معركة العقول وتطور الصحافة :
إن معركة كبيرة تدور اليوم بين أوربا مجتمعة من ناحية ، وأمريكا من ناحية أخرى ، وهذه المعركة لها خطورتها وأهميتها بالنسبة لتطور الصناعة عامة والصحافة خاصة ، في الدول النامية والدول المتقدمة على حد سواء . أما أسلحة هذه المعركة فهى العقول : العقول البشرية والعقول الإلكترونية .
إن الولايات المتحدة تحاول أن تفرض سيطرتها على أوربا وبقية العالم عن طريق عقولها الإلكترونية وقد ذكرت مجلة الإكسبريس الفرنسية أن العقول الإلكترونية الأمريكية ، التي تمثل أكثر من ٩٠٪ من الإنتاج العالمي ، تعتبر أكبر جهاز تجسس عرفه التاريخ ، وتمتد شبكته فى ۱۰۳ دول ، ويمسك بيده أعظم الأسرار العالمية » . قد يتساءل البعض كيف يمكن للعقول الإلكترونية أن تتجسس على الدول ؟ والإجابة على هذا السؤال بسيطة . إن المصانع والبنوك والشركات التي تشترى العقول الإلكترونية من أمريكا ، ترسل لمصانع العقول تقريراً كاملاً عن إنتاجها الحالى ، وإنتاجها المتوقع فى السنوات العشر القادمة . وذلك حتى تستطيع مصانع العقول أن تصدر لها العقل المناسب ، مع برامج كافية لأداء كافة الخدمات . وبذلك تحصل مصانع العقول الأمريكية على هذه البيانات في صورة بريئة ، وتقدمها بدورها إلى إدارة المخابرات المركزية . ولذلك بدأت الدول المستوردة للعقول تصنع برامج تشغيلها بنفسها حتى لا تعطى كافة بياناتها للمصنع ، وبالتالي لا يضار اقتصادها وأمنها .
هذا الحذر الذى تلزمه المصانع والشركات والبنوك، ويعتبر ضروريا بالنسبة لها، تجده المؤسسات الصحفية غير ذى بال . لأن البيانات التي ترسلها إلى هذه المصانع تنشرها معظم الصحف على الرأى العام ، وتتضمن أرقام توزيعها وميزانياتها ، وهى لا تعتبر بياناتها سراً يلزمها المحافظة عليه .
و بالرغم من المعلومات التى تستطيع أمريكا أن تحصل عليها عن طريق تصدير عقولها الإلكترونية ، فإنها لا تبيع منها إلا العقول الصغيرة ، حتى تمنع هذه الدول من اللحاق بها فتزيد الفجوة التكنولوجية بين أمريكا وأوربا . وقد رفضت أمريكا أن تبيع لفرنسا العقل الإلكترونى الضخم Data 66oo في عام ١٩٦٦ . وهذا الجهاز يبلغ سعره ثلاثة ملايين جنيه إسترليني ، ويحتوى على ٥٠٠ ألف ترانزستور - أى ما يكفى لصنع ٧٥ ألف جهاز راديو ، ويسمونه في أمريكا و ( الوحش ) .
ويتنبأ الخبراء لصناعة العقول مستقبلاً باهراً فى السنوات القادمة ، ويقولون إنها سوف تصبح الصناعة الأولى فى العالم بعد عشر سنوات ، وبذلك تسبق صناعة البترول والسيارات . وتبلغ الأرقام السنوية لهذه الصناعة ٢٥٠٠ مليون جنيه إسترليني في العام تحققها ۱۸ شركة عالمية، منها ۱۷ شركة تدخل في معركة كبيرة ضد شركة واحدة IBM التي تمثل ٦٠٪ من السوق العالمية . وقد أنفقت هذه الشركة – كما ذكرت مجلة فورتشون نفس هذا المبلغ الضخم ( ٢,٥ مليار جنيه ) ، أى خمس ميزانية فرنسا، لتتوصل إلى صنع العقل الإلكترونى 360 IBM الذي يستخدمه اليوم كثير من الصحف ، وهو أكبر مبلغ أنفق فى بحث صناعي في العالم . وهذه المقدرة في الإنفاق على الأبحاث، إلى جانب سرقة العقول البشرية من أوربا هي التي خلقت الفجوة التكنولوجية الكبرى بين الكتلتين . وقد أصدر اتحاد الصناعات لدول المجموعة الاقتصادية الأوربية ( السوق المشتركة) بياناً انتقد فيه الأساليب التي تتبعها الصناعة الأمريكية في أوربا والتى تؤدى إلى زيادة الفارق التكنولوجى بينهما . وقال البيان الذي صدر في مارس ١٩٦٧ ، إن الاستثمارات الأمريكية في أوربا ارتفعت من ١,٧ مليار دولار في عام ١٩٥٠ إلى ١٤ ملياراً في عام ١٩٦٥ وتزداد سنويا بمعدل ٤ مليارات ذلك لا يفيد الأوربيون من التقدم التكنولوجى الأمريكي ، وتحقيقاً لهذه الفائدة لابد من أن تجرى فروع الشركات الأمريكية في أوربا أبحاثها في أوربا نفسها ، ولا تقتصر على إجرائها في أمريكا ، فتترك الصناعة الأوربية لتكون مجرد أداة منفذة .
