حكايات إنسانية للمخرج فِم فندرز حول العالم
خلافاته في هوليوود وعاطفته في طوكيو
Paris ,Texas هاري دين ستانتون في «باريس، تكساس« (رود موڤيز برودكشنز)
نُشر: 15:03-2 نوفمبر 2023 م ـ 18 ربيع الثاني 1445 هـ
TT
20الإقبال الحافل الذي حظي به المخرج الألماني فِم فندرز في مهرجان طوكيو السينمائي، الذي انتهت دورته الثالثة والستين يوم الأول من هذا الشهر، كانت مستحقة، كون فندرز أحد أفراد النخبة التي ما زالت توفر لهواة الفن السينمائي أعمالاً ترتفع بالمشاهد إلى آفاق مختلفة عما هو سائد في معظم الأحيان.
في الوقت ذاته، عمد المخرج الألماني في فيلمه الأخير «أيام تامّة» (Perfect Days) لتصوير حكاية يابانية بممثل ياباني وبتلقائية لا تغرّب فيها عن المجتمع الياباني وتفاصيله المُعاشة. «أيام تامّة» هو فيلم ياباني بلمسات مخرج أوروبي، وهو أفضل صنعاً من فيلم عبّاس كياروستمي «مثل واحد في الحب» (Like Someone in Love) الذي كان حققه سنة 2012 بتمويل فرنسي.
Wim Wenders ڤِم ڤندرز (آي أف سي).
بدايات
فِم فندرز (78 سنة) هو واحد من رعيل السبعينات عندما بزغت شمس جيل ألماني جديد من السينمائيين من بينهم رينر فرنر فاسبيندر وفولكر شلندروف وفرنر هرزوغ. ما سبق ذلك الجيل كان حضور خافت جداً للسينما اليابانية التي كانت منقسمة على جانبي الجدار الفاصل. فجأة، انتشرت أفلام هذه المجموعة التي اختلفت أساليبها باختلاف اهتماماتها. الطريق الذي شقّه فندرز كان أكثر الطرق هدوءاً في النبرة وشعرية في جمالياته.
ربما لهذا السبب أنجز فندرز النجاح الأعلى بين أترابه، ففي حين اتجه هرزوغ صوب السينما التسجيلية أساساً، وعمد فاسبيندر لتلك الأفلام الغارقة في ألمانيّتها واختار شنلدروف مواضيع مختلفة بأساليب متعددة، رمى فندرز شباكه حول أعمال مرهفة وغير حادّة وجيدة (رغم وجود أعمال له لا تحمل المستوى ذاته من الجودة كأفلامه الأخرى).
خلفية فندرز بدأت تلفزيونية وفي سلسلة من الأفلام القصيرة التي دامت حتى عام 1971 عندما أخرج «صيف في المدينة». هذا الفيلم دنماركي الإنتاج ودار حول رجل يخرج من السجن ليجد نفسه وقد بات جوّالاً في أنحاء حياة تختلف اليوم عما كانت عليه قبل دخوله السجن.
Perfect Days «أيام تامّة» (ماستر مايند).
تلا ذلك بضعة أعمال ألمانية الموضوع والإنتاج لكنه في العام سجل أول لفت انتباه إلى موهبته عندما أخرج «ملوك الطريق» سنة 1976 الذي كان، فعلياً، الفيلم الثالث في ثلاثية تقع قصصها على الطرق («رود موفيز») بعد «أليس في المدن» (1974) و«الحركة الخطأ» (The Wrong Move) سنة 1975.
في عام 1977 حقق فيلماً صوّره في برلين بعنوان «الصديق الأميركي» (The American Friend) عن رواية بوليسية لباتريشا هايسميث. قصّة الفيلم مثيرة بحد ذاتها لكن القصّة خلف الكاميرا لا تقل إثارة. على الشاشة هي حكاية قاتل مأجور (دنيس هوبر) يقنع صانع إطارات الصور الفوتوغرافية (برونو غانز) بالقيام بالاغتيالات التي من المفروض أن يقوم بها هو. يتمنّع الرجل البريء عن ارتكاب الجريمة لكنه في النهاية يصبح شريكاً فيها.
