الباحث محمد شوقي الزين: الخطاب الفلسفي لم يعد مقنعا
العقل وحده لم يعد قادرا على إيجاد مخرج للإنسان المعاصر من مآزقه.
الأحد 2023/11/19
فائدة الفلسفة في ذاتها
نلاحظ في العقود الأخيرة عودة الكثير من المفكرين إلى الفلسفة الإغريقية، في نوع من البحث عن خلاص للإنسان المعاصر الذي تثاقلت أزماته وتعقدت، بينما يمكننا أن نرصد بيسر تراجع الفلسفة ككل في مسار المعرفة البشرية التي باتت تعتمد أساسا العلم في جانبه النفعي متخلية تدريجيا عن الأخلاق التي تضعها الفلسفة في جوهر اهتماماتها. حول واقع الفلسفة اليوم كان لـ"العرب" هذا الحوار مع الباحث والمفكر الجزائري محمد شوقي الزين.
الإشهار بالنهايات أصبح عنوانا لموجة ما بعد الحداثة وما صعد من نبرة الصوت المعلن عن أفول الإنسان والمثقف والمفاهيم المضمرة حول الروحية الخلاصية هي الثورة المعرفية الجديدة، إذ تشهد الكيانات المجتمعية تحولا بنيويا في التعاطي مع مكونات خارطتها الذهنية والأنموذج المساهم في التشكيلة القيمية والحياتية، وبالطبع كل ذلك يلقي بثقله على آلية التواصل مع المنظومات الفلسفية الأمر الذي يستدعي رصد المجال الذي يمكن أن تتحرك فيه الفلسفة في العالم المعاصر، فهل يتمكن الفكر الفلسفي من اشتقاق سؤاله المعبر عن هموم وتطلعات اللحظة الراهنة؟
حول هذا الموضوع وما يتبعه من أسئلة متشعبة عن العودة إلى العهد الإغريقي والتشابك القائم بين الفلسفة والفن واللعبة والأدب وتنفس الفلسفة في البيئة العربية، كان هذا الحوار مع الباحث والمفكر محمد شوقي الزين، فهو إضافة إلى عمله الأكاديمي له دور بارز من خلال مؤلفاته الفلسفية وترجماته الرائدة في الحراك الفكري، إذ صدرت له كتب تعد مصدرا نوعيا في تناول المواضيع الفلسفية منها “الثّقافُ في الأزمنة العجاف: فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب” و”ميشال دو سارتو: منطق الممارسات وذكاء الاستعمالات”، كما نقل إلى العربية سلسلة من العناوين الفلسفية القيمة منها “العيش بالتفلسف: التجربة الفلسفية، الرياضات الروحية، وعلاجيات النفس” للفيلسوف الفرنسي جون غرايش”.
البعد النفعي للفلسفة
الفلسفة تهذب الإنسان وتوفر أشكال التصرف في العالم من استنارة ونباهة وحسن القراءة والتأويل وأشكال التطبيق والتغيير
العرب: تستمد الفلسفة مسوغها من طرح الأسئلة التي لا يناقشها العلم. برأيك ما هو السؤال المركزي الذي يشغل الحقل الفلسفي في الوقت الراهن؟
محمد شوقي الزين: كانت الفلسفة دائما “فلسفة أنثروبولوجية”، من سقراط مع “معرفة الذات” إلى فوكو مع “سؤال التذويت”. اختصت الفلسفة بدراسة الإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث تركيبته الطبيعية كما يفعل العلم، أو من حيث تركيبته الثقافية كما تفعل العلوم الإنسانية والاجتماعية. ومن ثمة فإن الإنسان كما هو، في هويته أو عينه، هو ما يثير الأسئلة الفلسفية. الكل ينطلق منه (الدهشة، والسؤال، وإرادة الفهم)، والكل يعود إليه (التأثر، والتصور، والتعقل).
وعليه، طرح السؤال عن الإنسان هو طرح سؤال التفاعل بالمحيط المباشر بأشيائه وكائناته وأشخاصه. ثم إن طبيعة التفاعل أو العلاقة ليست نفسها إذا كان الموضوع هو الأشياء التي يعقد معها الإنسان علاقة استعمال وانتفاع، أو إذا كان الموضوع هو ذوات أخرى تكون العلاقة هي علاقة تذاوت بمختلف تجلياتها المحمودة أو المذمومة، من شراكة وتعاون وتضامن أو العكس، صراع وصدام.
