في معرضه الأخير الذي أقامه في عاديات طرطوس بعنوان “في ذاكرة ريحه” والذي ضم 35 لوحة,بتاريخ 8\5\2015 قبل ريحله بسنوات قليلة ..
يسرح الفنان التشكيلي محمود الضاهر في قطعان اللون لتنسج طاقاته المتألقة والمشعة شغفها على سطح اللوحة، مما يمنحها حرية حركية خصبة يرش حباب الألوان على شكل غبار طلع، يمازج الفكرة والضوء والكتلة، عنوانها المراءاة والمرارة والغياب والانخطاف والقلق والشجن والحب بشاسع طغيانه, وهو ممراً لنا ونتاجا بصرياً مختلفاً ومميزاً، وثمة مناهج لديه تدفعك إلى اعتبار كل لوحة نصاً مفتوحاً على حيز الكواكب والنجوم والأكوان، ولفهم مضامين النصوص ومفاعيل السرد البصري، كونه يمثل المجال الحيوي للجملة التشكيلية بكل مكوناتها ومدركاتها الحسية والعقلية، لأن الرسم عنده نتاج منطقي لمساحة من التفاعل الشمولي الجمالي، ضمن عمل يشكل الرؤى الحديثة للنص البصري المصحوب بجماليات تساهم في رفع شعرية الذائقة البصرية، والتواصل مع كافة منتجات الفن وإحالات دلالاته الحاشدة من ملامح وسطوح وكتل وألوان تملأ الحيز.
“محمود الضاهر” كائن من دهشة وأحلام شفافة مشغول باللون, كهاجس دائم التصاعد، متفرداً بامتلاك أدواته, ولعل هذا الهامش من العبث العالق بريشته هو ما يميزها وسط الركام العجيب من النظريات والتجارب، التي دفعت ببعض الحالات بالتشكيل إلى التخلي عن سيادته الروحية لصالح التقنيات البصرية المؤتمتة المتسارعة، وهي تمارس الاختلاف اللامنطقي وسط كل هذا العبث الذي يجتاح الفنون عامة والرسم بشكل خاص.
فلسفة اللون
يرتب الفنان الضاهر بياناته اللونية من الأزرق الداكن إلى الشفاف، ومن الليلك إلى الشمسي المتلاحق إلى الأخضر الخصيب على شكل جرعة حتمية من عصير الحياة المنتصرة دائما إلى الخلق, تغدو حالات ألوانه مشدودة إليه واهبة طاقاتها الذاتية لتواكب قدرته على الانتقال إلى عالم الرؤية الحرة، وملقياً عليك أجوبة مقلقة لأسئلة محيرة كانت قد أطلقتها في داخلك لحظة الملامسة الأولى للوحة –المساحة- لا بفعل قيمة التجربة المقترحة وقدرته التشكيلية في تجسيد أطوار نبضه، بل على إتقانه وبراعته في خلق الحيرة اللونية، لتصبح المتابعة شكلاً من الإبحار غير المأمون لمكابدات أطياف شدوه وتغريده كلها، وتجذره في تفاصيل حزنه وفرحه بمنطقة الضوء من مشاهدتنا البصرية، أو ساحة التعبير الداخلية والتي تعتبر تلخيصاً لخصوصية تجربته المسكونة بمزاجيته المصرة على أن تكون منصة انطلاق نحو عوالمه الباحثة عن سلام ما، وكنتاج منطقي متماهٍ مع الخلفيات الفكرية والرمزية الموحية، ويأتي منتجه البصري مشغولاً بروح إبداعية وأسلوب حرفي حاشد بالمكونات الخطية واللونية من ملامس وسطوح, ومجموعة كتل تشغل الفراغ دون إهمال المحتوى الموضوعي الذي يشكل المضمون.