خلف الكاميرا تعارك الاثنان في الأيام الأولى من التصوير. كان هوبر قد تأخر عن الحضور كونه كان منشغلاً بتصوير فيلم فرنسيس فورد كوبولا «القيامة الآن». يقول فندرز عنه: «حين هبط من الطائرة كان لا يزال في ثياب المصوّر حسب دوره في فيلم كوبولا».
حينها (سنة 1977) كان هوبر مدمناً على الشرب والحشيش وكان يمضي الوقت قبل التصوير في هذيانه لكن، وبشهادة فندرز، حال يبدأ التصوير ينقلب إلى محترف واعٍ. رغم ذلك، شكا غانز من أن هوبر ليس مهنياً واحتقر طريقته في التحضير للمشهد وعدم مبالاته باتباع تكنيك حرفي صحيح. ثم ما لبثت الشكوى، في أحد الأيام، أن أصبحت عداوة، والعداوة تحوّلت إلى شجار لكم فيه غانز هوبر على خده فما كان من هوبر إلا أن لكمه على فمه. حسب المخرج أيضاً، ساد وئام حذر.
عجيب كيف أن لا شيء من هذه العداوة تتبدى على الشاشة. الفيلم من بين تلك الأفلام الجيدة في عداد ما حققه فندرز ومشغول بدراية وإتقان لا بأس بهما.
مشاكل مع كوبولا
بعد عام واحد، حط المخرج في هوليوود ليخرج هناك فيلم شبه سيرة حياة الكاتب البوليسي داشل هامِت. الفيلم كان من إنتاج كوبولا وبطولة الراحل، قبل حين قريب، فردريك فورست (أحد الممثلين الذين استعان بهم كوبولا في أفلامه).
بدأ التحضير للفيلم سنة 1978 ومر بفترة تحضير طويلة. العلاقة بين كوبولا وفندرز كانت أشبه بسفينة جانحة قد تصطدم بصخور الشاطئ في أي وقت، وقد حدث ذلك من يوم التصوير الأول عندما عاين كوبولا المشاهد التي تم تصويرها وأعلن أنه غير سعيد بها. لاحقاً ما طلب من فندرز إعادة تصوير الفيلم بأكمله. لأسباب لها علاقة بالعقد المبرم، كان لا بد للمخرج الألماني تنفيذ الطلب، ولاحقاً ما تبيّن أن الفيلم، الذي حمل اسم فندرز مخرجاً، لم يحتوِ إلَّا على ثلث المشاهد الأصلية التي قام فندرز بتصويرها. الباقي كان إعادة تصوير حسب رؤية كوبولا للفيلم.
في 1982، العام الذي خرج فيه «هامِت» لعروضه العالمية بعد «برميير» على شاشة مهرجان «كان»، أنجز فندرز فيلماً آخر كان كتبه خلال الفترة الفاصلة بين َ«صديق أميركي» و«هامِت» وهو «حال الأشياء» (The State of Thins). من الطريف أن الفيلم دار عن صعوبة العمل لمخرج أوروبي مع منتج أميركي ومع هوليوود كمؤسسة.
الفيلم الأميركي الثالث كان أفضل أفلام تلك الفترة وحققه فندرز حسب هواه وتبعاً لرؤيته الذاتية. كان انكب على كتابة سيناريو بعنوان «باريس، تكساس» ثم انطلق إلى صحراء الولاية بفريق من الفنيين الأوروبيين كونه أراد الاستغناء عن النظام الاستديوهاتي، الذي لم يكن يطيقه. عندما قام أحد الاتحادات الأميركية بلفت انتباه المخرج بأن بعض فنييه ليسوا من النقابة ولا يتمتعون بأذونات عمل انضم إليها كون ذلك سيتيح له استئجار خدمات من يريد.
