"الغنمة" مسرحية بلغارية برؤية سورية تحارب البيروقراطية
محاولة ساخرة لإخراج الجميع من لعنة خطأ بيروقراطي بسيط.
الأحد 2023/11/19
ShareWhatsAppTwitterFacebook
دوامة كبرى من الخطر والسخرية
تتسلط البيروقراطية على الناس في المجتمعات، وتسبب الكثير من المشكلات التي تتحول مع مرور الزمن إلى معضلات حياتية يصعب حلها. وكثيرا ما يعترض الناس على وجودها، لأنها تعارض طبيعة الحياة. إبداعيا لم يتوقف عدد من رموز الفن والأدب عن انتقادها بأساليب شتى، ومن هؤلاء كاتب بلغاري كتب نصا قدمه مخرج سوري في عرض ساخر حمل عنوان “الغنمة”.
كثيرا ما ثار نقاش عاصف عن موضوع اقتباس المسرح العربي في عروضه من نصوص عالمية لكتاب عالميين مثل شكسبير وتشيخوف وغوغول وإبسن وبريخت وشو وغيرهم. وهو الأمر الذي تمايز فيه المسرحيون العرب بين فريق مؤيد وجد فيه أفكارا إنسانية عليا تتجاوز حدود الجنسيات والجغرافيا، وآخر رافض متوجس منه ويتحسس فيه مساحة خطر تأتي من غرابة البيئة واختلاف الظروف.
كانت المعضلة في وجود نص عالمي يمكن توليفه مع البيئة المحلية للوصول به إلى الجمهور. وقد خطا بعض المسرحيين العرب في هذا الاتجاه خطوات لافتة. ففي سوريا حقق المسرحي أيمن زيدان وجودا من خلال استلهامه تجارب للمسرحي الإيطالي الساخر داريو فو، وصار ما يقدمه أحد تشكيلات المسرح السوري المعاصر، والذي يسميه ما فوق الشعبي وتحت الكلاسيكي.
تجربة جديدة
المسرحية تلقي الضوء على موضوع البيروقراطية والفساد الموجود في أروقة الوظيفة العامة والمجتمع في كل بلدان العالم
في تناول جديد للمسرح العالمي يقدم المخرج الشاب زين العابدين طيار توليفة مسرحية لافتة. خيار طيار كان في نص مسرحي وضعه الكاتب البلغاري ستانسيلاف ستراتييف وحمل عنوان “سترة مخملين”، ويلقي من خلاله الضوء على موضوع البيروقراطية والفساد الموجود في أروقة الوظيفة العامة والمجتمع في بلاده.
ظهر النص عام 1971 وقدم في عشرات العروض العالمية. في تناوله الجديد في سوريا قام زين العابدين طيار بإعداده ليوافق الحالة السورية ويكون متماهيا معها، حيث قام بإضافة بعض التفاصيل أو إلغاء البعض الآخر من النص الأصلي، ليقدم العرض مؤخرا من خلال إنتاجات مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة السورية، على مسرح الحمراء بدمشق، وقد قدمه قبلها المسرح القومي في مدينة حمص وكان عرض ختام مهرجان حمص المسرحي في أحدث دوراته.
حضرت بلغاريا، وطن الكاتب ومكان الحدث الأساسي، في العرض السوري بوضوح من خلال أسماء الشخوص واسم المؤلف وكذلك الأعلام التي انتشرت في زوايا خشبة المسرح. ورغم ذلك فإن روح المجتمع السوري كانت واضحة المعالم، ومؤشر ذلك تفاعل الجمهور معها بانفعال.
توليفة الطيار كانت ذكية، فالموضوع الذي قدمه النص الأصلي هو البيروقراطية وفساد أجهزة الوظيفة العامة، وهو أمر واحد في كل العالم يماثل بعضه بعضا ومنه ما هو ماثل في المجتمع السوري على غرار بقية المجتمعات، وعبر هذا الجسر الفكري والمعاناة الإنسانية اجتاز العرض الحدود إلى الجمهور السوري، وكان موفقا اختياره الشكل الكوميدي المحبب لدى الجمهور لتمرير الأفكار بسهولة، وقد حافظ خلاله على عدم انحداره إلى مستوى الكوميديا الضعيفة التي تعتمدها بعض العروض المسرحية التجارية لجذب الجمهور.