إذا أخذنا هذا المثال الأخير فإننا نرى أن الإنسان لم يبرح مكانه من حيث علاقته الصراعية بأغياره، والتي تظهر اليوم في مختلف أنواع النزاع والحرب والإرادة من أجل الهيمنة. وهذه “ثابتة” إنسانية لم ينفك السؤال الفلسفي عن الاشتغال عليها وهي امتداد طبيعي في الإنساني بمختلف تصاريفه الممكنة: المصالح والصراعات والحروب.
من هيرقليطس صاحب العبارة الشهيرة “الصراع هو أب الأشياء جميعها” إلى غاستون بوثول صاحب “علم الحرب أو بوليمولوجيا” صارت دراسة هذه “الثابتة الأنثروبولوجية”، وهي صراع الإنسان مع ذاته (أزماته وهواجسه) كما بين التحليل النفسي أو مع غيره، الضرورة الفلسفية القصوى؛ لأن الصراع لا يتوقف عن العودة في أشكال جديدة، لكن يبقى عينه من حيث هو أساس العنصر البشري، أصله الطبيعي وفصله الثقافي.
العرب: يبدو للمتابع أن عهد المنظومات الفلسفية التي كانت قاعدة لتفسير الظواهر الحياتية والوجودية قد انتهى: أي تسمية يمكن اختيارها لهذه الدورة الفلسفية؟
محمد شوقي الزين: في الواقع يراد من الفلسفة أن تكون “نفعية” على أساس النزوع العالمي الذي تغلب عليه المصالح والمنافع. ومن ثم، فإن كل ما لا يعود بالفائدة على الاجتماع البشري لا يعول عليه (في منظور هذا التصور). وهل بالفعل جعلت الفلسفة لتسدي خدمة نفعية؟
كان ماركس في الأطروحة 11 من “الأطروحات عن فيورباخ” قد أشار إلى أن الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم، وإن ما يهم الآن هو تغيير العالم. وفكرة التغيير تنطوي على جانب من النفعية، إما بوسائل عنيفة مثل الثورة وإحلال أيديولوجيا أو نظام سياسي معين يستأثر بالنفوذ؛ وإما بوسائل ناعمة مثل الاستثمار الاقتصادي والتأثير الإعلامي. في الحقيقة لا يمكن تغليب أحد الحدين على الآخر: المسألة هي “جدل التفسير والتغيير”.
لا يمكن الاستغناء عن المنظومات التأويلية التي تفكر في العالم من باب النظرية أو التنظير، لأن النظرية هي فقط “الخريطة” التي بموجبها يعرف الفعل (أو التغيير) أين هو، وإلى أين سيذهب. فلا بد له من نهج يسير عليه. ثم إن فائدة الفلسفة هي في ذاتها كوسيلة في التكوين الروحي والارتقاء الحضاري. البعد النفعي للفلسفة كامن فيها، لأنها تكمل ما نقص في الإنسان من رؤى وتأملات وتقديرات، وتوفر له الوسائل في حسن رؤية العالم وقراءته؛ ومنفعتها ليست مادية أو آلية. فبما أنها “أنثروبولوجيا فلسفية” تعمل على تهذيب الإنسان وتوفير أشكال التصرف في العالم من استنارة ونباهة وحسن القراءة والتأويل وأشكال التطبيق والتغيير.
الصورة والفكرة
العرب: هناك من يعتقد أن الفلسفة يجب أن تجد مستنداتها في الرواية واللعبة والموسيقى. هل نفهم من هذا الكلام أن الخطاب الفلسفي بنسخته التجريدية لم يعد مقنعا؟
محمد شوقي الزين: بشكل ما، لم يعد الخطاب الفلسفي مقنعا، لأن دعامته الحجاجية والمنطقية تتوجه بالعقل وإلى العقل، والعالم كما يتجلى لنا ليس كله عقل، وأحيانا يفقد عقله أو صوابه. هذا ما يفهم مثلا من كلام شوبنهاور الذي يرى في “فن أن تكون دائما على صواب” بأن ما يحرك الناس ليس البحث عن الحقيقة (العقل المنهجي إذن)، وإنما إرادة أن يكونوا دائما على صواب. وكل الوسائل هي ممكنة لحمْل الآخرين على الانخراط في ما يراه الشخص صوابا، وهو مجرد ظن يلبسه ثياب الحقيقة.
لم يعد خطاب العقل هو الغالب، بل صار خطاب الإحساس، واللمس، والرؤية، والذوق، هو حجة في ذاته، عبر دعامات الرواية والموسيقى واللعبة. فهي كلها غير فلسفية، تجد فيها الفلسفة مادة تأملها ووسيلة تفكرها. ينبغي العودة ربما إلى الفاصل الذي أجراه أفلاطون بين “الفكرة” و”الصورة”، حيث الأولى هي عنوان النصاعة والحقيقة وأداتها المنطق والتأمل؛ والثانية هي دليل التضليل والتقليد ورائدها الفنان صاحب التصوير، والسفسطائي صاحب زخرف القول واللحن.