والمعروف أن شركات العقول الأمريكية اشترت معظم العقول الأوربية ، وأخذت خبراءها إلى أمريكا وجعلت من هذه الشركات مجرد مصانع تنفذ التخطيطات الأمريكية . وقد نشرت جريدة ( هيرالد تريبيون ) سلسلة مقالات ( فبراير ١٩٦٧ ) عن الفجوة التكنولوجية بين أمريكا وأوربا ، ذكرت فيها تصريحاً لوزير العلم الفرنسي قال فيه : « إن التطور العلمى والتكنيكي في الولايات المتحدة سريع إلى درجة أننا قد نصبح متخلفين عن أمريكا بنفس قدر التخلف بين أوربا والدول النامية » .
ولم يكن أحد يتخيل هذا الازدهار الذى سوف تصل إليه هذه الصناعة . فقد أعلن أحد الخبراء المتخصصين فى عام ١٩٤٠ : « أنه لن يمكن لأكثر من ٤ أو ٥ شركات أمريكية من الاستعانة بجهاز العقل الإلكتروني في عملها ، ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم فإن عدد الصحف - فقط - التي استخدمت هذا الجهاز قد بلغ أكثر من ١٥٠ صحيفة ، وأصبح في أمريكا وحدها ٣٠ ألف جهاز ، وفى أوربا كلها ٦٠٠٠ جهاز ، وفى سنة ١٩٧٠ سوف يرتفع الرقم في أمريكا إلى جهاز بينما يصل في أوربا إلى ۱۸ ألفاً . وهذه الثورة الصناعية التي تحدث اليوم تعتبر أضخم من ثورة الآلة فى القرن التاسع عشر ، إذ يستطيع العقل الإلكترونى أن يؤدى فى ساعة واحدة من العمليات الحسابية، ما يؤديه موظف حسابات مدى حياته . إن هذه الأجهزة قضت على مشكلة ( الوقت ) بإعطائها في ثوان ردوداً كانت تحتاج إلى سنوات في الرد عليها . إنها تستطيع تسجيل ومعالجة المعلومات الإنسانية الضخمة التي كانت تضيع في الأرشيف. إن هذا العالم الجديد الذي ولد منذ عشرين عاماً بدأ يقلب حياتنا ويغير فلسفتها . وقد بدأت حياتنا بالفعل تعتمد على هذه الآلات التي تعدت حدود الذكاء الإنسانى . ويربط الخبراء مستقبل أى دولة في العالم بعدد العقول الإلكترونية في هذه الدولة . ويقول أوبنهايمر : يوجد اليوم في العالم من العلماء الأحياء ما يزيد على عدد العلماء الذين جاءوا إلى هذا العالم منذ بدء الخليقة . ويستطيع العقل الذي صنعه هؤلاء العلماء أن يؤدى ٤٠ ألف عملية حسابية فى الثانية ، ويحاولون الآن أن يرفعوا هذا الرقم إلى ٣ ملايين عملية حسابية . وبعد عشر سنوات سوف يرتفع الرقم إلى عشرات الملايين في الثانية » ثم يمضى أو بنها يمر قائلاً : ( إن الدولة التي بها ۱۰ آلاف عالم و ۱۰۰ عقل إلكترونى تستطيع أن تسبق الدولة التى بها ۱۰۰ ألف عالم وعقل إلكترونى واحد ) .