خطأ ومشكلة
في تناوله لموضوع البيروقراطية يلجأ الكاتب إلى حياكة نص يعتمد على حدث قد لا يكون حقيقيا، لكنه في حسابات البيروقراطية ممكن الحدوث. تبدأ الحكاية مع أستاذ اللسانيات في جامعة صوفيا إيفان (خالد النجار) الذي يشتري مع صديقه المرافق سترة صوفية جديدة (أيهم عيشة)، ليكتشف أن وبرها طويل، الأمر الذي يعرضه لسخرية طلابه وزملائه في الجامعة.
يحاول إيجاد حل لجز الوبر، يذهب إلى محل حلاقة، لكن صاحبه يطرده بلطف ويحيله إلى جمعية ريفية تقوم بجز وبر الأغنام. يذهب الأستاذ الجامعي إلى الجمعية ويقوم العامل بعمله كما لو أنه يجزّ وبر غنمة، لتكون النقطة التي تبدأ من عندها الإشكالية البيروقراطية المفترضة. فالعامل غير مسموح له بأن يجز وبر سترة، لأن عمله مختص بالغنمات، فيطلب من زميله الموظف الذي يقيد الحسابات بأن يسجل قيامه بجز وبر غنمة خاصة لمصلحة الأستاذ الجامعي.
يقوم الموظف بتسجيل بيانات الأستاذ الشخصية على أنه يمتلك غنمة وقام بجز وبرها، بعد أشهر يفاجأ الأستاذ بأن دائرة تحصيل الضرائب تطالبه بدفع ضريبة امتلاكه غنمة، فيذهب إلى الدائرة لكي يثبت أنه لا يمتلك غنمة بل كانت سترة صوفية فحسب، لتبدأ دورة الروتين القاسية التي تواجهه ورفيقه في سبيل إثبات ذلك.
خلال جولاتهما في الدائرة نتعرف على أشكال من البيروقراطية والفساد الإداري الموجود. وتحت إصراره على حل المسألة يلجأ أحد المدراء إلى حيلة وهي أن يتم ترتيب موضوع إحالة موظف إلى التقاعد وتذبح للمناسبة غنمة ويدعو إلى وليمة بهذه المناسبة، رغم أن الموظف كان عمره حينها ستة وخمسين عاما.
في الحفل يكتشف الجميع زيف الواقع حيث لا لحم على الطاولة وليس هنالك طعام ولا وليمة ولكن المطلوب التحايل على القانون لإخراج الجميع من لعنة خطأ بيروقراطي بسيط سجله موظف أدخل الجميع في دوامة كبرى من الخطر الحياتي.
شخصيات غرائبية
شخصيات لكل منها مأساتها
حفل العرض بتقديم مشاهد افتراضية غرائبية، فمنذ المشهد الأول اعتمد المخرج تقديم مدلولات تؤدي إلى إيجاد شكلانية حياتية غير حقيقية وافتراضية، تمثلت بمشهد صالون الحلاقة الذي يدخله إيفان لكي يجز وبر سترته، لنرى صالون حلاقة حديثا ومليئا بتفاصيل حياتية معاصرة سواء من حيث شكل الحلاقين أو ثيابهم التي تتداخل فيها العناصر الذكورية بالأنثوية وكذلك طبيعة كلامهم وطريقته التي تحمل نفس الشكل.
وفي مؤشر ثان يستخدم العرض الملابس معززا فكرة التناقض المجتمعي من خلال الشخصيات الذكورية التي جعلها ترتدي التنانير بدلا من السراويل وهو الأمر غير المألوف، وفي نفس الوقت ترتدي الفتيات سراويل ذات لون موحد وتحمل مواصفات ذكورية تضيع فيها معالم الأنثى.
وحضرت العرض شخصية لافتة وهي المعلق حسام الشاه الذي يقبع منذ أشهر في المصعد بسبب عطل فيه وبسببه صار دائم الوجود في الدائرة ومطلعا على تفاصيل ما يحدث فيها فيعرف مداخل ومخارج الأمور القانونية وغير القانونية. شخصية المعلق قوية، شكلت حالة جذب في العرض، لجدتها ولأهمية ما قدمته من حضور فكري، يضاف إلى ذلك الأداء المتقن من حسام الشاه مستغلا تفاوت مستوى قوة المشاهد الخاصة به بين الهادئة والصاخبة لإبراز قوة حضور الشخصية وقوة أدائه لها.
