ما الذي يجمع "إلياذة" هوميروس الإغريقي والحرب التي دارت في فيتنام
"أنشودة الحداد" يفكك علاقة البشر والشعر بالحرب.
السبت 2023/11/04
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الإلياذة قصة قائد وحكاية بطل
العلاقة بين الشعر والحروب علاقة وثيقة منذ القدم، حيث كان الشعر الطاقة الكبرى التي تواسي وترفع الحداد وتعلي من شأن الألم، كما كان وسط المعارك، لذا فالشعراء عايشوا الحروب بطرق مختلفة، ولعل أشهرهم الشاعر الإغريقي هوميروس وملحمته الخالدة “الإلياذة” التي تعبر عن كل الحروب.
تشكل الملحمة الشعرية “الإلياذة” التي تحكي قصة حرب طروادة وتعتبر مع الأوديسا أهم ملحمة شعرية إغريقية للشاعر هوميروس، محورا لكتاب جيمس تاتوم، أحد أبرز الباحثين الأميركيين المعاصرين في الدراسات الكلاسيكية، “أنشودة الحداد.. الحرب والتذكر من الإلياذة إلى فيتنام”.
يعالج تاتوم في كتابه، الصادر عن قسم الدراسات والنشر بدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، وترجمه وقدم له كامل يوسف حسين، موضوع الحرب من منظور تذكر ضحاياها، إذ ليس من المهم معرفة أين ومتى نشأت تلك الحرب، لأن كل الحروب تلتقي في سمة واحدة بارزة، وهي ظاهرة القسوة وتوالي سلسلة ذكرى من ماتوا في الحرب. وبالمثل فإن جميع أشكال الفنون تنشأ من تلك الحروب وتبدأ وتنتهي بالحداد وذكراه.
مواساة شعرية
الإلياذة تنتهي بالمزج بين شن الحرب وتخليد ذكراها، وتنهار المسافة الفاصلة بين المحاربين والمدنيين، بين الأحياء والموتى
في كتاب أنشودة الحداد يقدم الكاتب حديثا واضح المعالم لذكريات طبيعية وأدبية في الفترة التي أعقبت الحرب من ذكرى محاربي فيتنام إلى كتابات ستيفن جرين – آدموند ويلسون، تيم أوبريان وروبرت لوويل. وسيلة الاختيار التي اتبعها تاتوم هي الإلياذة، إذ إنها ليست فقط واحدة من أقدم القصائد التي أنشدت في شأن الحرب، ولكنها أيضا من أقوى النماذج التي تؤكد أن الشعر يمكن أن يكون إضافة حقيقية للتعبير عن المواساة لما يحدث في الحرب من خسائر وغيرها. ويكشف تاتوم عن إمكانية تحول ما خلفته الحرب من حزن وحداد ومرارات إلى ذكريات.
يؤكد تاتوم أنه ما من شيء أكثر أهمية بالنسبة إلى معالجة هوميروس والفنون سليلة الحروب من العودة إلى التفكير في الخسارة والحرمان بفعل الموت والحداد، وهما الشيئان اللذان نعرفهما في الحياة عن كثب. إن عاجلا أو آجلا، وربما نتعلمهما حق التعلم من خلال الحرب، ويكشف كيف تناولت “الإلياذة” الموت والحداد، فالشعر الذي تقدمه هو العزاء الوحيد الذي يبقى. وهوميروس يجد المعنى في حربه. مثلما سيجد الشعراء اللاحقون المعاني في حروبهم من خلال الانتقال من اللحظة الراهنة إلى نقاط أخرى في الزمن. ووضع الـ”هنا” والآن جنبا إلى جانب مع الماضي والمستقبل. وهذا التطلع إلى لحظة بعيدة يمنح الإلياذة بعضا من أكثر أبياتها إلهاما.
والتفكير في الحرب مع هوميروس يعني تعلم المقارنة والمقابلة. ويصل الأمر إلى أنه يبدو من الطبيعي مد نطاق خيالنا إلى ما يتجاوز “الإلياذة”، إلى حروب أخرى وشعراء آخرين. وكما يذهب الباحث النفسي والناشط المناهض للحرب جوناثان شاي إلى القول إنه لو كان أخيليوس في فيتنام لكان أيضا في أوكيناوا وباتري فاجنر والسوم. وهذا الدافع إلى رصد الصلات بين الحرب في طروادة والحروب اللاحقة يستمد إلهامه من قصة الإلياذة وشعرها.
