صناعة العود في دمشق حرفة تستمر بأنامل شيوخ الكار
كبار الملحنين العرب يعزفون على عود "زرياب"، وأجيال جديدة تتعلم أسرار صنع الآلات الشرقية.
الخميس 2018/11/01
الحرفي أكثر دقة من الآلة
تختزل الأمثال الشعبية العربية مدى أهمية الحرف أو الصناعة اليدوية رغم التقدم التكنولوجي الحاصل في العصر الراهن، وذلك لإيمان الشعوب بأن هناك حرفا لا تتقنها الآلة مهما تقدّمت لما فيها من روح الحرفي، وخير مثال على ذلك صناعة الآلات الموسيقية، وخاصة منها العود الذي يسحر السامع برنة أوتاره، فمازال الحرفيون في دمشق يقبلون على صناعته ومازال المشتغلون في الموسيقى يشترون العود من دمشق.
دمشق - في قلب مدينة دمشق، وفي أعرق سوق تجاري فيها سوق الحميدية، يقع محلّ “السلكا” لتصنيع وبيع الآلات الموسيقية الشرقية والغربية معا.
تأسس المحلّ منذ ستة وتسعين عاما على يد الجدّ فؤاد السلكا بطريقة قد تبدو عبثية كما يقول أصحابه، وهم يستعدون للاحتفال بمئويته الأولى بعد أربع سنوات.
يؤكد الحفيد فراس، “أن جده فؤاد السلكا كان يبيع الأقمشة في ذات المحلّ في سوق الحميدية، وكان وضعه المادي بائسا، وكان يأتي إليه بشكل يومي أمير البزق الفنان محمد عبدالكريم، يجلسان معا على ناصية المحلّ، بعد إغلاق السوق وقت العصر ليرددا الألحان والأشعار، فاقترح الفنان عبدالكريم على جدّي، أن يترك مهنة التجارة بالأقمشة، ويأتي بآلات موسيقية ويبيعها، واقتنع جدّي بالموضوع فباع ما لديه واشترى بالثمن آلة عود وبزق ورق، وكانت البداية بهذه البساطة في عام 1922”.
فراس السلكا: اشتريت العود الذي باعه جدي لفريد الأطرش من ورثته، لعرضه في المحل
ويضيف الحفيد، “تطورت تجارته بعد ذلك وأصبحت الأمور أفضل حيث بات المحلّ معروفا، وصار يبيع أحسن الآلات الموسيقية المصنّعة في سوريا وخارجها، وصار كل أو معظم الموسيقيين العرب يقتنون آلاتهم من محلّنا”.
ويؤكد، “كبار الملحنين العرب كانوا يحرصون على ابتياع ما نصنع من آلات موسيقية، خاصة العود، التي وصلت ماركة (زرياب) لمستوى عالمي، بحيث أوجدنا لنا فروعا للإنتاج في دول أجنبية منها السويد وكندا”.
عن حجم النشاط التجاري وإنتاج الآلات الموسيقية وعدد الحرفيين في المحلّ الآن يقول فراس السلكا، “قد يستغرب البعض الأرقام التي سأقولها، لكنها حقيقة، وأنا أتحدث عن ورش صناعية تعود للعائلة، واحدة من ورشنا تصنع يوميا حوالي التسعين عودا من ماركة (زرياب)، ولدينا عديد من الورشات، في كل واحدة حوالي الأربعمئة حرفي. نحن نصدّر لدول الخليج بكثافة، وكذلك للدول الأوروبية، حيث زاد عدد العرب هناك ويطلبون خاصة العود الذي تميزنا به وبتنا رقم واحد في صنعه، في العالم كله”.
وعن الاهتمام الرسمي بهذه الحرفة، ومدى المساعدة التي تقدم للحفاظ عليها، يقول فراس، “لم تقدّم الدولة الكثير من الدعم قبل بداية الأحداث، ولكن الأمور تغيّرت اليوم بعد انتباه المعنيين بالصناعة الحرفية، أن الحرف التي لم تمت في سوريا هي من حمى الاقتصاد من الانهيار التام، لذلك بدأت العديد من الجهات الالتفات لنا، وزارة الثقافة والسياحة والتجارة والصناعة، واتحاد الحرفيين الذي أوجد مشروعا جيدا سمّاه (حاضن شيوخ الكار) الذي يعُنى بالحرف الشعبية في سوريا، وسأل أصحاب الحرف عمّا يمكن تقديمه لكي تحافظ الحرف على استمرار وجودها”.
