المخبر الصحفى والتطور الإلكتروني في الصحف العالمية :
طالعتنا وكالات الأنباء فى أواخر شهر فبراير من عام ١٩٦٧ بهذا النبأ الكبير حجم الذي نشرته جريدة نيويورك تايمز :
حصلت شركة ألفا نوميريك Alphanumeric في نيويورك هذا الأسبوع على حق الاختراع » لمولد نموذجى يعتبر المفتاح لجهاز الشركة الأتوماتيكي لجمع الحروف بالتصوير، أى الطباعة الباردة Photocomposition ومخترع هذا الجهاز هو ميلتون شوارتز المهندس الكهربائى . وتتوقع الشركة افتتاح مركز للخدمة قريباً يستخدم هذا الاختراع في صناعة الطباعة والآلات الحاسبة. ويستطيع هذا المولد أن ينتج - بسرعة خيالية - حروفاً منتظمة الشكل فى أى أو نوع ، وتكون مختزنة على شكل إشارات رمزية على شريط ممغنط ، وترجم هذه الإشارات على واجهة لمبة المهبط التليفزيونية Cathode Tube ويغذى الجهاز بالمواد المكتوبة على شريط مثقوب مع تعيين نوع الحرف وشكله ومقاسه المطلوب. وتقول الشركة إنه يمكن جمع حروف صفحة في حجم المجلة فى ست ثوان ، أى يمكن جمع عدد كامل من جريدة نيويورك تايمز في أقل من ٢٠ دقيقة ) .
لا شك في أنه نبأ غاية فى الخطورة، إذ يعطى قارئ الصحيفة اليومية فكرة عما يخبئه له العقل الإلكترونى فى السنوات القادمة وعن مدى إمكانيات هذا العقل الذي يستطيع في أقل من عشرين دقيقة أن يجمع مواد عدد ضخم من أعداد صحيفة نيويورك تايمز . أى أنه يستطيع أن يجمع مواد عدد من جريدة الأهرام مكون من ١٦ صفحة في أقل من دقيقة .
وقد عرضت إحدى الشركات فى معرض باريس الثاني عشر للطباعة ( ١٩٦٥ ) جهازاً إلكترونيا أثبتت به أنه يمكن للصحف أن تدخله من ا هذه الأجهزة بنفس نظام الشريط المثقوب الذى يستطيع وهو على مسافة مئات الكيلومترات تشغيل جهاز تصوير بالغ السرعة يطبع بصورة مباشرة الحروف التي يتم جمعها ، على فيلم ، وهذا الفيلم يستخدم للطبع رأساً . وتقول الشركة صاحبة الجهاز إنه يمكن أن يصل الرقم القياسي لسرعة هذه الأجهزة إلى مليون ونصف مليون إشارة في الدقيقة ، أي ما يتجاوز سرعة عامل جمع متوسط الإنتاج بمقدار عشرة آلاف مرة ، أو بصورة أخرى ، يستطيع هذا الجهاز أن يجمع ۲۸۰ عموداً من أعمدة الجرائد اليومية في الدقيقة الواحدة ( عدد الأعمدة المجموعة التي تنشر في جريدة مثل الأهرام من ١٦ صفحة لا تزيد على مائة عامود ) .
بيد أن ما ينشر عن هذا الموضوع ليس مبالغاً فيه على الإطلاق . فقد قامت شركة ديبولد - وهى شركة خاصة تقوم بأبحاث تتناول المستقبل - بإجراء بحث قدمته لصحيفة نيويورك تايمز ولصحيفة لندن تايمز اللتين تنظران إلى هذا التطور بقلق ولا تستطيعان الدخول إلى هذا الميدان بالرغم . شدة منافسة التليفزيون لهما . ويقول التقرير - أو البحث - الذى قدمته شركة ديبولد إن منظر الصحيفة بعد ثلاثين عاماً سيتم رسمه فيما بين عامى ۱۹٦٥ و ۱۹۷۰ ، وسيكون رئيس تحرير المستقبل - وهو جالس على . تقعده كمخرج التليفزيون وهو جالس في قمرة التوجيه ، أمامه منظم مركزى صغير متصل بسلسلة من عناصر المعلومات الموزعة في مبنى الصحيفة والمدينة والقطر .
