ابن قتيبة (عبد الله بن مسلم ـ)
(213 ـ 276 هـ/828 ـ 889 م)
أبو محمّد، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّيْنَوَرِيّ، من أشهر أعلام المئة الثالثة في الأدب واللغة والأخبار وعلوم القرآن والحديث، وأغزرهم تأليفاً، وأكثرهم استقلالاً في فكره وجرأة في قول الحق. وتُعدّ مقدّمات كتبه من أجود المقدمات وأغناها، ولاسيما في باب النقد، أمّا مصنفاته فهي أمّهات الكتب، وأكثرها انتشاراً، حتى إن المغاربة كانوا يقولون: «كل بيت ليس فيه شيء من مصنفات ابن قتيبة لا خير فيه».
كان أبوه من مدينة «مَرْو»، وأمّا هو فقد تباينت الأقوال في مكان ولادته، فقيل: ولد بالكوفة، وقيل: في بغداد، وأما نسبته إلى الدّينور فلأنه أقام بها مدّة ولايته القضاء، فنُسب إليها.
وثمّة اتفاق على أنه نشأ ببغداد عاصمة الدولة العباسيّة التي كانت تموج آنذاك بمشاهير الأعلام وتهوي إليها أفئدة أهل العلم من أنحاء الدولة الإسلامية كلّها.
كان ابن قتيبة، منذ شبابه الباكر، ذا نفس توّاقة إلى المعرفة، دفعته إلى أن يتعلّق من كل علم بسبب، فغشي مجالس علماء الحديث والتفسير والفقه والنحو واللغة والكلام والأدب والتاريخ، ونهل منها ما نهل، ممّا مكّن له أسباب التفوّق، وقد أخذ في هذه المجالس وغيرها عن طائفة من أعلام عصره، وروى عن جمع من مشاهير دهره، أولهم والده مسلم بن قتيبة، وأحمد بن سعيد اللحياني صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام، فقد قرأ على اللحياني هذا كتابَي أبي عبيد: «الأموال»، و«غريب الحديث» سنة 231هـ. ومنهم محمد بن سلام الجمحي البصري صاحب «طبقات فحول الشعراء» (ت231هـ)، وإسحاق ابن راهويه (ت238هـ)، وهو إمام جليل في الفقه والحديث صحب الشافعي وناظره، وعنه روى البخاري ومسلم وغيرهما، ومنهم أيضاً أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي (ت249 هـ) تلميذ سيبويه والأصمعي وأبي عبيدة، وأبو حاتم السجستاني (ت248هـ)، وأبو عثمان الجاحظ (ت 254هـ) وسواهم.
وتكاد تجمع آراء العلماء على الإقرار بالمنزلة العالية التي تبوّأها ابن قتيبة على مرّ العصور، فقد شهد له النديم بأنه كان «صادقاً فيما يرويه، عالماً باللغة والنحو، وكتبه مرغوب فيها»، وقال الخطيب البغدادي: «هو صاحب التصانيف المشهورة والكتب المعروفة، وكان ثقة ديّناً فاضلاً». وجرى على مثل هذا القول ابن حزم (ت456هـ) وابن خلكان (ت681هـ) وابن تيميّة (ت728هـ) والذهبي (ت748هـ) وابن كثير (ت774هـ) وغيرهم.
بيد أن ابن قتيبة لم يسلم من سهام النقد والتجريح التي طالت علمه ومسّت عقيدته، فقد هاجمه معاصره أبو بكر بن الأنباري، ونسبه إلى الجهل والغباوة وقلة المعرفة، واتهمه أبو الطيب الحلبي (ت351هـ) بأنه خلط بين مذهبي البصرة والكوفة في النحو، وذهب الحاكم النيسابوري (ت405هـ) بعيداً حين قال: «أجمعت الأمّة على أن القتيبيّ كذّاب» قال الذهبي: «هذه مجازفة قبيحة، وكلام مَنْ لم يخف الله»، كما اتهمه الدارقطني بأنه كان يميل إلى التشبيه منحرفاً عن العترة (آل البيت)، وتبعه البيهقي، فقال: «كان كرّاميّا». وهي تهمة لا يخفى بطلانها، لأن ابن قتيبة ألف كتاباً في الرد على هؤلاء أسماه «الاختلاف في اللفظ والرد على الجهميّة والمشبهة».