هذا الفيلم دراما عائلية تقع أحداثها في مدينتين (هيوستن، وتكساس ولوس أنجليس، وكاليفورنيا) وفي صحراء تكساسية عند الحدود مع المكسيك. الحبكة ذات اهتمام إنساني اختار لها فندرز أماكن تصوير وبطريقة تعبير منحته جائزة مهرجان «كان» سنة 1984. قصّة رجل اسمه ترافيز (هاري دين ستانتن) يغيب عن الوعي. يجد الطبيب المعالج (المخرج الألماني برنارد ويكي) رقم شقيق مريضه وولت (دين ستوكوَل) فيتّصل به وهذا يحضر. الستارة هنا تفتح على خلفية أحداث عائلية وعاطفية توضح حال ترافيز الذي نشاهده، في مشهد لاحق، وهو يمشي في الصحراء بخطى واثقة ولو أنه لا يعرف وجهته.
تحيتان
بعد هذا الفيلم تابع فِم فندرز تحقيق أفلام انتقل لأجلها ما بين ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا واليابان التي حقق فيها فيلمين وليس فيلماً واحداً كما قد يتبادر للبعض. فهو ككان أخرج Tokyo-Ga سنة 1985 متّكلاً على إعجابه بأعمال المخرج الياباني ياسوجيرو أوزو الذي تفنن في تصوير شخصياته الهادئة التي يطل منها على حياة المدن اليابانية في تعليقات اجتماعية حول اختلاف الأجيال وتواري ثقافة التقاليد السابقة.
فيلم فندرز دار حوله، وهو يبحث عن تلك المعالم في سينما أوزو. كان ذلك تعبيراً عن حب المخرج الألماني للمخرج الياباني وهو حب يشاركه فيه رهط كبير من أهل السينما والنقد. لكن في فيلمه الجديد «أيام تامّة» هو رسالة حب لشخص خيالي ومن خلاله رسالة يقوم بحفرها في ذات بطله في طوكيو لكن بسمات إنسانية عالمية.
فيلمه حول عامل تنظيف المراحيض العامّة في المدينة اسمه هيراياما (كوجي باكوشو)، يستيقظ كل صباح بانشراح. يركب سيارته البيك أب ويقود سيارته إلى حيث سيعمل. في طريقه يستمع لأغاني الصول ميوزيك والروك أند رول الكلاسيكية حتى وإن لم يفهم كلماتها. كلما صعد حافلته لينتقل من مكان لآخر وضع شريطاً واستمع وغنى. لن يؤثر عليه سلباً نوع عمله ولا وضعه الاجتماعي، الذي يبدو كما لو أنه لن يتغيّر. بذلك هناك تلك الصورة الإنسانية المختلفة. لا يطلب منك أن تتطوّع وتصبح هيراياما آخر، لكنه يقدّمه لك لكي تدرك أن الحياة قد تكون جميلة حتى وإن كان المرء في قاعها. ليست جميلة بذاتها، بل بذات ذلك الشخص الذي ينجح في تحويل عمله إلى جزء من الحياة وليس كل الحياة.
في «أيام تامّة» ليس هناك من تحية مباشرة لسينما ياسوجيرو أوزو، على ذلك يتوسّم المشاهد أن متابعة الحياة اليومية لرجل بسيط وسعيد هو من بعض ملامح المخرج الياباني من حيث رصده لعالم الناس العاديين ومنحهم الضوء الكافي للنظر في دواخلهم. الاختلاف هو أن بطل فِم فندرز إنسان قنوع سيبقى على هذه القناعة مستقبلاً الحياة كما هي.
جوائز نالها فندرز عن أفلامه
نال فِم فندرز أكثر من 90 جائزة من مؤسسات ومهرجانات وجمعيات نقدية. هذه مجرد عيّنات منها.
الاتحاد الأوروبي (2011) عن فيلمه Pina
برلين (2015): جائزة شرف عن مجمل أعماله
سان سابستيان (2017) عن فيلمه The Salt of the Earth
سيزار (2015): جائزة أفضل فيلم تسجيلي عن The Salt of the Earth
كان (2023): جائزة السعفة الذهبية عن Perfect Days
لوكارنو (2005): جائزة شرف عن مجمل أعماله.