بهذا الفاصل ارتحلت الصورة إلى أقاليم الفن والأدب، فيما بقيت الفكرة في حظيرة الفلسفة. غير أن الفكرة لم تعد تقنع إذا كانت إرادة الإنسان هي الهيمنة والقوة والمصلحة، أو التأمل الباطني والعرفان والتطهير. الفكرة غير قادرة على تلبية هذه الحاجات، بينما الصورة في ترجماتها الدينية والفنية والأدبية قادرة على تلبية تلك الحاجات.
نرى جليا اليوم انتصار الصورة على حساب الفكرة، في أقاليم عدة تتطلب تجنيد التخييل والعاطفة، مثل الإشهار واللعب والدراما والسينما… إلخ. لا يعني ذلك نهاية التفكير بالوسائل المنطقية الهادئة والتفكر في نظام العالم، لكن لا تسير الأمور دائما بما تشتهيه قوافل التفلسف، وأعني بذلك أن جوانب اللامعقول والأسطورة والتخييل أو التخيل والإحساس هي أمور كائنة، وتنظم حياة الإنسان. فلا يمكن التنكر لها كما لو كانت غير موجودة. بل يمكن استثمارها ضدها بالنظر المعمق في ما تريد قوله للوعي البشري. فهِم القدماء هذه المسألة عندما اعتنوا بدراسة ما كان يسميه الحكيم الترمذي “غور الأمور”، والغائر من الإنسان هو عواطفه وأحاسيسه وتخيلاته، أي نظام الأخلاق أو السلوك، وليس فقط التفكير المنطقي الهادئ والساذج.
العقل لا يكفي
العرب: معظم الإصدارات الفلسفية الحديثة تتكئ على المرجعية اليونانية في التناول العملي لمفهوم الفلسفة. هل في ذلك اعتراف بضرورة العودة إلى الواقع الحيوي بدلا من التنظير؟
محمد شوقي الزين: نعم، بشكل ما. لأن القدماء أولوا جوهر الإنسان قيمة هائلة، أي الشيء الخالد في الإنسان من روح وعقل وكينونة. فكانت الفلسفة في أساسها عبارة عن أخلاق، ليس بالمعنى الساذج في المواعظ، أي في الأوامر والزواجر والـ”ما ينبغي”، بل في الطريقة الحية والنبيهة في ممارسة العيش.
ولا شك في أن الأبيقورية والرواقية وغيرهما من الفلسفات الإغريقية القديمة هي في جوهرها أخلاقية بهذا المعنى، تبحث في الطريقة العقلانية والزهدية للسلوك البشري، وليس فحسب في طريقة التفكير المنظم وفق استدلالات وأقيسة منطقية. لأن التفكير وحده لا يكفي ما لم يكمل بطريقة في تدبير المعيش. هذا يفسر اهتمام المعاصرين (مثلا بيير هادو في فرنسا ومارتا نوسبوم في إنجلترا) بالفلسفات القديمة التي كانت تقدم الفلسفة على أنها “فن العيش” وفق الطبيعة، أي وفق الفضيلة.
هذا الاهتمام المعاصر بالتصور القديم للفلسفة أملاه الظرف الراهن العامر بالأزمات السياسية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن ثمة البحث عن متنفس للإنسان المعاصر، وعن مخرج من مآزقه. والعقل وحده لم يعد قادرا على تلبية هذه المهمة. فكان لا بد من إضافة شيء من قبيل الفن والذوق والإحساس والتعقل والشغف… إلخ. ومحاولة فهم هذه الظواهر الكامنة في الإنسان والنابعة منه ليست ظواهر نفسية فحسب، بل كذلك ظواهر وجودية تخص نمط علاقته بالعالم وبالغير.
الاهتمام المعاصر بالتصور القديم للفلسفة أملاه الظرف الراهن العامر بالأزمات السياسية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها
العرب: نشرت أخيرا ترجماتك للفيلسوفة الفرنسية لورانس فانين – فيرنا. بدأت بنقل كتابها “لماذا نتفلسف؟” ومن ثم كملته بترجمة السلسلة “أنظر وفكر: من العين إلى الروح”، و”إله الفلاسفة “، و”الإنسان المهموم”. هل يمكن أن نعرف أكثر عن منهجية فانين وما يهدف إليه مشروعها؟
محمد شوقي الزين: مشروع الفيلسوفة متكامل نوعا ما: بدأته بمدخل إلى الفلسفة (لماذا نتفلسف؟)، وأتبعته بدراسات عن المعرفة والدين والعلاج الفلسفي والسياسة والوعي. ورغم أن السلسلة موجهة إلى تلاميذ الثانوية والليسانس في الجامعة، فإنها في متناول كل من يريد أن يتفلسف. تقول في كتبها الأخيرة بأن منهجيتها هي تفكيك الذات والبحث عما ينبثق من الذات.
