كاميل كلوديل 1915 ــ Camille Claudel 1915
عندما كانت النحاتة الفرنسية " كاميل كلوديل " ـ المولودة عام 1864 ـ في التاسعة عشرة من عمرها ، و قد تمكّن منها عشقُها لفن النحت ، كان المجتمعُ البرجوازيُ الفرنسي يحرّم على الفتيات دراسة الفن ، ولكنها لم تتحدَّ هذا المجتمع حسب ، بل تحدّت ـ أيضاً ـ عائلتها الكاثوليكية المتدينة ، و تحدّت ــ بالدرجة الأولى ــ والدتها المتزمتة و شقيقها المفرط في تدينه و في اندفاعه لإرضاء الكنيسة " بول كلوديل " ( 1868 ـ 1955 ) ، و راحت تدرس النحت ــ برضا والدها فقط ــ مع مجموعة من الفتيات الإنجليزيات ، على يد النحات الفرنسي المعروف " الفريد باوتشر " ( 1850 ـ 1934 ) الذي انتبه الى موهبتها و نبوغها ، و لذلك فإنه عندما قرر الرحيل الى فلورنسا و أناط مهمة تدريس أولئك الفتيات الى النحات " أوغست رودان " ( 1840 ـ 1917 ) فقد أوصاه بأن يعتني عناية خاصة بموهبة " كلوديل " ، و " رودان " نفسه وقف على حقيقة أن هذه الفتاة الجميلة تنطوي على موهبة غير عادية و هي تطوّع الصلصال بين أصابعها و تحوّله الى منحوتاتٍ تترجم خيالها الجامحَ غير التقليدي ، فرعاها ، و راح يُشركُها في تنفيذ أعماله ، فأصبحت مساعدةً ماهرةً له .
و بمرور الأيام و الأسابيع ، نشأت بينهما علاقة سرية ، باتت ــ لاحقاً ــ معروفة في الوسط الثقافي الفرنسي ، و كان يكبرها بأربعة و عشرين عاماً ، الأمر الذي أثار حفيظة شقيقها المتديّن و والدتها المتزمّته ، التي باتت تمقت ابنتها الخارجة على بيت الطاعة المتشدد ، و هو ما ستترتب عليه المأساة الشهيرة لـ " كاميل كلوديل " لاحقاً ، المأساةُ التي قضمت ثلاثين سنة من حياتها .. حين أُلقيَ بها في غياهب الغياب ــ في جنوب فرنسا البعيد ــ حتى ماتت جائعةً .. وحيدة . ولكن بالرغم من هذا التغييب ، الذي تَشاركَ فيه شقيقُها الخبيث و أمها الكريهة و " رودان " اللئيم ، إلا أن تاريخها الشخصي و أعمالها الخالدة بقيت شعلةً دائمة التوهّج في ذاكرة الفن الفرنسي و العالمي .
شخصياً ، أصفُ " أوغست رودان " بـ ( " مايكل أنجلو " فرنسا ) ، و كلاهما الوريث الشرعي للتراث الإغريقي في ميدان النحت الذي حاكى الطبيعة بأقصى درجات الدقة و الإتقان وإعادة الخلق ، حسب مفهوم " أرسطو " .
لقد كان " مايكل أنجلو " ( 1475 ـ 1564 ) باعث ذلك التراث في مجال النحت في إيطاليا و أحدَ نجوم عصر النهضة الساطعة . أما فرنسياً فإن " رودان " هو الذي حمل الشعلة في ميدان النحت ، بعد الثورة الفرنسية ( 1789 ) بنحو إثني عشر عقداً من السنين ، و سطع نجمُه وَسْطَ جَمْع نحاتين مبدعين بارزين ، كان " باوتشر " أحدهم . و " كاميل كلوديل " تاقت لأن تكون من ضمن ذلك الجمع المُميز ، لأن قدراتها الإبداعية كانت تضاهي قدرات أولئك الفنانين الكبار . ولكنها لم تفلح ، بالرغم من إنجازها لأعمال نحتية باهرة ، في زمن هيمن فيه أستاذها " رودان " على المشهد الفني في فرنسا ، و ربما على مستوى العالم .
في تلك المرحلة التي بانت فيها للعيان شواهدُ إثباتِ موهبة " كاميل كلوديل " في المشهد الفني الفرنسي ، الذي بات منارة الفن في العالم ــ بعد سطوع شمس التغيير على يد الفنانين الإنطباعيين و شعراء فرنسا ، حيث سُمّيت باريس ( عاصمة النور ) ــ بدأ " رودان " يشاغب تطلعات تلميذته . فهناك ( أساتذة ) تنبعث لديهم نزعات الغيرة من تلاميذهم ، فكيف إذا كانت ( أنثىً ) في فترةٍ يعترض فيها مجتمعٌ بُرجوازي على دراستها للفن ؟
توقفت " كاميل كلوديل " عند هذه النقطة الجارحة ملياً . فقد أدركت أن " رودان " يحصرها في ( كوّة ) ، و يغلق عليها فضاءها ، ولا يُعير إهتماماً لحبهما ، الذي تحدّت به أهلها ، فأوصلها " رودان " الى حقيقة أنه لا يستطيع التخلي عن عشيقته " روز بورييه " التي تقاربه في السن و التي أنجب منها إبناً " 1 " . بمعنى أن " رودان " الذي أسكنته " كاميل " جوارحَها ــ طَوالَ ست عشر سنة ــ لم يعد لها ، و إن الذي توهّمت بأنه يرعى موهبتها .. إنما كان يستغلها و يعاملها لا كمبدعة بل كمنفّذة لأعماله . و لهذا السبب فكّرت في أن تبتعد عنه ، و بهذا فقد فقدت عشيقها و مزقتها الغيرةُ و خسرت أهلَها ، و فوق ذلك أثقلت الديونُ كاهلها ، فأصبحت عاجزة عن الإحتفاظ باستقلاليتها ، و راحت تنهار شيئاً فشيئاً و تتخبط في تصرفاتها ، فاتهمت " رودان " بالعمل على التقليل من أهمية أعمالها الفنية ، و بالتالي عدم الإقبال على شرائها . و في فورة غضب راحت تحطم أعمالها ، خشية أن ينسبها " رودان " الى نفسه ، و ذهبت بها الظنون الى أنه يحاول أن يدس لها السم في طعامها .
عند هذا الحد ، باتت قصة " كاميل كلوديل " واضحة لدى مؤرخي الفن : إنها سلكت الطريق الخطأ . ولكنها لم تدرك أن ذلك الخطأ سيقودها الى المأساة : من خلال الإبعاد ، فالحَجْر ، فالتغييب ، فالتضييع ، فذوبان الروح ، فضمور الجسد ، فالموت بسبب الجوع ، فالدفن في قبر تائه .. في مقبرة مجهولة .