فينيسيا (1982) الأسد الذهبي عن The State of Things
خلافاته في هوليوود وعاطفته في طوكيو
Paris ,Texas هاري دين ستانتون في «باريس، تكساس« (رود موڤيز برودكشنز)
- هوليوود: محمد رُضا
نُشر: 15:03-2 نوفمبر 2023 م ـ 18 ربيع الثاني 1445 هـ
TT
20الإقبال الحافل الذي حظي به المخرج الألماني فِم فندرز في مهرجان طوكيو السينمائي، الذي انتهت دورته الثالثة والستين يوم الأول من هذا الشهر، كانت مستحقة، كون فندرز أحد أفراد النخبة التي ما زالت توفر لهواة الفن السينمائي أعمالاً ترتفع بالمشاهد إلى آفاق مختلفة عما هو سائد في معظم الأحيان.
في الوقت ذاته، عمد المخرج الألماني في فيلمه الأخير «أيام تامّة» (Perfect Days) لتصوير حكاية يابانية بممثل ياباني وبتلقائية لا تغرّب فيها عن المجتمع الياباني وتفاصيله المُعاشة. «أيام تامّة» هو فيلم ياباني بلمسات مخرج أوروبي، وهو أفضل صنعاً من فيلم عبّاس كياروستمي «مثل واحد في الحب» (Like Someone in Love) الذي كان حققه سنة 2012 بتمويل فرنسي.
Wim Wenders ڤِم ڤندرز (آي أف سي).
بدايات
فِم فندرز (78 سنة) هو واحد من رعيل السبعينات عندما بزغت شمس جيل ألماني جديد من السينمائيين من بينهم رينر فرنر فاسبيندر وفولكر شلندروف وفرنر هرزوغ. ما سبق ذلك الجيل كان حضور خافت جداً للسينما اليابانية التي كانت منقسمة على جانبي الجدار الفاصل. فجأة، انتشرت أفلام هذه المجموعة التي اختلفت أساليبها باختلاف اهتماماتها. الطريق الذي شقّه فندرز كان أكثر الطرق هدوءاً في النبرة وشعرية في جمالياته.
ربما لهذا السبب أنجز فندرز النجاح الأعلى بين أترابه، ففي حين اتجه هرزوغ صوب السينما التسجيلية أساساً، وعمد فاسبيندر لتلك الأفلام الغارقة في ألمانيّتها واختار شنلدروف مواضيع مختلفة بأساليب متعددة، رمى فندرز شباكه حول أعمال مرهفة وغير حادّة وجيدة (رغم وجود أعمال له لا تحمل المستوى ذاته من الجودة كأفلامه الأخرى).
خلفية فندرز بدأت تلفزيونية وفي سلسلة من الأفلام القصيرة التي دامت حتى عام 1971 عندما أخرج «صيف في المدينة». هذا الفيلم دنماركي الإنتاج ودار حول رجل يخرج من السجن ليجد نفسه وقد بات جوّالاً في أنحاء حياة تختلف اليوم عما كانت عليه قبل دخوله السجن.
Perfect Days «أيام تامّة» (ماستر مايند).
تلا ذلك بضعة أعمال ألمانية الموضوع والإنتاج لكنه في العام سجل أول لفت انتباه إلى موهبته عندما أخرج «ملوك الطريق» سنة 1976 الذي كان، فعلياً، الفيلم الثالث في ثلاثية تقع قصصها على الطرق («رود موفيز») بعد «أليس في المدن» (1974) و«الحركة الخطأ» (The Wrong Move) سنة 1975.
في عام 1977 حقق فيلماً صوّره في برلين بعنوان «الصديق الأميركي» (The American Friend) عن رواية بوليسية لباتريشا هايسميث. قصّة الفيلم مثيرة بحد ذاتها لكن القصّة خلف الكاميرا لا تقل إثارة. على الشاشة هي حكاية قاتل مأجور (دنيس هوبر) يقنع صانع إطارات الصور الفوتوغرافية (برونو غانز) بالقيام بالاغتيالات التي من المفروض أن يقوم بها هو. يتمنّع الرجل البريء عن ارتكاب الجريمة لكنه في النهاية يصبح شريكاً فيها.
