Mohammed Dunia
٧ يناير ·
مقالات مترجمة
لغز الذاكرة
قلبت الدراسات الأحدث المفاهيم حول الذاكرة. ربما كانت ذكرياتنا ترتكز إلى خمس منظومات رئيسية لتخزين المعلومة، تشترك فيها بنى دماغية مختلفة. وهذا ما يستلزم تعديلاً كاملاً لاستراتيجيات التأهيل: لا تُدَرب الذاكرة مثلما تدرَّب العضلات…
كم من كتب، وجمعيات، ومواقع على الأنترنت تتبجح بقدرتها على مساعدتك في تحسين ذاكرتك! يقولون لك: قد تكون نائمة، ويجب إيقاظها. كيف؟ بجعلها تعمل، بكل بساطة. مع ذلك، أن تتذكر أسماء أشخاص معروفين، وألا تفلح في متابعة مجرى حديث أو أن تنسى مواعيدك هي مشكلات من طبيعة مختلفة يتطلب حلها استراتيجيات نوعية. وبالتالي، ليست ألعاب الذاكرة على شاشة تلفزيونية، ولا الأحجيات أو تعلم لوائح الكلمات هي التي يمكن أن تغير الوضع.
لا توجد طريقة عجائبية قادرة على مواجهة العيوب الذاكرية المتنوعة. " أما الإدعاء بأنه يجب تدريب الذاكرة مثلما تدرب العضلات، فذاك زعم أقرب إلى الشعوذة "، وفقاً لتأكيد " مرسيال فان دير ليندن "، M.V.D.Linden أستاذ علم النفس العصبي في جامعات " جنيف " و " لييج " (بلجيكا) و " لوفان " ( بلجيكا ) والمدير العلمي لمركز إعادة التصحيح العصبي النفسي في الـ CHU / لييج.
في الواقع، وصفت الذاكرة لزمن طويل على أنها كيان واحد متراص يعمل تقريباً على غرار عضلة. من جانب آخر، ألم يكونوا يتحدثون – ألا يتحدثون حتى الآن؟ – عن " ترويض الدماغ " أو عن الرياضة العقلية؟ واليوم، تنفي أحدث أعمال علم النفس العصبي هذا المفهوم الأولي بقوة: ربما كانت الذاكرة تتشكل من الكثير من المنظومات والمنظومات الفرعية المستقلة والمتآثرة، ذات الأسس الدماغية النوعية. ومن وجهة النظر هذه، تتخذ الاضطرابات الذاكرية طابعاً جديداً تقتضي تغييراً كاملاً لاستراتيجيات التأهيل.
حكايات تلك الفترة
كان الكندي " إندل تولفينغ " E.Tulving ، من جامعة " تورونتو "، قد أشار إلى وجود خمس منظومات ذاكرية رئيسية: الذاكرة العارضة épisodique ( ذاكرة الأحداث والوقائع التي تحدث بين حين وآخر )، والذاكرة الدلالية sémantique ، والذاكرة الإجرائية procédurale ، ومنظومات التصور الإدراكي représentation perceptive واكرة العمل.
برأي " تولفينغ "، تتيح الذاكرة الأولى اختزان ووعي وقائع معاشة شخصياً – " الثلاثاء الماضي تناولت وجبة الغداء مع أخي في مطعم صيني حيث كان الجو خانقاً ". إذن، قد تكون ذاكرتنا العارضة حاملة تاريخنا الفردي. وأيضاً، إذا ما أصيبت بأذية، أدت إلى فقدان الذاكرة ( النساوة ) amnésie.
أما الذاكرة الدلالية، فتفيد في اكتساب المعارف العامة حول العالم. ويرى بعض الباحثين أنه ربما كانت هذه الذاكرة مستقلة عن خبراتنا؛ ويقول آخرون إنها ليست كذلك. وبفضلها، على ما يبدو، نعرف أن مدريد هي عاصمة إسبانيا أو أن نلسون منديلا هو أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا، وأن السيرورة المطلوب اتباعها في المطعم هي الجلوس، وقراءة قائمة الطعام، والأكل، وطلب الحساب والدفع. عدا ذلك، ربما كانت الذاكرة الدلالية تنطوي على خارطة استعرافية cognitive للأماكن المعروفة – المدن، والأحياء، والمنازل… .