بذلك ، فإن " كاميل كلوديل " خلقت لنفسها قصةً مأساوية خالدة في التاريخ ، عاشتها دون أن تكتبها . مراقبو النفوس العظيمة هم الذين رصدوا قصة " كلوديل " و دوّنوها ، في كتب و حكايات متداوَلة . و حتى الآن سجّلت السينما الفرنسية فيلمين عن حكاية هذه الفنانة العظيمة ، التي وضعت قصتها الإبداعية ، ثم المأساوية ، فصاغها الآخرون من بعدها .. و قد أدركوا حجمَ المأساة التي طحنت روحَها و أسهمت في صياغة شُهرتها و في إثارة فضول الناس لمعرفة مَن هي " كاميل كلوديل " .
الفيلم الأول من انتاج عام 1988 ، و قد أخرجه الفرنسي " برونو نيوتن " الذي أسند بطولته الى " ايزابيل أدجاني " بدور " كاميل كلوديل " و الى " جيرارد ديبارديو " بدور " رودان " . و هو فيلمٌ درامي ، ذو طابع سردي تسلسلي ، يبدأ من نقطة انطلاق " كاميل كلوديل " باتجاه فن النحت الصعب و ارتباطها بـ " رودان " ، فناً و عشقاً ، و من ثم انحدارها نحو هاوية الضَياع . أما الفيلمُ الثاني ، فمن انتاج عام 2012 ، عنوانه ( كاميل كلوديل 1915 ) من سيناريو و إخراج " برونو دومون " ، و هو مخرجٌ ينطوي على نزعةٍ فلسفية في إخراج أفلامه ، و حائزٌ على جائزة مهرجان ( كان ) عام 1999عن فيلمه ( الإنسانية ) . وهذه النزعة الفلسفية تبدو جليةً في تناوله لحال " كاميل كلوديل " . فهو لا ينظر الى ما مرّت به " كلوديل " كحكاية ، بل كنتيجةٍ ذات أبعادٍ إجتماعيةٍ و دينيةٍ و نفسيةٍ و أخلاقية ، لذلك فهو يُكثر من اللقطات التي يطول فيها الصمت و تطول المسافة الزمنية بين تلك اللقطات ، التي كانت على العموم لقطاتٍ متوسطةِ المساحة تعكس حالة الإستذكار لدى " كلوديل " و توفر فرصة التأمل لدى المُشاهد .
فيلم ( كاميل كلوديل 1915 ) لا يتطرق الى الأسباب ، بل الى النتائج التي آلت اليها حالُ الفنانة العبقرية في المصح . و إذا كان الفيلم المُنتج عام 1988 قد سرد حكاية العلاقة الفنية و العاطفية بين " كلوديل " و " رودان " ، فإن هذا الفيلمَ الثاني يتناول فترة شتاء عام 1915 ، حيث لا يظهر " رودان " في الفيلم مطلقاً ، بل لا يُذكر اسمُهُ إلا مرتين أو ثلاثاً ، باعتباره السببَ في كل هذه المأساة التي يستعرض الفيلمُ نتائجَها . فبعد عشر سنواتٍ من عزلة " كاميل كلوديل " في مشغلها البائس المتعفن ، في منطقة ( كيو بوربون ) في باريس ، و بعد وفاة والدها ، وُضعت عام 1913 ــ بطلبٍ من شقيقها و أمها ــ في مستشفىً في منطقة ( فيل ايفارد ) القريبة من العاصمة باريس ، ولكن بعد نشوب الحرب العالمية الأولى ، عام 1914 ، نُقلت مع غيرها الى مَصَحٍ ( مونتي فيرديغز ) للأمراض العقلية ، في جنوب فرنسا ، و هو المكان الذي تدور فيه أحداث هذا الفيلم عام 1915 . و قد اعتمد المخرج في كتابة سيناريو فيلمه على ما ألهمته أعمالُها الفنية و على سجلها الطبي و على الرسائل الكثيرة التي كانت قد أرسلتها الى شقيقها الجاحد " بول " ، غير الرحيم ، الذي لم يزر شقيقته غيرَ تسعِ مراتٍ فقط ، طَوالَ ثلاثين سنة ، و الذي رفض رفضاً قاطعاً إخراجَها من المَصح و إنهاءَ مأساتها ، رغم تحسن حالتها ، بل و لم يحضر جنازتَها حتى .
مخرجُ الفيلم ، طرح هذه المأساة الشهيرةَ في تاريخ الفن كدارسٍ نفسيٍ استخدم كاميرا السينما ليقدم إلينا روايةً بصرية ذاتَ حبكةٍ مدروسة لا تشجع المُشاهدَ على التفرج على الصورة بل العيش في مناخها و معانقة روح " كاميل كلوديل " . إن لغةَ الصمت في السينما ــ كما في مشاهد هذا الفيلم ــ ليست سهلة ، بل هي من أصعب مواهب العمل السينمائي .. " برونو دومون " فعل ذلك .
فيلم ( كاميل كلوديل 1915 ) ، الذي يستغرق زمنُهُ ساعة و خمساً و ثلاثين دقيقة ، أسند المخرجُ دورَ " كاميل كلوديل " فيه الى الممثلة الفرنسية البارعة " جولييت بينوش " التي أدّت الدورَ ببراعةٍ و تجسيدٍ مُتقن ، من خلال الحركة اليائسة و النظرة التائهة في الفراغ و خلجات العذاب التي تفيض على ملامحِها باهرةِ التعبير ، كما هو معروفٌ عن هذه الممثلة العبقرية .. الحائزة على عدة جوائز ، منها الأوسكار .
يبدأ الفيلم بلقطة متوسطة ، تظهر فيها " كامي " من الخلف ، في ممر المَصح ، و تطلب منها الراهبة الذهابَ للإستحمام لأنها متسخة جداً ، بل تذكّرُها ــ أثناء الإستحمام ــ بأنها متسخة دائماً ، و لعل في ذلك إشارة الى إهمالِ الفنانةِ لنفسِها و عيشِها وسط َالأوساخِ و العفونة في مشغلها الذي عزلت نفسَها فيه لمدة عشر سنوات ، قبل أن تؤخذ الى المستشفى . و في مشهدٍ لاحق ، يظهرُ طبيبٌ يستغربُ تواجدَ " كلوديل " في المطبخ ، فتوضح له راهبة بأن لديها الصلاحية بأن تطهو طعامها بنفسها ، بسبب خشيتها من أن يسمّم أحدٌ طعامَها ، و في ذلك إشارةٌ الى " رودان " الذي ذهبت بها الظنونُ الى أنه يسعى الى دَس السم لها في الطعام .