خلف الكاميرا تعارك الاثنان في الأيام الأولى من التصوير. كان هوبر قد تأخر عن الحضور كونه كان منشغلاً بتصوير فيلم فرنسيس فورد كوبولا «القيامة الآن». يقول فندرز عنه: «حين هبط من الطائرة كان لا يزال في ثياب المصوّر حسب دوره في فيلم كوبولا».
حينها (سنة 1977) كان هوبر مدمناً على الشرب والحشيش وكان يمضي الوقت قبل التصوير في هذيانه لكن، وبشهادة فندرز، حال يبدأ التصوير ينقلب إلى محترف واعٍ. رغم ذلك، شكا غانز من أن هوبر ليس مهنياً واحتقر طريقته في التحضير للمشهد وعدم مبالاته باتباع تكنيك حرفي صحيح. ثم ما لبثت الشكوى، في أحد الأيام، أن أصبحت عداوة، والعداوة تحوّلت إلى شجار لكم فيه غانز هوبر على خده فما كان من هوبر إلا أن لكمه على فمه. حسب المخرج أيضاً، ساد وئام حذر.
عجيب كيف أن لا شيء من هذه العداوة تتبدى على الشاشة. الفيلم من بين تلك الأفلام الجيدة في عداد ما حققه فندرز ومشغول بدراية وإتقان لا بأس بهما.
مشاكل مع كوبولا
بعد عام واحد، حط المخرج في هوليوود ليخرج هناك فيلم شبه سيرة حياة الكاتب البوليسي داشل هامِت. الفيلم كان من إنتاج كوبولا وبطولة الراحل، قبل حين قريب، فردريك فورست (أحد الممثلين الذين استعان بهم كوبولا في أفلامه).
بدأ التحضير للفيلم سنة 1978 ومر بفترة تحضير طويلة. العلاقة بين كوبولا وفندرز كانت أشبه بسفينة جانحة قد تصطدم بصخور الشاطئ في أي وقت، وقد حدث ذلك من يوم التصوير الأول عندما عاين كوبولا المشاهد التي تم تصويرها وأعلن أنه غير سعيد بها. لاحقاً ما طلب من فندرز إعادة تصوير الفيلم بأكمله. لأسباب لها علاقة بالعقد المبرم، كان لا بد للمخرج الألماني تنفيذ الطلب، ولاحقاً ما تبيّن أن الفيلم، الذي حمل اسم فندرز مخرجاً، لم يحتوِ إلَّا على ثلث المشاهد الأصلية التي قام فندرز بتصويرها. الباقي كان إعادة تصوير حسب رؤية كوبولا للفيلم.
في 1982، العام الذي خرج فيه «هامِت» لعروضه العالمية بعد «برميير» على شاشة مهرجان «كان»، أنجز فندرز فيلماً آخر كان كتبه خلال الفترة الفاصلة بين َ«صديق أميركي» و«هامِت» وهو «حال الأشياء» (The State of Thins). من الطريف أن الفيلم دار عن صعوبة العمل لمخرج أوروبي مع منتج أميركي ومع هوليوود كمؤسسة.
الفيلم الأميركي الثالث كان أفضل أفلام تلك الفترة وحققه فندرز حسب هواه وتبعاً لرؤيته الذاتية. كان انكب على كتابة سيناريو بعنوان «باريس، تكساس» ثم انطلق إلى صحراء الولاية بفريق من الفنيين الأوروبيين كونه أراد الاستغناء عن النظام الاستديوهاتي، الذي لم يكن يطيقه. عندما قام أحد الاتحادات الأميركية بلفت انتباه المخرج بأن بعض فنييه ليسوا من النقابة ولا يتمتعون بأذونات عمل انضم إليها كون ذلك سيتيح له استئجار خدمات من يريد.