ولاريب أن جلّ ما رمي به ابن قتيبة لا ينقص من منزلته العلمية، لكنها العصبية المقيتة التي لم يستطع بعض العلماء أن ينأى بنفسه عنها.
وخير دليل على تلك المنزلة مصنفاته، فإنها شاهد صدق على سعة علمه وطول باعه في شتى المعارف، وعلى تلك اللغة السلسة الجميلة التي دوّنت بها هذه المصنفات التي بلغت ـ فيما يقول أبو العلاء المعري ـ خمسة وستين مصنفاً. ولعل نظرة سريعة في عنواناتها، مع الإلمام بشيء من مضامينها مما يشهد لصاحبها بأنه «من أوعية العلم» كما وصفه الذهبي.
ـ ففي علوم الحديث صنّف ابن قتيبة كتابه المشهور «غريب الحديث» (ط)، وقد ظل هذا الكتاب حتى منتصف القرن الرابع ثاني اثنين ذهبا بإعجاب العلماء وتقديرهم في هذا الفن. وممّا جاء في مقدمته: «وكنت زماناً أرى أن كتاب أبي عبيد قد جمع تفسير غريب الحديث، وأن الناظر فيه مستغن به، ثم تعقبت ذلك بالنظر والتفتيش، فوجدت ما ترك نحواً مما ذكر، فتتبعت ما أغفل، وفسّرته على نحو ما فسّر».
وكتابه الثاني في هذا الباب ليس بأقل شهرة من سابقه، وهو «إصلاح الغلط في غريب الحديث لأبي عبيد»، استدرك فيه نيفاً وخمسين موضعاً. ويكاد يكون هذا الكتاب من أهم مؤلفات ابن قتيبة وأعظمها أثراً في تاريخه، فقد استعظم كثير من العلماء أن يتعرّض مثله بالنقد لأبي عبيد، وترجع قيمته أيضاً إلى أنه من بواكير النقد العلمي، وله مقدمة رائعة مليئة بالأفكار والمعاني، منها قوله: «ولا نعلم أن الله عزّ وجل أعطى واحداً من البشر موثقاً من الغلط، وأماناً من الخطأ... ولا نعلمه خصّ بالعلم قوماً دون قوم، ولا وقفه على زمن دون زمن، بل جعله مشتركاً مقسوماً بين عباده، يفتح للآخر ما أغلقه للأول...».
وثالث كتبه هو «تأويل مشكل الحديث» (ط) تحدّث فيه عن موقفه من علماء الكلام من أهل الحديث، وما تحدثوا عنهم به من شتى التهم والمثالب، وعرض بالنقد لما ذهب إليه النظّام من اعتراضه على أبي بكر وعمر وعليّ، وطعنه على ابن مسعود وأبي هريرة، ونقدَ كذلك ثمامة بن الأشرس ومحمد بن الجهم البرمكي والجاحظ وأبا الهذيل العلاف وغيرهم من المعتزلة، وعَرَض لأهل الرأي وأبان عن منابذتهم للكتاب والسنة، ثم أدار الجزء الأكبر من كتابه على الأحاديث التي ادّعي فيها التناقض ومخالفة القرآن.