وعندما يكتب أمين السر نصاً على حاسوبه، تتوضع أصابعه آلياً على ملامس لوحة المفاتيح. كما أن القدم اليسرى للسائق المدرب تفصل الحركة تلقائياً عند كل تغيير للسرعة. ويرى " إندل تولفينغ " أن مثل هذه السيرورات تعزى إلى منظومة ذاكرية ثالثة: الذاكرة الإجرائية. ولما كانت لا تتأثر بالتعبير اللغوي، فإن المعارف المختزنة فيها ربما كانت ترتكز إلى حالات تعلم لا يمكن أن تتحقق إلا بالفعل action ويعبر عنها على شكل لياقات إدراكية جديدة ( التوصل إلى إمكان القراءة عبر المرآة مثلاً )، وحركية ( الجري على الدراجة )، أو استعرافية ( إنجاز بعض العمليات البسيطة الحسابية العقلية ). " يعي كبار الموسيقيين ما يؤدونه، لكنهم لا يعون طريقة هذا الأداء "، وفقاً لملاحظة " مرسيال فان دير ليندن ".
انطباعات عابرة
القطعة الرابعة من أحجية " إندل تولفينغ " هي منظومات التصور الإدراكي، التي تتمثل وظيفتها في خزن شكل وبنية الأشياء، والوجوه والكلمات، التي يقوم تجريدها على خاصياتها الدلالية، أي على مغزاها ( مدلولها ومعناها ).
وكالذاكرات العارضة، والدلالية، والإجرائية، تعنى منظومات التصور الإدراكي بالحفظ على الأمد البعيد. أما على المدى القصير، فربما كان الحفظ من اختصاص المنظومة الخامسة التي عرضها " تولفينغ ": ذاكرة العمل الشهيرة. ما هي مهمتها؟ الحفاظ وقتياً على كمية صغيرة من المعلومات تحت شكل سهل الإتاحة خلال إنجاز المهمات الاستعرافية المختلفة. وبدونها، يستحيل، أن نتابع حديثاً أو أن نقوم بحساب عقلي! وهكذا، عندما نجمع عددين ذهنياً، من الحتمي أن نتمكن من حفظهما في ذهننا عندما ننجز العمليات الاستعرافية التي يتطلبها الحساب الجاري.
وحسب رأي " ألن بادلي " A. Baddley، من قسم علم النفس في جامعة " بريستول "، فإن ذاكرة العمل، على غرار الذاكرة طويلة الأمد، ربما تكون خاضعة للعبة التشعيب والتفريع. ففي قمة الهرم، هناك مدير إداري مركزي، يوصف أيضاً بأنه ضابط إداري يقظ، ربما كان يتولى مهمات قائد الجوقة. ففي فرضية الحساب الذهني، مثلاً، يوجه سير العمليات. مع ذلك، وبسبب موارده المحدودة، قد لا يستطيع الإدارة والتخزين في آن معاً؛ عندئذ، يفوض أمره إلى منظومات تابعة تتولى عمليات التخزين المؤقت للمعلومة.
وفي الوقت الحاضر، لا ينطوي نموذج " برادلي " إلا على منظومتين من هذا النمط: المسجِّل الإبصاري – الحيزي visuo – spatial ، بالنسبة للصور العقلية، والدارة ( الحلقة ) الصواتية phonologique، بالنسبة للعناصر الصوتية. ولكن من المعقول أن تكون هنالك كيانات أخرى متعلقة مثلاً بالمعلومة الحركية.
في مقاربة " برادلي "، ربما كانت الحلقة الصواتية تنطوي على مكوِّنين: الخزن الصواتي، الذي يحتفظ بالأصوات – الوحدات الصوتية phonèmes التي تتركب منها الكلمات – لعدة ثوان في الذاكرة، وآلية الخلاصة الختامية التلفظية articulatoire récapitulation التي ربما كانت تعيد إدراج هذه العناصر أو الوحدات باستمرار كي تبقى متاحةً الوقتَ الضروري.
برهان بالنسيان
يتم تصديق مفهوم " الذاكرة المتعددة " mémoire multiple وإيضاح مكوناتها على أساس باثولوجي أساساً. وعلى نحو أدق، يرتكز إلى ملاحظة المرضى المصابين بآفات دماغية، الذين يدرس خبراء علم النفس العصبي حالات قصورهم وقدرات تعلمهم الباقية. وبشكل ما، يستثمرون أحداث الطبيعة من أجل دعم نماذجهم النظرية وإجراء أية تصحيحات محتملة فيها.