ويكشف كيف يظهر موتى حرب طروادة عند بداية الإلياذة ولا يبتعدون عنا بعد ذلك قط. مبرزا أن كتابه هذا يسترشد بقصة الإلياذة عند كل منعطف. يبدأ وينتهي بالمحاربين ونصبهم التذكارية وأناشيدهم. ويؤكد أنه “ليس بالشيء العظيم أن ننتبه إلى مثل هذا التخطيط المفعم بالجهامة، فالحداد والنصب التذكارية هي أمور تنشغل بها أزمنتنا، حيث إننا بين يدي جيل لاحق للحرب، وهو أيضا جيل سابق للحرب. ونحن نفكر في الحروب من خلال من يلزمون الحداد على موتاها ونصبها التذكارية، شأن أي عصر سبق وهذا الدافع إلى التذكر هو منطلق هذا الكتاب”.
ويقول تاتوم “تعد أكثر بقاء وصمودا من أي نصب تذكاري الأناشيد التي تم إبداعها من خلال الإلهام المستمدة من ربات الفنون، بنات ميموري وزيوس. والكلمة الثالثة في الإلياذة هي ‘ثيا’ الربة التي يناشدها هوميروس أن تغني عن غضبة أخيليوس، ولكنها هي وأخواتها ربات الفن يتعرضن للإهمال في التقويمات الحديثة لكل من قصيدة هوميروس والنصب التذكارية بشكل عام. وربات الفن هن الإلهام الحق لمن يمضون على درب الحداد عبر الشعر”.
في كتاب أنشودة الحداد يقدم الكاتب حديثا واضح المعالم لذكريات طبيعية وأدبية في الفترة التي أعقبت الحرب
ويبين أنه إذا قرأت الإلياذة باعتبارها شعرا، فإنها تبدو شذرة من حربها، هي في الوقت نفسه تبدو كما لو كانت تقول كل ما يمكن قوله عن الحرب. وهذا الإدماج للعديد من القصص هو أحد أقوى تأثيرات شعرها. وإحدى المواهب العديدة التي تتمتع بها ربات الفن. ومع مصرع باتروكلوس وهيكتور والطقوس الجنائزية التي تنهي القصيدة. ومع دنو مصرع أخيليوس وسقوط طروادة، فإن حرب الإلياذة غير المنتهية تظل وشيكة ومفعمة بالوعيد دوما. ومن يعرفون الإلياذة لا يملكون إلا أن يتساءلوا عما إذا لم تكن حبكتها أيضا توقعا لحربهم الخاصة”.
ويشير تاتوم إلى أن غضبة أخيليوس تأخذنا إلى ما وصفه المؤرخ جيرالد ليندرمان بالعالم داخل الحرب وتخلي المحاربين عن عدم قابليتهم للانجراح والعطب والهلاك، فتصبح مقولة “هذا لا يمكن أن يحدث لي” هي بالضرورة “هنا يمكن أن يحدث لي”. والشجار بين أجاممنون وأخيليوس وكل عواقبه يشكل مثالا بارزا على الافتقار إلى الكفاءة العسكرية عند أعلى مستويات القيادة. وفي النهاية فإن دعوة أجاممنون ستسود وطروادة ستسقط. ولذلك السبب وحده فإن الإلياذة كانت على الدوام قصة قائد بقدر ما كانت حكاية بطل. وهي في هذا الشأن تعد مقدمة لمذكرات أوليس س ـ جرانت. ويقدم كل من هوميروس وجرانت لنا رؤية متعمقة لما أسماه جون كيجان “قناع القيادة”.
ويتابع الكاتب أن شجارات القادة تجيء وتمضي وتستأنف الحرب، تخاض غمارها أمام أسوار طروادة، عند بعض المنعطفات، ولكن غالبا أمام جدار دفاعي عظيم أقامه الآخيون للدفاع عن أنفسهم بعد انسحاب أخيليوس، أفضل الآخيين، إلى خيمته وقد ضايقت هذه الحكاية، في وقت من الأوقات، منتقدي هوميروس الأكثر اتساما بالذهنية الحرفية، لقلبها غير المحتمل للترتيب الزمني.