وحضرت شخصية الزوجة المكافحة سوزان سكاف التي تحب زوجها وتنفذ ما يريد دون تردد، وهي التي تدفع دائما ثمن تلك الظروف القاسية التي أحاطت بهم. ورغم غيابها عن مسرح الحدث الواقعي، تحضر شخصية ابن المعلق، الذي كان طوق النجاة لوالده الذي يحلم بأن ينهي دراسته الجامعية، ليأتي إلى والده ويخرجه من المصعد الذي علق فيه، لكن الشاب يتزوج ويهاجر إلى أوروبا بطرقة غير شرعية تاركا والده في ورطته الحياتية ملاحقا حلمه في بناء حياة جديدة.
هذه الشخصية المفترضة لامست الجمهور السوري في العمق وطرحت إشكالية الهجرة من قسوة الحياة في الوطن ونتيجة فقدان الأمل والبحث عن فرص خارجه وتكسر أحلام الأهل بفاجعة رحيلها إلى المجهول.
شخصية فريدة وجدت في العرض لها مكانتها في المجتمع السوري تتمثل في الموظفة نجاة علي التي تسند إليها مهمة تافهة وهي مجرد مراقبة استخدام السخانات، لكنها بسطوتها وأسلوب المحقق المسيطر عليها تبدو أكبر من حجمها، فتطارد الجميع بأسئلتها وتراقب تحركاتهم. كما حضرت شخصية المستخدمة البسيطة تماضر غانم التي هي في خدمة الجميع ومصدر معلوماتهم جميعا وتحمل طيبة ناس القاع.
المشهد الختامي
كشف زيف الواقع
بعد عرض الكثير من مساحات الألم بأسلوب كوميدي موجع، يقدم العرض مشهدا مسرحيا ختاميا، طارحا إجابات محددة لمسارات حكايته. كان المشهد تتويجا لمجموعة من الحكايات المؤلمة التي عاشها ناسها بانكساراتهم وآلامهم. ويتداخل في المشهد أكثر من حدث عاصف.
البداية بالحدث الذي يفترض أنه احتفالي بسبب وصول أحد الموظفين إلى سن التقاعد، رغم عدم بلوغه تلك السن فعلا. يجتمع الموظفون تلبية للدعوة التي وجهها المدير ليأكلوا من لحم الغنمة التي ذبحت، ليفاجأ الجميع بأن المسؤول الحكومي الكبير الذي كان يفترض أنه آت لن يحضر، ورغم معرفة الجميع بأنه ليس ثمة لحم على الطاولة ولا طعام، فإن البيرقراطية تفترض وجود ذلك.
يتابع الجميع الاحتفال وكأن الأمور طبيعية، وليبدأ صراعهم على الطعام غير الموجود حقيقة، لتمر أمام هذا الجمع زوجة المعلق وهي تجر أمامها طفلها الرضيع وكأنه يمر بمحاذاة هذا العالم الكاذب المليء بالفساد والنفاق في تماس معه، بينما يمر إيفان والفتاة التي تمردت على نظام البيروقراطية وهي ترتدي طرحة زفافها منه وهما يرقصان فرحا بخروجهما من هذا الشكل القاتل للحياة، بينما مازالت السيدة البسيطة المستخدمة حيرى في خطواتها القادمة.
كان للديكور (إنجاز غدير الحسين) حضور متميز في العرض، فكان تصميمه مبنيا على وجوده بشكل طبقات قائمة على مدرج، في إشارة إلى التسلسل البيروقراطي الذي يعيشه الناس في المجتمعات وكيف يتسلط الأعلى على الأدنى درجة، كما يمكن أن تتغير أمكنة الموظفين على المكاتب فيه دون تأثير على الروح السلبية للبيروقراطية الموجودة عامة.
كذلك حضرت الموسيقى البيئية البلغارية التي وضعت بشكل موظف (ميخائيل تادوروس) لتحاكي طبيعة الحدث بين الرقصات الشعبية أو الموسيقى الملحمية الاحتفالية التي تناسب حضور رئيس الحكومة إلى الدائرة، وكان لتصميم الملابس (سارة صافتلي) حضور موظف من خلال خلق حالة مناقضة للواقع ومؤشرة على زمن فوضى. فالرجال يرتدون ملابس نسائية هي تنانير أظهرتهم بشكل فج كما ظهرت النساء بسراويل ذكورية الشكل واللون شوهت حالة الأنوثة لديهن.
