كيف تتم عملية « العزال » في الصحف ؟
إن الانتقال من مبنى قديم إلى مبنى جديد كان آخر ما يمكن أن تفكر فيه أى مؤسسة صحفية . وذلك لضرورة صدور الصحيفة كل يوم ، ، وأى خلل يحدث أثناء عملية الانتقال قد يعرض الصحيفة لعدم الصدور . وكانت دور الصحف ترجي هذه العملية دائماً إلى الوقت الذى تجد نفسها فيه أنها لا تستطيع أن تستمر في زيادة التوزيع ما لم تجد حلا آخر . وهذا الحل لا يكون عادة إلا بالانتقال إلى مبنى أكبر ومجهز بأحدث الآلات .
وفى السنتين الماضيتين وجدت خمس من كبريات الصحف في العالم نفسها أمام هذا الإشكال . وهذه الصحف هي ( برمنجهام بوست ) في برمنجهام و « الديلي ميرور » و « التايمز » فى لندن و ( ماينتشي ) فى طوكيو و « الأهرام » في القاهرة . وهذه الدور الخمس هي أ أحدث ما تم بناؤه فى العالم الصحفي في منتصف الستينات من هذا القرن .
ولم يكن انتقال مؤسسة برمنجهام بوست من مبناها القديم إلى الجديد استثناء لهذه القاعدة من المشاكل والصعوبات. وذلك لأنه كان يجب نقل ا من قاعة المطبعة وقاعة التحرير ، ويجب أيضاً نقل بعض معدات التصنيع الجديدة، وكثير من قطع الأثاث ، وجميع ماكينات الجمع وماكينات صب ألواح الطبع (ستير يوتيب ). وقدر كبير من الأثاث والأشياء الخاصة بالموظفين، وكل ذلك يجب بنم بين وقت صدور صاندای ميركيورى ( يوم السبت ) والبدء في إعداده برمنجهام بوست يوم الاثنين وهي فترة تقل عن ٢٤ ساعة . وكانت هذه هي المشكلة التي يجب حلها .
وكانت المشكلة في إعداد التخطيط بين الجريدة ومتعهد عملية النقل في غرب برمنجهام ، وقد تمكنت هذه الشركة من اكتساب خبرة في مثل هذه العملية بعد النجاح الذي حققته في عملية نقل مماثلة كبيرة لصحيفة ( ديلى ميرور ) بلندن وفى عملية نقل ٢٦ ماكينة لصب السطور لصحيفة ( سكوتسمان ) بأندنبرج في ليلة واحدة . وقد بدأ التخطيط قبل ۱۲ شهراً من التاريخ المحدد لتنفيذ عملية الانتقال مع إعداد القوائم التي توضح بالتفصيل ما يجب أن ينقل من كل قسم ، وتحديد أقصى وقت يمكن أن تتوقف فيه المعدات عن العمل ، وكذلك الخدمة المطلوبة ، ثم الطريقة التي تنقل بها كل قطعة .
وفى الوقت الذي كانت تعد فيه هذه القوائم، تمت دراسة الصعوبات التي تكتنف عملية النقل الفعلية ، وقد وضح ا أن الوصول إلى المكان القديم هو المشكلة الكبرى سواء أكان داخليا لأن المبنى كان قديماً ومزدحماً جداً، أم خارجيا لأن المبنى كانت له واجهتان تطلان على أشد الشوارع التجارية ازدحاماً في برمنجهام . وتقرر أن الطريقة الوحيدة لإنجاز عملية النقل فى الوقت المناسب هي تهيئة ممرات مباشرة في هذين الشارعين ونقل جميع الماكينات بالروافع الآلية، وسبائك الرصاص وأثاث المكاتب والأشياء الخاصة بالموظفين بوساطة روافع البنائين . وتم توفير ثلاث رافعات من هذا النوع ، استخدمت منها اثنتان لنقل الأثاث من طابقين وواحدة فقط لسبائك الحروف ، وأعدت في المبنى ثلاث فتحات لإخراج الآلات. ومن ثم كانت هناك ثمانى نقط للخروج ، كل منها تهيئ ممراً مباشراً من أحد الطوابق إلى المركبة المنتظرة . وفى الوقت نفسه تمت دراسة طريقة الدخول إلى المبنى الجديد ولم يكن في ذلك أية صعوبة ، فقد كان يوجد فيه ثلاثة مصاعد كبيرة للطباعة يمكن عن طريقها نقل جميع السبائك والآلات باستثناء مسبكين ضخمين ، كما كان يوجد سبعة مصاعد أخرى للأثاث. ثم بدأ يبرز برنامج لعملية الانتقال ودل القوائم على أنه يمكن نقل قسم من أقسام العمل والمكتب التجاري منفصلين نقل جميع أقسام الأعمال الأخرى وجزء كبير من معدات المكاتب أثناء الليل بين يومى السبت والأحد . وفضلاً عن ذلك أوضحت دراسة هذه القوائم والممرات المتاحة للمتعهد أنواع الونشات ووسائل النقل المطلوبة . وبعد ذلك حان الوقت لمقابلة سلطات المدينة والشرطة لإبلاغها بهذه الخطط والحصول على إذن منها لسد الرصيف فقط - في الشارعين والعمل فى هذين الشارعين المزدحمين للغاية . ولحسن الحظ لم تكن هناك صعوبات من هذه الناحية ، وكانت جهود الشرطة. أثناء تنفيذ عملية الانتقال عاملاً هاماً في نجاحها .
