القانون الدولي العام
يدين مصطلح القانون الدولي العام public international law للفقيه جيرمي بنتام [ر] (1748ـ1832) الذي استخدمه أول مرة في كتابه «مقدمة في مبادئ الأخلاق والتشريع» الصادر عام 1789. وقبل ذلك كان الفقهاء يطلقون على هذا الفرع من فروع القانون تسميات شتى منها قانون الأمم the law of nations أو قانون الشعوب droit des gens وهي مشتقة من المصطلح اللاتيني jus gentium الذي استخدمه الرومان للدلالة على القانون الناظم لعلاقتهم بالشعوب الأخرى على عكس القانون المدني jus civil الذي كان ينظم علاقات الرومان بعضهم ببعض.
وإذا كانت الدول التي تتبع النظام الأنكلوسكسوني تستخدم حالياً اصطلاح القانون الدولي فإن تلك التي تأخذ بالنظام اللاتيني تجري على استعمال مصطلح القانون الدولي العام droit international public / public international law وذلك للتفرقة بين هذا الفرع من القانون وفرع آخر يسمى القانون الدولي الخاص droit international privé private international law.
والقانون الدولي العام في مفهومه المعاصر هو «مجموعة القواعد القانونية التي تنظم العلاقات المتبادلة للدول وغيرها من الأشخاص الدولية». يتبين من هذا التعريف مايأتي:
أولاً ـ أن القانون الدولي العام هو مجموعة قواعد قانونية تتميز من القواعد الأخلاقية rules of morality ومن قواعد المجاملات الدولية rules of comity. فالقواعد القانونية ملزمة بمعنى أن الخروج عليها يرتب المسؤولية الدولية international responsibility [ر] في حين أن القواعد الأخلاقية مثل الرأفة في الحروب، ونجدة دول حلت بها نكبات طبيعية غير ملزمة قانوناً؛ لأنها قواعد يفرضها الضمير ولا يترتب على عدم الأخذ بها أكثر من سخط الرأي العام العالمي، وكذلك فإن قواعد المجاملات الدولية كتأدية التحية البحرية، ومعاملة رؤساء الدول السابقين بامتيازات وحصانات معينة تعد غير ملزمة أيضاً لأنها قواعد تسعى إلى خلق روح المودة بين الدول ويترتب على الإخلال بها المعاملة بالمثل reciprocity ليس إلا. غير أنه من الممكن أن تنقلب القواعد الأخلاقية إلى قواعد قانونية كالقواعد المتصلة بمعاملة الأسرى والمدنيين في حالة النزاعات المسلحة[ر] الدولية أو الداخلية، وكذلك قد تتحول قاعدة مجاملة دولية إلى قاعدة قانونية كالقواعد المنظمة للامتيازات الدبلوماسية [ر: الدبلوماسية].
ثانياً ـ والقانون الدولي مجموعة قواعد قانونية تنظم علاقات الدول وغيرها من الأشخاص الدولية. واستخدام كلمة تنظم regulate هنا جاء للبعد عن اعتماد نظرية ما من النظريات التي تتعلق بأساس الإلزام للقانون الدولي، فالرأي الغالب في الفقه والاجتهاد حالياً أن أساس هذا الإلزام هو الإرادة المشتركة للأشخاص الدولية mutual consent وليس إرادة فوقية أو قوة خارجة عن إرادتهم بما قد تتضمنه كلمات أخرى مثل «تحكم» أو «تهيمن»، فالأشخاص الدولية تنظم علاقاتها بقواعد القانون الدولي لأنها اختارته بإرادتها الحرة والتزمت به على هذا النحو، ومقيد نفسه طليق كما يقال.
ثالثاً ـ والقانون الدولي العام هو مجموعة قواعد قانونية تنظم العلاقات المتبادلة للدول وغيرها من الأشخاص الدولية ويلاحظ هنا أن كلمة «الدول» قُرنت بكلمة «غيرها من الأشخاص الدولية» انطلاقاً مما استقر عليه الفقه[ر] والاجتهاد[ر] الدولي الحديث القائل بإن قواعد القانون الدولي العام لم يعد يقتصر تطبيقها، كما في السابق، على علاقات الدول فحسب بل يتعداه إلى المنظمات الدولية[ر] حتى على الأفراد في حالات معينة مادام هؤلاء وتلك تخاطب بذاتها ولذاتها بحقوق والتزامات ويمكن أن تقاضي وتقاضى بهذه الصفة.