يهتم البروفسور " مرسيال فان دير ليندن " على نحو خاص بالنساويين amnésiques ، المصابين بفقدان ذاكرة شديد، الذين يعانون مما يسميه الاختصاصيون " نسيان بمقدار " oubli à mesure. يتعرض هؤلاء إلى نقص جسيم في الذاكرة العارضة، بنتيجة إصابة جمجمية، أو خرف تنكّسي، أو التهاب دماغي حلأي herpétique ، أو ورم، أو حادث وعائي دماغي، أو التهاب سحايا، أو أية أسباب أخرى، كالتسمم بأحادي أكسيد الكربون مثلاً. وهنالك مثال بسيط يوضح حالتهم بشكل تام. إذا قدمت لهم عدة وجبات بفاصل بضع دقائق بين الواحدة والأخرى، فإنهم لن يقولوا لك بأنهم لم يعودوا جائعين. لا، بل سيقولون لك: " لست جائعاً اليوم ". كما أن هؤلاء النساويين قادرون تماماً على المشاركة في الحديث. مع ذلك، بعد بضع عشرات من الثواني التي يكرسونها لنشاط آخر، يكونون قد فقدوا ذكرى محادِثِهم وما تبادلوه معه من موضوعات.
قدرات محفوظة
تقوم فرضية خبراء علم النفس العصبي المدافعين عن فكرة الذاكرة المتعددة على أن فقدان الذاكرة لا يعيق إنتاج الأداءات السوية ضمن مجموعة من المهام التي تشترك فيها الذاكرة طويلة الأمد، التي يمكن أن تكون بالنتيجة مقسمة إلى أقسام.
عندما نطلب من فاقد الذاكرة، يوماً بعد يوم، أن يجمع عناصر أحجية بأسرع وقت ممكن، فإنه يرتكب أخطاء تقل بالتدريج مع جلسات التجميع ويحل المسألة على نحو أسرع فأسرع. والأفضل من ذلك أن أداءاته شبيهة بأداءات الأشخاص الأسوياء. كيف نفسر أن يصل شخص إلى مثل هذه النتيجة، في حين ليس لديه أية ذكرى واعية عن حالات تعلمه السابقة؟ ببساطة، نفسر ذلك من حيث أنه يستغل منظومة ذاكرية مستقلة ذاتياً ( والحالة هذه الذاكرة الإجرائية )، مستقلة عن ذاكرته العارضة المتأذية.
التفارق الثاني: الذاكرة العارضة – منظومات التصور الإدراكي. هنا، يستخدم الباحثون اختبارات تسمى ممهِّدة tests d'amorçage أو اختبارات الذاكرة الضمنية implicite ؛ ضمنية لأنه لا يطلب من الشخص استرجاع الذكرى الواعي. فمثلاً، تعرض عليه لائحة كلمات، ثم يعطى الأحرف الثلاثة الأولى من كل منها، ويطلب منه أن يلقي ( ينطق )، بالنسبة لكل مجموعة من الأحرف، الكلمة التي تمر في رأسه. ومرة أخرى، لا يتذكر فاقد الذاكرة فترة التعلم وقد يعجز إلى حد كبير عن أن يتذكر ضمنياً الكلمات التي قدمت له في البدء. مع ذلك، عند نطق الأحرف VOI ” “ ( " الأحرف التمهيدية " )، يتذكر كلمة " VOITURE " ( سيارة )، التي عرضت عليه خلال طور البحث. وبشكل أعم، يتضح أن نتائجه في اختبار الذاكرة الضمنية تعادل نتائج الأشخاص الأسوياء. " خلال التعلم، يكون الشكل الإبصاري من كلمة ,, VOITURE ,, قد تنشط ( تفعَّل ) في منظومات التصور الإدراكي، وهذا التنشط وحده كاف كي يتوصل المريض إلى أن يقرن بالأحرف الثلاثة التي قدمت له الكلمةَ المتوافقة معها "، حسب قول " ليندن ".