الحرفي عازف يحسن دوزنة الأوتار
ويضيف فراس، “سمّى اتحاد الحرفيين لكل حرفة شيخ كار لها، ومن أهداف هذا المشروع الذي يقدّم الدعم المالي والإداري، أن يقوم هؤلاء الشيوخ بتعليم صغار الحرفيين، أو المحبّين بالانتساب لها أصول الحرفة لكي تبقى موجودة، طبعا هي فكرة جيدة، لكنها تحتاج للكثير من النضج والعمل على تحقيق أفضل سير العمل عليها، لكي تحقق فعلا الأهداف التي وجدت من أجلها”.
عن السر في تطوّر عمل المحل بعد مرور ما يقارب المئة عام بهذه الكيفية يؤكد فراس، “أن السبب يكمُن في أن صنّاع العود لدينا يمتلكون روح الصناعة الشرقية بالنسبة لهذه الآلات، نحن لا نستخدم الآلات الحديثة بالمطلق، هنالك روح العمل الحرفي اليدوي التي لا تحسنها الآلة مهما كانت متقدّمة ودقيقة”.
ويؤكد، أن “هنالك إبداعا عند الصانع لا تعرفه الآلة، خاصة في الجزء الذي نسميه (الطاسة) وهي التي تضخّم الصوت بعد الضرب على الوتر، هذه لا يمكن صناعتها آليا، فيها انحناءات تتطلّب صناعة دقيقة، حرفيونا يعملون على لصق هذه الريش الخشبية بدقة متناهية وبشكل يدوي متعب، لكنه أصيل وجميل، والقطعة التي تخرج من عندنا تكون مكفولة، وبإمكان الشاري أن يأخذ أيّ قطعة ويمشي، لأنها مصنوعة بمواصفات عالية ودقيقة ومعتمدة”.
ويتحدث عن نوادر حرفة صناعة العود، “استأجر الطابق العلوي في محلّنا أحد صنّاع العود يدعى جورجي، كان يصنع في كل أسبوع قطعة واحدة، وقبل أن يعطيها لصاحبها كان يقوم بالعزف عليها، وغالبا ما كان يحطم الآلة بعد العزف وهو يقول، بئس الصناعة”.
ويضيف معلّقا عن مغزى الحكاية التي أوردها، “قليلة هي الأعواد التي خرجت من ورشة جورجي، لكن ما خرج منها كان علامة في صناعة العود حتى الآن. في ورشاتنا أتينا بهذه النوعية من الحرفيين التي لا تقتنع إلا بالصناعة النبيلة لكي تكون ناجحة، وهذا ما أوصلنا لما نحن عليه الآن”.
حرفة لا تموت
ويقول حفيد السلكا لصحيفة “العرب”، عن مشاهير الفن الموسيقي العربي الذين كانوا يبتاعون آلاتهم من محلّهم، فيقول، “كان أباطرة الفن العربي مثل محمد عبدالوهاب وأم كلثوم ووردة وفريد الأطرش والأخوين رحباني والسيدة فيروز وغيرهم يأتون سنويا إلى منطقة بلودان، القريبة من دمشق، أذكر مرة أن الفنان فريد الأطرش قد جاء إلى بلودان واتصل بجدي طالبا منه أن يأتي إليه بعود ليشتريه، ذهب جدي ووالدي، وكنتُ معهما طفلا صغيرا، حملنا معنا أربعة من الأعواد، عزف الأطرش عليها جميعا، وانتقى واحدا منها، كان مليئا بالصدف وله شكل مميز”.
يضيف فراس متحدثا عن مصير ذلك العود الذي ما زال يحتفظ به إلى اليوم، بعد وفاة الفنان فريد الأطرش بوقت طويل، “اشتريت العود من ورثته، وأعرضه هنا في واجهة محلي اليمنى حتى يشاهده الجميع”.
وعن آفاق العمل في المهنة في المستقبل، يؤكد السلكا الحفيد، أن الأمور مبشرة، هنالك جهات غير سورية، جاءتنا، خاصة خلال سنوات الحرب في سوريا، لكي تشتري مهاراتنا في صناعة عود زرياب تحديدا، وأعطونا من المبالغ ما نطلب، بشرط أن يكون المنتج باسمهم، ولكن رفضنا هذا العرض”.
ويختم حديثه قائلا، “نحن نشأنا في هذا المكان، وسنبقى فيه، ما حيينا، هنالك تطور كبير في صناعة الآلات الموسيقية، نحن على أعتاب صناعة آلة غيتار إسباني المواصفات، وضعنا فيه كل مهاراتنا في صناعة العود، وهدفنا في ذلك وقف استيراد الآلات الأجنبية التي يبلغ عددها أكثر من عشرين ألف قطعة سنويا”.