عدا هذين الأمرين ، ( الإتساخ و الخشية من التسميم ) ، فكل سلوك " كلوديل " في المصح سلوكٌ طبيعي جداً و لا يتوافق مطلقاً مع وجودها في هذا المكان ، فهي تحتذي حذاءَها بنفسها و ترتدي ملابسها و تقرص شعرَها بصورةٍ طبيعية دون الحاجة الى مساعدة أحد ، كالتي يحتاجُها الآخرون من نُزَلاء المَصح ، بل أنها تختلف عنهم كلياً في شكلها و مظهرها . و فوق هذا فإن الراهبات يطلبن منها مساعدة أولئك النزلاء ، و هم مجانين حقاً ، مُعاقون و مشوّهون و عاجزون و بُلَهاء . و هي بدورها لا تقوم بأي فعل دون استئذان ، و كثيرةٌ هي المَشاهد التي توحي بسلامة عقلها و حيوية ذاكرتها و هي تسترجع الماضي ، و المَشاهد التي تظهر فيها و هي تراقب و تتأمل و تفكر بصمت . و في أحد المَشاهد الأولية للفيلم تظهر " كلوديل " في فناء المَصح و هي تتأمل شجرةً جرداءَ يابسة تفرّعت أغصانُها و التمّت عند حدٍ بمستوىً منخفضٍ واحد ، فبدت كما لو أنها نصبٌ لنضوب الأمل . تتأمل " كلوديل " تلك الشجرةَ اليابسة لتبدوَ كمن تستوحي منها فكرةَ عملٍ نحتيٍ يُعبّر عن روحِها ، ولكنها تنفجر بالبكاء .. تعبيراً عن أن كلَّ آمالِها في الفن قد سُحقت .
و في كل ذلك شهادةٌ سينمائية من المخرج بأنَّ " كاميل كلوديل " قد زُجّ بها في المكان الخطأ ظلماً ، و فيه إدانة ضِمنية لمن وقف وراءَ فعلٍ خسيسٍ كهذا ، و في المقدمة شقيقُها " بول " . و الحقيقة إن هذا المكان ليس مَصحاً عقلياً ، بل هو سِجنٌ للعقل الموشِكِ على الصحو ، و مكانٌ يدفع منَ لديه مسٌّ عقليٌ خفيف على الجنون الحقيقي : مبنىً كبير ، قديمٌ و كالِح ، في مكانٍ بعيدٍ قاحلٍ إلا من خضرةٍ خجول و نباتاتٍ تترجم فَقرَ الحياة القاحلة في المكان القاحل الذي تمورُ فيه أرواحٌ معذبة محبوسة في أجسادٍ مشوَّهةٍ خَلقاً . ولكن بالنسبة لـ " كاميل كلوديل " التي بدأت مشوارَها منطلقة بآمال جامحة فإن هذا المكان قد كسّر أجنحة تلك الآمال ، و عندما تتأمل ذلك تجد نفسها عاجزةً عن الإتيان بأي شيءٍ سوى التفكير و التشبث بأهداب أملٍ تائهٍ في الضباب . و هذا الفيلمُ يرسل رسالةً إنسانيةً و إبداعية الى مُشاهدٍ قد يتعاطف مع فكرة إعادةِ قراءةِ مأساة هذه الفنانة برؤيةٍ جديدة تنطلق من ضمير صاحٍ .. و إنْ جاء متأخراً . تلك المأساة التي تسبب بها " رودان " ، الذي كان يتغزل بها أيما تغزل عندما كانت زهرةً يانعة بين يديه ، و أشبع غريزته الذكورية منها ، و عندما تخلص منها شرب مع أصحابه ( نخب الإنفلات من الجحيم ) حسب تعبير أحد أولئك الأصحاب ، ثم جاء شقيقُها ( الشاعر ) ، النذل ، ليعمّق تلك المأساة رسمياً حين طلب رميَها في المستشفى ، ثم في المَصح البعيد و إهمالها و إهمال توصيات الأطباء بضرورة إخراجها من المصح و تحقيق رغبتها بالعيش قربَ باريس ، بعد أن تخلصتْ من أزمتها النفسية .
في أحد المشاهد ، يستدعيها الطبيبُ المسؤولُ عن المصح ، و تبدو عليه علائمُ الحكمة ، و يسألها :
ــ كيف تسير الأمور ؟
فتجيبه بهدوء :
( ــ أنا هنا من دون أن أعرف السبب . الى متى ستدومُ هذه المهزلة ؟ الى متى ؟ أوَد أن أعرف . أنا محُتَجَزةٌ هنا كما لو أني مجرمة ، بل و أسوأ من ذلك لا محاميَ لدي ، و حتى عائلتي لا تريد مساعدتي كي أخرجَ من هذا الجحيم . لقد حُرِمتُ من حريتي ، من الدفء ، من الطعام و وسائل الراحة . هذا يُحوّلني الى ما تريدونني أن أكونَ عليه . أهلي تخلّوا عني ، إنهم يجيبون على شكوايَ بصمتٍ مطبق . هذا أمرٌ سيءٌ أن يتم التخلي عني بهذا الشكل . لا أستطيع مقاومة الحزن الذي يغمرني ، أمي و أخي عَزَلاني بأشد الطرق قَسوةً . لا رسائل ، لا زيارات . إنهم يَدعمون فكرةَ عدم خروجي نهائياً من هنا . لقد استولوا على ميراثي . بعد كل هذا تأتي لتلومني ؟ أعليّ أن أعيشَ وحيدةً دائماً ، و أن أعيشَ مع القطط ؟ إنهم ينطوون على هَوَسِ الإضطهاد ، هؤلاء الذين انقضّوا عليّ لأقضيَ أطول فترةٍ ممكنةٍ في هذا السِجن ، و هم يَسعوْنَ الى الإستيلاء على كل أعمالي ، توّاقون للتخلص من هذه المرأة المسكينة ، التي أصبحت مصدرَ تهديدٍ بالنسبة إليهم و شبَحاً مُزعجاً يذكّرهم بجريمتهم . و حتى و إن لم يكنْ ثمة خطرٌ عليهم فهم لن يسمحوا لي بالخروج . إنه " رودان " ، هو الذي يقف وراءَ كل ذلك . " رودان " هو الذي استخدمهم بالإستيلاء على أعمالي . إنه يحرّكهم بإشارةٍ منه ، فهم لا يستطيعون التحرّكَ دون إذنه ، و لفترةٍ طويلة رسّخ فكرةَ أنني لا أستطيع أن أغيبَ عن المنزل ، و بمجرد أن أغيبَ يأتون ليبحثوا في كتبي و يسرقوا تخطيطاتي . " رودان " وحده مَن يستطيع فعلَ ذلك ) .
الواقع ، أكان هذا التصريحُ المؤلمُ الذي عبّرت به " كاميل كلوديل " عن لواعجها أمام طبيبها ، صحيحاً أم يعكس ( هلوَسةً ) ما ، فهو ــ في النهاية ــ نداءُ روحِ إنسانةٍ فنانةٍ وجدت نفسَها في قفصِ محنةٍ بات حلمُ تفكيكهِ و تحقيقُ المستحيلِ توأمين . ولكن ، إذ بدا الطبيبُ الحكيمُ العاقلُ ، ذو الخبرة العلمية و الحياتية ، منبهراً أمام هذه الحقائق التي طرحتها ( مريضتُه ) ، فقد وجد نفسَه مُضطراً الى التواصل في الإستماع اليها و هي تتوسّلهُ بالقول :
( أرجوك أن تفعل ما تستطيعُه من أجل تحريري . ليست لديّ النية برفع شكوى ، فأنا لَستُ قوية بما يكفي من أجل فعل ذلك . أنا أعيش مُنزوية ، كما كان حالي سابقاً . الحياةُ التي أعيشُها هنا لا تناسبني . هذا أمرٌ بالغُ القَسوةِ بالنسبة لي ، و أنا آسفةٌ لأنني أُخبرك بذلك .. بشكلٍ صريح ) .