ـ وفي علوم القرآن ألف ابن قتيبة كتباً مشهورة، يأتي في مقدمتها «تأويل مشكل القرآن» (ط)، وهو من أجلّ ما كتبه في هذا الباب، وطّأ له بحكاية أقوال الطاعنين على القرآن، ثم عقد أبواباً في الردّ عليهم، ولما فرغ من ذلك عقد باباً رئيسياً سمّاه: «باب الحروف التي ادّعي على القرآن بها الاستحالة وفساد النظم»، فتحدّث عن الحروف المقطّعة وما قيل فيها، ثم انتقل إلى الكلام على مشكل سور القرآن.
وكتابه الثاني هو «تفسير غريب القرآن» (ط) تناول فيه شرح الألفاظ الغريبة في القرآن. ومن كتبه التي لم تصل إلينا في هذا الباب: كتاب «القراءات» «معاني القرآن» «إعراب القرآن» كتاب «الردّ على القائل بخلق القرآن».
ـ وأما في ميدان الأدب واللغة فقد أغنى ابن قتيبة المكتبة العربية بطائفة من الكتب عُدّت أمّهات في بابها، يأتي في مقدمتها كتابه المشهور «الشعر والشعراء» (ط) وهو من مصادر الأدب الأولى، ترجم فيه كما قال: «للمشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جلّ أهل الأدب والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب والنحو وفي كتاب الله عزّ وجلّ».
ولمقدمة «الشعر والشعراء» قيمة تكاد تعدل قيمة الكتاب كله إن لم نقل تفوقها، ونقصد بها هذا القسم من الكتاب الذي وقفه ابن قتيبة على حديث الشعر وطبقاته وعناصره وقواعد نقده. وهذا البحث من أقدم البحوث النقدية، يلمح فيه، للمرة الأولى، تركيز للقواعد النقدية وصياغتها صياغة قوية مما جعل لها شأناً كبيراً في توجيه الشعراء والنقاد فيما بعد، ولهذا السبب أولاها النقاد العرب عناية كبيرة، كما عني بها المستشرقون ونقلوها إلى عدد من اللغات الأجنبية، ونوّهوا بأثرها في النقد العربي.
وكتابه الثاني هو «عيون الأخبار» (ط) وهو مصدر أدبي مهم قدّم له ابن قتيبة بكلام مطوّل، منه: «هذه عيون الأخبار نظمتها لمغفل التأدّب تبصرة، ولأهل العلم تذكرة، ولسائس الناس ومَسُوسهم مؤدّباً، وللملوك مستراحاً..... وهي لقاح عقول العلماء ونتاج أفكار الحكماء....، وأثمار طول النظر والمتخيَّر من كلام البلغاء وفِطَن الشعراء وسِيَر الملوك وآثار السلف... وإنما مَثَل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين».
وقسمه مؤلفه إلى عشرة كتب: كتاب السلطان، كتاب الحرب، كتاب السؤدد، كتاب الطبائع وكتاب الأخلاق، كتاب الزهد، كتاب الإخوان، كتاب الحوائج، كتاب الطعام، كتاب النساء.
وثالث كتبه هو «أدب الكاتب» (ط) ويعدّ أصلاً من أصول الأدب وركناً من أركانه التي ذكرها ابن خلدون حين قال: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين، وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرّد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي. وما سوى هذه الأربعة فتبع عليها وفروع عنها«.
وقد صرّح مؤلفه بأن غايته من هذا الكتاب هو تقويم اليد واللسان، ولذا قسمه إلى أربعة كتب: كتاب المعرفة، كتاب تقويم اليد، كتاب تقويم اللسان، كتاب الأبنية.
وكتابه الرابع في هذا الباب هو «المعاني الكبير» (ط) وأوجز ما يقال فيه أنه دراسة للأبيات الشعرية الغامضة أو الغريبة وشرحها، بعد أن صنّفها في كتب وفق معانيها بلغت اثني عشر كتاباً: كتاب الفرس، كتاب الإبل، كتاب الحرب، كتاب القدور، كتاب الديار، كتاب الرياح...