استلهمت ذلك من برغسون والفينومينولوجيين. تريد تبيان أن عدو الإنسان هو ذاته بالدرجة الأولى (الجهل، والحمق، والعدوان)، وأن هوية الإنسان هي ما ينبثق في ذاته من عبقريات ومهارات ويترجم في صنائع وروائع. لكن تصحح بعد ذلك بالقول إن العبقرية وحدها لا تكفي، وقد تؤدي إلى الغرور ومن ثمة إلى الاستعلاء والاعتداء والاحتقار. وعليه، فإن تفكيك الذات ووضعها على محك النقد الصارم هما المفر الوحيد من المنغلقات الأيديولوجية والدينية والتمركزات الحضارية.
إنارة وإظلام
عالم اليوم لا يحركه العقل
العرب: يسود الاعتقاد في الوسط الثقافي العربي بأن الفلسفة قد وصلت إلى طريق مسدود مع موت ابن رشد وإهمال أفكاره. برأيك، لماذا احتفت أوروبا بفيلسوف قرطبة واستفادت من شروحاته لأرسطو فيما احترقت كتبه في العالم الإسلامي؟
محمد شوقي الزين: في تلك الفترة بدأ حدوث ما يمكن تسميته بالتحويل (سْويتش Switch) : شبيه بالتحويل الكهربائي، حيث إنارة حضارة انطفأت، وظلام حضارة أخرى اشتعل. توفي ابن رشد عام 1198، وبعد مئتي سنة ولد نيقولا دي كوزا (أو نيقولا الكوزي) عام 1401، والذي يمثل “نقلة” العبور من العصور الوسطى إلى النهضة والحداثة.
عندما بدأت الحضارة العربية الإسلامية في الركود، بدأت الحضارة الأوروبية في الانتعاش التدريجي والخروج البطيء والمضني من نموذج (أو “برادايم”) اللاهوت، نحو نموذج الإنسان والإنسية. انعكس ذلك على الفلسفة التي بدأت تتحرر تدريجيا من نموذج اللاهوت الذي طغى عند توما الأكويني مع فكرة “الإله معيار الأشياء جميعها”، والذي كان يتحاشى ذكر اسم ابن رشد في كتاباته، وكان ينعته بـ”الشارح”، لتتلبس نموذج التجريب مع معاصر توما الأكويني وهو الإنجليزي روجيه بيكون.
وإن كانت السكولائية قد انتقدت ابن رشد في مسائل فلسفية عديدة، يمليها التباين في العقيدة أو في النظرة إلى العالم (القِدم أو الحدوث) أو إلى النفس البشرية، إلا أن الشروح على أرسطو كانت مفيدة وملهمة للسكولائيين، وانطلقوا منها ليبنوا عليها، دائما في الإطار الحصري للنموذج اللاهوتي.
لكن مع روجيه بيكون اكتسبت الفلسفة حقا مختلفا عن الحقيقة الدينية؛ وحتى مع نيقولا دي كوزا، الذي كان كاردينالا في الكنيسة الكاثوليكية، صارت الفلسفة “علمية” في شروحه الفيزيائية والرياضية واستحداثه للهندسة اللاإقليدية، وصارت كذلك “أنطولوجية”، أحيانا مضادة للأرسطية، بل وللعقلانية، بتبني فكرة “تواقت النقيضين”، أي مجاوزة مبدأ عدم التناقض.
والغريب في الأمر أن تعليقات دي كوزا تستلهم من التجربة الحسية، معنى ذلك أن المرجعية لم تعد نصية (الأناجيل) في تسويغ المعرفة، بل صارت عقلية وتجريبية. كل هذا يفسر الوتيرة المنتظمة والحازمة في الفكر الغربي النهضوي والحديث للارتقاء الحضاري في مستوياته المادية والإنسانية، فيما “أفل نجم” ابن رشد في السماء الحالكة لحضارة عربية إسلامية لم تنفك عن التراجع، بحدوث ذلك التحويل (سْويتْش)، أي صار النموذج عندنا “لاهوتيا” مع عصر التقليد والاجترار، وصار النموذج في النهضة والحداثة “إنسانيا وإنسيا”، والذي يواصل ملحمته التاريخية والمعرفية إلى اليوم.