و إذ تحدّقُ في وجه الطبيب ، منتظرةً ردَّ فعله بعد أن كشفت له الحقيقة ، يقولُ لها : ( لغاية الآن ، العلاقة التي كانت تربطكِ بـ " رودان " ، مرَّت عشرون سنةً على انقطاعها ، و هذا جيد . سنراكِ في الأسبوع المقبل آنسة " كلوديل " ) . فتخرجُ " كلوديل " من المكتب ، و هي تشعر بالقنوط و الإحباط .
أحقاً ترجمت " كاميل كلوديل " لوعتـَها بهذه الفصاحة الإنسانية أمام طبيبها ؟ أم أنها طرحت صياغة بلاغية للألم الروحي على يد المخرج ، كاتبِ سيناريو الفيلم ، استناداً إلى سجلها الطبي و إلى رسائلها ، ليقدم لنا فيلماً مسبوكاً على هذا القدْر العالي من الصنعة السينمائية ؟ . في كلتا الحالتين : نحن أمام مُخرج يستحقُ رفعَ القبعة له و تقديرَ منجزه السينمائي هذا .
يبدو أن الطبيب العجوز ، و بحُكم تجربته الحياتية و خبرته الطبية ، قد كوّن فكرةً إيجابية عن نزيلة مَصحه ، فبات على قناعةٍ من إمكانية خروجها من المصح لتعيش حياتها الطبيعية بعد أن خلّفت الماضي الموجعَ وراءها ، لذك فإنه يصارح ذلك الشقيق ــ اللاشقيق بأنه حان الوقتُ كي يتم تحقيقُ رغبتها في العيش في الريف قربَ باريس ، ولكن هذا الذي ( يكتب الشعر ) يرى أن ( لا وجود لعملٍ أشد سوءاً من الفن ) و أن ( مهنة الفن خطيرةٌ للغاية ) و يضيف بأن ( الخيال و الحساسية بإمكانهما إفقاد الإنسان توازنه بسهولة ... في الثلاثين تيقنتْ أختي بأن " رودان " لن يتزوجها فأنهى كل شيء من حولها و لم تعد تتصرف بتعقل ، فشكّل ذلك نهايةً لحياتها الطبيعية ) . من خلال هذا الرد غير المنطقي على طلب منطقي نجد أن هذا ( الشقيق ) مازال متمسكاً بالماضي و أسبابه و لم يعد معنياً بالحاضر و النتائج الإيجابية التي بات الطبيب الخبير مقتنعاً بها و هو يجد ضرورةً في خروج " كاميل " من المصح لتعيش حياتها الطبيعية . ولكن شقيقها مصرٌ على أن تلك الحياة الطبيعية قد انتهت و لن تعود .
و تذكرُ الحقائقُ الواقعية ( خارج الفيلم ) أن الكثير من المعارف كانوا يرجون " بول كلوديل " أن يُخرج شقيقته من المصح ، بحُكم مكانته الأدبية و مناصبه الدبلوماسية " 2 " ، لتعيش حياةً طبيعية ، فكان يردُّ عليهم بأن الله سلبها عقلها و الله أدخلها المصح و هو الذي يُخرجها و يمنحها الحياة الطبيعية . و إذ كان " بول كلوديل " هو الذي كان وراء زجّ شقيقته في المصح و ليس الله ، فإنه لم يفعل ذلك بدافع الرغبة في علاجها بل بدافع التخلص منها ، و هذا ما يفسر قلة زياراته اليها طوال ثلاثين سنة من وجودها في المصح و عدم حضوره جنازتها . لذلك أرى أن الشاعرة و الفنانة اللبنانية " لور غريّب " ( 1931 ــ 2023 ) كانت على حق حين كتبت في جريدة ( النهار) اللبنانية : ( أنا أكره بول كلوديل ) " 3 " .
و في الواقع ، بعيداً عن الفيلم أيضاً ، فإن " كاميل كلوديل " التي جيء بها الى هذا المصح البعيد في جنوب فرنسا ، بعد نشوب الحرب العالمية الأولى ، بقيت فيه حتى بلغت سنواتُ الحربِ العالمية الثانية أوجَها . ففي عام 1943 نهب الجيش الآلماني المحتل كلَ الطعام في الجنوب الفرنسي ــ بما فيه طعام المصح الذي كانت فيه " كاميل " ــ لإطعام الجنود . و هناك ماتت بسبب الجوع .. مريضة و وحيدة ، و دُفنت في مقبرة عامة .. في قبرٍ مجهول .
هذا الفيلمُ الهادئُ شكلاً ، و العاصفُ مضموناً ، قد لا يستطيع المُشاهد العادي الإستمرارَ في متابعته لأكثر من خمس دقائق لأسباب ، منها :
أولاً : عليه أن يعرف من هي " كاميل كلوديل " ، كي لا يبقى عالقاً و ينظر اليها كأي امرأة عابرة في مصح عقلي .
ثانياً : إن الفيلم يعرض ، منذ المَشاهد الأولى ، أشخاصاً ممسوسين ذوي أشكالٍ مشوّهة تبعثُ على التقزز و تجعل المُشاهد ينفر من الفيلم . يأتون بحركاتٍ و أفعالٍ مزعجة ، تطلق " كاميل كلوديل " عليهم صفة ( مخلوقات ) ، و قد أجاد الممثلون أدوارَ هذه المخلوقات إجادةً كبيرة .
ثالثاً : على الرغم من أن المخرج " برونو دومون " لم يَحِد عن نظرته الفلسفية الى العمل السينمائي إلا أن الفيلم لم يخرج عن إطار السينما الفرنسية الجديدة التي اتسمت بالإيقاع البطيء حد الملل ، لذلك فإن المشاهد العادي سيتخذ من هذا الإيقاع سبباً للنفور من هذا الفيلم .
ولكن فيلم ( كاميل كلودليل 1915 ) مصنوع ، في حقيقته ، للنخبة ، للمعنيين الجادين بالسينما المثقفة ، للشغوفين بالثقافة ، فهو يوثق ــ جمالياً ــ فترةً جارحة و مؤذية من حياة إنسانة عبقرية عظيمة جرفها الفنُ الى قلب بحره لتكون أعظمَ نحاتةٍ أنثى في تاريخ الفن .. و حطم الحبُ حياتها و جرفها الى المتاهة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
" 1 " اقترن بها رسمياً ، قبل وفاته ، لإثبات شرعية ذلك الإبن .
" 2 " تولى منصب سفير فرنسا في اليابان و أمريكا و بلجيكا .