رابعاً ـ فالقانون الدولي العام هو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم العلاقات المتبادلة للدول وغيرها من الأشخاص الدولية. وهذا مايميزه من القانون الدولي الخاص الذي يتألف من مجموعة قواعد قانونية داخلية، وأحياناً دولية تحكم المسائل ذات العنصر الأجنبي كزواج بين شخصين من جنسيتين مختلفتين، أو عقد بين سوري وبرازيلي على استيراد بنّ من البرازيل مقابل شيك صادر عن مصرف سويسري أو ماشابه. وعليه ففي الوقت الذي لدينا فيه قانون دولي عام واحد لجميع الدول، فإن هناك لكل دولة قانونها الدولي الخاص بها ينظم علاقة الفرد بقانون دولة أو دول أجنبية بحسب الحال، لاعلاقة دول فيما بينها، أو علاقة دولة بمنظمة دولية أو أكثر، أو علاقة منظمة دولية بمثيلتها وهو موضوع القانون الدولي العام وحده.
بدأ اهتمام الدول بتنظيم علاقاتها على أساس من القواعد القانونية الثابتة والشاملة والمستمرة في أواسط القرن السابع عشر إثر الحروب الدينية في أوربا التي انتهت بإبرام صلح وستفاليا عام 1648، فهذا الصلح والاتفاقية المسماة باسمه تعد فاتحة عهد جديد للعلاقات الدولية يبدأ عندها تأريخ القانون الدولي المعاصر.
لكن هذا لايعني أن العلاقات الدولية لم تكن قائمة قبل ذلك التاريخ أو أنها لم تكن منظمة البتة؛ ذلك لأن وجود علاقات دولية إنما هو نتيجة حتمية لوجود الدول، فهي قديمة قدمها وإن كانت قد بقيت مدة طويلة من الزمن ذات صفة عارضة لايحكمها غير بضع قواعد عرفية بعضها من نتاج التقاليد وبعضها الآخر وليد اعتبارات دينية أو فلسفية معينة، مما يجعلها تختلف في أسسها عن مبادئ القانون الدولي العام بمعناه المعروف حالياً.
ومنذ ولادة التنظيم الدولي مع عصبة الأمم[ر] ثم مع الأمم المتحدة[ر] أصبح للقانون الدولي العام ميزات تتمثل فيما يأتي:
1ـ العالمية universality: فالقانون الدولي العام الذي بدأ قانوناً أوربياً مسيحياً مع صلح وستفاليا توسع نطاقه ليصبح قانوناً عالمياً علمانياً. فالقانون الدولي ينظم اليوم سلوك مايزيد على 191 دولة عضواً في الأمم المتحدة (عام 2006) بعدما كان يحكم سلوك الدول الأوربية وحدها وهو ينظم سلوك دول تنتمي إلى القارات الخمس وإلى جميع الأديان والملل والنحل والتوجهات العقائدية.
2 ـ الشمول والتنوع variety and diversification: فالقانون الدولي العام الذي كان ينظم سلوك الدول في السلم والحرب وما يتعلق بهما وحسب أصبح اليوم يشتمل على فروع تكاد تحاكي القانون الداخلي فثمة قانون دولي إداري[ر] وآخر اقتصادي[ر] وإنساني[ر] وجزائي[ر] وهكذا.
3 ـ الاختلاف على المفاهيم الأساسية للقانون الدولي: كذلك أدت عالمية القانون الدولي إلى اختلاف بيّن في مفاهيمه الأساسية بين ماكان متعارفاً عليه منذ قرون واليوم، فكثير من المبادئ التي نادى بها فقهاء القرون السالفة مثل غروشيوس[ر] وفاتيل وسواريز وفيكتوريا وسواهم كانت نتيجة الطابع الإقليمي الانحصاري الاستعماري للقانون مما لاينسجم مع أفكار أبناء الدول المستقلة حديثاً حيث غدا من الضروري الاتفاق على مبادئ وقواعد تساير روح العصر وتقارب الاتجاهات المختلفة.