ونشرت جريدة الهيرالد تريبيون أن عدد العلماء والخبراء الذين يعملون في الأبحاث في الولايات المتحدة في عام ١٩٦٢ بلغ ١,١٥٩,٥٠٠ بينما بلغ عددهم في أوربا الغربية ٥١٨,٣٠٠ ، وبلغ مجموع ما أنفق على الأبحاث بالنسبة للفرد الواحد في أمريكا ۹۳٫۷ دولاراً، وفى بريطانيا ٣٣,٥ دولاراً ، وفى فرنسا ٢٣,٦ دولاراً وفى ألمانيا ۲۰,۱ دولاراً . ويوجد في أمريكا ٤٠٠ عقل إلكترونى لكل مليون عامل ، وفى فرنسا وألمانيا ۹۰ عقلاً لكل مليون عامل ، وفى بريطانيا ۷۰ عقلاً لكل مليون عامل .
وسبب هذه الفجوة التكنولوجية الكبيرة هو استنزاف أمريكا للعقول البشرية من أوربا لتصدر لها بدلاً منها عقولاً إلكترونية . وقد بلغت هجرة هؤلاء العلماء من أوربا في الفترة من سنة ١٩٥٦ إلى ١٩٦١ رقماً خياليا . فقد كان يهاجر من بريطانيا في كل عام ٦٦١ . عالماً ومن ألمانيا ٤٢٥ عالماً ومن هولندا ١٣٦ عالماً . ومن السويد ١٠٦ علماء ومن فرنسا ۸۲ عالماً ومن النرويج ۷۸ عالماً ومن إيطاليا ۷۱ عالماً . ويغرى الأمريكيون العلماء الأوربيين بالمرتبات الضخمة والمعامل الحديثة . ويدفعون للعالم المهاجر ١٦ ألف دولار في العام بينما يتقاضى العالم البريطاني ٥٦٠٠ دولار فى العام. ويفضل العلماء الأوربيون معامل الأبحاث الأمريكية بسبب تجهيزاتها الضخمة وإمكانياتها التى لا حدود لها . ويتوقع الخبراء أن تزداد هذه الهجرة فى السنوات القادمة ، طالما سوف يزداد الطلب على العقول البشرية لصناعة العقول الإلكترونية .
وقد توصلت العقول البشرية إلى اختراع جديد يعتبر منافساً للعقل الإلكترونى واسمه العقل السائل Fluid Logic وتم الكشف عن سر هذا الاختراع في مؤتمر علمى عقد في كمبريدج في بريطانيا . وهذا العقل يحقق نفس النتائج بطريق السوائل بدلاً من الإلكترون. وقد قالت مجلة الإكسبريس» في مقال لها نشر في يناير ١٩٦٧ : لم تعد المؤسسات الصحفية فى حاجة إلى وضع " الفيشة “ في بريزة “ الكهرباء لكي يبدأ العقل عمله في ضبط الأسطر وتثقيب الشريط ، ولكن أصبح في استطاعتنا توصيل العقل بحنفية المياه . فقد ترك التيار الإلكترونى مكانه للتيار السائل على شكل شبكة صغيرة من الأنابيب، حيث يستطيع الماء نقل نفس البيانات المتغيرة من المعلومات . وقد بدأ العمل - بطريقة سرية - لاكتشاف هذا التركيب الجديد في معمل أبحاث خاص بالجيش الأمريكي في ١٩٥٨ . واهتموا بهذا التركيب الجديد لفائدته الكبرى في قيادة الصواريخ، لأن العقول الإلكترونية الصلبة لا تتحمل الصدمات والاهتزازات ، بينما العقول السائلة تستطيع أن تتحمل الصدمات بالإضافة إلى الحرارة الشديدة . وقد جاء الإثبات عند تجربة صاروخ موجه ، إذ تهشم الصاروخ عند عودته ، وبين الحطام وجدوا « العقل السائل سليماً وفى حالة عمل . ولا شك في أن هذا العقل الجديد يمثل جهاز المستقبل في قاعة الجمع وقاعة التحرير ، ولا خطر عليه من انقطاع التيار الكهر بائى .