ومن الكتب التي تذكر له في باب اللغة كتاب «خلق الإنسان» كتاب «الخيل» «النخل والكرم» (ط) وينسب إليه كتاب «الجراثيم» (ط) استوعب فيه أصول أسماء العالَم والبهائم والطير والوحش.
وله في الفقه والعقيدة: كتاب «الصيام» كتاب «الاختلاف في اللفظ والردّ على الجهميّة» (ط).
وفي النحو: كتاب «جامع النحو الكبير» وكتاب «جامع النحو الصغير» ولم يكن ابن قتيبة من المعدودين في النحاة، وقد سلف أن أبا الطيب أخذ عليه أنه كان يخلط بين المذهبين.
وله في التاريخ العام كتاب «المعارف» (ط) عرض فيه خلاصة مبدأ الخلق، وتاريخ الأنبياء، وأنساب العرب، وسيرة النبيr ومغازيه، وأخبار الصحابة، والتابعين، والخلفاء والولاة، ورواة الشعر، وأصحاب الرأي، والحديث، والقرّاء، والنسّابين، وأصحاب الأخبار، والغريب، والنحو، والأوائل، وصناعات الأشراف، ونوادر الحوادث، وأخبار ملوك العرب والعجم.
وينسب إليه أيضاً في باب التاريخ الكتاب المعروف «الإمامة والسياسة»، وهو كتاب يبحث في تاريخ الخلافة وشروطها بالنظر إلى طلابها، من وفاة النبيr إلى عهد الأمين والمأمون.
وقد شكّ العلماء كثيراً في نسبة هذا الكتاب إليه مثل دوزي Reinhart Dozy، الذي ساق أدلّة قوية تدفع أن يكون الكتاب له.
تلك هي أبرز مؤلفات ابن قتيبة، وهي بلا ريب تظهر صورة الأديب الحقّ في عصره، وهي صورة عبّر عنها ابن قتيبة نفسه حين قال: «من أراد أن يكون عالماً فليطلب فنّاً واحداً، ومن أراد أن يكون أديباً فليتسع في العلوم».
نبيل أبو عمشة
(213 ـ 276 هـ/828 ـ 889 م)
أبو محمّد، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّيْنَوَرِيّ، من أشهر أعلام المئة الثالثة في الأدب واللغة والأخبار وعلوم القرآن والحديث، وأغزرهم تأليفاً، وأكثرهم استقلالاً في فكره وجرأة في قول الحق. وتُعدّ مقدّمات كتبه من أجود المقدمات وأغناها، ولاسيما في باب النقد، أمّا مصنفاته فهي أمّهات الكتب، وأكثرها انتشاراً، حتى إن المغاربة كانوا يقولون: «كل بيت ليس فيه شيء من مصنفات ابن قتيبة لا خير فيه».
كان أبوه من مدينة «مَرْو»، وأمّا هو فقد تباينت الأقوال في مكان ولادته، فقيل: ولد بالكوفة، وقيل: في بغداد، وأما نسبته إلى الدّينور فلأنه أقام بها مدّة ولايته القضاء، فنُسب إليها.
وثمّة اتفاق على أنه نشأ ببغداد عاصمة الدولة العباسيّة التي كانت تموج آنذاك بمشاهير الأعلام وتهوي إليها أفئدة أهل العلم من أنحاء الدولة الإسلامية كلّها.
كان ابن قتيبة، منذ شبابه الباكر، ذا نفس توّاقة إلى المعرفة، دفعته إلى أن يتعلّق من كل علم بسبب، فغشي مجالس علماء الحديث والتفسير والفقه والنحو واللغة والكلام والأدب والتاريخ، ونهل منها ما نهل، ممّا مكّن له أسباب التفوّق، وقد أخذ في هذه المجالس وغيرها عن طائفة من أعلام عصره، وروى عن جمع من مشاهير دهره، أولهم والده مسلم بن قتيبة، وأحمد بن سعيد اللحياني صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام، فقد قرأ على اللحياني هذا كتابَي أبي عبيد: «الأموال»، و«غريب الحديث» سنة 231هـ. ومنهم محمد بن سلام الجمحي البصري صاحب «طبقات فحول الشعراء» (ت231هـ)، وإسحاق ابن راهويه (ت238هـ)، وهو إمام جليل في الفقه والحديث صحب الشافعي وناظره، وعنه روى البخاري ومسلم وغيرهما، ومنهم أيضاً أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي (ت249 هـ) تلميذ سيبويه والأصمعي وأبي عبيدة، وأبو حاتم السجستاني (ت248هـ)، وأبو عثمان الجاحظ (ت 254هـ) وسواهم.