4 ـ بدأ عصر الأمم المتحدة بحرب باردة بين معسكرين عملاقين: أحدهما قادته الولايات المتحدة الأمريكية، والآخر تزعّمه الاتحاد السوڤييتي، وبينهما مجموعة كبيرة من دول عدم الانحياز[ر]؛ مما خلق توازناً في القوى ساعد على إنفاذ أحكام القانون الدولي العام. غير أنه مع انهيار الاتحاد السوڤييتي وسقوط منظومة الدول الاشتراكية وتقلص أهمية حركة عدم الانحياز[ر] بدأ العالم يشهد عصر الهيمنة الأمريكية american hegemony أو السلم الأمريكي pax americana وفيها بدأت مواجهة العالم قواعد تفرضها حكومة الولايات المتحدة باسم »القانون الدولي« إما مباشرة وإما عن طريق قرارات يصدرها مجلس أمن الأمم المتحدة[ر] وتعدّها ملزمة للعالم في حين أن فيها مافيها من اللامشروعية وفق قواعد القانون الدولي المتعارف عليها. وشايع بعض الفقه الأمريكي هذه النزعة التسلطية فسمى نورتن مور ورفاقه كتابهم المدرسي في القانون الدولي «قانون الأمن الوطني» law of national security.
يستمد القانون الدولي قوته من عدد من المصادر sources عددتها المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية الذي يعدّ جزءاً لايتجزأ من ميثاق الأمم المتحدة (وهو دستور العلاقات الدولية). وقد فرق الفقه والاجتهاد بين مصادر أصلية principal original = وأخرى ثانوية subsidiary = secondaryأو استدلالية (تبعية).
أما المصادر الأصلية للقانون الدولي فهي:
ـ الاتفاقات الدولية[ر] العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفاً بها صراحة من قبل الدول المتنازعة.
ـ العادات الدولية المرعية المعتبرة بمنزلة قانون دل عليه تواتر الاستعمال (العرف).
ـ المبادئ العامة للقانون التي أقرتها الأمم المتمدنة general principles of law recognised by civilized nations. أي مبادئ القانون الداخلي القابلة للتطبيق على التعامل الدولي بغض النظر عن الدول التي تأخذ بها، في حين كان معناها في بدايات تطور القانون الدولي المعاصر مبادئ القانون في الدول الأوربية المسيحية فحسب.
وأما المصادر الثانوية أو الاستدلالية فهي تلك التي تدل على المصادر الأصلية وهي:
أحكام المحاكم Jurisprudence، ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام doctrine في مختلف الأمم. وتبقى مبادئ العدالة والإنصاف equity مصدراً احتياطياً يمكن اللجوء إليه شريطة موافقة أطراف النزاع على ذلك.
عدَّ الفقه الغربي لسنوات طويلة الفقيه الهولندي هيوغو غروشيوس[ر] أبا القانون الدولي؛ لذا سميت الجمعيات المهتمة بتطوير ودراسة قواعد هذا القانون باسمه في العديد من دول العالم، غير أن الدراسات الحديثة الموضوعية أثبتت أن الفقيه العربي محمد بن الحسن الشيباني[ر] سبق غروشيوس بثمانية قرون في تدوين قواعد العلاقات الدولية في كتابه الشهير «شرح السير الكبير» لذا يلاحظ أن عدداً متزايداً من الجمعيات العلمية المعنية بدراسة وتطوير القانون الدولي غيّرت اسمها إلى جمعيات الشيباني للقانون الدولي The Shaibani Societies of International Law إقراراً بفضل هذا الفقيه العربي، وبفضل العرب عامة في كتابة أولى القواعد الناظمة للتعامل الدولي في السلم والحرب.
