رئيس التحرير في مواجهة الآلية التلقائية
تظهر في الصحف من حين لآخر مقالات عديدة عن الآلية التلقائية Automation وعملها في شتى الميادين . لكنا لا نقرأ كثيراً عن أثر هذه الآلية التلقائية على الصحافة نفسها .
إن الآلية في الحقيقة ظهرت فى الخمسينات من هذا القرن واستوجب وجودها الفضاء . إذ بدونها ما كان في استطاعة الإنسان أن يخترق الغلاف الجوى. ويصل إلى الكواكب الأخرى . والآلية هي شيء آخر غير ما يمثله . الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر . إنها أكثر من ذلك ، لأنها تجعل الآلة تعمل من تلقاء نفسها . أى إنها تبعد تدخل الجهد البشرى في كل عمل لا تلزمه عملية الخلق . وما زالت الآلة إلى اليوم فى حاجة إلى العقل البشرى في كل عمل خلاق . وبعبارة أخرى : الآلية الإلكترونية تقوم بالعمل الذى يقوم به الإنسان ولكن في. وقت أسرع ملايين المرات وبدون أخطاء .
وفي الصحافة تقوم الآلية بنفس العمليات التى تؤديها في أي صناعة أخرى :
۱ - تجميع المواد الخام .
٢ - إعداد الإنتاج .
٣ - توزيع الإنتاج .
والمواد الخام فى الصحافة تنحصر فى طرق جمع الأنباء ومقالات المحررين. والمخبرين ( الكلام المكتوب ) ورسائل المندوبين والمراسلين والأفلام والكليشيهات، وذلك بالمواصلات السلكية واللاسلكية والأشرطة المثقوبة والأشرطة المغناطيسية ، ثم. عن طريق الآلات الكاتبة والتسجيلات الأرشيفية والصور والأجهزة الإلكترونية والتليفزيونية .
أما إعداد الإنتاج فيلزمه ماكينات الجمع الساخن ( الرصاص) وماكينات الجمع البارد ( الأفلام ) وآلات نقل الصور ذات اللون الواحد أو الألوان المتعددة وآلات الحفر الإلكترونى وشعاع لازر وورق وحبر ومطابع ، بينما التوزيع يحتاج إلى آلات تجميع ولف وقص وإحصاء ، ثم معدات النقل بجميع أنواعها من سيارات وطائرات وقطارات وبواخر ودراجات إلخ .
عندما يفكر رئيس التحرير في كل هذه الأشياء التي يمكن لجهازه الإلكترونى Computer أن يقوم بها تعتريه الدهشة. خاصة أنه كان إلى عهد قريب لا يرى من الصحافة إلا ثلاثة أشياء : ورق وحبر ومطبعة . أما الآن فقد أصبحت الصحافة صناعة ضخمة ، تلعب فيها الآلية الإلكترونية دوراً كبيراً . أو على الأقل سوف تلعب دورها الضخم في السنوات العشر القادمة .
لذلك بدأ كثير من الناشرين ورؤساء التحرير ينظرون إلى هذا الموضوع نظرة جدية : كيف يمكنهم أن يواجهوا هذا العصر الجديد ؟ وما هي أ أدواته ؟ وأين هـ المتخصصون الذين سيديرون هذه العجلة ؟ . عجلة صناعة الصحافة التي تنتج معلومات مكتوبة قصيرة العمر » ؟
من هنا بدأت انطلاقة الخبراء والفنيين ليساعدوا رؤساء التحرير ويمهدوا لهم طريق المستقبل . إنهم يتخيلون - وبعض هذا قد تحقق فعلا - قاعات التحرير الكبرى وقلبها النابض ( العقل الإلكترونى ) فى وسط القاعة بين مكاتب المحررين ، وكل هذا مرتبط بآلات الاستقبال اللاسلكية وقاعات الجمع الحديثة .
وعلى مكتب رئيس التحرير - فى وسط التماعة - شاشة رئيسية وشاشة أخرى ثانوية وأقلام ضوئية إلكترونية ، ولوحة مفاتيح متصلة بالعقل وآلات سريعة لنقل الصور ونسخ المقالات .
منظر غريب لمكتب رئيس التحرير يختلف تماماً عن مكتبه الذي نعرفه اليوم. إن رئيس التحرير يستطيع بواسطة قلمه الإلكترونى أن يعدل أى خبر أو مقال يظهر أمامه على الشاشة . ويستطيع بواسطة آلات نقل الصور ونسخ المقالات أن يطبع أى بروفة من أى موضوع أو صورة يشاهدها على الشاشة ويريد الاحتفاظ بهما بالقرب منه . وهذه الطريقة سوف تزيد فرصة التعديل دون تعطيل العمل، بل على العكس ، سوف يصبح الوقت بين صرخة رئيس التحرير ( أوقفوا الماكينات جاءنا خبر هام ) وبين صرخة بائع الصحف و خبر هام ... ملحق » . .