التفارق بين الذاكرة الدلالية والذاكرة العارضة هو أقل وضوحاً. ثم إنه ما يزال موضع خلافات حادة. يرى البعض أن من المستحيل اكتساب معارف جديدة حول العالم عندما لا يتسنى لنا تذكر أي حدث عشناه شخصياً. ويرى آخرون أن لا شيء يعيق اكتساب هذه المعارف. وبتعبير أوضح، يتعلق الأمر مثلاً بمعرفة ما إذا كان الشخص الذي فقد ذاكرته منذ عام 1979 مثلاً قد أمكنه أن يختزن معارف حول أشخاص أصبحوا شهيرين بعد هذا التاريخ. فعندما يرى صورة " بيل كلينتون "، هل سيسعه القول " هذا بيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة "، دون أن تكون لديه، من جانب آخر، أية ذكرى عن مروره في فرنسا قبل يومين سابقين؟ وعلى نحو مماثل، هل يستطيع فاقد الذاكرة حفظ المفردات التي ظهرت بعد تعرضه لهذا العجز؟.
توضعات دماغية
يرى " مرسيال فان دير ليندن " أن الإجابة هي نعم. ويذكر حالة أحد مرضاه، مؤرخ محترف سابق. ففي حين تتبخر أحداث حياته التي يعيشها في الحال مثلما يذوب الثلج تحت أشعة الشمس، تظهر لدى اختصاصي الماضي إياه قدرات سليمة من حيث اكتساب بعض المعلومات الدلالية، وبالأخص في ميدان خبرته.
وهكذا، من الغريب أنه لا يعاني من أية صعوبة في تحديد هوية الشخصيات السياسية التي لم تكن قد ارتقت بعد سلم الشهرة عندما كانت ذاكرته ما تزال فعالة. مع ذلك، لم ينته الجدل، ويعترف خبير علم النفس العصبي البلجيكي هو نفسه بأن نتائج بعض المختبرات لا تثبت نتائجه.
يتبوأ فقدان الذاكرة مكان الصدارة في الغالبية العظمى من التجارب التي تجرى من أجل إثبات الطابع المتعدد للوظيفة الذاكرية. وسبب ذلك بسيط: متلازمة فقدان الذاكرة هي الاضطراب الأكثر مصادفة عادة عند المرضى الذين تأذت ذاكرتهم بنتيجة آفة أصابت الدماغ. وقد أظهرت دراسات عديدة أنجزت بالتصوير المقطعي بالبث البوزيتروني ( T E P )، التقنية التي تتيح اقتفاء استقلاب الدماغ، أن الذاكرة العارضة قد لا تكون متعلقة فقط بنواحي تتوضع في الحصين hippocampe ( التلفيف الصدغي الخامس من الدماغ ، الذي يؤدي دوراً أساسياً في عملية الحفظ " المترجم " )، مثلما كان معتقداً أصلاً، بل بشبكة واسعة تشتمل أيضاً على مناطق خلفية من الدماغ ( تخص الفصوص الجدارية، والصدغية والقذالية من كل نصف كرة مخية hémisphère ) ومناطق جبهية. " ونظراً لضخامة الشبكة الدماغية الناشطة، فمن المحتمل جداً أن تحدث الآفة صعوبات في الذاكرة العارضة "، على حد عبارة " ليندن ".
قد تكون أنماط الذاكرة الأخرى أكثر محدودية وأقل تناثراً وبالتالي أقل استعداداً للتأذي. مع ذلك، يروي لنا الأدب بعض حالات العجز بمستوى منظومات التصور الإدراكي دون أن تكون الذاكرة العارضة متأذية.
قد تكون الذاكرة الدلالية ومنظومات التصور الإدراكي مرتبطة بمناطق القشرة المخية الصدغية – الجدارية – القذالية، في حين أن الذاكرة الإجرائية قد تكون مرتبطة بشكل خاص بالمخطط striatum، البنية التي تتدخل في مرض بركينسون والرَقَص الوراثي chorée de Huntington ( الرّقَص حركات غير طبيعية لا إرادية وغير متكررة للأطراف والوجه والجسم. والرقص الوراثي أو رقص هنتغتون مرض وراثي نادر يحدث في أواسط العمر عادة ويصاحبه خبَل مستفحل " المترجم " ). لهذا دون شك ليس من النادر، فضلاً عن المشكلات الحركية، أن يتوصل المرضى الذين يعانون من هذه العلل، بصعوبة، إلى اكتساب مهارات جديدة.