دع جانبا تكتيكاتها السيئة، لماذا يلجأ الإغريق إلى بناء جدار دفاعي بعد عشر سنوات من الحرب؟ إنه سؤال عملي من شأن أي مخطط إستراتيجي، وليس شاعرا، أن يطرحه ولسوف يبرهن موقع الحرب الذي يتصارع عليه الرجال على أنه ريع الزوال. تماما كالحيوانات التي تفقد في غمار الحرب ذاتها، وحتى فيما يعكف الرجال على تشييد الجدار، فإننا نعرف مستقبلا لا يستطيع الإغراق بعد أن يعرفوه، فما إن تسقط طروادة ويبحروا مبتعدين حتى يدمر جدار الآخيين على يد الإلهين المفعمين بالرغبة في الانتقام، أبوللون وبوسيدون. وفي مواجهة الطبيعة اللامبالية وتخريب الزمن المنقضي يولد الدافع إلى الحفاظ على ذكريات موتى الحرب حيثما وعلى نحو أمكن القيام بذلك.
نصب تذكاري
يلفت إلى أنه كلما أوغلنا إلى قلب الإلياذة، والذي ليس من قبيل الصدفة أنه قلب الحرب ذاتها، أدركنا بالمزيد من الجلاء أن هناك اتجاهين متباينين يمكن أن يمضي فيهما حب البشر، وأن الإلياذة تنسجهما معا، هما حب من في البيت وحب من في الحرب. وهناك تقارب بين البيت وميدان المعركة، تقابل بين هذين الحبين، في باتروكلوس، رفيق أخيليوس المحبوب وأندرومانخي، زوجة هيكتور، ونحن نرى الحب والحنين الإنسانيين في تواز مرتبط بالحرب، حب المحارب في بيته، وحبه في الميدان، ويصل الناجيان أخيليوس وأندرومانخي، في غمار حزنهما، إلى مستوى من البؤس لا يعود من الممكن عنده التمييز بين المحارب المفعم بالبطولة والأم التي ترملت وستغدو من الرقيق في المستقبل.
لو أن هذا الحب تم فهمه بصورة كاملة قبل أن يضيع في غمار الحرب مثلما يفهم غالبا بعدها، ترى هل تغدو الحرب أقل شعبية؟ يشير الشعراء إلى أن ذلك لا يحدث أبدا، ففي غمار الحرب يصبح من المستحيل فصل الحب عن الكره أو القتل. وهذه النزعات المتطرفة لعاطفة البشر متداخلة ومستعصية على إمكانية الفصل فيما بينها، وبصفة خاصة عند الشخصيات المحورية التي تخوض غمار معارك القصيدة، وعلى وجه التقريب يكرس أكثر من نصف أبيات الإلياذة البالغة سبعة عشر ألف بيت لمشاهد المعارك. وتعكس هذه الأبعاد الطاقات الفعلية للحرب ذاتها ويتم تشكيل الضراوة التي تدفع هذه المشاهد الوحشية قدما بلا هوادة من خلال الحب ذاته، الذي ينظر إليه خيال زمن الحب حليف الحرب وخصمها في آن.
ويوضح تاتوم أن الإلياذة تنتهي بالمزج بين شن الحرب وتخليد ذكراها، وتنهار المسافة الفاصلة بين المحاربين والمدنيين، بين الأحياء والموتى، وتتهاوى كذلك الأفكار المتفائلة عن الحرب والسلام، والذكرى التي تبقى في أذهاننا عن نهاية “الإلياذة” ليست ذكرى السقوط الوشيك لطروادة فحسب، أو انتصار أجاممنون أو حتى أخيليوس وموته الآخذ في الدنو، وإنما هي ذكرى مقبرة هيكتور ودفنه. والخطب الختامية التي تقيمها أمه وزوجته وهيليني. فيما كل منهن تلزم الحداد عليه بطريقتها الخاصة، وتتوقف الإلياذة عندما تغدو ألوان دمار الحرب جلية، ومع ذلك فإننا يساورنا إحساس واضح بأن المزيد من الفظاعات توشك أن تحل. ومقابلة القصيدة بين الحزن الفردي والحداد الجماعي تأخذ بمجامع القلب، وتظل التساؤلات عن أسباب الحرب ومبرراتها بلا جواب في نهاية الإلياذة مثلما كانت في بدايتها.