ولن يكون على رئيس التحرير سوى أن يضغط على زر لمعرفة نواحي النشاط في صحيفته . وبمجرد أن يضغط على الزر سيظهر على شاشة أمامه بيان بالأعداد التي بيعت في اليوم السابق ، وإحصائيات بيانية عن ستة أشهر سابقة . وسيقف أيضاً بصورة مباشرة على نتيجة استفتاء الرأى العام أو دراسات للسوق عن طريق استفتاء الأداء المنظم لهذا العمل سيواصل تسجيل الاشتراكات والطلبات التي تؤثر على توزيع الصحيفة. وسوف يستطيع الجهاز تلبية للرغبات إيجاز أحداث اليوم الرئيسية التي جمعها وفقاً لنظام دقيق .
وفى الوقت نفسه تستمر عملية جمع المعلومات والأخبار ، وسيتموم قارئ أوتوماتيكي بفك رموز برقيات الوكالات وتسجيل الصور. ويقوم محرر آلى بترجمة المكالمات التليفونية التي يوجهها المحررون بعدة لغات إلى الآلة مباشرة ، أما المقالات فسيسجلها السكرتير ون على أشرطة مثقوبة . وسوف تتلاشى الأخطاء في هذا النظام إذ أن المنظم سيقوم بتصحيح الأخطاء من تلقاء نفسه وفيما يختص يجمع المعلومات فسوف يحصل عليها المحررون على شكل صور ينقلها إليهم بانتظام جهاز تسجيل من المكتبة المغناطيسية ( الأشرطة المسجلة ) في مقابل رسم اشتراك .
وسيوضع قلم إلكترونى مضىء رائع ، يتم اختياره بمعرفة رئيس التحرير تصرفه على الشاشة ، ولن يكون على رئيس التحرير سوى تصحيح التي يراها مفيدة بمساعدة هذا القلم . وبعد إنجاز هذا العمل يظهر المقال في شكله النهائي ويصبح من الممكن توجيهه إلى طاولة التوضيب .
وبعد أن يتم ذلك كله تظهر جميع صفحات الجريدة بالتعاقب على سلسلة الشاشات ، ثم تتيح عملية استخدام الأزرار ، التصرف في المواد المختلفة سواء أكانت صوراً أو مقالات مكتوبة . وبعد انتهاء عملية التوضيب لن تكون الصفحة مطلقاً في شكلها المعروف . إذ سيلتقط لها كليشيه فوتوجرافى ينقل بواسطة سلك كهربائى إلى المطابع الموزعة على المراكز الرئيسية في الأقاليم .
وسيتيح الشكل الذى يتم إعداده فى كل من هذه المطابع ، إصدار الصحيفة في أقصر وقت ممكن لتباع محليا .
وعلى هذا النحو سيتحقق عمل الصحافة في المستقبل . وهو العمل الذي يقول عنه جون ديبولد ( أحد مبتكرى عبارة ) الآلية الثاقمائية (1) إنه لن يكون عملية : ورق أو مادة سائلة ولكنه سيكون بصورة دقيقة جداً عملية بيع معلومات في شكل غير قابل للاستهلاك بسرعة .
وهذا التطور السريع فى صناعة الصحافة يتطلب من الآن تربية جيل من الصحفيين البارعين الذين يتميزون بأسلوب جذاب وأفكار مبتكرة . لأن الصحفى البارع فقط - وليس العقل الإلكترونى - هو الذي سيجعل صحيفة ما أفضل من غيرها ، ذلك أن العقل الإلكترونى لن يتميز عن غيره من العقول في أي صحيفة من الصحف .
ولا مفر من استخدام هذه الآلات في العمل الصحفى . وهذه التكنولوجيا الحديثة تجعل العمل الصحفى أفضل وأسرع وأكثر اقتصاداً . ولا مفر كذلك من استخدام المحرر ( الإنسان) الذى يزود الجريدة بأخباره ومقالاته . إذ لن تكون الآلة مخبراً صحفياً على الإطلاق كما يتخيل بعض الصحفيين، لكن الذي سيحدث في المستقبل القريب - ونحن الآن ما زلنا في فجر عهد الآلات الإلكترونية - أن يتأثر الصحفى أو المخبر من حيث الطريقة التي يؤدى بها عمله .