كه يلان محمد
العقل وحده لم يعد قادرا على إيجاد مخرج للإنسان المعاصر من مآزقه.
الأحد 2023/11/19
فائدة الفلسفة في ذاتها
نلاحظ في العقود الأخيرة عودة الكثير من المفكرين إلى الفلسفة الإغريقية، في نوع من البحث عن خلاص للإنسان المعاصر الذي تثاقلت أزماته وتعقدت، بينما يمكننا أن نرصد بيسر تراجع الفلسفة ككل في مسار المعرفة البشرية التي باتت تعتمد أساسا العلم في جانبه النفعي متخلية تدريجيا عن الأخلاق التي تضعها الفلسفة في جوهر اهتماماتها. حول واقع الفلسفة اليوم كان لـ"العرب" هذا الحوار مع الباحث والمفكر الجزائري محمد شوقي الزين.
الإشهار بالنهايات أصبح عنوانا لموجة ما بعد الحداثة وما صعد من نبرة الصوت المعلن عن أفول الإنسان والمثقف والمفاهيم المضمرة حول الروحية الخلاصية هي الثورة المعرفية الجديدة، إذ تشهد الكيانات المجتمعية تحولا بنيويا في التعاطي مع مكونات خارطتها الذهنية والأنموذج المساهم في التشكيلة القيمية والحياتية، وبالطبع كل ذلك يلقي بثقله على آلية التواصل مع المنظومات الفلسفية الأمر الذي يستدعي رصد المجال الذي يمكن أن تتحرك فيه الفلسفة في العالم المعاصر، فهل يتمكن الفكر الفلسفي من اشتقاق سؤاله المعبر عن هموم وتطلعات اللحظة الراهنة؟
حول هذا الموضوع وما يتبعه من أسئلة متشعبة عن العودة إلى العهد الإغريقي والتشابك القائم بين الفلسفة والفن واللعبة والأدب وتنفس الفلسفة في البيئة العربية، كان هذا الحوار مع الباحث والمفكر محمد شوقي الزين، فهو إضافة إلى عمله الأكاديمي له دور بارز من خلال مؤلفاته الفلسفية وترجماته الرائدة في الحراك الفكري، إذ صدرت له كتب تعد مصدرا نوعيا في تناول المواضيع الفلسفية منها “الثّقافُ في الأزمنة العجاف: فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب” و”ميشال دو سارتو: منطق الممارسات وذكاء الاستعمالات”، كما نقل إلى العربية سلسلة من العناوين الفلسفية القيمة منها “العيش بالتفلسف: التجربة الفلسفية، الرياضات الروحية، وعلاجيات النفس” للفيلسوف الفرنسي جون غرايش”.
البعد النفعي للفلسفة
الفلسفة تهذب الإنسان وتوفر أشكال التصرف في العالم من استنارة ونباهة وحسن القراءة والتأويل وأشكال التطبيق والتغيير
العرب: تستمد الفلسفة مسوغها من طرح الأسئلة التي لا يناقشها العلم. برأيك ما هو السؤال المركزي الذي يشغل الحقل الفلسفي في الوقت الراهن؟
محمد شوقي الزين: كانت الفلسفة دائما “فلسفة أنثروبولوجية”، من سقراط مع “معرفة الذات” إلى فوكو مع “سؤال التذويت”. اختصت الفلسفة بدراسة الإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث تركيبته الطبيعية كما يفعل العلم، أو من حيث تركيبته الثقافية كما تفعل العلوم الإنسانية والاجتماعية. ومن ثمة فإن الإنسان كما هو، في هويته أو عينه، هو ما يثير الأسئلة الفلسفية. الكل ينطلق منه (الدهشة، والسؤال، وإرادة الفهم)، والكل يعود إليه (التأثر، والتصور، والتعقل).
وعليه، طرح السؤال عن الإنسان هو طرح سؤال التفاعل بالمحيط المباشر بأشيائه وكائناته وأشخاصه. ثم إن طبيعة التفاعل أو العلاقة ليست نفسها إذا كان الموضوع هو الأشياء التي يعقد معها الإنسان علاقة استعمال وانتفاع، أو إذا كان الموضوع هو ذوات أخرى تكون العلاقة هي علاقة تذاوت بمختلف تجلياتها المحمودة أو المذمومة، من شراكة وتعاون وتضامن أو العكس، صراع وصدام.
إذا أخذنا هذا المثال الأخير فإننا نرى أن الإنسان لم يبرح مكانه من حيث علاقته الصراعية بأغياره، والتي تظهر اليوم في مختلف أنواع النزاع والحرب والإرادة من أجل الهيمنة. وهذه “ثابتة” إنسانية لم ينفك السؤال الفلسفي عن الاشتغال عليها وهي امتداد طبيعي في الإنساني بمختلف تصاريفه الممكنة: المصالح والصراعات والحروب.