كلما أوغلنا إلى قلب الإلياذة، أدركنا بالمزيد من الجلاء أن هناك اتجاهين متباينين يمكن أن يمضي فيهما حب البشر
ويضيف “إذا كان النصب التذكاري المقام في واشنطن ليس إلا واحدا من أمثلة لا حصر لها على دور القوة في التاريخ الإنساني، لقد بدت لي الإلياذة لدى قراءتها كقصيدة بمثابة نصب تذكاري، بمعنى يكون حرفيا، نصب متشبع بالحرب وعواقبها من البيت الأول إلى البيت الأخير، بدت ترسم مسار أي حرب وليس الحرب التي دارت في فيتنام فحسب. وأصبحت قصيدة تمضي في إثر المسيرة المنطلقة بلا هوادة نحو النصب التذكارية، التي تنشدها كل الحروب الآن لموتاها”.
ويضيف “على الرغم من تصميم المعمارية مايا لين الذي انتزع الجائزة كان أولا وفي المقام الأول صرحا قوميا، وعلى الرغم من أنه لم يكن بعيدا عن الافتقار إلى النزعة الوطنية، فقد أكد الموت والفقدان إلى درجة لم يسبق لها مثيل في أي عمليات تخليد رسمية أميركية لذكرى الحرب. وشأن الإلياذة فإن النصب التذكاري لقدامى محاربي فيتنام يجعل من الحداد مقصده، وتصميمه يجتذبنا نزولا نحوه ويسحبنا إلى المستوى الذي يسحب إليه الملتزمون بالحداد في نهاية الإلياذة، فما يشترك فيه الناس في كل الحروب ليس الأسباب المتباينة بلا انتهاء لنشوبها، ولا معاركها وإنما الحداد على الموتى الذي يعقبها، وأحزان الحرب اليوم ليست بعيدة على الإطلاق عن الحداد عند طروادة وأناشيد الحداد فيها ليست بعيدة عن نظيرتها هناك”.
وينهي تاتوم كتابه بإغلاق دائرة الحداد التي تستهلها الإلياذة، وذلك بمرثية أوجوما هايديو التي تعود إلى عام 1937 لأسيرات كوريا الموغلات في العمر، التي تحمل عنوان “ليالي الخريف الطويلة، الطويلة”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
"أنشودة الحداد" يفكك علاقة البشر والشعر بالحرب.
السبت 2023/11/04
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الإلياذة قصة قائد وحكاية بطل
العلاقة بين الشعر والحروب علاقة وثيقة منذ القدم، حيث كان الشعر الطاقة الكبرى التي تواسي وترفع الحداد وتعلي من شأن الألم، كما كان وسط المعارك، لذا فالشعراء عايشوا الحروب بطرق مختلفة، ولعل أشهرهم الشاعر الإغريقي هوميروس وملحمته الخالدة “الإلياذة” التي تعبر عن كل الحروب.
تشكل الملحمة الشعرية “الإلياذة” التي تحكي قصة حرب طروادة وتعتبر مع الأوديسا أهم ملحمة شعرية إغريقية للشاعر هوميروس، محورا لكتاب جيمس تاتوم، أحد أبرز الباحثين الأميركيين المعاصرين في الدراسات الكلاسيكية، “أنشودة الحداد.. الحرب والتذكر من الإلياذة إلى فيتنام”.
يعالج تاتوم في كتابه، الصادر عن قسم الدراسات والنشر بدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، وترجمه وقدم له كامل يوسف حسين، موضوع الحرب من منظور تذكر ضحاياها، إذ ليس من المهم معرفة أين ومتى نشأت تلك الحرب، لأن كل الحروب تلتقي في سمة واحدة بارزة، وهي ظاهرة القسوة وتوالي سلسلة ذكرى من ماتوا في الحرب. وبالمثل فإن جميع أشكال الفنون تنشأ من تلك الحروب وتبدأ وتنتهي بالحداد وذكراه.