روح الصناعة الشرقية
نضال قوشحة
كبار الملحنين العرب يعزفون على عود "زرياب"، وأجيال جديدة تتعلم أسرار صنع الآلات الشرقية.
الخميس 2018/11/01
الحرفي أكثر دقة من الآلة
تختزل الأمثال الشعبية العربية مدى أهمية الحرف أو الصناعة اليدوية رغم التقدم التكنولوجي الحاصل في العصر الراهن، وذلك لإيمان الشعوب بأن هناك حرفا لا تتقنها الآلة مهما تقدّمت لما فيها من روح الحرفي، وخير مثال على ذلك صناعة الآلات الموسيقية، وخاصة منها العود الذي يسحر السامع برنة أوتاره، فمازال الحرفيون في دمشق يقبلون على صناعته ومازال المشتغلون في الموسيقى يشترون العود من دمشق.
دمشق - في قلب مدينة دمشق، وفي أعرق سوق تجاري فيها سوق الحميدية، يقع محلّ “السلكا” لتصنيع وبيع الآلات الموسيقية الشرقية والغربية معا.
تأسس المحلّ منذ ستة وتسعين عاما على يد الجدّ فؤاد السلكا بطريقة قد تبدو عبثية كما يقول أصحابه، وهم يستعدون للاحتفال بمئويته الأولى بعد أربع سنوات.
يؤكد الحفيد فراس، “أن جده فؤاد السلكا كان يبيع الأقمشة في ذات المحلّ في سوق الحميدية، وكان وضعه المادي بائسا، وكان يأتي إليه بشكل يومي أمير البزق الفنان محمد عبدالكريم، يجلسان معا على ناصية المحلّ، بعد إغلاق السوق وقت العصر ليرددا الألحان والأشعار، فاقترح الفنان عبدالكريم على جدّي، أن يترك مهنة التجارة بالأقمشة، ويأتي بآلات موسيقية ويبيعها، واقتنع جدّي بالموضوع فباع ما لديه واشترى بالثمن آلة عود وبزق ورق، وكانت البداية بهذه البساطة في عام 1922”.
فراس السلكا: اشتريت العود الذي باعه جدي لفريد الأطرش من ورثته، لعرضه في المحل
ويضيف الحفيد، “تطورت تجارته بعد ذلك وأصبحت الأمور أفضل حيث بات المحلّ معروفا، وصار يبيع أحسن الآلات الموسيقية المصنّعة في سوريا وخارجها، وصار كل أو معظم الموسيقيين العرب يقتنون آلاتهم من محلّنا”.
ويؤكد، “كبار الملحنين العرب كانوا يحرصون على ابتياع ما نصنع من آلات موسيقية، خاصة العود، التي وصلت ماركة (زرياب) لمستوى عالمي، بحيث أوجدنا لنا فروعا للإنتاج في دول أجنبية منها السويد وكندا”.
عن حجم النشاط التجاري وإنتاج الآلات الموسيقية وعدد الحرفيين في المحلّ الآن يقول فراس السلكا، “قد يستغرب البعض الأرقام التي سأقولها، لكنها حقيقة، وأنا أتحدث عن ورش صناعية تعود للعائلة، واحدة من ورشنا تصنع يوميا حوالي التسعين عودا من ماركة (زرياب)، ولدينا عديد من الورشات، في كل واحدة حوالي الأربعمئة حرفي. نحن نصدّر لدول الخليج بكثافة، وكذلك للدول الأوروبية، حيث زاد عدد العرب هناك ويطلبون خاصة العود الذي تميزنا به وبتنا رقم واحد في صنعه، في العالم كله”.
وعن الاهتمام الرسمي بهذه الحرفة، ومدى المساعدة التي تقدم للحفاظ عليها، يقول فراس، “لم تقدّم الدولة الكثير من الدعم قبل بداية الأحداث، ولكن الأمور تغيّرت اليوم بعد انتباه المعنيين بالصناعة الحرفية، أن الحرف التي لم تمت في سوريا هي من حمى الاقتصاد من الانهيار التام، لذلك بدأت العديد من الجهات الالتفات لنا، وزارة الثقافة والسياحة والتجارة والصناعة، واتحاد الحرفيين الذي أوجد مشروعا جيدا سمّاه (حاضن شيوخ الكار) الذي يعُنى بالحرف الشعبية في سوريا، وسأل أصحاب الحرف عمّا يمكن تقديمه لكي تحافظ الحرف على استمرار وجودها”.