ونذكر أن المسرحية قدمها الممثلون حسام الشاه وسوزان سكاف وتماضر وخالد غانم وخالد النجار وأيهم عيشة وخالد مولوي ورولى طهماز ونجاة محمد وأنطوان ميخائيل وأحمد حجازي.
تجربة إخراجية
زين العابدين طيار، فنان مسرحي من مدينة حمص، حقق حضورا متصاعدا عبر مساره المهني. بدأ مشواره في المسرح المدرسي، ودرس فنون المسرح في عدد من المراكز والمعاهد المختصة بسلسلة من الدورات المختصة. مثل مركز أمل عمران وفرقة إنانا وغيرهما ودرس الإعلام في دمشق.
تأثر بالكاتب والمترجم ضيف الله مراد الذي تتلمذ على يديه وقدم معه أول أدواره في التمثيل في مسرحية “جسر آرثا” المقتبسة عن نص للكاتب اليوناني جورج ثيوتوكا عام 2001. قدم أول أعماله المسرحية مخرجا عام 2008 وحمل عنوان “غني وثلاثة فقراء” عن نص للكاتب الفرنسي جان لويس كاليفرت وشارك به في المسرح الجامعي في سوريا ونال عنه عددا من الجوائز.
انقطع عن العمل المسرحي مدة سبعة أعوام ليعود عام 2019 ويقدم مسرحية “العطسة” مع فرقة حمص للمسرح القومي مشاركا بها في احتفالية يوم المسرح العالمي، كما قُدم في مهرجان حمص المسرحي ومهرجان نقابة الفنانين. أما عمله التالي والأهم فكان “الغنمة” الذي قدمه عام 2021 وفيه حمل رؤى فنية تبشر بطاقة فنية مختلفة. وللمخرج عمل مسرحي سابق حمل عنوان “حكي جرايد” قدم فيه بعض تفاصيل الحياة القاسية التي يحياها الناس في المجتمع السوري في الوقت الحاضر.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
نضال قوشحة
محاولة ساخرة لإخراج الجميع من لعنة خطأ بيروقراطي بسيط.
الأحد 2023/11/19
ShareWhatsAppTwitterFacebook
دوامة كبرى من الخطر والسخرية
تتسلط البيروقراطية على الناس في المجتمعات، وتسبب الكثير من المشكلات التي تتحول مع مرور الزمن إلى معضلات حياتية يصعب حلها. وكثيرا ما يعترض الناس على وجودها، لأنها تعارض طبيعة الحياة. إبداعيا لم يتوقف عدد من رموز الفن والأدب عن انتقادها بأساليب شتى، ومن هؤلاء كاتب بلغاري كتب نصا قدمه مخرج سوري في عرض ساخر حمل عنوان “الغنمة”.
كثيرا ما ثار نقاش عاصف عن موضوع اقتباس المسرح العربي في عروضه من نصوص عالمية لكتاب عالميين مثل شكسبير وتشيخوف وغوغول وإبسن وبريخت وشو وغيرهم. وهو الأمر الذي تمايز فيه المسرحيون العرب بين فريق مؤيد وجد فيه أفكارا إنسانية عليا تتجاوز حدود الجنسيات والجغرافيا، وآخر رافض متوجس منه ويتحسس فيه مساحة خطر تأتي من غرابة البيئة واختلاف الظروف.
كانت المعضلة في وجود نص عالمي يمكن توليفه مع البيئة المحلية للوصول به إلى الجمهور. وقد خطا بعض المسرحيين العرب في هذا الاتجاه خطوات لافتة. ففي سوريا حقق المسرحي أيمن زيدان وجودا من خلال استلهامه تجارب للمسرحي الإيطالي الساخر داريو فو، وصار ما يقدمه أحد تشكيلات المسرح السوري المعاصر، والذي يسميه ما فوق الشعبي وتحت الكلاسيكي.
تجربة جديدة
المسرحية تلقي الضوء على موضوع البيروقراطية والفساد الموجود في أروقة الوظيفة العامة والمجتمع في كل بلدان العالم
في تناول جديد للمسرح العالمي يقدم المخرج الشاب زين العابدين طيار توليفة مسرحية لافتة. خيار طيار كان في نص مسرحي وضعه الكاتب البلغاري ستانسيلاف ستراتييف وحمل عنوان “سترة مخملين”، ويلقي من خلاله الضوء على موضوع البيروقراطية والفساد الموجود في أروقة الوظيفة العامة والمجتمع في بلاده.