مواساة شعرية
الإلياذة تنتهي بالمزج بين شن الحرب وتخليد ذكراها، وتنهار المسافة الفاصلة بين المحاربين والمدنيين، بين الأحياء والموتى
في كتاب أنشودة الحداد يقدم الكاتب حديثا واضح المعالم لذكريات طبيعية وأدبية في الفترة التي أعقبت الحرب من ذكرى محاربي فيتنام إلى كتابات ستيفن جرين – آدموند ويلسون، تيم أوبريان وروبرت لوويل. وسيلة الاختيار التي اتبعها تاتوم هي الإلياذة، إذ إنها ليست فقط واحدة من أقدم القصائد التي أنشدت في شأن الحرب، ولكنها أيضا من أقوى النماذج التي تؤكد أن الشعر يمكن أن يكون إضافة حقيقية للتعبير عن المواساة لما يحدث في الحرب من خسائر وغيرها. ويكشف تاتوم عن إمكانية تحول ما خلفته الحرب من حزن وحداد ومرارات إلى ذكريات.
يؤكد تاتوم أنه ما من شيء أكثر أهمية بالنسبة إلى معالجة هوميروس والفنون سليلة الحروب من العودة إلى التفكير في الخسارة والحرمان بفعل الموت والحداد، وهما الشيئان اللذان نعرفهما في الحياة عن كثب. إن عاجلا أو آجلا، وربما نتعلمهما حق التعلم من خلال الحرب، ويكشف كيف تناولت “الإلياذة” الموت والحداد، فالشعر الذي تقدمه هو العزاء الوحيد الذي يبقى. وهوميروس يجد المعنى في حربه. مثلما سيجد الشعراء اللاحقون المعاني في حروبهم من خلال الانتقال من اللحظة الراهنة إلى نقاط أخرى في الزمن. ووضع الـ”هنا” والآن جنبا إلى جانب مع الماضي والمستقبل. وهذا التطلع إلى لحظة بعيدة يمنح الإلياذة بعضا من أكثر أبياتها إلهاما.
والتفكير في الحرب مع هوميروس يعني تعلم المقارنة والمقابلة. ويصل الأمر إلى أنه يبدو من الطبيعي مد نطاق خيالنا إلى ما يتجاوز “الإلياذة”، إلى حروب أخرى وشعراء آخرين. وكما يذهب الباحث النفسي والناشط المناهض للحرب جوناثان شاي إلى القول إنه لو كان أخيليوس في فيتنام لكان أيضا في أوكيناوا وباتري فاجنر والسوم. وهذا الدافع إلى رصد الصلات بين الحرب في طروادة والحروب اللاحقة يستمد إلهامه من قصة الإلياذة وشعرها.
ويكشف كيف يظهر موتى حرب طروادة عند بداية الإلياذة ولا يبتعدون عنا بعد ذلك قط. مبرزا أن كتابه هذا يسترشد بقصة الإلياذة عند كل منعطف. يبدأ وينتهي بالمحاربين ونصبهم التذكارية وأناشيدهم. ويؤكد أنه “ليس بالشيء العظيم أن ننتبه إلى مثل هذا التخطيط المفعم بالجهامة، فالحداد والنصب التذكارية هي أمور تنشغل بها أزمنتنا، حيث إننا بين يدي جيل لاحق للحرب، وهو أيضا جيل سابق للحرب. ونحن نفكر في الحروب من خلال من يلزمون الحداد على موتاها ونصبها التذكارية، شأن أي عصر سبق وهذا الدافع إلى التذكر هو منطلق هذا الكتاب”.
ويقول تاتوم “تعد أكثر بقاء وصمودا من أي نصب تذكاري الأناشيد التي تم إبداعها من خلال الإلهام المستمدة من ربات الفنون، بنات ميموري وزيوس. والكلمة الثالثة في الإلياذة هي ‘ثيا’ الربة التي يناشدها هوميروس أن تغني عن غضبة أخيليوس، ولكنها هي وأخواتها ربات الفن يتعرضن للإهمال في التقويمات الحديثة لكل من قصيدة هوميروس والنصب التذكارية بشكل عام. وربات الفن هن الإلهام الحق لمن يمضون على درب الحداد عبر الشعر”.
في كتاب أنشودة الحداد يقدم الكاتب حديثا واضح المعالم لذكريات طبيعية وأدبية في الفترة التي أعقبت الحرب
ويبين أنه إذا قرأت الإلياذة باعتبارها شعرا، فإنها تبدو شذرة من حربها، هي في الوقت نفسه تبدو كما لو كانت تقول كل ما يمكن قوله عن الحرب. وهذا الإدماج للعديد من القصص هو أحد أقوى تأثيرات شعرها. وإحدى المواهب العديدة التي تتمتع بها ربات الفن. ومع مصرع باتروكلوس وهيكتور والطقوس الجنائزية التي تنهي القصيدة. ومع دنو مصرع أخيليوس وسقوط طروادة، فإن حرب الإلياذة غير المنتهية تظل وشيكة ومفعمة بالوعيد دوما. ومن يعرفون الإلياذة لا يملكون إلا أن يتساءلوا عما إذا لم تكن حبكتها أيضا توقعا لحربهم الخاصة”.
