براندو .. حصان جامح .. وفيفيان .. مكتئبة
«عربة اسمها الرغبة» مرآة صادقة للنوازع الإنسانية
«سينماتوغراف» ـ جايلان صلاح
تظل السينما الحقيقية خالدة مهما طال الزمان، وتبقى أسرار بقائها كامنة في أنها صالحة للمشاهدة في كل وقت، حتى وإن اختلفت من فيلم لآخر، أما في فيلم "عربة اسمها الرغبة" لإيليا كازان إنتاج عام 1951 فالحالة مختلفة لأن سر السحر في هذا الفيلم جاء من أبطال الفيلم، نجوم ذلك الزمان، مارلون براندون وفيفيان لي في دورين من أروع ما قدما، مع مشاركة متميزة من كيم هنتر وكارل مالدن رغم كل ما أحاط بهؤلاء من ظروف خلال تصوير الفيلم وبعده بسنوات.
فالقصة التي خلبت لب المشاهدين على خشبة المسارح التي عرضت فوقها أولاً، قبل أن تنتقل للعرض على الشاشة الفضية هذه القصة تدور حول بلانش دوبوا، تلك المرأة المنتمية للطبقة العليا في الجنوب الأمريكي، وتدهورها العقلي والنفسي عندما كانت تزور أختها الصغرى، ستيلا، لتقع في حبائل ستانلي زوج الأخت الذي رغم همجيته والفارق الطبقي الهائل بينه وبين الأختين إلا أنه يأسرهما في مثلث عاطفي ملتهب.
ويعود الفضل في خلود "عربة اسمها الرغبة" في البداية إلى تينيسي ويليامز، كاتب المسرحية المأخوذ عنها الفيلم، والذي يغوص في أعماق الشخصيات ويصنع منها شخوصاً من لحم ودم، لا مجرد سكتشات على الورق. أما السبب الآخر فيعود إلى الأداء العبقري للممثلين وفي مقدمتهم فيفيان لي ومارلون براندو.
ورغم عدم فوز مارلون براندو بالأوسكار عن هذا الفيلم، إلا أن النقاد اعتبروا أداءه ايقونة إبداعية، وربما من أفضل الأدوار التي قدمت في تاريخ السينما الأمريكية.
ويعد أداء مارلون براندون لشخصية ستانلي من الأسس التي قدم عليها علم "طرق التمثيل" إلى الجماهير الأمريكية. وفي هذا التكنيك التمثيلي، يستمد الممثل انغماسه وطريقة أدائه للشخصية من خبراته ومشاعره ويترجمها على الشاشة كأقرب ما يكون للنص المكتوب، وأحياناً يضيف إلى الشخصية أكثر من المادة المكتوبة.
عندما تقدم براندو لاختبارات أداء شخصية ستانلي في النسخة المسرحية التي قدمها تينيسي ويليامز على أحد مسارح برودواي، انبهر ويليامز به رغم صغر سنه -23 عاماً- في ذلك الوقت، حتى أنه كتب لمديرة أعماله، أودري وود، خطاباً أبلغها فيه عن مدى دهشته من قدرة ممثل صغير السن، مغمور، على إبراز الصراع الداخلي للشخصية، وعلى الدخول في نوبات هياج تبدو للرائي وكأن به جنوناً حقيقياً وليس مجرد تقص، وهو مادفع الناقدة بولين كايل حينذاك إلى القول :"هذا الفتى مصاب بنوبة صرع. كلا، يا إلهي، إنه يمثل!"
في "عربة اسمها الرغبة" تبدو الرغبة شخصاً رابعاً، يضاف إلى مثلث الحب المجنون، ستانلي وستيلا وبلانش. تتحكم الرغبة في جميع الأشخاص، فهي التي تجبر ستيلا على البقاء إلى جانب زوجها الهمجي، العنيف ستانلي رغم الفارق الطبقي الهائل بينهما وهي التي تثير الشهوة في بلانش نحو زوج أختها ستانلي، وهي التي تدفع ستانلي للشراسة والعنف كتفريغ لشحنة عواطفه التي تبدو أكثر من قدرته على التحمل.