" 3 " جريدة ( النهار) اللبنانية ـ 16 آذار 2015 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط الفيلم بي التعليق الأول
عندما كانت النحاتة الفرنسية " كاميل كلوديل " ـ المولودة عام 1864 ـ في التاسعة عشرة من عمرها ، و قد تمكّن منها عشقُها لفن النحت ، كان المجتمعُ البرجوازيُ الفرنسي يحرّم على الفتيات دراسة الفن ، ولكنها لم تتحدَّ هذا المجتمع حسب ، بل تحدّت ـ أيضاً ـ عائلتها الكاثوليكية المتدينة ، و تحدّت ــ بالدرجة الأولى ــ والدتها المتزمتة و شقيقها المفرط في تدينه و في اندفاعه لإرضاء الكنيسة " بول كلوديل " ( 1868 ـ 1955 ) ، و راحت تدرس النحت ــ برضا والدها فقط ــ مع مجموعة من الفتيات الإنجليزيات ، على يد النحات الفرنسي المعروف " الفريد باوتشر " ( 1850 ـ 1934 ) الذي انتبه الى موهبتها و نبوغها ، و لذلك فإنه عندما قرر الرحيل الى فلورنسا و أناط مهمة تدريس أولئك الفتيات الى النحات " أوغست رودان " ( 1840 ـ 1917 ) فقد أوصاه بأن يعتني عناية خاصة بموهبة " كلوديل " ، و " رودان " نفسه وقف على حقيقة أن هذه الفتاة الجميلة تنطوي على موهبة غير عادية و هي تطوّع الصلصال بين أصابعها و تحوّله الى منحوتاتٍ تترجم خيالها الجامحَ غير التقليدي ، فرعاها ، و راح يُشركُها في تنفيذ أعماله ، فأصبحت مساعدةً ماهرةً له .
و بمرور الأيام و الأسابيع ، نشأت بينهما علاقة سرية ، باتت ــ لاحقاً ــ معروفة في الوسط الثقافي الفرنسي ، و كان يكبرها بأربعة و عشرين عاماً ، الأمر الذي أثار حفيظة شقيقها المتديّن و والدتها المتزمّته ، التي باتت تمقت ابنتها الخارجة على بيت الطاعة المتشدد ، و هو ما ستترتب عليه المأساة الشهيرة لـ " كاميل كلوديل " لاحقاً ، المأساةُ التي قضمت ثلاثين سنة من حياتها .. حين أُلقيَ بها في غياهب الغياب ــ في جنوب فرنسا البعيد ــ حتى ماتت جائعةً .. وحيدة . ولكن بالرغم من هذا التغييب ، الذي تَشاركَ فيه شقيقُها الخبيث و أمها الكريهة و " رودان " اللئيم ، إلا أن تاريخها الشخصي و أعمالها الخالدة بقيت شعلةً دائمة التوهّج في ذاكرة الفن الفرنسي و العالمي .
شخصياً ، أصفُ " أوغست رودان " بـ ( " مايكل أنجلو " فرنسا ) ، و كلاهما الوريث الشرعي للتراث الإغريقي في ميدان النحت الذي حاكى الطبيعة بأقصى درجات الدقة و الإتقان وإعادة الخلق ، حسب مفهوم " أرسطو " .
لقد كان " مايكل أنجلو " ( 1475 ـ 1564 ) باعث ذلك التراث في مجال النحت في إيطاليا و أحدَ نجوم عصر النهضة الساطعة . أما فرنسياً فإن " رودان " هو الذي حمل الشعلة في ميدان النحت ، بعد الثورة الفرنسية ( 1789 ) بنحو إثني عشر عقداً من السنين ، و سطع نجمُه وَسْطَ جَمْع نحاتين مبدعين بارزين ، كان " باوتشر " أحدهم . و " كاميل كلوديل " تاقت لأن تكون من ضمن ذلك الجمع المُميز ، لأن قدراتها الإبداعية كانت تضاهي قدرات أولئك الفنانين الكبار . ولكنها لم تفلح ، بالرغم من إنجازها لأعمال نحتية باهرة ، في زمن هيمن فيه أستاذها " رودان " على المشهد الفني في فرنسا ، و ربما على مستوى العالم .
في تلك المرحلة التي بانت فيها للعيان شواهدُ إثباتِ موهبة " كاميل كلوديل " في المشهد الفني الفرنسي ، الذي بات منارة الفن في العالم ــ بعد سطوع شمس التغيير على يد الفنانين الإنطباعيين و شعراء فرنسا ، حيث سُمّيت باريس ( عاصمة النور ) ــ بدأ " رودان " يشاغب تطلعات تلميذته . فهناك ( أساتذة ) تنبعث لديهم نزعات الغيرة من تلاميذهم ، فكيف إذا كانت ( أنثىً ) في فترةٍ يعترض فيها مجتمعٌ بُرجوازي على دراستها للفن ؟
توقفت " كاميل كلوديل " عند هذه النقطة الجارحة ملياً . فقد أدركت أن " رودان " يحصرها في ( كوّة ) ، و يغلق عليها فضاءها ، ولا يُعير إهتماماً لحبهما ، الذي تحدّت به أهلها ، فأوصلها " رودان " الى حقيقة أنه لا يستطيع التخلي عن عشيقته " روز بورييه " التي تقاربه في السن و التي أنجب منها إبناً " 1 " . بمعنى أن " رودان " الذي أسكنته " كاميل " جوارحَها ــ طَوالَ ست عشر سنة ــ لم يعد لها ، و إن الذي توهّمت بأنه يرعى موهبتها .. إنما كان يستغلها و يعاملها لا كمبدعة بل كمنفّذة لأعماله . و لهذا السبب فكّرت في أن تبتعد عنه ، و بهذا فقد فقدت عشيقها و مزقتها الغيرةُ و خسرت أهلَها ، و فوق ذلك أثقلت الديونُ كاهلها ، فأصبحت عاجزة عن الإحتفاظ باستقلاليتها ، و راحت تنهار شيئاً فشيئاً و تتخبط في تصرفاتها ، فاتهمت " رودان " بالعمل على التقليل من أهمية أعمالها الفنية ، و بالتالي عدم الإقبال على شرائها . و في فورة غضب راحت تحطم أعمالها ، خشية أن ينسبها " رودان " الى نفسه ، و ذهبت بها الظنون الى أنه يحاول أن يدس لها السم في طعامها .
عند هذا الحد ، باتت قصة " كاميل كلوديل " واضحة لدى مؤرخي الفن : إنها سلكت الطريق الخطأ . ولكنها لم تدرك أن ذلك الخطأ سيقودها الى المأساة : من خلال الإبعاد ، فالحَجْر ، فالتغييب ، فالتضييع ، فذوبان الروح ، فضمور الجسد ، فالموت بسبب الجوع ، فالدفن في قبر تائه .. في مقبرة مجهولة .