ظهر النص عام 1971 وقدم في عشرات العروض العالمية. في تناوله الجديد في سوريا قام زين العابدين طيار بإعداده ليوافق الحالة السورية ويكون متماهيا معها، حيث قام بإضافة بعض التفاصيل أو إلغاء البعض الآخر من النص الأصلي، ليقدم العرض مؤخرا من خلال إنتاجات مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة السورية، على مسرح الحمراء بدمشق، وقد قدمه قبلها المسرح القومي في مدينة حمص وكان عرض ختام مهرجان حمص المسرحي في أحدث دوراته.
حضرت بلغاريا، وطن الكاتب ومكان الحدث الأساسي، في العرض السوري بوضوح من خلال أسماء الشخوص واسم المؤلف وكذلك الأعلام التي انتشرت في زوايا خشبة المسرح. ورغم ذلك فإن روح المجتمع السوري كانت واضحة المعالم، ومؤشر ذلك تفاعل الجمهور معها بانفعال.
توليفة الطيار كانت ذكية، فالموضوع الذي قدمه النص الأصلي هو البيروقراطية وفساد أجهزة الوظيفة العامة، وهو أمر واحد في كل العالم يماثل بعضه بعضا ومنه ما هو ماثل في المجتمع السوري على غرار بقية المجتمعات، وعبر هذا الجسر الفكري والمعاناة الإنسانية اجتاز العرض الحدود إلى الجمهور السوري، وكان موفقا اختياره الشكل الكوميدي المحبب لدى الجمهور لتمرير الأفكار بسهولة، وقد حافظ خلاله على عدم انحداره إلى مستوى الكوميديا الضعيفة التي تعتمدها بعض العروض المسرحية التجارية لجذب الجمهور.
خطأ ومشكلة
في تناوله لموضوع البيروقراطية يلجأ الكاتب إلى حياكة نص يعتمد على حدث قد لا يكون حقيقيا، لكنه في حسابات البيروقراطية ممكن الحدوث. تبدأ الحكاية مع أستاذ اللسانيات في جامعة صوفيا إيفان (خالد النجار) الذي يشتري مع صديقه المرافق سترة صوفية جديدة (أيهم عيشة)، ليكتشف أن وبرها طويل، الأمر الذي يعرضه لسخرية طلابه وزملائه في الجامعة.
يحاول إيجاد حل لجز الوبر، يذهب إلى محل حلاقة، لكن صاحبه يطرده بلطف ويحيله إلى جمعية ريفية تقوم بجز وبر الأغنام. يذهب الأستاذ الجامعي إلى الجمعية ويقوم العامل بعمله كما لو أنه يجزّ وبر غنمة، لتكون النقطة التي تبدأ من عندها الإشكالية البيروقراطية المفترضة. فالعامل غير مسموح له بأن يجز وبر سترة، لأن عمله مختص بالغنمات، فيطلب من زميله الموظف الذي يقيد الحسابات بأن يسجل قيامه بجز وبر غنمة خاصة لمصلحة الأستاذ الجامعي.
يقوم الموظف بتسجيل بيانات الأستاذ الشخصية على أنه يمتلك غنمة وقام بجز وبرها، بعد أشهر يفاجأ الأستاذ بأن دائرة تحصيل الضرائب تطالبه بدفع ضريبة امتلاكه غنمة، فيذهب إلى الدائرة لكي يثبت أنه لا يمتلك غنمة بل كانت سترة صوفية فحسب، لتبدأ دورة الروتين القاسية التي تواجهه ورفيقه في سبيل إثبات ذلك.
خلال جولاتهما في الدائرة نتعرف على أشكال من البيروقراطية والفساد الإداري الموجود. وتحت إصراره على حل المسألة يلجأ أحد المدراء إلى حيلة وهي أن يتم ترتيب موضوع إحالة موظف إلى التقاعد وتذبح للمناسبة غنمة ويدعو إلى وليمة بهذه المناسبة، رغم أن الموظف كان عمره حينها ستة وخمسين عاما.
في الحفل يكتشف الجميع زيف الواقع حيث لا لحم على الطاولة وليس هنالك طعام ولا وليمة ولكن المطلوب التحايل على القانون لإخراج الجميع من لعنة خطأ بيروقراطي بسيط سجله موظف أدخل الجميع في دوامة كبرى من الخطر الحياتي.