أما الإمكانيات التي سوف تقدمها العقول الإلكترونية للصحافة ، فهي إمكانيات لا حدود لها التطورات التي تقع لأى صناعة أخرى أصبحت مرتبطة بصناعة الصحافة ، لأن العقل في جميع الصناعات واحد لا يتغير ، هي التي تختلف عن بعضها البعض. وقد بدأ الخبراء يعدون الخطة لصناعة عقل اسمه ( الجامعة العالمية ) ، وهذا العقل يخزن في ذاكرته الضخمة المعلومات الإنسانية منذ بدء الخليقة إلى اليوم ، وسوف يوضع هذا العقل في صاروخ يدور حول الكرة الأرضية إلى ما لا نهاية . ويستطيع أى إنسان أن يتصل به من الأرض بوساطة قلم إلكترونى صغير يعمل بأشعة لازر ( Laser ) و يحصل على الرد من أى مكان في العالم في أقل من واحد على مليون من الثانية . ويقول الخبراء إن هذه الجامعة العالمية التي في متناول يد كل إنسان ، سوف تكون عوناً كبيراً للصحفيين والكتاب ، أن يعاونهم عند كتابة التحقيقات الصحفية ، في إعطائهم بيانات ومعلومات خلفية الموضوعاتهم. ويتوقع الخبراء لهذا العقل مستقبلاً من نوع آخر ويتنبأون بصنع عقل مشابه له يسمونه « الجريدة العالمية » ، ويمكن تغذية هذه الجريدة بالأخبار المستمرة . طيلة ٢٤ ساعة - عن طريق أشعة لازر ، فيخزنها العقل ويذيعها كل فترة بلغات مختلفة ، وسوف تصبح هذه الجريدة مجانية ، ويدفع نفقاتها المعلنون الذين سوف يستمع ( القراء الجدد ) إلى إعلاناتهم بين نشرات الأخبار ، كما يحدث الآن في معظم إذاعات العالم .
والعقل البشرى لا يتوقف عن الاختراع ، كما أن الخبراء في صناعة الصحافة ، لا يتوقفون عن تكييف هذه الاختراعات لتطوير صناعتهم . والحقل الذي تدور فيه هذه التجارب اليوم هو حقل التعلم ، وحقل الطب ، وينتظر الخبراء هذه التجارب لتطبيقها على الصحف ولتكون فى خدمة القارئ . وتجرى إحدى هذه التجارب اليوم فى مدرسة أمريكية . فقد وضعوا أمام كل
إن معركة كبيرة تدور اليوم بين أوربا مجتمعة من ناحية ، وأمريكا من ناحية أخرى ، وهذه المعركة لها خطورتها وأهميتها بالنسبة لتطور الصناعة عامة والصحافة خاصة ، في الدول النامية والدول المتقدمة على حد سواء . أما أسلحة هذه المعركة فهى العقول : العقول البشرية والعقول الإلكترونية .
إن الولايات المتحدة تحاول أن تفرض سيطرتها على أوربا وبقية العالم عن طريق عقولها الإلكترونية وقد ذكرت مجلة الإكسبريس الفرنسية أن العقول الإلكترونية الأمريكية ، التي تمثل أكثر من ٩٠٪ من الإنتاج العالمي ، تعتبر أكبر جهاز تجسس عرفه التاريخ ، وتمتد شبكته فى ۱۰۳ دول ، ويمسك بيده أعظم الأسرار العالمية » . قد يتساءل البعض كيف يمكن للعقول الإلكترونية أن تتجسس على الدول ؟ والإجابة على هذا السؤال بسيطة . إن المصانع والبنوك والشركات التي تشترى العقول الإلكترونية من أمريكا ، ترسل لمصانع العقول تقريراً كاملاً عن إنتاجها الحالى ، وإنتاجها المتوقع فى السنوات العشر القادمة . وذلك حتى تستطيع مصانع العقول أن تصدر لها العقل المناسب ، مع برامج كافية لأداء كافة الخدمات . وبذلك تحصل مصانع العقول الأمريكية على هذه البيانات في صورة بريئة ، وتقدمها بدورها إلى إدارة المخابرات المركزية . ولذلك بدأت الدول المستوردة للعقول تصنع برامج تشغيلها بنفسها حتى لا تعطى كافة بياناتها للمصنع ، وبالتالي لا يضار اقتصادها وأمنها .
هذا الحذر الذى تلزمه المصانع والشركات والبنوك، ويعتبر ضروريا بالنسبة لها، تجده المؤسسات الصحفية غير ذى بال . لأن البيانات التي ترسلها إلى هذه المصانع تنشرها معظم الصحف على الرأى العام ، وتتضمن أرقام توزيعها وميزانياتها ، وهى لا تعتبر بياناتها سراً يلزمها المحافظة عليه .