بذلك ، فإن " كاميل كلوديل " خلقت لنفسها قصةً مأساوية خالدة في التاريخ ، عاشتها دون أن تكتبها . مراقبو النفوس العظيمة هم الذين رصدوا قصة " كلوديل " و دوّنوها ، في كتب و حكايات متداوَلة . و حتى الآن سجّلت السينما الفرنسية فيلمين عن حكاية هذه الفنانة العظيمة ، التي وضعت قصتها الإبداعية ، ثم المأساوية ، فصاغها الآخرون من بعدها .. و قد أدركوا حجمَ المأساة التي طحنت روحَها و أسهمت في صياغة شُهرتها و في إثارة فضول الناس لمعرفة مَن هي " كاميل كلوديل " .
الفيلم الأول من انتاج عام 1988 ، و قد أخرجه الفرنسي " برونو نيوتن " الذي أسند بطولته الى " ايزابيل أدجاني " بدور " كاميل كلوديل " و الى " جيرارد ديبارديو " بدور " رودان " . و هو فيلمٌ درامي ، ذو طابع سردي تسلسلي ، يبدأ من نقطة انطلاق " كاميل كلوديل " باتجاه فن النحت الصعب و ارتباطها بـ " رودان " ، فناً و عشقاً ، و من ثم انحدارها نحو هاوية الضَياع . أما الفيلمُ الثاني ، فمن انتاج عام 2012 ، عنوانه ( كاميل كلوديل 1915 ) من سيناريو و إخراج " برونو دومون " ، و هو مخرجٌ ينطوي على نزعةٍ فلسفية في إخراج أفلامه ، و حائزٌ على جائزة مهرجان ( كان ) عام 1999عن فيلمه ( الإنسانية ) . وهذه النزعة الفلسفية تبدو جليةً في تناوله لحال " كاميل كلوديل " . فهو لا ينظر الى ما مرّت به " كلوديل " كحكاية ، بل كنتيجةٍ ذات أبعادٍ إجتماعيةٍ و دينيةٍ و نفسيةٍ و أخلاقية ، لذلك فهو يُكثر من اللقطات التي يطول فيها الصمت و تطول المسافة الزمنية بين تلك اللقطات ، التي كانت على العموم لقطاتٍ متوسطةِ المساحة تعكس حالة الإستذكار لدى " كلوديل " و توفر فرصة التأمل لدى المُشاهد .
فيلم ( كاميل كلوديل 1915 ) لا يتطرق الى الأسباب ، بل الى النتائج التي آلت اليها حالُ الفنانة العبقرية في المصح . و إذا كان الفيلم المُنتج عام 1988 قد سرد حكاية العلاقة الفنية و العاطفية بين " كلوديل " و " رودان " ، فإن هذا الفيلمَ الثاني يتناول فترة شتاء عام 1915 ، حيث لا يظهر " رودان " في الفيلم مطلقاً ، بل لا يُذكر اسمُهُ إلا مرتين أو ثلاثاً ، باعتباره السببَ في كل هذه المأساة التي يستعرض الفيلمُ نتائجَها . فبعد عشر سنواتٍ من عزلة " كاميل كلوديل " في مشغلها البائس المتعفن ، في منطقة ( كيو بوربون ) في باريس ، و بعد وفاة والدها ، وُضعت عام 1913 ــ بطلبٍ من شقيقها و أمها ــ في مستشفىً في منطقة ( فيل ايفارد ) القريبة من العاصمة باريس ، ولكن بعد نشوب الحرب العالمية الأولى ، عام 1914 ، نُقلت مع غيرها الى مَصَحٍ ( مونتي فيرديغز ) للأمراض العقلية ، في جنوب فرنسا ، و هو المكان الذي تدور فيه أحداث هذا الفيلم عام 1915 . و قد اعتمد المخرج في كتابة سيناريو فيلمه على ما ألهمته أعمالُها الفنية و على سجلها الطبي و على الرسائل الكثيرة التي كانت قد أرسلتها الى شقيقها الجاحد " بول " ، غير الرحيم ، الذي لم يزر شقيقته غيرَ تسعِ مراتٍ فقط ، طَوالَ ثلاثين سنة ، و الذي رفض رفضاً قاطعاً إخراجَها من المَصح و إنهاءَ مأساتها ، رغم تحسن حالتها ، بل و لم يحضر جنازتَها حتى .
مخرجُ الفيلم ، طرح هذه المأساة الشهيرةَ في تاريخ الفن كدارسٍ نفسيٍ استخدم كاميرا السينما ليقدم إلينا روايةً بصرية ذاتَ حبكةٍ مدروسة لا تشجع المُشاهدَ على التفرج على الصورة بل العيش في مناخها و معانقة روح " كاميل كلوديل " . إن لغةَ الصمت في السينما ــ كما في مشاهد هذا الفيلم ــ ليست سهلة ، بل هي من أصعب مواهب العمل السينمائي .. " برونو دومون " فعل ذلك .
فيلم ( كاميل كلوديل 1915 ) ، الذي يستغرق زمنُهُ ساعة و خمساً و ثلاثين دقيقة ، أسند المخرجُ دورَ " كاميل كلوديل " فيه الى الممثلة الفرنسية البارعة " جولييت بينوش " التي أدّت الدورَ ببراعةٍ و تجسيدٍ مُتقن ، من خلال الحركة اليائسة و النظرة التائهة في الفراغ و خلجات العذاب التي تفيض على ملامحِها باهرةِ التعبير ، كما هو معروفٌ عن هذه الممثلة العبقرية .. الحائزة على عدة جوائز ، منها الأوسكار .
يبدأ الفيلم بلقطة متوسطة ، تظهر فيها " كامي " من الخلف ، في ممر المَصح ، و تطلب منها الراهبة الذهابَ للإستحمام لأنها متسخة جداً ، بل تذكّرُها ــ أثناء الإستحمام ــ بأنها متسخة دائماً ، و لعل في ذلك إشارة الى إهمالِ الفنانةِ لنفسِها و عيشِها وسط َالأوساخِ و العفونة في مشغلها الذي عزلت نفسَها فيه لمدة عشر سنوات ، قبل أن تؤخذ الى المستشفى . و في مشهدٍ لاحق ، يظهرُ طبيبٌ يستغربُ تواجدَ " كلوديل " في المطبخ ، فتوضح له راهبة بأن لديها الصلاحية بأن تطهو طعامها بنفسها ، بسبب خشيتها من أن يسمّم أحدٌ طعامَها ، و في ذلك إشارةٌ الى " رودان " الذي ذهبت بها الظنونُ الى أنه يسعى الى دَس السم لها في الطعام .