وقد كتب تشارلز بنيت مدير تحرير صحيفتي ديلى أوكلاهوما وأوكلاهوما سيتى تايمز - وهما من الجرائد التي أدخلت نظام العقل الإلكترونى فيها . يقول : « إن الصحفى لن يكون إنساناً آليا ، وإننا نستخدم تفسيراً عريضاً جداً لعبارة " الآلية التلقائية" وذلك عندما نستخدم هذه العبارة فى التكنولوجيا الحديثة التي بدأت الصحف في استخدامها الآن ، وقالت لجنة لهيئة أمريكية من ناشرى الصحف في أوائل هذا العام إنه لا توجد بعد أية آلية تلقائية حقيقية فى العمل الصحفى ، بل توجد فقط درجة محدودة من الآلية المحسنة .
ومن الناحية الفنية نجد ذلك حقيقة ، إذ أن الآلية التلقائية في أفضل معانيها الحالية لا تبدأ إلا عندما تقوم الآلية بمراقبة العمل وتكييفه تلقائياً وفقاً لبرامج وتعليمات وضعت في الآلة نفسها. ولا تعتبر الآلية التلقائية امتداداً للعمل اليدوى وتطويراً له ، بل هي امتداد للعقل البشرى نفسه .
وما العقل الإلكترونى Computer سوى آلة تتميز بهذه المقدرة . وهي تعمل إلى حد كبير بنفس الطريقة التى يعمل بها عقلنا باستثناء ـ وهذا هو الرئيسي - أن في وسع العقل الإلكترونى أن يؤدى عمله بسرعة لا حد لها ولا يمكن مقارنتها بسرعة العقل البشرى ، وفى وسعه أيضاً أن يؤدى عمله إلى حد غير محدود من الدقة التامة .
وهناك الأسباب ما يدعونا لتأكيد ذلك ، لأن معنى ( الآلية ) اختلط من بمعنى ( الآلية التلقائية ) . ومن المهم بالنسبة لنا أن ندرك أن هناك فارقاً بينهما وأن ندرك ما هو هذا الفارق في عملنا عند استخدام الآلية التلقائية الحقيقية في العمل الصحفى .
إن تكنولوجيتنا الحديثة تتقدم بسرعة، حتى إن سرعة نموها تعتبر عائقاً في سبيل فهمها ، ولندرك هذه السرعة لا نحتاج إلا لأن ننظر إلى الماضى .
لقد قضت الإنسانية قروناً للانتقال من الكتابة باليد إلى صف الأحرف ثم الطباعة . ومضت ٤٠٠ سنة قبل أن تنتقل المطبعة من العمل باليد إلى العمل بالبخار وبعد اختراع اللينوتيب مضت ٥٠ سنة أخرى قبل ظهور طريقة الشريط لجمع الحروف ، مما جعل من الممكن إدارة اللينوتيب بشريط مثقوب بدلاً من الأيدى . وبعد ٢٠ سنة – أى في أوائل الخمسينات - بدأ الجمع بالتصوير وابتكر العقل الإلكترونى .
وقد كان الفرنسيون أول من فكر فى استخدام هذا العقل الإلكتروني في قاعة الجمع . وقاموا بتسجيل الفكرة فى فرنسا في مارس من عام ١٩٥٤ ، ثم بدأت تنتشر في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا . وكانت أمريكا هي التي تبنت هذه الفكرة بما لها من خبرات ومقدرات اقتصادية فى الإنفاق على هذه البحوث .
وبعد عشر سنوات فقط أحدث العقل الإلكتروني الثورة الإلكترونية ، أولاً في العلم والبحوث ثم في العمل والصناعة . وبالرغم من أن هذا العقل ما زال في مرحلته الأولية فإنه يحل فى ثوان مشاكل حسابية يقضى الإنسان مئات الساعات لحلها .
تعليق