من هيرقليطس صاحب العبارة الشهيرة “الصراع هو أب الأشياء جميعها” إلى غاستون بوثول صاحب “علم الحرب أو بوليمولوجيا” صارت دراسة هذه “الثابتة الأنثروبولوجية”، وهي صراع الإنسان مع ذاته (أزماته وهواجسه) كما بين التحليل النفسي أو مع غيره، الضرورة الفلسفية القصوى؛ لأن الصراع لا يتوقف عن العودة في أشكال جديدة، لكن يبقى عينه من حيث هو أساس العنصر البشري، أصله الطبيعي وفصله الثقافي.
العرب: يبدو للمتابع أن عهد المنظومات الفلسفية التي كانت قاعدة لتفسير الظواهر الحياتية والوجودية قد انتهى: أي تسمية يمكن اختيارها لهذه الدورة الفلسفية؟
محمد شوقي الزين: في الواقع يراد من الفلسفة أن تكون “نفعية” على أساس النزوع العالمي الذي تغلب عليه المصالح والمنافع. ومن ثم، فإن كل ما لا يعود بالفائدة على الاجتماع البشري لا يعول عليه (في منظور هذا التصور). وهل بالفعل جعلت الفلسفة لتسدي خدمة نفعية؟
كان ماركس في الأطروحة 11 من “الأطروحات عن فيورباخ” قد أشار إلى أن الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم، وإن ما يهم الآن هو تغيير العالم. وفكرة التغيير تنطوي على جانب من النفعية، إما بوسائل عنيفة مثل الثورة وإحلال أيديولوجيا أو نظام سياسي معين يستأثر بالنفوذ؛ وإما بوسائل ناعمة مثل الاستثمار الاقتصادي والتأثير الإعلامي. في الحقيقة لا يمكن تغليب أحد الحدين على الآخر: المسألة هي “جدل التفسير والتغيير”.
لا يمكن الاستغناء عن المنظومات التأويلية التي تفكر في العالم من باب النظرية أو التنظير، لأن النظرية هي فقط “الخريطة” التي بموجبها يعرف الفعل (أو التغيير) أين هو، وإلى أين سيذهب. فلا بد له من نهج يسير عليه. ثم إن فائدة الفلسفة هي في ذاتها كوسيلة في التكوين الروحي والارتقاء الحضاري. البعد النفعي للفلسفة كامن فيها، لأنها تكمل ما نقص في الإنسان من رؤى وتأملات وتقديرات، وتوفر له الوسائل في حسن رؤية العالم وقراءته؛ ومنفعتها ليست مادية أو آلية. فبما أنها “أنثروبولوجيا فلسفية” تعمل على تهذيب الإنسان وتوفير أشكال التصرف في العالم من استنارة ونباهة وحسن القراءة والتأويل وأشكال التطبيق والتغيير.
الصورة والفكرة
العرب: هناك من يعتقد أن الفلسفة يجب أن تجد مستنداتها في الرواية واللعبة والموسيقى. هل نفهم من هذا الكلام أن الخطاب الفلسفي بنسخته التجريدية لم يعد مقنعا؟
محمد شوقي الزين: بشكل ما، لم يعد الخطاب الفلسفي مقنعا، لأن دعامته الحجاجية والمنطقية تتوجه بالعقل وإلى العقل، والعالم كما يتجلى لنا ليس كله عقل، وأحيانا يفقد عقله أو صوابه. هذا ما يفهم مثلا من كلام شوبنهاور الذي يرى في “فن أن تكون دائما على صواب” بأن ما يحرك الناس ليس البحث عن الحقيقة (العقل المنهجي إذن)، وإنما إرادة أن يكونوا دائما على صواب. وكل الوسائل هي ممكنة لحمْل الآخرين على الانخراط في ما يراه الشخص صوابا، وهو مجرد ظن يلبسه ثياب الحقيقة.
لم يعد خطاب العقل هو الغالب، بل صار خطاب الإحساس، واللمس، والرؤية، والذوق، هو حجة في ذاته، عبر دعامات الرواية والموسيقى واللعبة. فهي كلها غير فلسفية، تجد فيها الفلسفة مادة تأملها ووسيلة تفكرها. ينبغي العودة ربما إلى الفاصل الذي أجراه أفلاطون بين “الفكرة” و”الصورة”، حيث الأولى هي عنوان النصاعة والحقيقة وأداتها المنطق والتأمل؛ والثانية هي دليل التضليل والتقليد ورائدها الفنان صاحب التصوير، والسفسطائي صاحب زخرف القول واللحن.