الحرفي عازف يحسن دوزنة الأوتار
ويضيف فراس، “سمّى اتحاد الحرفيين لكل حرفة شيخ كار لها، ومن أهداف هذا المشروع الذي يقدّم الدعم المالي والإداري، أن يقوم هؤلاء الشيوخ بتعليم صغار الحرفيين، أو المحبّين بالانتساب لها أصول الحرفة لكي تبقى موجودة، طبعا هي فكرة جيدة، لكنها تحتاج للكثير من النضج والعمل على تحقيق أفضل سير العمل عليها، لكي تحقق فعلا الأهداف التي وجدت من أجلها”.
عن السر في تطوّر عمل المحل بعد مرور ما يقارب المئة عام بهذه الكيفية يؤكد فراس، “أن السبب يكمُن في أن صنّاع العود لدينا يمتلكون روح الصناعة الشرقية بالنسبة لهذه الآلات، نحن لا نستخدم الآلات الحديثة بالمطلق، هنالك روح العمل الحرفي اليدوي التي لا تحسنها الآلة مهما كانت متقدّمة ودقيقة”.
ويؤكد، أن “هنالك إبداعا عند الصانع لا تعرفه الآلة، خاصة في الجزء الذي نسميه (الطاسة) وهي التي تضخّم الصوت بعد الضرب على الوتر، هذه لا يمكن صناعتها آليا، فيها انحناءات تتطلّب صناعة دقيقة، حرفيونا يعملون على لصق هذه الريش الخشبية بدقة متناهية وبشكل يدوي متعب، لكنه أصيل وجميل، والقطعة التي تخرج من عندنا تكون مكفولة، وبإمكان الشاري أن يأخذ أيّ قطعة ويمشي، لأنها مصنوعة بمواصفات عالية ودقيقة ومعتمدة”.
ويتحدث عن نوادر حرفة صناعة العود، “استأجر الطابق العلوي في محلّنا أحد صنّاع العود يدعى جورجي، كان يصنع في كل أسبوع قطعة واحدة، وقبل أن يعطيها لصاحبها كان يقوم بالعزف عليها، وغالبا ما كان يحطم الآلة بعد العزف وهو يقول، بئس الصناعة”.
ويضيف معلّقا عن مغزى الحكاية التي أوردها، “قليلة هي الأعواد التي خرجت من ورشة جورجي، لكن ما خرج منها كان علامة في صناعة العود حتى الآن. في ورشاتنا أتينا بهذه النوعية من الحرفيين التي لا تقتنع إلا بالصناعة النبيلة لكي تكون ناجحة، وهذا ما أوصلنا لما نحن عليه الآن”.
حرفة لا تموت
ويقول حفيد السلكا لصحيفة “العرب”، عن مشاهير الفن الموسيقي العربي الذين كانوا يبتاعون آلاتهم من محلّهم، فيقول، “كان أباطرة الفن العربي مثل محمد عبدالوهاب وأم كلثوم ووردة وفريد الأطرش والأخوين رحباني والسيدة فيروز وغيرهم يأتون سنويا إلى منطقة بلودان، القريبة من دمشق، أذكر مرة أن الفنان فريد الأطرش قد جاء إلى بلودان واتصل بجدي طالبا منه أن يأتي إليه بعود ليشتريه، ذهب جدي ووالدي، وكنتُ معهما طفلا صغيرا، حملنا معنا أربعة من الأعواد، عزف الأطرش عليها جميعا، وانتقى واحدا منها، كان مليئا بالصدف وله شكل مميز”.
يضيف فراس متحدثا عن مصير ذلك العود الذي ما زال يحتفظ به إلى اليوم، بعد وفاة الفنان فريد الأطرش بوقت طويل، “اشتريت العود من ورثته، وأعرضه هنا في واجهة محلي اليمنى حتى يشاهده الجميع”.
وعن آفاق العمل في المهنة في المستقبل، يؤكد السلكا الحفيد، أن الأمور مبشرة، هنالك جهات غير سورية، جاءتنا، خاصة خلال سنوات الحرب في سوريا، لكي تشتري مهاراتنا في صناعة عود زرياب تحديدا، وأعطونا من المبالغ ما نطلب، بشرط أن يكون المنتج باسمهم، ولكن رفضنا هذا العرض”.
ويختم حديثه قائلا، “نحن نشأنا في هذا المكان، وسنبقى فيه، ما حيينا، هنالك تطور كبير في صناعة الآلات الموسيقية، نحن على أعتاب صناعة آلة غيتار إسباني المواصفات، وضعنا فيه كل مهاراتنا في صناعة العود، وهدفنا في ذلك وقف استيراد الآلات الأجنبية التي يبلغ عددها أكثر من عشرين ألف قطعة سنويا”.
روح الصناعة الشرقية
نضال قوشحة