وتكاد تجمع آراء العلماء على الإقرار بالمنزلة العالية التي تبوّأها ابن قتيبة على مرّ العصور، فقد شهد له النديم بأنه كان «صادقاً فيما يرويه، عالماً باللغة والنحو، وكتبه مرغوب فيها»، وقال الخطيب البغدادي: «هو صاحب التصانيف المشهورة والكتب المعروفة، وكان ثقة ديّناً فاضلاً». وجرى على مثل هذا القول ابن حزم (ت456هـ) وابن خلكان (ت681هـ) وابن تيميّة (ت728هـ) والذهبي (ت748هـ) وابن كثير (ت774هـ) وغيرهم.
بيد أن ابن قتيبة لم يسلم من سهام النقد والتجريح التي طالت علمه ومسّت عقيدته، فقد هاجمه معاصره أبو بكر بن الأنباري، ونسبه إلى الجهل والغباوة وقلة المعرفة، واتهمه أبو الطيب الحلبي (ت351هـ) بأنه خلط بين مذهبي البصرة والكوفة في النحو، وذهب الحاكم النيسابوري (ت405هـ) بعيداً حين قال: «أجمعت الأمّة على أن القتيبيّ كذّاب» قال الذهبي: «هذه مجازفة قبيحة، وكلام مَنْ لم يخف الله»، كما اتهمه الدارقطني بأنه كان يميل إلى التشبيه منحرفاً عن العترة (آل البيت)، وتبعه البيهقي، فقال: «كان كرّاميّا». وهي تهمة لا يخفى بطلانها، لأن ابن قتيبة ألف كتاباً في الرد على هؤلاء أسماه «الاختلاف في اللفظ والرد على الجهميّة والمشبهة».
ولاريب أن جلّ ما رمي به ابن قتيبة لا ينقص من منزلته العلمية، لكنها العصبية المقيتة التي لم يستطع بعض العلماء أن ينأى بنفسه عنها.
وخير دليل على تلك المنزلة مصنفاته، فإنها شاهد صدق على سعة علمه وطول باعه في شتى المعارف، وعلى تلك اللغة السلسة الجميلة التي دوّنت بها هذه المصنفات التي بلغت ـ فيما يقول أبو العلاء المعري ـ خمسة وستين مصنفاً. ولعل نظرة سريعة في عنواناتها، مع الإلمام بشيء من مضامينها مما يشهد لصاحبها بأنه «من أوعية العلم» كما وصفه الذهبي.
ـ ففي علوم الحديث صنّف ابن قتيبة كتابه المشهور «غريب الحديث» (ط)، وقد ظل هذا الكتاب حتى منتصف القرن الرابع ثاني اثنين ذهبا بإعجاب العلماء وتقديرهم في هذا الفن. وممّا جاء في مقدمته: «وكنت زماناً أرى أن كتاب أبي عبيد قد جمع تفسير غريب الحديث، وأن الناظر فيه مستغن به، ثم تعقبت ذلك بالنظر والتفتيش، فوجدت ما ترك نحواً مما ذكر، فتتبعت ما أغفل، وفسّرته على نحو ما فسّر».