محمد عزيز شكري
يدين مصطلح القانون الدولي العام public international law للفقيه جيرمي بنتام [ر] (1748ـ1832) الذي استخدمه أول مرة في كتابه «مقدمة في مبادئ الأخلاق والتشريع» الصادر عام 1789. وقبل ذلك كان الفقهاء يطلقون على هذا الفرع من فروع القانون تسميات شتى منها قانون الأمم the law of nations أو قانون الشعوب droit des gens وهي مشتقة من المصطلح اللاتيني jus gentium الذي استخدمه الرومان للدلالة على القانون الناظم لعلاقتهم بالشعوب الأخرى على عكس القانون المدني jus civil الذي كان ينظم علاقات الرومان بعضهم ببعض.
وإذا كانت الدول التي تتبع النظام الأنكلوسكسوني تستخدم حالياً اصطلاح القانون الدولي فإن تلك التي تأخذ بالنظام اللاتيني تجري على استعمال مصطلح القانون الدولي العام droit international public / public international law وذلك للتفرقة بين هذا الفرع من القانون وفرع آخر يسمى القانون الدولي الخاص droit international privé private international law.
والقانون الدولي العام في مفهومه المعاصر هو «مجموعة القواعد القانونية التي تنظم العلاقات المتبادلة للدول وغيرها من الأشخاص الدولية». يتبين من هذا التعريف مايأتي:
أولاً ـ أن القانون الدولي العام هو مجموعة قواعد قانونية تتميز من القواعد الأخلاقية rules of morality ومن قواعد المجاملات الدولية rules of comity. فالقواعد القانونية ملزمة بمعنى أن الخروج عليها يرتب المسؤولية الدولية international responsibility [ر] في حين أن القواعد الأخلاقية مثل الرأفة في الحروب، ونجدة دول حلت بها نكبات طبيعية غير ملزمة قانوناً؛ لأنها قواعد يفرضها الضمير ولا يترتب على عدم الأخذ بها أكثر من سخط الرأي العام العالمي، وكذلك فإن قواعد المجاملات الدولية كتأدية التحية البحرية، ومعاملة رؤساء الدول السابقين بامتيازات وحصانات معينة تعد غير ملزمة أيضاً لأنها قواعد تسعى إلى خلق روح المودة بين الدول ويترتب على الإخلال بها المعاملة بالمثل reciprocity ليس إلا. غير أنه من الممكن أن تنقلب القواعد الأخلاقية إلى قواعد قانونية كالقواعد المتصلة بمعاملة الأسرى والمدنيين في حالة النزاعات المسلحة[ر] الدولية أو الداخلية، وكذلك قد تتحول قاعدة مجاملة دولية إلى قاعدة قانونية كالقواعد المنظمة للامتيازات الدبلوماسية [ر: الدبلوماسية].
ثانياً ـ والقانون الدولي مجموعة قواعد قانونية تنظم علاقات الدول وغيرها من الأشخاص الدولية. واستخدام كلمة تنظم regulate هنا جاء للبعد عن اعتماد نظرية ما من النظريات التي تتعلق بأساس الإلزام للقانون الدولي، فالرأي الغالب في الفقه والاجتهاد حالياً أن أساس هذا الإلزام هو الإرادة المشتركة للأشخاص الدولية mutual consent وليس إرادة فوقية أو قوة خارجة عن إرادتهم بما قد تتضمنه كلمات أخرى مثل «تحكم» أو «تهيمن»، فالأشخاص الدولية تنظم علاقاتها بقواعد القانون الدولي لأنها اختارته بإرادتها الحرة والتزمت به على هذا النحو، ومقيد نفسه طليق كما يقال.
ثالثاً ـ والقانون الدولي العام هو مجموعة قواعد قانونية تنظم العلاقات المتبادلة للدول وغيرها من الأشخاص الدولية ويلاحظ هنا أن كلمة «الدول» قُرنت بكلمة «غيرها من الأشخاص الدولية» انطلاقاً مما استقر عليه الفقه[ر] والاجتهاد[ر] الدولي الحديث القائل بإن قواعد القانون الدولي العام لم يعد يقتصر تطبيقها، كما في السابق، على علاقات الدول فحسب بل يتعداه إلى المنظمات الدولية[ر] حتى على الأفراد في حالات معينة مادام هؤلاء وتلك تخاطب بذاتها ولذاتها بحقوق والتزامات ويمكن أن تقاضي وتقاضى بهذه الصفة.
