واقعية ماركيز السحرية غربت منذ نهاية القرن العشرين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • واقعية ماركيز السحرية غربت منذ نهاية القرن العشرين

    واقعية ماركيز السحرية غربت منذ نهاية القرن العشرين


    مشغل محمد خضير يكشف ملامح السرد غير الواقعي.
    الأحد 2023/11/05
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    الخيال تحليق في عالم الرؤى (لوحة للفنان بطرس المعري)

    التخييل، أي ابتكار من وحي الخيال، وقد كان وسيلة الأدب القديم التي ترك من خلالها آثارا مبهرة لا تزال ملهمة إلى يومنا هذا، على غرار ألف ليلة وليلة وقصائد الشعراء العرب بشكل خاص، لكن تغير الواقع والثورة التكنولوجية والحياة المعاصرة بما تحتويه من أزمات وعولمة وما طرأ من أيديولوجيات، كلها دفعت إلى تراجع التخييل في الأدب والفنون عموما لصالح المحاكاة، لكن نظرة فاحصة تجعلنا نتساءل: هل فعلا تراجع التخييل، أم هو غيّر من أساليبه؟

    ترك التسارع العلمي والتقني جملة متغيرات على العالم المعاصر لاسيما في السنوات العشرين الماضية ويمكن حصر تلك المتغيرات في: أولا وسائل التواصل وبرمجيات الكمبيوتر وتقنيات التكنولوجيا الرقمية وما ينتظرها من آفاق مستقبلية، وثانيا النظام العالمي الجديد الذي تحول من القطبية إلى التشاركية العولمية فانحسر التمركز حول الذات الغربية وصعدت التنموية في مجتمعات قومية كالصين وشبه القارة الهندية وآسيا وأفريقيا وبعض مناطق أميركا اللاتينية.

    ثالث المتغيرات الاندماج بمصير بشري واحد تجاه التهديدات: البايولوجية (فايروس كورونا) والبيئية (نضوب الطاقة والاحتباس الحراري وشح المياه) والأخلاقية (العنف والمراقبة الآلية) والعلمية (الروبوتات والطاقة النووية والهندسة الوراثية) والاقتصادية (مشكلات المجاعة واحتكار الدولار).
    التخييل والمحاكاة



    محمد خضير يرى أن التخييل ليس مجرد عملية إبداعية


    حملت المتغيرات التي يشهدها العالم المعاصر منظري السرد على إعادة التفكير في الكثير من قضايا الأدب، ومنها قضية التخييل منعطفين بدراستها، خلافا لما تناوله مفكرو الأدب على مر العصور، انعطافا جديدا يجعلها مطروحة بقوة في وقتنا الحالي، ليس لأن التخييل ركن أساس من أركان الإبداع الأدبي فحسب، بل هي أيضا طبيعة المرحلة التاريخية التي تتحدى المبدع في ما يمتلكه من مخيلة بها يدرك العالم إدراكا خاصا ومختلفا فيستطيع أن يتمثله أدبيا مشخصا أبعاده بدقة ومستشرفا المستقبل، بكل ما يحتاجه ذاك التشخيص وهذا الاستشراف من إعمال الذهن والجهد الخلاق.

    الروائي في وقتنا الحاضر ليس محتاجا إلى السيطرة على الواقع وإعادة بنائه عبر محاكاته تخييليا، إنما هو محتاج كذلك إلى التحرر من سيطرة هذا الواقع كأن يتخيل واقعا لا واقع له أي خرافيا محضا أو يستعيد أصول التفكير العقلي الطفولي حين اكتشف الإنسان أنه كائن ناطق، يستطيع باللغة أن يؤسس وضعه ويراكم خبراته ويفهم موقعه من نفسه والجماعة البشرية التي ينتمي إليها.

    وإذا كان التخييل المحض هو القلب النابض الذي منه نبع ذلك الأصل، فإن الحكاية الخرافية هي أول دليل على أن هذا الأصل هو السرد ومنه تفرعت كل الفنون والعلوم التي عرفتها أقدم الحضارات البشرية على وجه الأرض.

    لقد استمر الإنسان يطور معارفه من خلال اللامحاكاة، فسافر في حكاياته عبر الزمان والمكان ووصل إلى مدن وجزر لا وجود لها على الأرض، وغار في أعماق الكهوف وتعرف إلى مخلوقات اخترعها وآمن بها. حتى إذا تعمقت معارفه وتعقد واقعه، صارت للفاعلية التخييلية مواضعات تتحدد في محاكاة المحتمل وقوعه وغير المحتمل الذي بالتسبيب المنطقي يصبح محتملا.

    وبمرور الزمان، تشذب تحبيك السرد وتقلصت اللامحاكاة واتجهت الفاعلية التخييلية صوب المحاكاة التي عمت الأدب الأوروبي منذ عصر النهضة حتى غدت الواقعية في القرن التاسع عشر مذهبا أدبيا وفكرا فلسفيا، قوامه الموضوعية والحيادية والأيديولوجية والرمزية التي هي مقومات إبداعية مطلوبة في كل أدب، وعليها تتوقف جودة السرد وتتأكد فاعليته.