على الأمد القصير وعلى الأمد الطويل
في " لييج "، أوضح البروفسور " مرسيال فان دير ليندن "، والدكتور " إريك سالمون " E. Salmon، المدير الطبي لمركز أبحاث المعجل الذري ( الكهراد، السيكلوترون )، أن النواحي الدماغية التي تتحكم بذاكرة العمل لا تتوافق بالمطلق مع المناطق الدماغية التي تتنشط حين أداء مختلف مهام الذاكرة طويلة الأمد. مثلاً: ربما كان المدير المركزي في نموذج " ألن بادلي " يجند مناطق دماغية قبل جبهية préfrontales . إلا أن هذه الحالة لا تؤثر في شيء على ملاءمة سؤال قديم يطرح نفسه باستمرار: هل يتطلب الحفظ طويل الأمد مرحلة قبلية تستند إلى ذاكرة العمل؟.
بقي اختصاصيو الذاكرة مقتنعين بذلك حتى نهاية السبعينيات. وارتكزت قناعتهم إلى التجارب المنجزة على فاقدي الذاكرة. في الواقع، نجح فاقدو الذاكرة هؤلاء في تكرار متواليات أرقام أو كلمات كانت تعرض عليهم قبل لحظات قليلة، غير أنه كان يستحيل عليهم تذكرها بعد بضع دقائق لاحقة. وفسرت الظاهرة على أنها انقطاع déconnexion بين ذاكرة قصيرة الأمد عالية الأداء والذاكرة طويلة الأمد.
منذئذ، انتشرت هذه الفرضية انتشاراً واسعاً. وأثرى الأدب العلمي بوصف الكثير من الحالات التي تتعايش فيها ذاكرة طويلة الأمد سليمة مع ذاكرة عمل عاجزة إلى حد كبير. يقول " ليندن ": باختصار، أن نتذكر أحدهم بعد ثلاثة أيام من لقائنا به، فذاك لا يتناقض مع استحالة أن نتذكر بشكل صحيح متوالية من أربعة أرقام تعلمناها للتو ".
إذن، ألا يمكن أن تكون الحقيقة بعيدة جداً عما كان معتقداً في البداية؟ لا، فمن المعروف اليوم أنها احتمالية: وفقاً لنمط المعلومة المطلوب حفظها على الأمد الطويل، المرور بالأمد القصير هو حتمي تارة ولا ضرورة له تارة أخرى.
كان " جيسيب فالار " G. Vallar قد أجرى تجربة نموذجية مؤخراً في جامعة روما. طبقت هذه التجربة على مريضة من الجنسية الإيطالية – لنسمها مريضة فالار – تعاني من عجز هام في الحلقة ( الدارة ) الصواتية. كانت مريضة فالار غير قادرة على تكرار أكثر من كلمتين بالترتيب. بالمقابل، بقيت قادرة على حفظ لائحة من عشرين كلمة وتذكرها بعد أسبوع لاحق، وهذا ما يثبت السلامة التامة لحالة ذاكرتها طويلة الأمد.
حثها خبراء علم النفس العصبي في البداية على تعلم ثمانية أزواج من الكلمات الإيطالية من اللغة الإيطالية المحكية ( الدارجة ). وبعد مرحلة الدراسة، عرضت عليها كلمة؛ وكان عليها أن تقرن بها كلمة الزوج الأخرى. أدت ذلك بلا صعوبة. ثم، كرر السيناريو نفسه مع أزواج وصفت بـ كلمات / لا كلمات، أي مركبة من عبارة مألوفة وأخرى تجهلها المريضة – والحالة هذه كلمة روسية. ورغم العدد الذي لا يحصى من المحاولات، فشلت مريضة فالار فيها كلها.
" يجب أن نستنتج من ذلك أنه إذا لم يكن المرور بالذاكرة قصيرة الأمد مطلوباً لتعلم أزواج كلمات مأخوذة من اللغة الدارجة، فإنه مطلوب لاكتساب أشكال صواتية جديدة. وضمن الأفق نفسه، أظهر عدد من الدراسات أن اكتساب المفردات عند الطفل يتعلق إلى حد كبير بحالة ذاكرته قصيرة الأمد "، وفقاً لعبارة " ليندن ".