ويشير تاتوم إلى أن غضبة أخيليوس تأخذنا إلى ما وصفه المؤرخ جيرالد ليندرمان بالعالم داخل الحرب وتخلي المحاربين عن عدم قابليتهم للانجراح والعطب والهلاك، فتصبح مقولة “هذا لا يمكن أن يحدث لي” هي بالضرورة “هنا يمكن أن يحدث لي”. والشجار بين أجاممنون وأخيليوس وكل عواقبه يشكل مثالا بارزا على الافتقار إلى الكفاءة العسكرية عند أعلى مستويات القيادة. وفي النهاية فإن دعوة أجاممنون ستسود وطروادة ستسقط. ولذلك السبب وحده فإن الإلياذة كانت على الدوام قصة قائد بقدر ما كانت حكاية بطل. وهي في هذا الشأن تعد مقدمة لمذكرات أوليس س ـ جرانت. ويقدم كل من هوميروس وجرانت لنا رؤية متعمقة لما أسماه جون كيجان “قناع القيادة”.
ويتابع الكاتب أن شجارات القادة تجيء وتمضي وتستأنف الحرب، تخاض غمارها أمام أسوار طروادة، عند بعض المنعطفات، ولكن غالبا أمام جدار دفاعي عظيم أقامه الآخيون للدفاع عن أنفسهم بعد انسحاب أخيليوس، أفضل الآخيين، إلى خيمته وقد ضايقت هذه الحكاية، في وقت من الأوقات، منتقدي هوميروس الأكثر اتساما بالذهنية الحرفية، لقلبها غير المحتمل للترتيب الزمني.
دع جانبا تكتيكاتها السيئة، لماذا يلجأ الإغريق إلى بناء جدار دفاعي بعد عشر سنوات من الحرب؟ إنه سؤال عملي من شأن أي مخطط إستراتيجي، وليس شاعرا، أن يطرحه ولسوف يبرهن موقع الحرب الذي يتصارع عليه الرجال على أنه ريع الزوال. تماما كالحيوانات التي تفقد في غمار الحرب ذاتها، وحتى فيما يعكف الرجال على تشييد الجدار، فإننا نعرف مستقبلا لا يستطيع الإغراق بعد أن يعرفوه، فما إن تسقط طروادة ويبحروا مبتعدين حتى يدمر جدار الآخيين على يد الإلهين المفعمين بالرغبة في الانتقام، أبوللون وبوسيدون. وفي مواجهة الطبيعة اللامبالية وتخريب الزمن المنقضي يولد الدافع إلى الحفاظ على ذكريات موتى الحرب حيثما وعلى نحو أمكن القيام بذلك.
نصب تذكاري
يلفت إلى أنه كلما أوغلنا إلى قلب الإلياذة، والذي ليس من قبيل الصدفة أنه قلب الحرب ذاتها، أدركنا بالمزيد من الجلاء أن هناك اتجاهين متباينين يمكن أن يمضي فيهما حب البشر، وأن الإلياذة تنسجهما معا، هما حب من في البيت وحب من في الحرب. وهناك تقارب بين البيت وميدان المعركة، تقابل بين هذين الحبين، في باتروكلوس، رفيق أخيليوس المحبوب وأندرومانخي، زوجة هيكتور، ونحن نرى الحب والحنين الإنسانيين في تواز مرتبط بالحرب، حب المحارب في بيته، وحبه في الميدان، ويصل الناجيان أخيليوس وأندرومانخي، في غمار حزنهما، إلى مستوى من البؤس لا يعود من الممكن عنده التمييز بين المحارب المفعم بالبطولة والأم التي ترملت وستغدو من الرقيق في المستقبل.