    محمد خضير في “المشغل الخيالي” يفسر التخييل بوصفه صناعة تبدأ من لحظة شعور السارد بالاغتراب عن نصه

    وتنوعت صور محاكاة الواقع بالاستعانة بالعلم الطبيعي حينا وبالوعي الأيديولوجي والتاريخي حينا آخر، ولم تعد الغاية من الكتابة السردية “التحليق فوق الواقع وفوق البشر وتاريخهم بل أصبحت تهدف إلى أن تكون أداة اجتياز الوعي ومحرك العمل الذي به يغير الإنسان الأشياء ويغير نفسه ويبني بيده تاريخه” كما يقول غارودي.

    ما إن جاءت مرحلة ما بعد الحداثة وما رافقها من انفجار معرفي في مجال الكمبيوتر والرقميات حتى أصبح الأدب الواقعي وتحديدا الروائي، متقيدا بالواقعية ومحاكاة الواقع، لذا سعى إلى التغريب ووظف العجيب والفانتازي باحثا عن مسالك جديدة بها يتمكن من مواكبة مستجدات المد السبراني.

    ولكن هل تخلَّص هذا الأدب، في ما وجده من مسالك جديدة، من قيود المحاكاة؟ أليست مجازات الأدب وأبنيته الاستعارية كافية للتخييل أم أن تخيل الخيالي الذي لا واقع له هو مسلك آخر جديد؟ وما الفارق بين التخريف الخيالي وتخليق الخرافة؟ وما الذي يجبر أديب القرن الحادي والعشرين على أن يفكر بالثور طائرا والحصان ناطقا؟ وما التخييل الذي يريد الأدب بلوغه؟ أ هو نقيض الواقع أم هو إدراك له؟ وهل نتعامل مع التخييل على أنه إيحاء بالوهم أو هو تحليق بقوانين الجدل نحو الحقيقة؟ وكيف نثبت أن التخييلي والحقيقي وجهان لعملة واحدة؟

    لعل الإجابة التي تتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى هي أن التخييل طاقة ذهنية لا حدود لها لأنها سحرية لكن الإجابة التي تضاهيها قوة هي أن العقل لا حدود له، لأنه في الأساس تخييل محض وأن الأدب مثل العلم صورة من صور الإنتاج العقلي. ومثلما يقال علميا إن الإلكترون لا ينضب وإن المادة لا تفنى، فمن الممكن أن يقال إن التخييل لا ينضب ولا حدود له.
    أصوات الجمجمة


    قليل من الأدباء العرب من شغلهم أمر التنظير للتخييل، فانبرى يفلسف بوعي نظري وهمة نقدية هذه القضية

    لقد شغلت موضوعة التخييل مفكري الأدب ومنظري السرد كما شغلت المبدعين أنفسهم لاسيما أولئك الذين يمتلكون باعا نقديا ولديهم مجسات خاصة تمكنهم من التنظير للعملية السردية، فكان التخييل موضع اهتمامهم مثل كولردج وهنري جيمس ونورثروب فراي وميلان كونديرا وميشيل بوتور وأمبرتو إيكو وغيرهم.

    وقليل من الأدباء العرب من شغلهم أمر التنظير للتخييل، فانبروا يفلسفون بوعي نظري وهمة نقدية هذه القضية غير مقتصرين على المقالة والمقالتين ولا الكتاب والكتابين. ومنهم القاص محمد خضير الذي بنى في ذهنه مشغلا سرديا متخيلا هو بمثابة مختبر إبداعي للبحث في سؤال التخييل والخيال وما خبره خلال مسيرته في الكتابة من رؤى وأفكار، وأطلق على هذه المسيرة “الكدح السردي” واجدا في التخييل قضية شائكة لا بد من التعرف إلى مخاضاتها وكشف حركيتها.

    ولأن للتخييل علاقة وثقى بالسرد، يصبح السرد “الذي يكتب لإنتاج معنى هو دون السرد الذي يهدف إلى زيادة المعنى.. فبالسرد يستطيع الكاتب أن يحرر طاقة أي عنصر في عزلته المرجعية لرسم لحظتها الحية المختزلة لكل الأزمنة”.

    وفي هذا التركيز على الإنتاج والتحرير دلالة قاطعة على أن الواقع المراد محاكاته هو واقع آخر جديد، من صنع السارد الذي تخيل ما لا وجود له فصار بالسرد موجودا.

    وتتضح هذه الدلالة في القصة المقالية أو بالأحرى المقالة السردية التي كتبها محمد خضير تحت عنوان “المشغل الخيالي” وهي تدخل في باب “السرد غير الواقعي” وتستوحي أجواء رسالة الغفران لأبي العلاء المعري وجحيم دانتي.