وكتابه الثاني في هذا الباب ليس بأقل شهرة من سابقه، وهو «إصلاح الغلط في غريب الحديث لأبي عبيد»، استدرك فيه نيفاً وخمسين موضعاً. ويكاد يكون هذا الكتاب من أهم مؤلفات ابن قتيبة وأعظمها أثراً في تاريخه، فقد استعظم كثير من العلماء أن يتعرّض مثله بالنقد لأبي عبيد، وترجع قيمته أيضاً إلى أنه من بواكير النقد العلمي، وله مقدمة رائعة مليئة بالأفكار والمعاني، منها قوله: «ولا نعلم أن الله عزّ وجل أعطى واحداً من البشر موثقاً من الغلط، وأماناً من الخطأ... ولا نعلمه خصّ بالعلم قوماً دون قوم، ولا وقفه على زمن دون زمن، بل جعله مشتركاً مقسوماً بين عباده، يفتح للآخر ما أغلقه للأول...».
وثالث كتبه هو «تأويل مشكل الحديث» (ط) تحدّث فيه عن موقفه من علماء الكلام من أهل الحديث، وما تحدثوا عنهم به من شتى التهم والمثالب، وعرض بالنقد لما ذهب إليه النظّام من اعتراضه على أبي بكر وعمر وعليّ، وطعنه على ابن مسعود وأبي هريرة، ونقدَ كذلك ثمامة بن الأشرس ومحمد بن الجهم البرمكي والجاحظ وأبا الهذيل العلاف وغيرهم من المعتزلة، وعَرَض لأهل الرأي وأبان عن منابذتهم للكتاب والسنة، ثم أدار الجزء الأكبر من كتابه على الأحاديث التي ادّعي فيها التناقض ومخالفة القرآن.
ـ وفي علوم القرآن ألف ابن قتيبة كتباً مشهورة، يأتي في مقدمتها «تأويل مشكل القرآن» (ط)، وهو من أجلّ ما كتبه في هذا الباب، وطّأ له بحكاية أقوال الطاعنين على القرآن، ثم عقد أبواباً في الردّ عليهم، ولما فرغ من ذلك عقد باباً رئيسياً سمّاه: «باب الحروف التي ادّعي على القرآن بها الاستحالة وفساد النظم»، فتحدّث عن الحروف المقطّعة وما قيل فيها، ثم انتقل إلى الكلام على مشكل سور القرآن.
وكتابه الثاني هو «تفسير غريب القرآن» (ط) تناول فيه شرح الألفاظ الغريبة في القرآن. ومن كتبه التي لم تصل إلينا في هذا الباب: كتاب «القراءات» «معاني القرآن» «إعراب القرآن» كتاب «الردّ على القائل بخلق القرآن».
ـ وأما في ميدان الأدب واللغة فقد أغنى ابن قتيبة المكتبة العربية بطائفة من الكتب عُدّت أمّهات في بابها، يأتي في مقدمتها كتابه المشهور «الشعر والشعراء» (ط) وهو من مصادر الأدب الأولى، ترجم فيه كما قال: «للمشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جلّ أهل الأدب والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب والنحو وفي كتاب الله عزّ وجلّ».
ولمقدمة «الشعر والشعراء» قيمة تكاد تعدل قيمة الكتاب كله إن لم نقل تفوقها، ونقصد بها هذا القسم من الكتاب الذي وقفه ابن قتيبة على حديث الشعر وطبقاته وعناصره وقواعد نقده. وهذا البحث من أقدم البحوث النقدية، يلمح فيه، للمرة الأولى، تركيز للقواعد النقدية وصياغتها صياغة قوية مما جعل لها شأناً كبيراً في توجيه الشعراء والنقاد فيما بعد، ولهذا السبب أولاها النقاد العرب عناية كبيرة، كما عني بها المستشرقون ونقلوها إلى عدد من اللغات الأجنبية، ونوّهوا بأثرها في النقد العربي.