عدا هذين الأمرين ، ( الإتساخ و الخشية من التسميم ) ، فكل سلوك " كلوديل " في المصح سلوكٌ طبيعي جداً و لا يتوافق مطلقاً مع وجودها في هذا المكان ، فهي تحتذي حذاءَها بنفسها و ترتدي ملابسها و تقرص شعرَها بصورةٍ طبيعية دون الحاجة الى مساعدة أحد ، كالتي يحتاجُها الآخرون من نُزَلاء المَصح ، بل أنها تختلف عنهم كلياً في شكلها و مظهرها . و فوق هذا فإن الراهبات يطلبن منها مساعدة أولئك النزلاء ، و هم مجانين حقاً ، مُعاقون و مشوّهون و عاجزون و بُلَهاء . و هي بدورها لا تقوم بأي فعل دون استئذان ، و كثيرةٌ هي المَشاهد التي توحي بسلامة عقلها و حيوية ذاكرتها و هي تسترجع الماضي ، و المَشاهد التي تظهر فيها و هي تراقب و تتأمل و تفكر بصمت . و في أحد المَشاهد الأولية للفيلم تظهر " كلوديل " في فناء المَصح و هي تتأمل شجرةً جرداءَ يابسة تفرّعت أغصانُها و التمّت عند حدٍ بمستوىً منخفضٍ واحد ، فبدت كما لو أنها نصبٌ لنضوب الأمل . تتأمل " كلوديل " تلك الشجرةَ اليابسة لتبدوَ كمن تستوحي منها فكرةَ عملٍ نحتيٍ يُعبّر عن روحِها ، ولكنها تنفجر بالبكاء .. تعبيراً عن أن كلَّ آمالِها في الفن قد سُحقت .
و في كل ذلك شهادةٌ سينمائية من المخرج بأنَّ " كاميل كلوديل " قد زُجّ بها في المكان الخطأ ظلماً ، و فيه إدانة ضِمنية لمن وقف وراءَ فعلٍ خسيسٍ كهذا ، و في المقدمة شقيقُها " بول " . و الحقيقة إن هذا المكان ليس مَصحاً عقلياً ، بل هو سِجنٌ للعقل الموشِكِ على الصحو ، و مكانٌ يدفع منَ لديه مسٌّ عقليٌ خفيف على الجنون الحقيقي : مبنىً كبير ، قديمٌ و كالِح ، في مكانٍ بعيدٍ قاحلٍ إلا من خضرةٍ خجول و نباتاتٍ تترجم فَقرَ الحياة القاحلة في المكان القاحل الذي تمورُ فيه أرواحٌ معذبة محبوسة في أجسادٍ مشوَّهةٍ خَلقاً . ولكن بالنسبة لـ " كاميل كلوديل " التي بدأت مشوارَها منطلقة بآمال جامحة فإن هذا المكان قد كسّر أجنحة تلك الآمال ، و عندما تتأمل ذلك تجد نفسها عاجزةً عن الإتيان بأي شيءٍ سوى التفكير و التشبث بأهداب أملٍ تائهٍ في الضباب . و هذا الفيلمُ يرسل رسالةً إنسانيةً و إبداعية الى مُشاهدٍ قد يتعاطف مع فكرة إعادةِ قراءةِ مأساة هذه الفنانة برؤيةٍ جديدة تنطلق من ضمير صاحٍ .. و إنْ جاء متأخراً . تلك المأساة التي تسبب بها " رودان " ، الذي كان يتغزل بها أيما تغزل عندما كانت زهرةً يانعة بين يديه ، و أشبع غريزته الذكورية منها ، و عندما تخلص منها شرب مع أصحابه ( نخب الإنفلات من الجحيم ) حسب تعبير أحد أولئك الأصحاب ، ثم جاء شقيقُها ( الشاعر ) ، النذل ، ليعمّق تلك المأساة رسمياً حين طلب رميَها في المستشفى ، ثم في المَصح البعيد و إهمالها و إهمال توصيات الأطباء بضرورة إخراجها من المصح و تحقيق رغبتها بالعيش قربَ باريس ، بعد أن تخلصتْ من أزمتها النفسية .
في أحد المشاهد ، يستدعيها الطبيبُ المسؤولُ عن المصح ، و تبدو عليه علائمُ الحكمة ، و يسألها :
ــ كيف تسير الأمور ؟
فتجيبه بهدوء :
( ــ أنا هنا من دون أن أعرف السبب . الى متى ستدومُ هذه المهزلة ؟ الى متى ؟ أوَد أن أعرف . أنا محُتَجَزةٌ هنا كما لو أني مجرمة ، بل و أسوأ من ذلك لا محاميَ لدي ، و حتى عائلتي لا تريد مساعدتي كي أخرجَ من هذا الجحيم . لقد حُرِمتُ من حريتي ، من الدفء ، من الطعام و وسائل الراحة . هذا يُحوّلني الى ما تريدونني أن أكونَ عليه . أهلي تخلّوا عني ، إنهم يجيبون على شكوايَ بصمتٍ مطبق . هذا أمرٌ سيءٌ أن يتم التخلي عني بهذا الشكل . لا أستطيع مقاومة الحزن الذي يغمرني ، أمي و أخي عَزَلاني بأشد الطرق قَسوةً . لا رسائل ، لا زيارات . إنهم يَدعمون فكرةَ عدم خروجي نهائياً من هنا . لقد استولوا على ميراثي . بعد كل هذا تأتي لتلومني ؟ أعليّ أن أعيشَ وحيدةً دائماً ، و أن أعيشَ مع القطط ؟ إنهم ينطوون على هَوَسِ الإضطهاد ، هؤلاء الذين انقضّوا عليّ لأقضيَ أطول فترةٍ ممكنةٍ في هذا السِجن ، و هم يَسعوْنَ الى الإستيلاء على كل أعمالي ، توّاقون للتخلص من هذه المرأة المسكينة ، التي أصبحت مصدرَ تهديدٍ بالنسبة إليهم و شبَحاً مُزعجاً يذكّرهم بجريمتهم . و حتى و إن لم يكنْ ثمة خطرٌ عليهم فهم لن يسمحوا لي بالخروج . إنه " رودان " ، هو الذي يقف وراءَ كل ذلك . " رودان " هو الذي استخدمهم بالإستيلاء على أعمالي . إنه يحرّكهم بإشارةٍ منه ، فهم لا يستطيعون التحرّكَ دون إذنه ، و لفترةٍ طويلة رسّخ فكرةَ أنني لا أستطيع أن أغيبَ عن المنزل ، و بمجرد أن أغيبَ يأتون ليبحثوا في كتبي و يسرقوا تخطيطاتي . " رودان " وحده مَن يستطيع فعلَ ذلك ) .
الواقع ، أكان هذا التصريحُ المؤلمُ الذي عبّرت به " كاميل كلوديل " عن لواعجها أمام طبيبها ، صحيحاً أم يعكس ( هلوَسةً ) ما ، فهو ــ في النهاية ــ نداءُ روحِ إنسانةٍ فنانةٍ وجدت نفسَها في قفصِ محنةٍ بات حلمُ تفكيكهِ و تحقيقُ المستحيلِ توأمين . ولكن ، إذ بدا الطبيبُ الحكيمُ العاقلُ ، ذو الخبرة العلمية و الحياتية ، منبهراً أمام هذه الحقائق التي طرحتها ( مريضتُه ) ، فقد وجد نفسَه مُضطراً الى التواصل في الإستماع اليها و هي تتوسّلهُ بالقول :
( أرجوك أن تفعل ما تستطيعُه من أجل تحريري . ليست لديّ النية برفع شكوى ، فأنا لَستُ قوية بما يكفي من أجل فعل ذلك . أنا أعيش مُنزوية ، كما كان حالي سابقاً . الحياةُ التي أعيشُها هنا لا تناسبني . هذا أمرٌ بالغُ القَسوةِ بالنسبة لي ، و أنا آسفةٌ لأنني أُخبرك بذلك .. بشكلٍ صريح ) .