    مرحلة ما بعد الحداثة وما رافقها من انفجار معرفي في مجال الكمبيوتر والرقميات جعلت الأدب الروائي متقيدا بالواقعية

    وتسرد المقالة السردية بلسان سارد ذاتي والبطلة جمجمة تصدح فيها أصوات الأدباء العظام: زرادشت/ عمر الخيام/ بليك/ جبران/ إلياس أبوشبكة. وتبدأ القصة برحلة متخيلة يقوم بها السارد نحو أقدم الأكاديميات الإغريقية والرومانية، فيتعرف إلى أهم فلاسفتها ثم يعود إلى مدن الشرق الإسلامي ويلتقي بمؤلفي السرد (المبجلين) شهرزاد وبيدبا ولقمان.

    ما إن يصل السارد إلى “القلعة” حتى يجد جمجمة الأصوات، فيتغير مسار تخيل الشعراء، فيتداعى في وعيه أمر مهم يأخذ شكل مونولوج داخلي، “بات واضحا لصانع النصوص أن غاية استعمال الخيال لديه هي رسم خط وهمي لنهايات الأشياء الحقيقية فكأن النص تجسيم لارتحال للزمانيات وانتقال للمكانيات من دون نهايات إلى عالم الخلود”.

    وتتعقد حبكة القصة باحتدام أصوات الجمجمة فتنقسم إلى فريقين: فريق البرزخ وفريق المسرح، تزعّم الفريق الأول مفكر وحدة الوجود محيي الدين بن عربي الذي قال: إن الخيال هو حد مشترك بين عالمين، وانبرى زعيم الفريق الثاني وهو كولردج يطلب من ابن عربي تقديم أدلته على تجليات البرزخ. ويستمر الجدل وينتهي بقول ابن عربي “من فصوص الحكم: فاعلم أنك خيال وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس إلا خيالا فالوجود خيال في خيال”.

    فالتخييل ليس مجرد عملية إبداعية إنما هو عالم لوحده، انقسم ساكنوه إلى ثلاثة فرق: فريق يتخيل عالم الواقع والجلاء وفريق ثان يتخيل عالم الخفاء والعماء وفريق ثالث يتخيل عالم الآلة وهم كتّاب الخيال العلمي وزعيمهم جون فيرن.

    وهنا ينظر السارد إلى نفسه ويتساءل “كيف لي أن أضيف شيئا على برازخ الخيال التي فصلت بين عالمي وعالم الجمجمة؟ وهل ادعيت محاورة لم يشهدها خيالي؟ ما سقت من محاورات لا يعدو اقتباسات من كتب معروفة.. أما عملي هنا فاقتصر على التقاط أصوات شاردة من حافات الجمجمة”.
    عالم الرؤى



    الروائي المعاصر ليس محتاجا للسيطرة على الواقع (لوحة للفنان بطرس المعري)


    إن مراد محمد خضير من “المشغل الخيالي” هو تفسير التخييل بوصفه صناعة تبدأ من لحظة شعور السارد بالاغتراب عن نصه، فتلح عليه فكرة البحث عن وسائل إشباع جديدة، تسد رمقه إلى التخييل بعلاقات مختلفة وأساليب فريدة، فتستعيد ذاته انتماءها وتتخلص من حالة اللاانتماء. وتنتهي صناعة التخييل عند لحظة الوصول إلى الحاجز الذي يفصل الجمال عن الحقيقة الصلدة أي “ملامسة الروح المكبلة في قيود الصور والرموز”.

    فالخيال تحليق في عالم الرؤى، يشبهه محمد خضير بإيكاروس الذي حلّق فوق السهل المغمور بمياه السيول والأمطار ليبث بلاغاته “من أرض شنعار مع طاقم تصوير مختص بريادة المجاهل البابلية وقراءة الرقم الطينية”، وبغية إيكاروس أن يحقق المهمتين اللتين جاء من أجلهما وهما: إكمال أرشيف أبيه ديدالوس، واللقاء بصديق يسكن أرض الطوفان البابلي “منظر مدهش يا أبي. غمرٌ عظيمٌ يغطي المزارع والبيوت والحظائر سدود مكسورة وقنوات مطمورة.. وأرى الآن خيمة صديقي امرانو الميساني على تلة تبرز وسط الطوفان أبحث عن مسطح جاف يصلح مهبطا لطائرتي أ تسمعني يا أبي؟ لن أعود إلى قاعدتي قبل إتمام مهمتي”.

    من التخييل ما هو حكاية ومنه ما هو قصة. أما التفريق بينهما فيراه محمد خضير كالتفريق بين طابور المتقاعدين وقطار النساء العائدات من النهر بأواني الماء.

    ووقف محمد خضير مع قطار القصة لا طابور الحكاية يقول “امتلئ بعذوبة القصص المتفرقة وراء جرف النهر، ويملؤني طابور المتقاعدين بالقرف والاحتقار والعجز عن مقاومة لعنة العيش الاستهلاكي”.

    ولعل أهم محصلات تنظير محمد خضير السردي للتخييل هو أن واقعية ماركيز السحرية غربت منذ نهاية القرن العشرين بعد أن طبق أسلوبها آفاق القارات كلها.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook
يعمل...
X