و بالرغم من المعلومات التى تستطيع أمريكا أن تحصل عليها عن طريق تصدير عقولها الإلكترونية ، فإنها لا تبيع منها إلا العقول الصغيرة ، حتى تمنع هذه الدول من اللحاق بها فتزيد الفجوة التكنولوجية بين أمريكا وأوربا . وقد رفضت أمريكا أن تبيع لفرنسا العقل الإلكترونى الضخم Data 66oo في عام ١٩٦٦ . وهذا الجهاز يبلغ سعره ثلاثة ملايين جنيه إسترليني ، ويحتوى على ٥٠٠ ألف ترانزستور - أى ما يكفى لصنع ٧٥ ألف جهاز راديو ، ويسمونه في أمريكا و ( الوحش ) .
ويتنبأ الخبراء لصناعة العقول مستقبلاً باهراً فى السنوات القادمة ، ويقولون إنها سوف تصبح الصناعة الأولى فى العالم بعد عشر سنوات ، وبذلك تسبق صناعة البترول والسيارات . وتبلغ الأرقام السنوية لهذه الصناعة ٢٥٠٠ مليون جنيه إسترليني في العام تحققها ۱۸ شركة عالمية، منها ۱۷ شركة تدخل في معركة كبيرة ضد شركة واحدة IBM التي تمثل ٦٠٪ من السوق العالمية . وقد أنفقت هذه الشركة – كما ذكرت مجلة فورتشون نفس هذا المبلغ الضخم ( ٢,٥ مليار جنيه ) ، أى خمس ميزانية فرنسا، لتتوصل إلى صنع العقل الإلكترونى 360 IBM الذي يستخدمه اليوم كثير من الصحف ، وهو أكبر مبلغ أنفق فى بحث صناعي في العالم . وهذه المقدرة في الإنفاق على الأبحاث، إلى جانب سرقة العقول البشرية من أوربا هي التي خلقت الفجوة التكنولوجية الكبرى بين الكتلتين . وقد أصدر اتحاد الصناعات لدول المجموعة الاقتصادية الأوربية ( السوق المشتركة) بياناً انتقد فيه الأساليب التي تتبعها الصناعة الأمريكية في أوربا والتى تؤدى إلى زيادة الفارق التكنولوجى بينهما . وقال البيان الذي صدر في مارس ١٩٦٧ ، إن الاستثمارات الأمريكية في أوربا ارتفعت من ١,٧ مليار دولار في عام ١٩٥٠ إلى ١٤ ملياراً في عام ١٩٦٥ وتزداد سنويا بمعدل ٤ مليارات ذلك لا يفيد الأوربيون من التقدم التكنولوجى الأمريكي ، وتحقيقاً لهذه الفائدة لابد من أن تجرى فروع الشركات الأمريكية في أوربا أبحاثها في أوربا نفسها ، ولا تقتصر على إجرائها في أمريكا ، فتترك الصناعة الأوربية لتكون مجرد أداة منفذة .
والمعروف أن شركات العقول الأمريكية اشترت معظم العقول الأوربية ، وأخذت خبراءها إلى أمريكا وجعلت من هذه الشركات مجرد مصانع تنفذ التخطيطات الأمريكية . وقد نشرت جريدة ( هيرالد تريبيون ) سلسلة مقالات ( فبراير ١٩٦٧ ) عن الفجوة التكنولوجية بين أمريكا وأوربا ، ذكرت فيها تصريحاً لوزير العلم الفرنسي قال فيه : « إن التطور العلمى والتكنيكي في الولايات المتحدة سريع إلى درجة أننا قد نصبح متخلفين عن أمريكا بنفس قدر التخلف بين أوربا والدول النامية » .