شخصيات غرائبية
شخصيات لكل منها مأساتها
حفل العرض بتقديم مشاهد افتراضية غرائبية، فمنذ المشهد الأول اعتمد المخرج تقديم مدلولات تؤدي إلى إيجاد شكلانية حياتية غير حقيقية وافتراضية، تمثلت بمشهد صالون الحلاقة الذي يدخله إيفان لكي يجز وبر سترته، لنرى صالون حلاقة حديثا ومليئا بتفاصيل حياتية معاصرة سواء من حيث شكل الحلاقين أو ثيابهم التي تتداخل فيها العناصر الذكورية بالأنثوية وكذلك طبيعة كلامهم وطريقته التي تحمل نفس الشكل.
وفي مؤشر ثان يستخدم العرض الملابس معززا فكرة التناقض المجتمعي من خلال الشخصيات الذكورية التي جعلها ترتدي التنانير بدلا من السراويل وهو الأمر غير المألوف، وفي نفس الوقت ترتدي الفتيات سراويل ذات لون موحد وتحمل مواصفات ذكورية تضيع فيها معالم الأنثى.
وحضرت العرض شخصية لافتة وهي المعلق حسام الشاه الذي يقبع منذ أشهر في المصعد بسبب عطل فيه وبسببه صار دائم الوجود في الدائرة ومطلعا على تفاصيل ما يحدث فيها فيعرف مداخل ومخارج الأمور القانونية وغير القانونية. شخصية المعلق قوية، شكلت حالة جذب في العرض، لجدتها ولأهمية ما قدمته من حضور فكري، يضاف إلى ذلك الأداء المتقن من حسام الشاه مستغلا تفاوت مستوى قوة المشاهد الخاصة به بين الهادئة والصاخبة لإبراز قوة حضور الشخصية وقوة أدائه لها.
تعرض المسرحيةُ الكثيرَ من مساحات الألم بأسلوب كوميدي موجع لتختتم بإجابات محددة لمسارات حكاية كل شخصية
وحضرت شخصية الزوجة المكافحة سوزان سكاف التي تحب زوجها وتنفذ ما يريد دون تردد، وهي التي تدفع دائما ثمن تلك الظروف القاسية التي أحاطت بهم. ورغم غيابها عن مسرح الحدث الواقعي، تحضر شخصية ابن المعلق، الذي كان طوق النجاة لوالده الذي يحلم بأن ينهي دراسته الجامعية، ليأتي إلى والده ويخرجه من المصعد الذي علق فيه، لكن الشاب يتزوج ويهاجر إلى أوروبا بطرقة غير شرعية تاركا والده في ورطته الحياتية ملاحقا حلمه في بناء حياة جديدة.
هذه الشخصية المفترضة لامست الجمهور السوري في العمق وطرحت إشكالية الهجرة من قسوة الحياة في الوطن ونتيجة فقدان الأمل والبحث عن فرص خارجه وتكسر أحلام الأهل بفاجعة رحيلها إلى المجهول.
شخصية فريدة وجدت في العرض لها مكانتها في المجتمع السوري تتمثل في الموظفة نجاة علي التي تسند إليها مهمة تافهة وهي مجرد مراقبة استخدام السخانات، لكنها بسطوتها وأسلوب المحقق المسيطر عليها تبدو أكبر من حجمها، فتطارد الجميع بأسئلتها وتراقب تحركاتهم. كما حضرت شخصية المستخدمة البسيطة تماضر غانم التي هي في خدمة الجميع ومصدر معلوماتهم جميعا وتحمل طيبة ناس القاع.
المشهد الختامي
كشف زيف الواقع
بعد عرض الكثير من مساحات الألم بأسلوب كوميدي موجع، يقدم العرض مشهدا مسرحيا ختاميا، طارحا إجابات محددة لمسارات حكايته. كان المشهد تتويجا لمجموعة من الحكايات المؤلمة التي عاشها ناسها بانكساراتهم وآلامهم. ويتداخل في المشهد أكثر من حدث عاصف.