تفارقات مدهشة
أجريت دراسة أخرى، محيرة، بالتعاون بين الباحث البلجيكي و" كوفيلجكا باريسنيكوف " K. Barisnikov ، من جامعة جنيف. كان موضوع الدراسة امرأة شابة في العشرين من عمرها كانت قد أصيبت بعوق عقلي هام ذي منشأ وراثي: متلازمة وليامز. كانت هذه المريضة، التي لم يتجاوز حاصل ذكائها الخمسين، تعاني من تفارق dissociation بين المنطقة الإبصارية – الحيزية visuo - spatiale المخربة تماماً، وباحات نمو اللغة، السليمة تماماً. إذا طلب منها رسم زهرة، رسمت خربشة لا إسم لها. ولكن، رغم حاصل ذكائها الخفيض للغاية، كانت تتداول الألمانية، والفرنسية ولهجة أخرى بسهولة ومهارة.
وانطلاقاً من المبدأ الذي يفيد بأن اكتساب المفردات الجديدة قد يكون متعلقاً بالذاكرة اللفظية قصيرة الأمد،، تحقق " مرسيال فان دير ليندن " و" كوفيليجكا باريسنيكوف " من أن الحلقة الصواتية لدى مريضتهما كانت سليمة تماماً. وبعد ذلك، وقع حدث مفاجئ جداً. فبعد إخضاعها لجلسات تعلم مفردات أزواج كلمات / كلمات وكلمات / لا كلمات، نجحت الشابة المعاقة في الامتحان الثاني نجاحاً لامعاً، في حين تعثرت في الامتحان الأول، المعروف مع ذلك بأنه أسهل تعاطياً بكثير.
الخلاصة: " تؤكد نتائجنا بأن المرور بالذاكرة قصيرة الأمد ليس ضرورياً لتعلم أزواج كلمات اللغة الدارجة، لكنه حتمي لتعلم مفردات جديدة. إذن، هنالك تفارقات ضخمة في بعض أنماط السيرورات العقلية "، وفقاً لعبارة " ليندن ".
يعلن مفهوم الذاكرة المجزأة إلى وحدات متخصصة، لكل منها أسسها الدماغية النوعية، نهاية الاستراتيجيات الكلاسيكية لإعادة التأهيل، والتي ترتكز إلى تمارين الحفظ المتكرر واللا متمايزة. ويرى " مرسيال فان دير ليندن " أن تعلم القصائد عن ظهر قلب لا يفيدنا إلا في تحسين " ذاكرة القصائد ". في الواقع، كل الدراسات الحديثة تؤكد ذلك، فعندما يتمخض البرنامج المتلفَّظ حول تمارين ذاكرية عن تطورات، فإن هذه التطورات تطال فقط الأدوات ( لوائح الكلمات،الأحجيات …. ).
مع ذلك، لا ينفي الباحث البلجيكي وجود عوامل لتحسين الأداءات الذاكرية. لنتصور أن الأشخاص المسنين مدعوون لحفظ لائحة أسماء حيوانات . فماذا نتبين؟ يتبين لنا أن أداءاتهم تكون أفضل عندما تلتزم بتعليمات ترميزية – كالقيام بعمليات تجميع في فئات دلالية ( زواحف؛ أسماك؛ ثدييات، إلخ.. ).
ونظراً لتفتت قدراتهم الانتباهية، لا يضع المسنون استراتيجيات مناسبة للترميز واسترجاع المعلومات بشكل تلقائي؛ وربما كان من شأن وضع " سلسلة خطوات عمل " أن تساعدهم على تجاوز هذه العثرة.
مواجهة الحياة اليومية
مع ذلك، إذا كان من البساطة نسبياً أن نجد طرقاً مناسبة لتذكر رقم هاتف معين أو اسم شخص ما، فإن جعل هذه الإجراءات آلية في الحياة اليومية هو أكثر تعقيداً بكثير. " توجد في أوربا والولايات المتحدة دور لتدريب الذاكرة يرتكز إلى قواعد نظرية متينة. للأسف، إذا كانت هنالك نتائج إيجابية في المختبر، فإن أساليب الترميز والاسترجاع المتعلمة في هذه المراكز لا تطبق بعد ذلك في الحياة اليومية "، وفقاً لعبارة " مرسيال فان دير ليندن ".