وبعد قطعة من من أن تمت الموافقة على البرنامج الأساسى وطريقة تنفيذ العملية كان على موظفى الجريدة وكذلك على شركة النقل أن يحددوا مكان كل قسم وكل قطعة أثاث تنقل من المبنى القديم إلى المبنى الجديد. وقد تم ذلك باستخدام بطاقات ملونة وقد خصص لكل طابق فى المبنى الجديد لون معين. وقد لصقت بطاقة على كل المعدات كتب عليها حرف يدل على المصعد الذي يستخدم في نقلها إلى المبنى الجديد ورقم الغرفة التى تقرر أن توضع فيها ، وتوجد خريطة لكل غرفة تبين مكان كل قطعة . وكان على متعهد عملية النقل أن يدرس كل آلة والصعوبات التي تكتنف عملية نقلها . وكانت الصعوبة الحقيقية في عملية نقل المسبكين الضخمين ، إذ أنه لم يكن هناك أى وقت كاف لفك أجزاء منهما . وحتى يتمكنوا من نقلهما صنعت لهما قاعدة خاصة يمكن نقل المسبكين عليها ورفعهما . وقد استخدمت حمالات الرفع التي أحضرها مصنع ماكينات الجمع مما سهل عملية نقل هذا النوع الماكينات . وقد حضر أصحاب المصنع المحادثات الخاصة بعملية النقل من بدايتها ، كما تعاون الميكانيكيون التابعون للمصنع فى تركيب الماكينات بعد نقلها ، وتم إعداد التخطيط بإقامة غرفة توجيه فى كل من المكانين القديم والجديد وأنشئ بينهما اتصال تليفونى مباشر لتخطيط تقدم عملية الانتقال وتنسيق جميع وقد تم نقل القدر القليل من المعدات التى يمكن نقلها منفصلة خلال فترة نهاية الأسبوع السابقة للعملية الرئيسية ، وكان الجو حسناً ولم تكن هناك سوى صعوبات ضئيلة . وجدير بالذكر أن الجو يلعب دوراً كبيراً في عملية من هذا النوع في بريطانيا ، ولا شك في أن الجو العامل الوحيد الذي لا يمكن التحكم فيه . ولذلك عندما تحولت الليلة التي تقرر أن تتم فيها عملية النقل إلى ليلة لم ينقطع فيها هطول المطر ، لم يتوقف نجاح العملية على صحة التخطيط وتقدير العملية فحسب بل توقف أيضاً على عزم الرجال القائمين بها على إنجاز العمل رغم البلل . وقد تمت عملية الانتقال فى الوقت المحدد وخلال فترة تقل عن ٢٤ ساعة . وتم نقل ٤٨ ماكينة جمع ، ومسبكين وزن كل منهما ٨ أطنان و جهازى صب العناوين ، وحدات رخام لتوضيب الصفحات ، وخمسة مكابس طباعة ، و ١٤ قطعة من معدات غرف الآلات ، وقسم أعمال يضم ثلاث آلات تصوير وآلة من طراز ( ليتل جون ) ، أطنان وقسم ا من مجموعات حروف الطباعة ، والمكتبة ، وكمية كبيرة من الأثاث، ووضعت جميعها وجهزت بطريقة صحيحة لكي يبدأ العمل في إعداد صحيفة ( البوست ) في الوقت المناسب .
ولإنجاز هذه العملية استخدمت رافعة حمولتها ٢٥ طنا وأخرى حمولتها ١٥ طنا ونحو ۱۲ سيارة نقل ، ونحو ١٥٠ شخصاً من مهن مختلفة : من مهندسي طباعة إلى كهربائيين، وسباكين ، وأخصائيين في إقامة السقالات ، وأخصائيين في الأنابيب ، وبنائين ، ونجارين ، وسائقين للرافعات ، وعمال أخصائيين في عملية النقل ، وكان لابد من تنسيق عمل هؤلاء جميعاً . ولم يكن من الممكن قط إنجاز عملية النمل فى الوقت المناسب لولا التخطيط الذى أعد قبل شهور من الوقت المحدد لها، وخصوصاً في أحوال جوية سيئة لم يكن من الممكن إنجاز العملية على الإطلاق لولا الجهود الجبارة التي بذلتها هذه المجموعات المختلفة من الرجال الذين قاموا بها . وبعد إتمام هذه العملية الضخمة استطاعوا أن يطبعوا فيما بين الساعة ١١ من صباح يوم السبت والواحدة من بعد الظهر الأحد نحو مليون نسخة .
وفي اليابان اتوجد جريدتان كبيرتان توزعان معاً حوالي ١٥,٥ مليون نسخة في اليوم ، وذلك فى عدة طبعات صباحية ومسائية وفى عدة لغات . وقد استطاعت إحدى الجريدتين ( ما ينتشي ) أن تنتقل إلى مبنى جديد في سبتمبر سنة ١٩٦٦ ، بينما بقيت الأخرى (أساهي ) في مبناها القديم .
وتعتبر جريدة أساهى من أكبر الجرائد توزيعاً في اليابان. ويبلغ توزيع الطبعة الصباحية أكثر من خمسة ملايين نسخة. بينما توزع الطبعة المسائية ٣,٥ مليون نسخة . هذا إلى جانب المجلات الأسبوعية والشهرية التي يبلغ توزيعها معاً ١،٥ مليون نسخة . ويعمل في هذه المؤسسة ٧٥٨٠ موظفاً وعاملاً . وهي عبارة عن مبنى قديم تم بناؤه في عام ۱۸۷۹ ، ولم تستطع الانتقال منه ! إلى اليوم وتطبع جرائدها في خمس مدن كبيرة في نفس الوقت . وترسل المواد إلى هذه المدن إما بطريقة الجمع على شريط البرفوريتور أو بإرسال الصفحة كاملة على التليفون في مدة ٦ دقائق لكل صفيحة . وهذه الدار مجهزة بأجهزة حديثة للإرسال والاستقبال من وإلى كافة دول العالم مباشرة . ويبلغ توزيع جريدة ما ينتشى الصباحية ٤,٥ مليون نسخة ، أما الجريدة المسائية فيبلغ توزيعها ٢,٥ مليون نسخة ، هذا إلى جانب الطبعات الإنجليزية والمجلات الأسبوعية والشهرية . وتعتبر هذه المؤسسة أحدث وأكبر الدور الصحفية في العالم . وقد انتهى بناؤها وتم الانتقال من المبنى القديم إلى المبنى الجديد فى شهر سبتمبر سنة ١٩٦٦ . والمبنى مكون من ١٥ طابقاً . منها ٩ طوابق فوق الأرض و ٦ طوابق تحت الأرض . واستطاعوا أن ينقلوا جميع ماكينات الجمع والبرفوريتور والتليفوتو والمكاتب فى ٢٤ ساعة ) فى نهاية الأسبوع) وقد استخدموا في هذه العملية ۲۰۰۰ سيارة لوری و ۷۰۰۰ رجل إلى جانب معاونة رجال الشرطة ورجال الجيش بإمكانياتهما الميكانيكية. وتعتبر عملية الانتقال حدثاً ضخماً في الوسط الصحفى . وقد تم تصوير هذه العملية فى فيلم سينمائى ملون استغرق عرضه ثلاثين دقيقة ، ويبين هذا الفيلم مراحل الانتقال وكيفية وضع الخطة ، وطريقة الإضاءة في الليل ، وأنواع الجهد البشرى من عمال ومهندسين وفنيين ورجال الإسعاف الطبي . وكل الذين اشتركوا فى هذه العملية كانوا يتناولون وجباتهم أثناء العمل ، ويتوقف بعضهم للراحة بينما تقوم وردية أخرى بإتمام ما بدأه الآخرون .
وكانوا ينقلون كل ماكينة كوحدة كاملة دون فكها ويضعونها على سيارات اللورى من المبنى القديم الذى يبعد ۲۰ دقيقة بالسيارة إلى المبنى الجديد . وترفع الماكينات بالونشات إلى الدور المخصص لقاعة الجمع . أما ماكينة الطباعة الدوارة فكانت موجودة في المبنى الحديث ، وكانوا قد اشتر وا وحداتها قبل البناء . وفى يوم الانتقال توقفت الماكينة القديمة وبدأوا الطبع على الماكينة الجديدة ، ثم بدأت عملية فك الماكينة القديمة .
ويعمل في هذه المؤسسة ۷۰۰۰ موظف وعامل . منهم ٢٤٧٠ في التحرير يقومون بالعمل في طوكيو والمدن الأخرى التى يطبعون فيها طبعاتهم الإقليمية إلى جانب المراسلين والمكاتب الخارجية . ويشغل التحرير دوراً واحداً كبيراً ، به قاعة فسيحة يجلس فيها . المحررين ورؤساء الأقسام ورؤساء التحرير معاً ، وهي تسع حوالى ٢٥٠ شخصاً ، وهذه الصالة مجهزة بأحدث الطرق الآلية . ولا يدخلها صبيان أو سعاة ، بل ينتقل العمل أوتوماتيكينًا من مكتب إلى آخر بطريقة الشريط الكهربائي أو بطريقة الهواء المضغوط . ويمر الشريط على جميع المكاتب وينزل إلى المطبعة .
تعليق