ولم يكن أحد يتخيل هذا الازدهار الذى سوف تصل إليه هذه الصناعة . فقد أعلن أحد الخبراء المتخصصين فى عام ١٩٤٠ : « أنه لن يمكن لأكثر من ٤ أو ٥ شركات أمريكية من الاستعانة بجهاز العقل الإلكتروني في عملها ، ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم فإن عدد الصحف - فقط - التي استخدمت هذا الجهاز قد بلغ أكثر من ١٥٠ صحيفة ، وأصبح في أمريكا وحدها ٣٠ ألف جهاز ، وفى أوربا كلها ٦٠٠٠ جهاز ، وفى سنة ١٩٧٠ سوف يرتفع الرقم في أمريكا إلى جهاز بينما يصل في أوربا إلى ۱۸ ألفاً . وهذه الثورة الصناعية التي تحدث اليوم تعتبر أضخم من ثورة الآلة فى القرن التاسع عشر ، إذ يستطيع العقل الإلكترونى أن يؤدى فى ساعة واحدة من العمليات الحسابية، ما يؤديه موظف حسابات مدى حياته . إن هذه الأجهزة قضت على مشكلة ( الوقت ) بإعطائها في ثوان ردوداً كانت تحتاج إلى سنوات في الرد عليها . إنها تستطيع تسجيل ومعالجة المعلومات الإنسانية الضخمة التي كانت تضيع في الأرشيف. إن هذا العالم الجديد الذي ولد منذ عشرين عاماً بدأ يقلب حياتنا ويغير فلسفتها . وقد بدأت حياتنا بالفعل تعتمد على هذه الآلات التي تعدت حدود الذكاء الإنسانى . ويربط الخبراء مستقبل أى دولة في العالم بعدد العقول الإلكترونية في هذه الدولة . ويقول أوبنهايمر : يوجد اليوم في العالم من العلماء الأحياء ما يزيد على عدد العلماء الذين جاءوا إلى هذا العالم منذ بدء الخليقة . ويستطيع العقل الذي صنعه هؤلاء العلماء أن يؤدى ٤٠ ألف عملية حسابية فى الثانية ، ويحاولون الآن أن يرفعوا هذا الرقم إلى ٣ ملايين عملية حسابية . وبعد عشر سنوات سوف يرتفع الرقم إلى عشرات الملايين في الثانية » ثم يمضى أو بنها يمر قائلاً : ( إن الدولة التي بها ۱۰ آلاف عالم و ۱۰۰ عقل إلكترونى تستطيع أن تسبق الدولة التى بها ۱۰۰ ألف عالم وعقل إلكترونى واحد ) .
ونشرت جريدة الهيرالد تريبيون أن عدد العلماء والخبراء الذين يعملون في الأبحاث في الولايات المتحدة في عام ١٩٦٢ بلغ ١,١٥٩,٥٠٠ بينما بلغ عددهم في أوربا الغربية ٥١٨,٣٠٠ ، وبلغ مجموع ما أنفق على الأبحاث بالنسبة للفرد الواحد في أمريكا ۹۳٫۷ دولاراً، وفى بريطانيا ٣٣,٥ دولاراً ، وفى فرنسا ٢٣,٦ دولاراً وفى ألمانيا ۲۰,۱ دولاراً . ويوجد في أمريكا ٤٠٠ عقل إلكترونى لكل مليون عامل ، وفى فرنسا وألمانيا ۹۰ عقلاً لكل مليون عامل ، وفى بريطانيا ۷۰ عقلاً لكل مليون عامل .
وسبب هذه الفجوة التكنولوجية الكبيرة هو استنزاف أمريكا للعقول البشرية من أوربا لتصدر لها بدلاً منها عقولاً إلكترونية . وقد بلغت هجرة هؤلاء العلماء من أوربا في الفترة من سنة ١٩٥٦ إلى ١٩٦١ رقماً خياليا . فقد كان يهاجر من بريطانيا في كل عام ٦٦١ . عالماً ومن ألمانيا ٤٢٥ عالماً ومن هولندا ١٣٦ عالماً . ومن السويد ١٠٦ علماء ومن فرنسا ۸۲ عالماً ومن النرويج ۷۸ عالماً ومن إيطاليا ۷۱ عالماً . ويغرى الأمريكيون العلماء الأوربيين بالمرتبات الضخمة والمعامل الحديثة . ويدفعون للعالم المهاجر ١٦ ألف دولار في العام بينما يتقاضى العالم البريطاني ٥٦٠٠ دولار فى العام. ويفضل العلماء الأوربيون معامل الأبحاث الأمريكية بسبب تجهيزاتها الضخمة وإمكانياتها التى لا حدود لها . ويتوقع الخبراء أن تزداد هذه الهجرة فى السنوات القادمة ، طالما سوف يزداد الطلب على العقول البشرية لصناعة العقول الإلكترونية .