هذا الفيلم دراما عائلية تقع أحداثها في مدينتين (هيوستن، وتكساس ولوس أنجليس، وكاليفورنيا) وفي صحراء تكساسية عند الحدود مع المكسيك. الحبكة ذات اهتمام إنساني اختار لها فندرز أماكن تصوير وبطريقة تعبير منحته جائزة مهرجان «كان» سنة 1984. قصّة رجل اسمه ترافيز (هاري دين ستانتن) يغيب عن الوعي. يجد الطبيب المعالج (المخرج الألماني برنارد ويكي) رقم شقيق مريضه وولت (دين ستوكوَل) فيتّصل به وهذا يحضر. الستارة هنا تفتح على خلفية أحداث عائلية وعاطفية توضح حال ترافيز الذي نشاهده، في مشهد لاحق، وهو يمشي في الصحراء بخطى واثقة ولو أنه لا يعرف وجهته.
تحيتان
بعد هذا الفيلم تابع فِم فندرز تحقيق أفلام انتقل لأجلها ما بين ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا واليابان التي حقق فيها فيلمين وليس فيلماً واحداً كما قد يتبادر للبعض. فهو ككان أخرج Tokyo-Ga سنة 1985 متّكلاً على إعجابه بأعمال المخرج الياباني ياسوجيرو أوزو الذي تفنن في تصوير شخصياته الهادئة التي يطل منها على حياة المدن اليابانية في تعليقات اجتماعية حول اختلاف الأجيال وتواري ثقافة التقاليد السابقة.
فيلم فندرز دار حوله، وهو يبحث عن تلك المعالم في سينما أوزو. كان ذلك تعبيراً عن حب المخرج الألماني للمخرج الياباني وهو حب يشاركه فيه رهط كبير من أهل السينما والنقد. لكن في فيلمه الجديد «أيام تامّة» هو رسالة حب لشخص خيالي ومن خلاله رسالة يقوم بحفرها في ذات بطله في طوكيو لكن بسمات إنسانية عالمية.
فيلمه حول عامل تنظيف المراحيض العامّة في المدينة اسمه هيراياما (كوجي باكوشو)، يستيقظ كل صباح بانشراح. يركب سيارته البيك أب ويقود سيارته إلى حيث سيعمل. في طريقه يستمع لأغاني الصول ميوزيك والروك أند رول الكلاسيكية حتى وإن لم يفهم كلماتها. كلما صعد حافلته لينتقل من مكان لآخر وضع شريطاً واستمع وغنى. لن يؤثر عليه سلباً نوع عمله ولا وضعه الاجتماعي، الذي يبدو كما لو أنه لن يتغيّر. بذلك هناك تلك الصورة الإنسانية المختلفة. لا يطلب منك أن تتطوّع وتصبح هيراياما آخر، لكنه يقدّمه لك لكي تدرك أن الحياة قد تكون جميلة حتى وإن كان المرء في قاعها. ليست جميلة بذاتها، بل بذات ذلك الشخص الذي ينجح في تحويل عمله إلى جزء من الحياة وليس كل الحياة.
في «أيام تامّة» ليس هناك من تحية مباشرة لسينما ياسوجيرو أوزو، على ذلك يتوسّم المشاهد أن متابعة الحياة اليومية لرجل بسيط وسعيد هو من بعض ملامح المخرج الياباني من حيث رصده لعالم الناس العاديين ومنحهم الضوء الكافي للنظر في دواخلهم. الاختلاف هو أن بطل فِم فندرز إنسان قنوع سيبقى على هذه القناعة مستقبلاً الحياة كما هي.
جوائز نالها فندرز عن أفلامه
نال فِم فندرز أكثر من 90 جائزة من مؤسسات ومهرجانات وجمعيات نقدية. هذه مجرد عيّنات منها.
الاتحاد الأوروبي (2011) عن فيلمه Pina
برلين (2015): جائزة شرف عن مجمل أعماله
سان سابستيان (2017) عن فيلمه The Salt of the Earth
سيزار (2015): جائزة أفضل فيلم تسجيلي عن The Salt of the Earth
كان (2023): جائزة السعفة الذهبية عن Perfect Days
لوكارنو (2005): جائزة شرف عن مجمل أعماله.
فينيسيا (1982) الأسد الذهبي عن The State of Things