توليفات بصرية
يستحوذنا وهو الذي يسكن ساحة وعي المشهد شاهداً على ترتيب حاجات أعماقه بذات الحضور والإدهاش الذي ليس بوحاً وجدانياً فحسب، بل هو سلسلة لا تنتهي من الطقوس التكوينية المشغولة بذهنية تفتحت بتشكيلات غنية بتفصيلات احتاجت إلى استثنائية خاصة، لتحويلها إلى فعل جمالي مختزن يتهادى بسلاسة في محيطه اللوني، مشكلاً حضوراً نوعياً بين الأسطورة والحلم المنتصر بأدواته التي تفصح عن قلقه فوق سطوح أعماله، وتعكس حساسيته بتدرجاتها، حاملة الحس الاستبصاري للمشروع الفني المحمل بما هو مفصلي في حركة الفن، ضمن توليفات حية يمنحها الفنان ما في روحه المسكونة بتصورات لا متناهية لعوالم تنبض بالحياة، لتأتي نتاجاته في خطوط تكوينه، تحمل رؤى اتصالية بعوالم مفعمة بدعوة حميمة، لا تطابق الواقع رغم أنها تلازمه كنسيج بصري بأبعاده الانسيابية والإنسانية، مفسرة للمنطقي من الحلم، ومن ثم تأويله بما يتناغم ودائرة الإنتاج الإبداعي وتداعيات الأطر، ضمن تركيبة فريدة لأفكار يولدها في مستويين: الأول مقترن بليونة ورشاقة حسية لونية/ قائمة على قرابين الحدس الإبداعي حيث اللون لديه تعبير عن رغبة جامحة في اختراق الإدراك باتجاه الدلالة النوعية، كترتيل غني من حزن وفرح، ورغبة للانفلات من المرئيات بطريقة ما، وللانتقال إلى مدارات محفوفة بالأسرار المضطربة حيناً والدافئة حيناً آخر، فترى على سطح اللوحة الأزرق المشبع المشبوب، والمشتاق للتدرج عبر كثافته اللونية الجادة، والأحمر المتصاعد الناري بشبقه المندلق عبر تناغم لوني يشكل مفتاحاً لبلوغ العمق الفكري، بغية التوصل لسر الدهشة والمتعة في تلك الألوان التي تتشظى كأنها نيازك تنتظر الخلاص، لتنداح على سطح اللوحة الشاهقة بالأبيض الوارف والأحمر والأصفر الشفاف والأخضر الخصب، فضاؤها مفتوح ومعلق على إنجاز في أفق اللوحة هو الذي تقل عنده الألوان السوداوية فلا لون للكارثة.
أسئلة اللوحة
وكانتظار لا يأتي في داخل هذا المضمون المتناقض والمستقل بذاته، يوزع محمود الخطوط بدرجة عالية من الجدة فهو موزون وحركي في آن. لا يتبع قالبا خاصاً ولا تحدياً في انكشاف البيان، إنما أخذاً برموزه التي تتواصل بالارتباط الحر عبر مناخ تكاملي يستعيد أسئلة العقل، فاللوحة عنده ليست بنية مسطحة أو منتهية بل هي بنية على بساطتها متشعبة تتجاوز الأحادية التعبيرية، في رحلة معاكسة إلى حدائق وشموس الذات,لها طابعها ومذاقها الخاص، وهي أيضاً بهذه الحالة ليست مرآة تعكس عالمه المرئي، بل هو تعبير شديد الخصوصية يحكمه منطق تشكيلي داخلي يسقط انفعالاته على اللوحة، في توزيع خاص لكتلته اللونية بتكنيك وانسجام يتحاور مع التقاطعات الحسية الرفيعة لديه، والتي لا توالي الاهتمام لمعنى الاندماج اللوني المستخدم فحسب، بل لتشكيل القيمة المجردة أيضا كقطيع صخور معاند يميل إليك الصدى، كل ذلك وهو متمترس خلف انجازاته المكثفة المتلاحقة، لا يبتغي نقل رسالة ذات مغزى مباشر، بل يسعى إلى أطلاق الحان سماوية تقرأ بالبصيرة والقلب قبل أن تقرأ بالعين، تؤديها ألوانه بكل هذه الرغبة المسكونة بهاجس البحث عن آفاق تتسع لقدرته الفنية، دون المساس بكينونته وخصائصه، تحقيقاً لمنجزه الفني الناهض بأحلام واعدة بتجليات الروح تحت وطأة ما تعانيه, لنغدو شاهدين دون أحكام تالفة أو منجزة, وهو يراكم لنوع من الحوار داخل أحاسيسنا ومخيلتنا التي تشعر بأنها معنية بالتدخل في تفاصيل الخلق اللوني، رغم أنه غير صادر عنها، كأنما كل ذلك ليرصد من خلالنا مجموعة أحلام ليست محددة بالزمن، لكنه يحتاج أزمنتها ليقول بأن اللوحة لديه قارة مجهولة قيد التجسيد تطالب بأوان اكتشافها.
سمر محفوض