحينا ثالثا بقصد التقاط اللحظات الزمكانية بكل علاقات ظواهرها وما يؤسر فيها من ذواته.

    سعى شيرزاد جاهدا إلى تبيان وتقديم العلاقة بين الفنان والمكان، ومؤثرات المكان في ذاتيته وبالتالي في تجربته، حاله كحال معظم الفنانين الأكراد وعلى نحو أخص في كل من كردستان إيران وكردستان العراق، متأثرين بمفردات معينة ويسعون إلى تحقيق غايات معينة تخصهم، إلى جانب غاية الفن في الحياة؛ بمعنى آخر شيرزاد ابن بيئته، ينتمي إليها بكل مفاصله، يرسم الطبيعة التي يعرف بها كردستان والتي خلقها الرب في جمال خاص، لا لتوثيقها بل لإظهار مفاتنها التي تغذي الروح وتظهر كل ما فيها من عشق مبدأه استحسان شمائل المعشوق وجودة تركيبه وتناسب حركاته وأفعاله.


    فنان لجأ إليه كل من يبحث عن الجمال وتعلمه


    أردت أن أقول هنا بأن العلاقة بين شيرزاد والمكان، بينه وبين طبيعة كردستان، علاقة حب وعشق وغرام، علاقة تذكي الذهن وتنير القلب وتنبه النفس إلى إدراك كل ما تلطفه، فالفنان العاشق لا بد أن يكون مغرما ومتيما بمعشوقته. وهذا العشق الذي يعيشه الفنان لا بد أن يظهر في أعماله، ويكفي أن نمر سريعا على أعمال شيرزاد عن الطبيعة حتى نتيقن ذلك، فكان من الطبيعي أن يقترن اللجوء بالمبدعين الأكراد على نحو عام، والعشاق منهم على نحو خاص في نتاجاتهم، لا التشكيلية فحسب بل الموسيقية منها والأدبية أيضا، وسماع الموسيقى وأغاني الفنانين الأكراد على نحو عام يثبت ذلك، وكذلك قصائد وأشعار شعرائهم التي تحول بعضها إلى حالة هيام بين المبدع والطبيعة التي يتغزل بها ويصفها بما يليق بها.

    نعم استطاع شيرزاد العاشق أن يعبر عن عشقه هذا ويطويه إلى عالم حقيقي أقرب إلى الخيال، فما خلقه الله في دواخله من محبة نفسية تتجلى في ترجمة شمائل المحبوبة (طبيعة كردستان) بقلب لطيف ونفس رقيقة وحكم جليلة جعلت من أعماله معزوفات لونية من طبيعة كردستان الخلابة، معزوفات تؤرخ وتحكي حكايا هذه الطبيعة وناسها، وهي إشارات فيها تتجلى تلك العلاقة المتينة المبنية على المحبة بدرجاتها العالية بين شيرزاد والطبيعة التي يرسمها ويعيشها وينبض بها.

    هو مثل أي فنان كردي آخر ترعرع بين أحضان طبيعة كردستان المثلى في رونقها وألوانها وسكونها، تأثر بها أيما تأثر، واعتبر وقائعها ذلك الخيط التأملي الذي سيوصله إلى الانحياز التام لها وارتياد صداها من تلقاء ذاته وذاتها، فيده على الزناد، أقصد على الفرشاة، يكفي أن يضغط عليها حتى تقدح بالشكل الذي يريد.
    قدرة على الانعتاق



    من الجوانب الأخرى التي اشتغل عليها شيرزاد ليثبت حقا أنه ابن بيئته، وأنه خير من يستحق هذه الصفة، تصويره بشيء من التفصيل لعادات قومه وتقاليدهم؛ فهو يغطي هذا التراث المديد المتنوع ويسهب في تناوله، فرغبته في تسليط الضوء عليه مبنية لا على التشخيص، أقصد لا كضروب تشخيصية بل كضروب من التحولات عن طريق إعادة بنائها، فهو يحترس جدا معتبرا أن ما يلي في الزمن يكون متفوقا بصورة آلية على ما يسبق فيه.

    أعماله تستكشف بالمزيد من التفصيل تلك المساهمات الجمعية، وهو يدرك أن ذلك قد يعني استبعاد بعض الأشياء وتسجيل بعضها الآخر وفقا لرغبته في التوسع، فهو حين يصور عرسا كرديا يصوره بأيد متشابكة وبأكتاف متراصة وبألوان مختلفة، ولا يحول بينه وبين النظر إلى الحالة غير الاستغراق فيها، وهذا ما يدفعه إلى إيجاد أفكار رفيعة ذات قيمة بالمزيد من الإدهاش والتأمل، فهو في حقيقة الأمر يعتمد على الواقعة بوصفها فاعلة بارتكاز، ولهذا يعطي الأولوية لكيانات جمعية. ولكن ما يلفت انتباهنا أنه مازال يحمل فردانيته التي يعلنها بصوت عال، فهو يعلم من حينه، بل وينبغي أن يتوقع الكثير من المفاجآت متسما بأسلوب وشخصية متميزة، قادرة على تغطية مجال من الموضوعات الواسعة بصورة استثنائية والكشف عن تفاعل أبعاد الحياة الشخصية، وهو أمر لافت بالفعل.

    وبإطلالة خاطفة على أعماله ينكشف لنا المدى الذي تطاله أفكاره، فهو يلملم شتات الأطراف السائبة كما يجعل الأمر كله أشد تماسكا بالنسبة إلى المتلقي، وهذا ما يجعله يبقي دائما خيوطا مشتركة تمتد من الوضع السائد إلى الوضع المتخيل، وهي التي تعكس القدرة الإنسانية الكامنة على الانعتاق أو على إمكانية الانعتاق لديه على نحو أصح وأدق.

    ومن الثيمات الأساسية الأخرى التي اشتغل عليها شيرزاد الأحصنة، وهذا ليس غريبا عليه ولا على فناني كردستان عموما، فهي إحدى أهم مفردات المكان؛ ذلك أن الجبل والحصان يقترنان على نحو كبير، لا افتراضيا بل واقعيا، وعلى أي حال فإن قضيتنا هنا ليست أن نقرر بنظرة استرجاعية باردة ما الذي كان ينبغي القيام به وما الذي لم يكن إنجازه لازما، فباعتقادي أن الأهم بكثير هو أن ننظر إلى أعماله من حيث التبصر الذي أتى في سياق تشكلها، مع أننا لا ينبغي أن نعتبر الأفكار مجرد نتاجات للسياق شأنها شأن معظم الحالات التي يجسدها، فهو بصيغة ما يوقد هذه الثيمة المعروفة مسبقا بوصفها تعبيرا عن الحياة ولهذا اغتصت الملاحم الكردية بها والتي أتى بها فناننا في أكثر من عمل، وهي نظرة تثبت انتماءه إلى المكان باحثا فيه عن المعنى الأساسي للحياة في الحياة ذاتها.





    غريب ملا زلال
    كاتب سوري
يعمل...
X