هل يجب أن نستنتج من ذلك أنه لا وجود لأي مخرج أمام فاقدي الذاكرة؟ لا، من حيث أن مفهوم الذاكرة المتعددة نفسه يمهد لهم آفاقاً جديدة. من المؤكد أنه يستحيل ترميم القدرات المفقودة، ولكن من الممكن بالمقابل البدء بعملية إعادة تنظيم باستثمار منظومات الذاكرة الباقية.
استراتيجيات تقوية الذاكرة
عندما تكون حالات العجز التي يعاني منها المريض فاقد الذاكرة معتدلة، فإنه يتم التركيز على الاستثمار الأمثل للقدرات الباقية من ذاكرته العارضة. ففي مركز إعادة التصحيح العصبي النفسي في " مركز الاستشفاء الجامعي " / لييج ، بلجيكا، عالج فريق البروفسور " مرسيال فان دير ليندن " مؤخراً شابة موظفة في أحد المصارف، كانت تعاني، بعد تعرضها لحادث وعائي دماغي، من اضطرابات في الذاكرة العارضة اقتصرت على عتادها اللفظي. وبالطبع لم تعد قادرة على حفظ تعليمات جديدة، والكلام الجاري خلال محادثة ما أو أسماء الزبائن الجدد الذين يمثلون أمام كوتها. واستناداً إلى بعض الاختبارات، تبين أن مشكلتها تقع في طور ترميز وخزن المعلومة وليس بمستوى الاسترجاع récupération .
ولما كانت ذاكرتها العارضة غير اللفظية سليمة، فقد تجسدت الفكرة في تلقينها استراتيجيات تقوية ذاكرية ترتكز إلى التصوير العقلي imagerie mentale ومتكيفة مع أوضاع الحياة اليومية. بعبارة أخرى، لن تعود الشابة إلى ترميز المعلومات وفقاً للنموذج اللفظي بل من خلال إنتاج الصور العقلية.
واليوم، بعد جهود كثيرة، بذلتها إلى جانب ما بذله خبراء علماء النفس العصبي، نجحت في تحويل مكتسبات جلسات التعلم إلى حياتها اليومية؛ واسترجعت بذلك فعالية رائعة على الصعيد الوظيفي وعادت إلى عملها في المصرف.
بالطبع، في حالات أخرى، قد يكون لعجز الذاكرة العارضة علاقة بالأدوات الإبصارية. والحالة هذه، قد لا يعود التصوير العقلي مبرراً، ويمكن تصور اللجوء إلى أساليب تقوية الذاكرة اللفظية المتمحورة حول استخدام القوافي أو حول دمج المعلومة الملائمة في حكاية تكون بمثابة سياق.
من الناحية التقليدية، كان مصير المصابين بفقدان ذاكرة عميق، أولئك الذي ينسونك بعد دقيقة من بدء حديثك معهم، ينتهي في أحضان الأسرة أو في مشفى للأمراض العقلية لتولي العناية بهم. أما في إطار الذاكرة المتعددة، فإن الأمل في جعلهم أكثر استقلالية هو حقيقي. كيف؟ بالتغاضي النهائي عن ذاكرتهم العرضية، غير القابلة للاسترجاع، وباستثمار المنظومات الأخرى لذاكرتهم طويلة الأمد ( الذاكرتان الإجرائية والدلالية، ومنظومات التصور الإدراكي ).
" يبدو من المؤكد أن الشخص الذي يعاني من عجز كبير في الذاكرة العارضة يبقى قادراً بعد على اختزان معارف معقدة تشتمل على وقائع، ومفاهيم، وعلاقات، وإجراءات "، وفقاً لما يذكره " ليندن ".
في غضون عامين، تمكن خبراء علم النفس العصبي، جامعة " لييج "، وعيادات "سان – لوك" في بروكسل، من تعليم A. C. ، المصاب بفقدان ذاكرة وخيم عقب تعرضه لأذية جمجمية، معالجة نص. واتبعوا في ذلك أسلوب الإشراط، أي طريقة المثير – والاستجابة، بهدف الإفادة من القدرات، السليمة، لذاكرته الإجرائية. وعولوا على قدرات ذاكرته الدلالية، التي بقيت سليمة هي الأخرى، ليمكنوه أيضاً من تعلم مفردات جديدة لها علاقة بالمعلوماتية.