وقد أثار "عربة اسمها الرغبة" في معظم العاملين في الفيلم المشاعر المتناقضة. ففيفيان لي، والتي أصيبت باكتئاب ثنائي القطب في نهاية حياتها، وتلبستها روح بلانش دوبوا حتى أنها في نهاية حياتها كان يلتبس عليها هل هي حقاً فيفيان، أم أنها بلانش.
ومن أهم الإضاءات حول الفيلم ما كتبه إيليا كازان، المخرج الملتبس، لصديقه تينيسي ويليامز أثناء إخراجه للنص المسرحي، وفيه قال : "هذه المسرحية –عليها اللعنة- تحتم على المسرح الأمريكي أن يغير من جلده، تحتم علي أنا نفسي، أن أغير من جلدي، أن أفعل أكثر مما كنت أفعل في مشواري كله".
ومن هذه الإضاءة أراد كازان في النسخة السينمائية، كسر تابو الرقابة الأمريكية في ذلك الوقت، حيث أخبر ويليامز أنه يريد إظهار "عربة اسمها الرغبة" بكل ألمها وقبحها على الشاشة. ورغم التزام كازان بالنص وإبقائه على المواضيع المثيرة للجدل وقتها مثل عدم انزعاج ستيلا من زوجها رغم علمها باغتصابه لأختها، وهوية زوج بلانش االجنسية الشاذة، وميول ستانلي الجنسية العنيفة والتي أثارت ستيلا رغم خوفها أحياناً منه، إلا أن مقص الرقيب أو "الهيئة الوطنية المحافظة" في ذلك الوقت، كان له بالمرصاد وقص جميع الأجزاء التي تثير الجدل، دون علم كازان.
وفي هذا الفيلم، لم يرفق إيليا كازان بممثليه، فكان يدفعهم للحافة وللكمال. ويقال إنه السبب وراء تدهور حالة فيفيان لي العقلية، خاصة وأن ظروف تصوير الفيلم كانت كئيبة ومائلة للانعزالية بالنسبة لها، مما جعله يحفزها على استغلال هذه الوحدة وترجمتها لوحدة بلانش على الشاشة. أما بالنسبة لبراندو، فقد وصف إيليا أداءه بموسيقى الجاز، كان حصاناً جامحاً، لا يقدر أحد على احتوائه ولا التحكم فيه. وقد استغل كازان تمرده وجموحه على أفضل ما يكون، وتركه يحطم ويكسر الديكور، مبهوراً بما يرى أمامه من تناقض انفعالي قريب لحقيقة البشر كما رآها صديقه تينيسي ويليامز في كل أعماله.
ما يدعم أسطورية "عربة اسمها الرغبة" هو استقبال النقاد له. حيث يعتبره معهد الفيلم الأمريكي واحداً من أعظم الأفلام الأمريكية في تاريخ هوليوود. وقد مدحه ناقد هوليوود الأشهر، الراحل روجر إيبرت، قائلاً إن طاقمه عظيم وعذب. كما أشاد ناقد نيويورك تايمز، بوسلي كراوثر، بأداء الممثلين، وخاصة فيفيان لي ومارلون براندو مبدياً إعجابه بتمثيل المشاعر المتناقضة على الشاشة بحرفية تكاد تبلغ الكمال.
ويبقى فيلم "عربة اسمها الرغبة" مرآة صادقة للرغبات الإنسانية عندما تتجسد على يد ممثلين بارعين، وقصة أبدية عن الرقص على حافة الجنون.
http://cinematographwebsite.com/
#فيلم، #فيديو، #أفلام، #فيديوهات، #ممثل، #ممثلين، #ممثلة، #ممثلات، #سينما، #سيما، #هوليوود، #فيلم_اليوم، #رعب، #رومانس، #كوميدي، #أكشن، #خيال_علمي، #وثائقي، #تاريخي، #مهرجانات_سينمائية، #سينما_العالم، #سينما_مختلفة، #تقارير_فنية، #مراجعات_أفلام، #بلاتوهات، #نجوم، #أخبار، #ذاكرة_العالم_أمام_عينيك