رابعاً ـ فالقانون الدولي العام هو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم العلاقات المتبادلة للدول وغيرها من الأشخاص الدولية. وهذا مايميزه من القانون الدولي الخاص الذي يتألف من مجموعة قواعد قانونية داخلية، وأحياناً دولية تحكم المسائل ذات العنصر الأجنبي كزواج بين شخصين من جنسيتين مختلفتين، أو عقد بين سوري وبرازيلي على استيراد بنّ من البرازيل مقابل شيك صادر عن مصرف سويسري أو ماشابه. وعليه ففي الوقت الذي لدينا فيه قانون دولي عام واحد لجميع الدول، فإن هناك لكل دولة قانونها الدولي الخاص بها ينظم علاقة الفرد بقانون دولة أو دول أجنبية بحسب الحال، لاعلاقة دول فيما بينها، أو علاقة دولة بمنظمة دولية أو أكثر، أو علاقة منظمة دولية بمثيلتها وهو موضوع القانون الدولي العام وحده.
بدأ اهتمام الدول بتنظيم علاقاتها على أساس من القواعد القانونية الثابتة والشاملة والمستمرة في أواسط القرن السابع عشر إثر الحروب الدينية في أوربا التي انتهت بإبرام صلح وستفاليا عام 1648، فهذا الصلح والاتفاقية المسماة باسمه تعد فاتحة عهد جديد للعلاقات الدولية يبدأ عندها تأريخ القانون الدولي المعاصر.
لكن هذا لايعني أن العلاقات الدولية لم تكن قائمة قبل ذلك التاريخ أو أنها لم تكن منظمة البتة؛ ذلك لأن وجود علاقات دولية إنما هو نتيجة حتمية لوجود الدول، فهي قديمة قدمها وإن كانت قد بقيت مدة طويلة من الزمن ذات صفة عارضة لايحكمها غير بضع قواعد عرفية بعضها من نتاج التقاليد وبعضها الآخر وليد اعتبارات دينية أو فلسفية معينة، مما يجعلها تختلف في أسسها عن مبادئ القانون الدولي العام بمعناه المعروف حالياً.
ومنذ ولادة التنظيم الدولي مع عصبة الأمم[ر] ثم مع الأمم المتحدة[ر] أصبح للقانون الدولي العام ميزات تتمثل فيما يأتي:
1ـ العالمية universality: فالقانون الدولي العام الذي بدأ قانوناً أوربياً مسيحياً مع صلح وستفاليا توسع نطاقه ليصبح قانوناً عالمياً علمانياً. فالقانون الدولي ينظم اليوم سلوك مايزيد على 191 دولة عضواً في الأمم المتحدة (عام 2006) بعدما كان يحكم سلوك الدول الأوربية وحدها وهو ينظم سلوك دول تنتمي إلى القارات الخمس وإلى جميع الأديان والملل والنحل والتوجهات العقائدية.
2 ـ الشمول والتنوع variety and diversification: فالقانون الدولي العام الذي كان ينظم سلوك الدول في السلم والحرب وما يتعلق بهما وحسب أصبح اليوم يشتمل على فروع تكاد تحاكي القانون الداخلي فثمة قانون دولي إداري[ر] وآخر اقتصادي[ر] وإنساني[ر] وجزائي[ر] وهكذا.
3 ـ الاختلاف على المفاهيم الأساسية للقانون الدولي: كذلك أدت عالمية القانون الدولي إلى اختلاف بيّن في مفاهيمه الأساسية بين ماكان متعارفاً عليه منذ قرون واليوم، فكثير من المبادئ التي نادى بها فقهاء القرون السالفة مثل غروشيوس[ر] وفاتيل وسواريز وفيكتوريا وسواهم كانت نتيجة الطابع الإقليمي الانحصاري الاستعماري للقانون مما لاينسجم مع أفكار أبناء الدول المستقلة حديثاً حيث غدا من الضروري الاتفاق على مبادئ وقواعد تساير روح العصر وتقارب الاتجاهات المختلفة.