وفي الوقت الحاضر، يجيد A. C. استخدام البرمجيات والتعبير عن مفردات تقنية تتعلق باستخدام الحاسوب، غير أنه سيبقى يجهل على الدوام بأية ضربة ساحر توصل إلى ذلك. والأفضل أنه يعيش وحيداً، ويستعين بمدربة تزوره بانتظام. ويمن بهذه الاستقلالية إلى " بديل " prothèse ذاكرة عارضة، مفكرة يسجل فيها أسماء أشخاص، والطريق الذي عليه أن يسلكه للوصول إلى بعض الأماكن، والنشاطات المطلوبة لليوم التالي...
ولكن كي يصل إلى النتيجة المأمولة، يتوجب عليه أيضاً ألا ينسى الاستعانة بمفكرته! وقد لزم ستة وعشرون أسبوعاً كي يتمكن من فتحها بانتظام في أوقات معينة من النهار، أي الوقت الذي استغرقه الباحثون كي يلقنوه نوعاً من المنعكس الشرطي. " لجأنا إلى طريقة بسيطة، ترتكز هي أيضاً إلى الذاكرة الإجرائية. وحين لم يكن A.C. يعود إلى مفكرته تلقائياً في الوقت المحدد، كان أهله يتولون مهمة تقديم دليل عام له ( " ماذا عليك أن تفعل الآن؟ " ). وعند إخفاقه، كان عليهم أن يذكروه بوضوح بما يجب أن يقوموا به "، وفقاً لعبارة " مارسيل فان دير ليندن ".
تبقى حالة A. C. استثنائية، ولكن يمكن أن تنتشر. وبالنسبة للمرضى متأذي الدماغ، يبقى الطابع المتعدد للذاكرة بحد ذاته واعداً بشيء من الحرية .
المصدر: " العلم والحياة " الفرنسية
ترجمة محمد الدنيا
ملاحظات
( 1 )- ربما كنت الذاكرة مركبة من منظومات ومنظومات فرعية مستقلة ومتآثرة. إن ذكرياتنا هي ثمرة لإعادة تكوين.
( 2 )-الذاكرة العارضة: إنها أولى ذاكراتنا. نختزن فيها الأحداث المعاشة – آخر وجبة تناولناها مع الأسرة مثلاً. إنها حامل وجودنا الشخصي. يتوافق فقدان الذاكرة وعجز في الذاكرة العارضة.
( 3 )- الذاكرة الدلالية: تمكننا من التعرف إلى معاني الكلمات. وعلى نحو أعم، تتدخل في اكتساب المعارف العامة حول العالم، كالمعْلمات التاريخية والجغرافية.
( 4 )- الذاكرة الإجرائية: اكتساب الآليات المختلفة ( فنية عازف البيانو، وحركة الرياضي …) يرتكز إلى هذا النمط من الذاكرة، التي تسجل فيها إجراءات الفعل المعقدة التي يتعذر التعبير عنها بالتلفظ أو لغوياً.
( 5 )- التصور الإدراكي: تمييز الأشكال والبنى ( بما في ذلك تمييز اللغة ) يرتكز إلى منظومات تصورنا الإدراكي. وتتيح التحقق من جسم من خلال شكله.
( 6 )- ذاكرة العمل: في حين تحفظ منظومات التصور الإدراكي معلوماتها بصورة مستمرة، ليست ذاكرة العمل فعالة إلا على المدى القصير.
( 7 )- من أجل دراسة عمل الذاكرة، يلجأ الاختصاصيون إلى مختلف الطرق، منها مخطط كهربائية الدماغ الذي يتيح رؤية ما يفعل دماغ الشخص عند إخضاعه لامتحان حفظ.
( 8 )- لا أعاجيب: لا يستفيد الشخص المسن من دورة التنبيه الذاكري المرتكزة إلى مختلف التمارين.
( 9 )- المادة السنجابية: القشرة الدماغية التي تطورت سريعاً جداً عند الإنسان هي مقر النشاطات الاستعرافية. وقد بدأ الباحثون بوضع خريطة لمناطق القشرة الدماغية التي تتفعل في مختلف أنماط الذاكرة.