و إذ تحدّقُ في وجه الطبيب ، منتظرةً ردَّ فعله بعد أن كشفت له الحقيقة ، يقولُ لها : ( لغاية الآن ، العلاقة التي كانت تربطكِ بـ " رودان " ، مرَّت عشرون سنةً على انقطاعها ، و هذا جيد . سنراكِ في الأسبوع المقبل آنسة " كلوديل " ) . فتخرجُ " كلوديل " من المكتب ، و هي تشعر بالقنوط و الإحباط .
أحقاً ترجمت " كاميل كلوديل " لوعتـَها بهذه الفصاحة الإنسانية أمام طبيبها ؟ أم أنها طرحت صياغة بلاغية للألم الروحي على يد المخرج ، كاتبِ سيناريو الفيلم ، استناداً إلى سجلها الطبي و إلى رسائلها ، ليقدم لنا فيلماً مسبوكاً على هذا القدْر العالي من الصنعة السينمائية ؟ . في كلتا الحالتين : نحن أمام مُخرج يستحقُ رفعَ القبعة له و تقديرَ منجزه السينمائي هذا .
يبدو أن الطبيب العجوز ، و بحُكم تجربته الحياتية و خبرته الطبية ، قد كوّن فكرةً إيجابية عن نزيلة مَصحه ، فبات على قناعةٍ من إمكانية خروجها من المصح لتعيش حياتها الطبيعية بعد أن خلّفت الماضي الموجعَ وراءها ، لذك فإنه يصارح ذلك الشقيق ــ اللاشقيق بأنه حان الوقتُ كي يتم تحقيقُ رغبتها في العيش في الريف قربَ باريس ، ولكن هذا الذي ( يكتب الشعر ) يرى أن ( لا وجود لعملٍ أشد سوءاً من الفن ) و أن ( مهنة الفن خطيرةٌ للغاية ) و يضيف بأن ( الخيال و الحساسية بإمكانهما إفقاد الإنسان توازنه بسهولة ... في الثلاثين تيقنتْ أختي بأن " رودان " لن يتزوجها فأنهى كل شيء من حولها و لم تعد تتصرف بتعقل ، فشكّل ذلك نهايةً لحياتها الطبيعية ) . من خلال هذا الرد غير المنطقي على طلب منطقي نجد أن هذا ( الشقيق ) مازال متمسكاً بالماضي و أسبابه و لم يعد معنياً بالحاضر و النتائج الإيجابية التي بات الطبيب الخبير مقتنعاً بها و هو يجد ضرورةً في خروج " كاميل " من المصح لتعيش حياتها الطبيعية . ولكن شقيقها مصرٌ على أن تلك الحياة الطبيعية قد انتهت و لن تعود .
و تذكرُ الحقائقُ الواقعية ( خارج الفيلم ) أن الكثير من المعارف كانوا يرجون " بول كلوديل " أن يُخرج شقيقته من المصح ، بحُكم مكانته الأدبية و مناصبه الدبلوماسية " 2 " ، لتعيش حياةً طبيعية ، فكان يردُّ عليهم بأن الله سلبها عقلها و الله أدخلها المصح و هو الذي يُخرجها و يمنحها الحياة الطبيعية . و إذ كان " بول كلوديل " هو الذي كان وراء زجّ شقيقته في المصح و ليس الله ، فإنه لم يفعل ذلك بدافع الرغبة في علاجها بل بدافع التخلص منها ، و هذا ما يفسر قلة زياراته اليها طوال ثلاثين سنة من وجودها في المصح و عدم حضوره جنازتها . لذلك أرى أن الشاعرة و الفنانة اللبنانية " لور غريّب " ( 1931 ــ 2023 ) كانت على حق حين كتبت في جريدة ( النهار) اللبنانية : ( أنا أكره بول كلوديل ) " 3 " .
و في الواقع ، بعيداً عن الفيلم أيضاً ، فإن " كاميل كلوديل " التي جيء بها الى هذا المصح البعيد في جنوب فرنسا ، بعد نشوب الحرب العالمية الأولى ، بقيت فيه حتى بلغت سنواتُ الحربِ العالمية الثانية أوجَها . ففي عام 1943 نهب الجيش الآلماني المحتل كلَ الطعام في الجنوب الفرنسي ــ بما فيه طعام المصح الذي كانت فيه " كاميل " ــ لإطعام الجنود . و هناك ماتت بسبب الجوع .. مريضة و وحيدة ، و دُفنت في مقبرة عامة .. في قبرٍ مجهول .
هذا الفيلمُ الهادئُ شكلاً ، و العاصفُ مضموناً ، قد لا يستطيع المُشاهد العادي الإستمرارَ في متابعته لأكثر من خمس دقائق لأسباب ، منها :
أولاً : عليه أن يعرف من هي " كاميل كلوديل " ، كي لا يبقى عالقاً و ينظر اليها كأي امرأة عابرة في مصح عقلي .
ثانياً : إن الفيلم يعرض ، منذ المَشاهد الأولى ، أشخاصاً ممسوسين ذوي أشكالٍ مشوّهة تبعثُ على التقزز و تجعل المُشاهد ينفر من الفيلم . يأتون بحركاتٍ و أفعالٍ مزعجة ، تطلق " كاميل كلوديل " عليهم صفة ( مخلوقات ) ، و قد أجاد الممثلون أدوارَ هذه المخلوقات إجادةً كبيرة .
ثالثاً : على الرغم من أن المخرج " برونو دومون " لم يَحِد عن نظرته الفلسفية الى العمل السينمائي إلا أن الفيلم لم يخرج عن إطار السينما الفرنسية الجديدة التي اتسمت بالإيقاع البطيء حد الملل ، لذلك فإن المشاهد العادي سيتخذ من هذا الإيقاع سبباً للنفور من هذا الفيلم .
ولكن فيلم ( كاميل كلودليل 1915 ) مصنوع ، في حقيقته ، للنخبة ، للمعنيين الجادين بالسينما المثقفة ، للشغوفين بالثقافة ، فهو يوثق ــ جمالياً ــ فترةً جارحة و مؤذية من حياة إنسانة عبقرية عظيمة جرفها الفنُ الى قلب بحره لتكون أعظمَ نحاتةٍ أنثى في تاريخ الفن .. و حطم الحبُ حياتها و جرفها الى المتاهة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
" 1 " اقترن بها رسمياً ، قبل وفاته ، لإثبات شرعية ذلك الإبن .
" 2 " تولى منصب سفير فرنسا في اليابان و أمريكا و بلجيكا .
" 3 " جريدة ( النهار) اللبنانية ـ 16 آذار 2015 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط الفيلم بي التعليق الأول