البداية بالحدث الذي يفترض أنه احتفالي بسبب وصول أحد الموظفين إلى سن التقاعد، رغم عدم بلوغه تلك السن فعلا. يجتمع الموظفون تلبية للدعوة التي وجهها المدير ليأكلوا من لحم الغنمة التي ذبحت، ليفاجأ الجميع بأن المسؤول الحكومي الكبير الذي كان يفترض أنه آت لن يحضر، ورغم معرفة الجميع بأنه ليس ثمة لحم على الطاولة ولا طعام، فإن البيرقراطية تفترض وجود ذلك.
يتابع الجميع الاحتفال وكأن الأمور طبيعية، وليبدأ صراعهم على الطعام غير الموجود حقيقة، لتمر أمام هذا الجمع زوجة المعلق وهي تجر أمامها طفلها الرضيع وكأنه يمر بمحاذاة هذا العالم الكاذب المليء بالفساد والنفاق في تماس معه، بينما يمر إيفان والفتاة التي تمردت على نظام البيروقراطية وهي ترتدي طرحة زفافها منه وهما يرقصان فرحا بخروجهما من هذا الشكل القاتل للحياة، بينما مازالت السيدة البسيطة المستخدمة حيرى في خطواتها القادمة.
العرض يحفل بمشاهد افتراضية غرائبية، فمنذ المشهد الأول اعتمد تقديم مدلولات تؤدي إلى إيجاد حالات غير حقيقية
كان للديكور (إنجاز غدير الحسين) حضور متميز في العرض، فكان تصميمه مبنيا على وجوده بشكل طبقات قائمة على مدرج، في إشارة إلى التسلسل البيروقراطي الذي يعيشه الناس في المجتمعات وكيف يتسلط الأعلى على الأدنى درجة، كما يمكن أن تتغير أمكنة الموظفين على المكاتب فيه دون تأثير على الروح السلبية للبيروقراطية الموجودة عامة.
كذلك حضرت الموسيقى البيئية البلغارية التي وضعت بشكل موظف (ميخائيل تادوروس) لتحاكي طبيعة الحدث بين الرقصات الشعبية أو الموسيقى الملحمية الاحتفالية التي تناسب حضور رئيس الحكومة إلى الدائرة، وكان لتصميم الملابس (سارة صافتلي) حضور موظف من خلال خلق حالة مناقضة للواقع ومؤشرة على زمن فوضى. فالرجال يرتدون ملابس نسائية هي تنانير أظهرتهم بشكل فج كما ظهرت النساء بسراويل ذكورية الشكل واللون شوهت حالة الأنوثة لديهن.
ونذكر أن المسرحية قدمها الممثلون حسام الشاه وسوزان سكاف وتماضر وخالد غانم وخالد النجار وأيهم عيشة وخالد مولوي ورولى طهماز ونجاة محمد وأنطوان ميخائيل وأحمد حجازي.
تجربة إخراجية
زين العابدين طيار، فنان مسرحي من مدينة حمص، حقق حضورا متصاعدا عبر مساره المهني. بدأ مشواره في المسرح المدرسي، ودرس فنون المسرح في عدد من المراكز والمعاهد المختصة بسلسلة من الدورات المختصة. مثل مركز أمل عمران وفرقة إنانا وغيرهما ودرس الإعلام في دمشق.
تأثر بالكاتب والمترجم ضيف الله مراد الذي تتلمذ على يديه وقدم معه أول أدواره في التمثيل في مسرحية “جسر آرثا” المقتبسة عن نص للكاتب اليوناني جورج ثيوتوكا عام 2001. قدم أول أعماله المسرحية مخرجا عام 2008 وحمل عنوان “غني وثلاثة فقراء” عن نص للكاتب الفرنسي جان لويس كاليفرت وشارك به في المسرح الجامعي في سوريا ونال عنه عددا من الجوائز.
انقطع عن العمل المسرحي مدة سبعة أعوام ليعود عام 2019 ويقدم مسرحية “العطسة” مع فرقة حمص للمسرح القومي مشاركا بها في احتفالية يوم المسرح العالمي، كما قُدم في مهرجان حمص المسرحي ومهرجان نقابة الفنانين. أما عمله التالي والأهم فكان “الغنمة” الذي قدمه عام 2021 وفيه حمل رؤى فنية تبشر بطاقة فنية مختلفة. وللمخرج عمل مسرحي سابق حمل عنوان “حكي جرايد” قدم فيه بعض تفاصيل الحياة القاسية التي يحياها الناس في المجتمع السوري في الوقت الحاضر.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
نضال قوشحة