وقد توصلت العقول البشرية إلى اختراع جديد يعتبر منافساً للعقل الإلكترونى واسمه العقل السائل Fluid Logic وتم الكشف عن سر هذا الاختراع في مؤتمر علمى عقد في كمبريدج في بريطانيا . وهذا العقل يحقق نفس النتائج بطريق السوائل بدلاً من الإلكترون. وقد قالت مجلة الإكسبريس» في مقال لها نشر في يناير ١٩٦٧ : لم تعد المؤسسات الصحفية فى حاجة إلى وضع " الفيشة “ في بريزة “ الكهرباء لكي يبدأ العقل عمله في ضبط الأسطر وتثقيب الشريط ، ولكن أصبح في استطاعتنا توصيل العقل بحنفية المياه . فقد ترك التيار الإلكترونى مكانه للتيار السائل على شكل شبكة صغيرة من الأنابيب، حيث يستطيع الماء نقل نفس البيانات المتغيرة من المعلومات . وقد بدأ العمل - بطريقة سرية - لاكتشاف هذا التركيب الجديد في معمل أبحاث خاص بالجيش الأمريكي في ١٩٥٨ . واهتموا بهذا التركيب الجديد لفائدته الكبرى في قيادة الصواريخ، لأن العقول الإلكترونية الصلبة لا تتحمل الصدمات والاهتزازات ، بينما العقول السائلة تستطيع أن تتحمل الصدمات بالإضافة إلى الحرارة الشديدة . وقد جاء الإثبات عند تجربة صاروخ موجه ، إذ تهشم الصاروخ عند عودته ، وبين الحطام وجدوا « العقل السائل سليماً وفى حالة عمل . ولا شك في أن هذا العقل الجديد يمثل جهاز المستقبل في قاعة الجمع وقاعة التحرير ، ولا خطر عليه من انقطاع التيار الكهر بائى .
أما الإمكانيات التي سوف تقدمها العقول الإلكترونية للصحافة ، فهي إمكانيات لا حدود لها التطورات التي تقع لأى صناعة أخرى أصبحت مرتبطة بصناعة الصحافة ، لأن العقل في جميع الصناعات واحد لا يتغير ، هي التي تختلف عن بعضها البعض. وقد بدأ الخبراء يعدون الخطة لصناعة عقل اسمه ( الجامعة العالمية ) ، وهذا العقل يخزن في ذاكرته الضخمة المعلومات الإنسانية منذ بدء الخليقة إلى اليوم ، وسوف يوضع هذا العقل في صاروخ يدور حول الكرة الأرضية إلى ما لا نهاية . ويستطيع أى إنسان أن يتصل به من الأرض بوساطة قلم إلكترونى صغير يعمل بأشعة لازر ( Laser ) و يحصل على الرد من أى مكان في العالم في أقل من واحد على مليون من الثانية . ويقول الخبراء إن هذه الجامعة العالمية التي في متناول يد كل إنسان ، سوف تكون عوناً كبيراً للصحفيين والكتاب ، أن يعاونهم عند كتابة التحقيقات الصحفية ، في إعطائهم بيانات ومعلومات خلفية الموضوعاتهم. ويتوقع الخبراء لهذا العقل مستقبلاً من نوع آخر ويتنبأون بصنع عقل مشابه له يسمونه « الجريدة العالمية » ، ويمكن تغذية هذه الجريدة بالأخبار المستمرة . طيلة ٢٤ ساعة - عن طريق أشعة لازر ، فيخزنها العقل ويذيعها كل فترة بلغات مختلفة ، وسوف تصبح هذه الجريدة مجانية ، ويدفع نفقاتها المعلنون الذين سوف يستمع ( القراء الجدد ) إلى إعلاناتهم بين نشرات الأخبار ، كما يحدث الآن في معظم إذاعات العالم .
والعقل البشرى لا يتوقف عن الاختراع ، كما أن الخبراء في صناعة الصحافة ، لا يتوقفون عن تكييف هذه الاختراعات لتطوير صناعتهم . والحقل الذي تدور فيه هذه التجارب اليوم هو حقل التعلم ، وحقل الطب ، وينتظر الخبراء هذه التجارب لتطبيقها على الصحف ولتكون فى خدمة القارئ . وتجرى إحدى هذه التجارب اليوم فى مدرسة أمريكية . فقد وضعوا أمام كل
تعليق