4 ـ بدأ عصر الأمم المتحدة بحرب باردة بين معسكرين عملاقين: أحدهما قادته الولايات المتحدة الأمريكية، والآخر تزعّمه الاتحاد السوڤييتي، وبينهما مجموعة كبيرة من دول عدم الانحياز[ر]؛ مما خلق توازناً في القوى ساعد على إنفاذ أحكام القانون الدولي العام. غير أنه مع انهيار الاتحاد السوڤييتي وسقوط منظومة الدول الاشتراكية وتقلص أهمية حركة عدم الانحياز[ر] بدأ العالم يشهد عصر الهيمنة الأمريكية american hegemony أو السلم الأمريكي pax americana وفيها بدأت مواجهة العالم قواعد تفرضها حكومة الولايات المتحدة باسم »القانون الدولي« إما مباشرة وإما عن طريق قرارات يصدرها مجلس أمن الأمم المتحدة[ر] وتعدّها ملزمة للعالم في حين أن فيها مافيها من اللامشروعية وفق قواعد القانون الدولي المتعارف عليها. وشايع بعض الفقه الأمريكي هذه النزعة التسلطية فسمى نورتن مور ورفاقه كتابهم المدرسي في القانون الدولي «قانون الأمن الوطني» law of national security.
يستمد القانون الدولي قوته من عدد من المصادر sources عددتها المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية الذي يعدّ جزءاً لايتجزأ من ميثاق الأمم المتحدة (وهو دستور العلاقات الدولية). وقد فرق الفقه والاجتهاد بين مصادر أصلية principal original = وأخرى ثانوية subsidiary = secondaryأو استدلالية (تبعية).
أما المصادر الأصلية للقانون الدولي فهي:
ـ الاتفاقات الدولية[ر] العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفاً بها صراحة من قبل الدول المتنازعة.
ـ العادات الدولية المرعية المعتبرة بمنزلة قانون دل عليه تواتر الاستعمال (العرف).
ـ المبادئ العامة للقانون التي أقرتها الأمم المتمدنة general principles of law recognised by civilized nations. أي مبادئ القانون الداخلي القابلة للتطبيق على التعامل الدولي بغض النظر عن الدول التي تأخذ بها، في حين كان معناها في بدايات تطور القانون الدولي المعاصر مبادئ القانون في الدول الأوربية المسيحية فحسب.
وأما المصادر الثانوية أو الاستدلالية فهي تلك التي تدل على المصادر الأصلية وهي:
أحكام المحاكم Jurisprudence، ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام doctrine في مختلف الأمم. وتبقى مبادئ العدالة والإنصاف equity مصدراً احتياطياً يمكن اللجوء إليه شريطة موافقة أطراف النزاع على ذلك.
عدَّ الفقه الغربي لسنوات طويلة الفقيه الهولندي هيوغو غروشيوس[ر] أبا القانون الدولي؛ لذا سميت الجمعيات المهتمة بتطوير ودراسة قواعد هذا القانون باسمه في العديد من دول العالم، غير أن الدراسات الحديثة الموضوعية أثبتت أن الفقيه العربي محمد بن الحسن الشيباني[ر] سبق غروشيوس بثمانية قرون في تدوين قواعد العلاقات الدولية في كتابه الشهير «شرح السير الكبير» لذا يلاحظ أن عدداً متزايداً من الجمعيات العلمية المعنية بدراسة وتطوير القانون الدولي غيّرت اسمها إلى جمعيات الشيباني للقانون الدولي The Shaibani Societies of International Law إقراراً بفضل هذا الفقيه العربي، وبفضل العرب عامة في كتابة أولى القواعد الناظمة للتعامل الدولي في السلم والحرب.
محمد عزيز شكري