وكتابه الثاني هو «عيون الأخبار» (ط) وهو مصدر أدبي مهم قدّم له ابن قتيبة بكلام مطوّل، منه: «هذه عيون الأخبار نظمتها لمغفل التأدّب تبصرة، ولأهل العلم تذكرة، ولسائس الناس ومَسُوسهم مؤدّباً، وللملوك مستراحاً..... وهي لقاح عقول العلماء ونتاج أفكار الحكماء....، وأثمار طول النظر والمتخيَّر من كلام البلغاء وفِطَن الشعراء وسِيَر الملوك وآثار السلف... وإنما مَثَل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين».
وقسمه مؤلفه إلى عشرة كتب: كتاب السلطان، كتاب الحرب، كتاب السؤدد، كتاب الطبائع وكتاب الأخلاق، كتاب الزهد، كتاب الإخوان، كتاب الحوائج، كتاب الطعام، كتاب النساء.
وثالث كتبه هو «أدب الكاتب» (ط) ويعدّ أصلاً من أصول الأدب وركناً من أركانه التي ذكرها ابن خلدون حين قال: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين، وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرّد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي. وما سوى هذه الأربعة فتبع عليها وفروع عنها«.
وقد صرّح مؤلفه بأن غايته من هذا الكتاب هو تقويم اليد واللسان، ولذا قسمه إلى أربعة كتب: كتاب المعرفة، كتاب تقويم اليد، كتاب تقويم اللسان، كتاب الأبنية.
وكتابه الرابع في هذا الباب هو «المعاني الكبير» (ط) وأوجز ما يقال فيه أنه دراسة للأبيات الشعرية الغامضة أو الغريبة وشرحها، بعد أن صنّفها في كتب وفق معانيها بلغت اثني عشر كتاباً: كتاب الفرس، كتاب الإبل، كتاب الحرب، كتاب القدور، كتاب الديار، كتاب الرياح...
ومن الكتب التي تذكر له في باب اللغة كتاب «خلق الإنسان» كتاب «الخيل» «النخل والكرم» (ط) وينسب إليه كتاب «الجراثيم» (ط) استوعب فيه أصول أسماء العالَم والبهائم والطير والوحش.
وله في الفقه والعقيدة: كتاب «الصيام» كتاب «الاختلاف في اللفظ والردّ على الجهميّة» (ط).
وفي النحو: كتاب «جامع النحو الكبير» وكتاب «جامع النحو الصغير» ولم يكن ابن قتيبة من المعدودين في النحاة، وقد سلف أن أبا الطيب أخذ عليه أنه كان يخلط بين المذهبين.
وله في التاريخ العام كتاب «المعارف» (ط) عرض فيه خلاصة مبدأ الخلق، وتاريخ الأنبياء، وأنساب العرب، وسيرة النبيr ومغازيه، وأخبار الصحابة، والتابعين، والخلفاء والولاة، ورواة الشعر، وأصحاب الرأي، والحديث، والقرّاء، والنسّابين، وأصحاب الأخبار، والغريب، والنحو، والأوائل، وصناعات الأشراف، ونوادر الحوادث، وأخبار ملوك العرب والعجم.
وينسب إليه أيضاً في باب التاريخ الكتاب المعروف «الإمامة والسياسة»، وهو كتاب يبحث في تاريخ الخلافة وشروطها بالنظر إلى طلابها، من وفاة النبيr إلى عهد الأمين والمأمون.
وقد شكّ العلماء كثيراً في نسبة هذا الكتاب إليه مثل دوزي Reinhart Dozy، الذي ساق أدلّة قوية تدفع أن يكون الكتاب له.
تلك هي أبرز مؤلفات ابن قتيبة، وهي بلا ريب تظهر صورة الأديب الحقّ في عصره، وهي صورة عبّر عنها ابن قتيبة نفسه حين قال: «من أراد أن يكون عالماً فليطلب فنّاً واحداً، ومن أراد أن يكون أديباً فليتسع في العلوم».
نبيل أبو عمشة