لو أن هذا الحب تم فهمه بصورة كاملة قبل أن يضيع في غمار الحرب مثلما يفهم غالبا بعدها، ترى هل تغدو الحرب أقل شعبية؟ يشير الشعراء إلى أن ذلك لا يحدث أبدا، ففي غمار الحرب يصبح من المستحيل فصل الحب عن الكره أو القتل. وهذه النزعات المتطرفة لعاطفة البشر متداخلة ومستعصية على إمكانية الفصل فيما بينها، وبصفة خاصة عند الشخصيات المحورية التي تخوض غمار معارك القصيدة، وعلى وجه التقريب يكرس أكثر من نصف أبيات الإلياذة البالغة سبعة عشر ألف بيت لمشاهد المعارك. وتعكس هذه الأبعاد الطاقات الفعلية للحرب ذاتها ويتم تشكيل الضراوة التي تدفع هذه المشاهد الوحشية قدما بلا هوادة من خلال الحب ذاته، الذي ينظر إليه خيال زمن الحب حليف الحرب وخصمها في آن.
ويوضح تاتوم أن الإلياذة تنتهي بالمزج بين شن الحرب وتخليد ذكراها، وتنهار المسافة الفاصلة بين المحاربين والمدنيين، بين الأحياء والموتى، وتتهاوى كذلك الأفكار المتفائلة عن الحرب والسلام، والذكرى التي تبقى في أذهاننا عن نهاية “الإلياذة” ليست ذكرى السقوط الوشيك لطروادة فحسب، أو انتصار أجاممنون أو حتى أخيليوس وموته الآخذ في الدنو، وإنما هي ذكرى مقبرة هيكتور ودفنه. والخطب الختامية التي تقيمها أمه وزوجته وهيليني. فيما كل منهن تلزم الحداد عليه بطريقتها الخاصة، وتتوقف الإلياذة عندما تغدو ألوان دمار الحرب جلية، ومع ذلك فإننا يساورنا إحساس واضح بأن المزيد من الفظاعات توشك أن تحل. ومقابلة القصيدة بين الحزن الفردي والحداد الجماعي تأخذ بمجامع القلب، وتظل التساؤلات عن أسباب الحرب ومبرراتها بلا جواب في نهاية الإلياذة مثلما كانت في بدايتها.
كلما أوغلنا إلى قلب الإلياذة، أدركنا بالمزيد من الجلاء أن هناك اتجاهين متباينين يمكن أن يمضي فيهما حب البشر
ويضيف “إذا كان النصب التذكاري المقام في واشنطن ليس إلا واحدا من أمثلة لا حصر لها على دور القوة في التاريخ الإنساني، لقد بدت لي الإلياذة لدى قراءتها كقصيدة بمثابة نصب تذكاري، بمعنى يكون حرفيا، نصب متشبع بالحرب وعواقبها من البيت الأول إلى البيت الأخير، بدت ترسم مسار أي حرب وليس الحرب التي دارت في فيتنام فحسب. وأصبحت قصيدة تمضي في إثر المسيرة المنطلقة بلا هوادة نحو النصب التذكارية، التي تنشدها كل الحروب الآن لموتاها”.
ويضيف “على الرغم من تصميم المعمارية مايا لين الذي انتزع الجائزة كان أولا وفي المقام الأول صرحا قوميا، وعلى الرغم من أنه لم يكن بعيدا عن الافتقار إلى النزعة الوطنية، فقد أكد الموت والفقدان إلى درجة لم يسبق لها مثيل في أي عمليات تخليد رسمية أميركية لذكرى الحرب. وشأن الإلياذة فإن النصب التذكاري لقدامى محاربي فيتنام يجعل من الحداد مقصده، وتصميمه يجتذبنا نزولا نحوه ويسحبنا إلى المستوى الذي يسحب إليه الملتزمون بالحداد في نهاية الإلياذة، فما يشترك فيه الناس في كل الحروب ليس الأسباب المتباينة بلا انتهاء لنشوبها، ولا معاركها وإنما الحداد على الموتى الذي يعقبها، وأحزان الحرب اليوم ليست بعيدة على الإطلاق عن الحداد عند طروادة وأناشيد الحداد فيها ليست بعيدة عن نظيرتها هناك”.
وينهي تاتوم كتابه بإغلاق دائرة الحداد التي تستهلها الإلياذة، وذلك بمرثية أوجوما هايديو التي تعود إلى عام 1937 لأسيرات كوريا الموغلات في العمر، التي تحمل عنوان “ليالي الخريف الطويلة، الطويلة”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي