الطباعة الباردة
كان ذلك في ربيع عام ١٩٤٤ ، وكان موظف فرنسي يدعى هيجونيه Higonnet لا علاقة له بالمطابع على الإطلاق - يزور إحدى المطابع مع صديق له في مدينة ليون بفرنسا . وكان هيجونيه شديد الفضول ، يستفهم عن كل ما تراه عيناه ، وعن طريقة عمل كل جهاز يشاهده، ودار الحديث أمامه عن طباعة الأوفست ، وفهم من الحديث أنهم يقومون بتصوير الحروف بعد جمعها . واهتم هيجونيه بالموضوع بحكم هوايته للتصوير ، ثم سألهم. عن كيفية تصوير هذه الحروف . فأخبروه أنهم يقومون أولاً بجمع الموضوع على ماكينة لصب الحروف ، فتنزل السطور على قاعدة من الرصاص الساخن ، ثم يطبعون هذا الرصاص على ورق « كوشيه : أبيض ، وبعدئذ يقومون بتصوير الكلام المطبوع على هذه الورقة ، وهذا الفيلم الذى تم تصويره يرسل لتجهيزه ( المونتاج ) حتى يتم تصويره مرة أخرى على لوحة الزنك . فسألهم هيجونيه متعجباً : وماذا تفعلون بسطور الرصاص ؟ فنظروا إليه مبتسمين وقالوا : لا نعود في حاجة إليها بعد طبع بروفة واحدة منها ، إننا نصهرها مرة أخرى فسألهم هيجونيه : ألا توجد طريقة غير هذه الطريقة تستغنون بها عن هذه الحلقة وهي عملية جمع الرصاص ثم إلقائه في المصهر ؟
وعند عودته إلى مكتبه بدأ يفكر فى الوقت والمجهود الضائعين ، حتى جاءته الفكرة الأولى . لماذا لا يصنع متريساً شفافاً ( سلبى Negative ) ؟ هذا الفيلم يكون أسود اللون والحرف شفافاً فى وسطه ، وعندما يمر الضوء من خلاله فإن الحرف سينعكس على ورقة حساسة أو على فيلم حساس ويظهر عليه . إنها نفس فكرة التصوير التي يهواها .
وفي أوائل عام ١٩٤٥ ظهرت فكرته إلى الوجود . لقد وضع جميع الحروف الأبجدية والأرقام والحروف الخاصة وعددها ۸۸ ، على فيلم صغير لا يتعدى حجمه عشرة سنتيمترات طولا وعرضاً ، وبذلك استغنى عن مخزن المتاريس التقليدي الضخم الذي كان يحتوى على أكثر من ۲۰۰۰ متريس من النحاس توضع فوق ماكينة اللينوتيب . لقد استطاع أن يصغر هذه العملية من حيث المساحة والوزن . وهذا المخزن الصغير يمكنه أن يدور أمام الضوء بوساطة مفاتيح الآلة الكاتبة ، فعندما يضغط مثلاً على مفتاح حرف (م) يدور المخزن ويقف متريس الميم أمام الضوء ، وفي لحظة وقوفه يضاء شعاع الضوء أتوماتيكياً فيمر من خلال الحرف السلبي وينطبع على الفيلم الحساس ، إن الفكرة بسيطة لكنها أحدثت انقلاباً كبيراً في صناعة الصحافة . ثم عرض ماكيت الجهاز العجيب على مدير المدرسة الفنية في باريس ( مسيورانك Ranc ) ، الذى تنبأ له بثورة فى فن الطباعة . ولم يكن هيجونيه يتصور أن تكون لفكرته البسيطة كل هذه الضجة . وفى عام ١٩٤٨ اتفق مع شركة أمريكية لتمويل مشروعه ، وبعد عامين ظهر أول جهاز للجمع بالتصوير . وبدأ سطر الرصاص الساخن يترك مكانه لسطر الفيلم البارد ببطء شديد . وأطلق على هذه الطريقة في الحروف اسم الطباعة الباردة ١٩٥٧ – أخذ الشريط المثقوب ينتشر فزادت سرعة الجمع على هذا الجهاز ١٥٠ مرة عما كانت عليه منذ سبع سنوات. ولكن القفزة الكبرى لهذا الجهاز بدأت بعد أن دخل العقل الإلكترونى هذا الميدان ، وأصبحت السرعة تقاس بالملايين .
وقبل اختراع جهاز الجمع التصويرى كانت هناك ثلاث طرق تتم بها عملية الجمع الجمع :
الأولى : طريقة صف الحروف باليد ، حرفاً بجانب الآخر ، بسرعة تتراوح بین ۱۰۰۰ و ۱٥۰۰ حرف فى الساعة ( من ٣٠ إلى ٤٠ سطراً ) .
الثانية : طريقة مونوتيب ، وهى طريقة ميكانيكية تجمع حروفاً على ماكينة لصب الحروف تنتج حروفاً مستقلة ، ثم يصف كل حرف بجانب الآخر ، ويستخدم هذا الجهاز لوحة مفاتيح إلى جانب ماكينة صب الحروف . وارتفعت السرعة إلى ۱۰ آلاف حرف في الساعة ( ٣٠٠ سطر) .
الثالثة : طريقة اللينوتيب بالشريط وهى طريقة ميكانيكية كذلك . يتم بها جمع السطر كوحدة متكاملة ثم صبه على قاعدة من الرصاص . وارتفعت السرعة فيما بين ۸ آلاف حرف و ١٥ ألف حرف فى الساعة ( ٤٥٠ سطراً ) وهذه المواد التي يتم جمعها بهذا الشكل كانت تربط بوساطة شاسيهات ومفاتيح . وكانت حروفها بارزة ويمكن طبعها على ورق أو كبسها على ( فلانات ) أو تصويرها من الورق لاستخدامها في طباعة الأوفست وطباعة الهليوجرافور ( الروتوجرافور ) .
بينما الجمع بالتصوير يختلف عن هذه العملية تماماً ، إذ ليس هناك رصاص على الإطلاق . وعندما الضرب على المفاتيح ، وبدلاً . أن تصب الماكينة سطوراً من رصاص ، فإنها تخرج فيلماً شفافاً طبعت عليه هذه الحروف . وفى طباعة الأوفست والهليوجرافور لا يفيدون من الرصاص المجموع ، وبالتالى كانت الفكرة فى الاستغناء عنه اقتصادية وسريعة. فقد اختزلت خطوة باهظة التكاليف للوصول في النهاية إلى نفس النتيجة ، وهى النص المطبوع على فيلم . وعندما ظهر العقل الإلكترونى واكتشف الخبراء سرعته الفائقة ، الأجهزة المساعدة ( أجهزة الجمع الميكانيكية ) تعوق هذا الجهاز عن سرعته وتقيده . أن العقل الإلكترونى يفقد قيمته في السرعة ما لم تجاره بقية الأجهزة في العمل الصحفى . لأن الخبر يفقد صلاحيته للنشر إذا تأخر طبعه . لذلك تعتبر الرصاص عملية بدائية فى العصر الذهبي لصناعة الصحافة . لأن الجمع بالرصاص - حتى عن طريق الشريط المثقوب - لا تزيد سرعته على ٨ أو ١٠ حروف في الثانية . بينما تصل سرعة جهاز الجمع بالتصوير إلى ١٦٠٠ حرف في الثانية . إلى جانب التشكيلة الكبيرة فى أنواع الحروف التي يمكن استخدامها بالتكبير على هذا الجهاز .
وقبل التوصل إلى هذا الجهاز العجيب ، استطاع الخبراء أن يرفعوا الإنتاج من ١٠ حروف في الثانية إلى ٣٠ حرفاً في الثانية عن طريق الجمع بالتصوير على ماكينات أنترتيب وعلى متاريس نحاسية داخلها حرف شفاف . أما اليوم فإنهم يعملون على رفع الإنتاج إلى أكثر من ألف حرف في الثانية ، وذلك عن طريق العين الإلكترونية أو ما يسمونه ( المتريس اللامادى ) . ومن هذه الفكرة بدأ الخبراء يعملون لصناعة هذه المتاريس الإلكترونية. وهي عبارة عن صور الحروف ترسل إلى داخل شاشة الصمام التلفزيونى Cathod Tube). إن هذه الصورة تصنع بنفس الطريقة التي تصنع بها الصور التي نشاهدها على الشاشة التلفزيونية . وهكذا يمكن إنتاج هذه الصور بسرعة وتغييرها بسرعة ويمكن عرضها منفصلة أو على شكل سطور كاملة . ويمكن كذلك تغيير حجمها بتكبيرها أو بتصغيرها حسب الطلب . وهذه الصور هى التى تعرض عن طريق العدسة على الفيلم الحساس أو الورق الحساس، فتخرج على شكل حروف مطبوعة . وهذه الحروف مكونة من شبكة من الخطوط المتقاطعة لا تميزها العين. وكل حرف مكون من عدد معين من الخطوط تماماً كما يحدث للصورة فى التلفزيون ، وذاكرة العقل تستوعب جميع أشكال الحروف تحت صورة/ إلكترونية ذات شبكية ( كما هو مبين في الرسم ١ ) وإذا تصورنا أن الحروف الثلاثة .a.bg. فوقها خطوط متقاطعة تمثل شبكة من المربعات الصغيرة . فإن جزءاً من هذه المربعات يغطى سطح الحرف ( وهو الظاهر في الرسم بالخط الأسود ) بينما الجزء الآخر من هذه المربعات يغطى المساحة التي حول الحرف . وهذا التعاقب في المربعات البيضاء والسوداء يساعد فى ترجمة صور الحروف إلى ذبذبات ، وتسجيلها بطرق إلكترونية ، ويعطى لكل مربع أسود قيمة إيجابية ولكل أبيض قيمة سلبية . والمربعات الموجودة على حافة الصورة ( الحرف ) يكون لها قيمة إيجابية إذا كانت أغلبية الصورة التى تخص الحرف سوداء ، والعكس بالعكس . وعند إنتاج صور الحروف ، ترسل النبضات إلى الصمام التلفزيونى والنبضات الإيجابية تضىء الشعاع الإلكترونى ، بينما النبضات السلبية تمنع الضوء
من الانطلاق .
إن الشعاع الإلكترونى يقوم بهذه العملية في جميع نقط الصورة واحدة تلو الأخرى . لذلك كان من الضرورى اتباع نظام معين في حالة إرسال هذه النقط . لأن الإرسال يحتمل ٣ معان . إنه يعنى أولاً أن الحرف ( كالموجود في الرسم ) يحله الشعاع الإلكترونى ، وتكون نتيجة ذلك أن يقوم الجهاز بتثقيب شريط بناء على هذه الأوامر . ويعنى مرة أخرى أن الحرف الذي تم تثقيبه على شريط يمكن أن يتم تخزينه في ذاكرة العقل الإلكترونى . ويعنى مرة ثالثة بالنسبة لعمية الجمع أن هذه النبضات التي تم تخزينها ، قد تم إرسالها إلى الصمام التلفزيونى حيث تستخدم الصورة على الشاشة .
ونظام إرسال هذه النقط يبدأ من أسفل – شمالاً ـ ويتبع الخط الأول نحو أعلى ، ثم يتبعه بالخط الذى يليه إلى اليمين ويبدأ تحليله من أسفل إلى أعلى حتى يصل في النهاية إلى آخر نقطة في أعلى آخر خط إلى اليمين ، وهكذا تكون قد تمت الحرف كله .
تعليق