بهذا الفاصل ارتحلت الصورة إلى أقاليم الفن والأدب، فيما بقيت الفكرة في حظيرة الفلسفة. غير أن الفكرة لم تعد تقنع إذا كانت إرادة الإنسان هي الهيمنة والقوة والمصلحة، أو التأمل الباطني والعرفان والتطهير. الفكرة غير قادرة على تلبية هذه الحاجات، بينما الصورة في ترجماتها الدينية والفنية والأدبية قادرة على تلبية تلك الحاجات.
نرى جليا اليوم انتصار الصورة على حساب الفكرة، في أقاليم عدة تتطلب تجنيد التخييل والعاطفة، مثل الإشهار واللعب والدراما والسينما… إلخ. لا يعني ذلك نهاية التفكير بالوسائل المنطقية الهادئة والتفكر في نظام العالم، لكن لا تسير الأمور دائما بما تشتهيه قوافل التفلسف، وأعني بذلك أن جوانب اللامعقول والأسطورة والتخييل أو التخيل والإحساس هي أمور كائنة، وتنظم حياة الإنسان. فلا يمكن التنكر لها كما لو كانت غير موجودة. بل يمكن استثمارها ضدها بالنظر المعمق في ما تريد قوله للوعي البشري. فهِم القدماء هذه المسألة عندما اعتنوا بدراسة ما كان يسميه الحكيم الترمذي “غور الأمور”، والغائر من الإنسان هو عواطفه وأحاسيسه وتخيلاته، أي نظام الأخلاق أو السلوك، وليس فقط التفكير المنطقي الهادئ والساذج.
العقل لا يكفي
العرب: معظم الإصدارات الفلسفية الحديثة تتكئ على المرجعية اليونانية في التناول العملي لمفهوم الفلسفة. هل في ذلك اعتراف بضرورة العودة إلى الواقع الحيوي بدلا من التنظير؟
محمد شوقي الزين: نعم، بشكل ما. لأن القدماء أولوا جوهر الإنسان قيمة هائلة، أي الشيء الخالد في الإنسان من روح وعقل وكينونة. فكانت الفلسفة في أساسها عبارة عن أخلاق، ليس بالمعنى الساذج في المواعظ، أي في الأوامر والزواجر والـ”ما ينبغي”، بل في الطريقة الحية والنبيهة في ممارسة العيش.
ولا شك في أن الأبيقورية والرواقية وغيرهما من الفلسفات الإغريقية القديمة هي في جوهرها أخلاقية بهذا المعنى، تبحث في الطريقة العقلانية والزهدية للسلوك البشري، وليس فحسب في طريقة التفكير المنظم وفق استدلالات وأقيسة منطقية. لأن التفكير وحده لا يكفي ما لم يكمل بطريقة في تدبير المعيش. هذا يفسر اهتمام المعاصرين (مثلا بيير هادو في فرنسا ومارتا نوسبوم في إنجلترا) بالفلسفات القديمة التي كانت تقدم الفلسفة على أنها “فن العيش” وفق الطبيعة، أي وفق الفضيلة.
هذا الاهتمام المعاصر بالتصور القديم للفلسفة أملاه الظرف الراهن العامر بالأزمات السياسية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن ثمة البحث عن متنفس للإنسان المعاصر، وعن مخرج من مآزقه. والعقل وحده لم يعد قادرا على تلبية هذه المهمة. فكان لا بد من إضافة شيء من قبيل الفن والذوق والإحساس والتعقل والشغف… إلخ. ومحاولة فهم هذه الظواهر الكامنة في الإنسان والنابعة منه ليست ظواهر نفسية فحسب، بل كذلك ظواهر وجودية تخص نمط علاقته بالعالم وبالغير.
الاهتمام المعاصر بالتصور القديم للفلسفة أملاه الظرف الراهن العامر بالأزمات السياسية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها
العرب: نشرت أخيرا ترجماتك للفيلسوفة الفرنسية لورانس فانين – فيرنا. بدأت بنقل كتابها “لماذا نتفلسف؟” ومن ثم كملته بترجمة السلسلة “أنظر وفكر: من العين إلى الروح”، و”إله الفلاسفة “، و”الإنسان المهموم”. هل يمكن أن نعرف أكثر عن منهجية فانين وما يهدف إليه مشروعها؟
محمد شوقي الزين: مشروع الفيلسوفة متكامل نوعا ما: بدأته بمدخل إلى الفلسفة (لماذا نتفلسف؟)، وأتبعته بدراسات عن المعرفة والدين والعلاج الفلسفي والسياسة والوعي. ورغم أن السلسلة موجهة إلى تلاميذ الثانوية والليسانس في الجامعة، فإنها في متناول كل من يريد أن يتفلسف. تقول في كتبها الأخيرة بأن منهجيتها هي تفكيك الذات والبحث عما ينبثق من الذات.
استلهمت ذلك من برغسون والفينومينولوجيين. تريد تبيان أن عدو الإنسان هو ذاته بالدرجة الأولى (الجهل، والحمق، والعدوان)، وأن هوية الإنسان هي ما ينبثق في ذاته من عبقريات ومهارات ويترجم في صنائع وروائع. لكن تصحح بعد ذلك بالقول إن العبقرية وحدها لا تكفي، وقد تؤدي إلى الغرور ومن ثمة إلى الاستعلاء والاعتداء والاحتقار. وعليه، فإن تفكيك الذات ووضعها على محك النقد الصارم هما المفر الوحيد من المنغلقات الأيديولوجية والدينية والتمركزات الحضارية.
إنارة وإظلام
عالم اليوم لا يحركه العقل
العرب: يسود الاعتقاد في الوسط الثقافي العربي بأن الفلسفة قد وصلت إلى طريق مسدود مع موت ابن رشد وإهمال أفكاره. برأيك، لماذا احتفت أوروبا بفيلسوف قرطبة واستفادت من شروحاته لأرسطو فيما احترقت كتبه في العالم الإسلامي؟
محمد شوقي الزين: في تلك الفترة بدأ حدوث ما يمكن تسميته بالتحويل (سْويتش Switch) : شبيه بالتحويل الكهربائي، حيث إنارة حضارة انطفأت، وظلام حضارة أخرى اشتعل. توفي ابن رشد عام 1198، وبعد مئتي سنة ولد نيقولا دي كوزا (أو نيقولا الكوزي) عام 1401، والذي يمثل “نقلة” العبور من العصور الوسطى إلى النهضة والحداثة.
عندما بدأت الحضارة العربية الإسلامية في الركود، بدأت الحضارة الأوروبية في الانتعاش التدريجي والخروج البطيء والمضني من نموذج (أو “برادايم”) اللاهوت، نحو نموذج الإنسان والإنسية. انعكس ذلك على الفلسفة التي بدأت تتحرر تدريجيا من نموذج اللاهوت الذي طغى عند توما الأكويني مع فكرة “الإله معيار الأشياء جميعها”، والذي كان يتحاشى ذكر اسم ابن رشد في كتاباته، وكان ينعته بـ”الشارح”، لتتلبس نموذج التجريب مع معاصر توما الأكويني وهو الإنجليزي روجيه بيكون.
عندما بدأت الحضارة العربية الإسلامية في الركود بدأت الحضارة الأوروبية في الانتعاش التدريجي والخروج من نموذج اللاهوت
وإن كانت السكولائية قد انتقدت ابن رشد في مسائل فلسفية عديدة، يمليها التباين في العقيدة أو في النظرة إلى العالم (القِدم أو الحدوث) أو إلى النفس البشرية، إلا أن الشروح على أرسطو كانت مفيدة وملهمة للسكولائيين، وانطلقوا منها ليبنوا عليها، دائما في الإطار الحصري للنموذج اللاهوتي.
لكن مع روجيه بيكون اكتسبت الفلسفة حقا مختلفا عن الحقيقة الدينية؛ وحتى مع نيقولا دي كوزا، الذي كان كاردينالا في الكنيسة الكاثوليكية، صارت الفلسفة “علمية” في شروحه الفيزيائية والرياضية واستحداثه للهندسة اللاإقليدية، وصارت كذلك “أنطولوجية”، أحيانا مضادة للأرسطية، بل وللعقلانية، بتبني فكرة “تواقت النقيضين”، أي مجاوزة مبدأ عدم التناقض.
والغريب في الأمر أن تعليقات دي كوزا تستلهم من التجربة الحسية، معنى ذلك أن المرجعية لم تعد نصية (الأناجيل) في تسويغ المعرفة، بل صارت عقلية وتجريبية. كل هذا يفسر الوتيرة المنتظمة والحازمة في الفكر الغربي النهضوي والحديث للارتقاء الحضاري في مستوياته المادية والإنسانية، فيما “أفل نجم” ابن رشد في السماء الحالكة لحضارة عربية إسلامية لم تنفك عن التراجع، بحدوث ذلك التحويل (سْويتْش)، أي صار النموذج عندنا “لاهوتيا” مع عصر التقليد والاجترار، وصار النموذج في النهضة والحداثة “إنسانيا وإنسيا”، والذي يواصل ملحمته التاريخية والمعرفية إلى اليوم.
كه يلان محمد