وهنا يتوقف بعض المفكرين ويتساءلون : هل تصبح ا أنباء ومقالات .. إنها أكثر إنها « فكر . فهل سيستطيع ناشر و ورؤساء تحرير الغد أن يكونوا « سادة » هذا الفكر الذي يعبرون عنه ؟ وهناك نقطة أخرى لم يتكلم عنها هؤلاء الخبراء والفنيون وهى ارتفاع أسعار هذه الآلات . ومن هو أو ما هي المؤسسة التي تستطيع أن تقوم وحدها بهذه العمليات الباهظة التكاليف ؟ هل معنى هذا أن المؤسسات سوف تندمج معاً وتكون احتكاراً لتستطيع البقاء على قيد الحياة ؟ ( وقد بدأ هذا يحدث فعلا في أمريكا وبريطانيا ) وإذا لم تستطع هذه المؤسسات أن تقف على قدميها فهل تطلب من الحكومات إعانات مالية لتتمكن من الصمود ؟ عندئذ سوف يندثر الفكر الصحفى وتنتهى حرية الصحافة وتضيع السلطة الرابعة » .
وقد قامت هذه المعركة الكلامية بالفعل فى فرنسا بين التكنولوجيين والصحفيين . لكن الصحفيين بدأوا فى النهاية يقتنعون بكلام الخبراء ، وأخذوا يفكرون معهم من اليوم في صحافة عام ١٩٨٠ .
و يقول التكنولوجيون : ( إن التطور الذى حدث في صناعة الصحافة من عام ١٩٦٠ إلى اليوم يفوق كثيراً التطور الذى حدث فيها من عام ١٩٠٠ إلى عام ١٩٦٠ ) .
إن الاستثمارات في المؤسسات الصحفية زادت في هذه المدة القصيرة بنسبة مائة في المائة ، بينما هي لم تزد فى الصناعات الأخرى فى نفس هذه الفترة إلا بنسبة ٢٨٪، وفى المرحلة القادمة - حتى عام ۱۹۸۰ - سوف يتضاعف الرقم بلا نزاع . ومعنى هذا أن العائد من بيع النسخ المطبوعة سوف يصل إلى ٢٠ بليون دولار كما يقدر الخبراء .
وهذا سوف يستتبع أيضاً تغييراً كبيراً فى طريقة العمل وفي الصناعة نفسها سوف تقع تطورات ضخمة لا تخطر على بال رئيس تحرير اليوم . ومن هذه التطورات أن كثيراً من دور النشر سوف يستغنى عن معظم آلاته التي يستعملها اليوم لتحل مكانها آلات أخرى أكثر تطوراً وربما مختلفة تماماً في شكلها وفيما تنتجه . وليس بالضرورة أن يكون الحبر والورق هما المادتين الأساسيتين في صناعة الصحافة الحديثة .
وإذا نظرنا إلى التطور الذى حدث فى الآلة الطابعة الناسخة Photocopier - وهي عبارة عن مطبعة مصغرة - لوجدنا أنها اختلفت تماماً عما كانت عليه منذ عشر سنوات . كانت هذه الآلة تطبع نسخاً بسرعة بطيئة ، من أي مادة مكتوبة ، على ورق حساس يثبت بعد ذلك بواسطة أحماض كيمائية . . وقد أصبحت هذه الماكينات الصغيرة الآن مختلفة تماماً عما كانت عليه ، وأصبحت تطبع المادة المكتوبة أو الصورة بدون ورق حساس وبدون أحماض كيمائية وبسرعة كبيرة .
إن هذه الآلة تعمل بطريقة الكهربية الإستاتيكية . ويكفى أن تدخل في فتحتها الورقة المكتوبة بخط اليد أو على الآلة الكاتبة ، وبالضغط على زر كهربى تخرج نسخة أخرى – أو نسخ متعددة - طبق الأصل من المادة المكتوبة . وذلك بدون طبع أو حبر .
والأبحاث التي تجرى الآن على هذه الطريقة دخلت مرحلة هامة ، لتحويلها إلى طباعة الصحف بنفس هذه الطريقة ... أى بدون حبر . وقد أخذت نتائج هذه الأبحاث تظهر على شكل مطبعة لطبع الخرائط – لشركة أنترتايب ـ على نظام الكهربية الإستاتيكية .
وقد دلت التجارب على نجاح هذه الطريقة نجاحاً باهراً وكانت النسخ المطبوعة غاية في الإتقان .
وقد قام معهد الأبحاث التكنولوجية في إيلينوى فى الولايات المتحدة بدراسة هامة في هذا الموضوع لتطبيق هذه النظرية في طباعة الصحف ، وسوف تتحقق في عام ۱۹۸۰ وعلى نطاق واسع .
والأبحاث التي يقومون بها تمتد إلى :
۱ - اكتشاف طريقة جديدة للطبع على صحائف تشبه الورق بواسطة نبضات كهربية ذات كثافة عالية يمكنها أن تفحم سطح الورق الذي تعرض للكهربا وينتج من ذلك طباعة بدون حبر .
٢ - إعداد نوع من ( الورق ) يخفى ألواناً مستترة تظهر على سطحه عند تعرضه لحقل كهربى إستاتيكي أو كهربى مغناطيسى ، وله نفس الغرض وهو إبطال استعمال الحبر .
٣ - إعداد عدسات تستطيع قراءة المادة المكتوبة باليد وتحويلها رأساً إلى حروف من الرصاص أو حروف مطبوعة على فيلم .
٤ - تحويل آلة الجمع التصويرى ( الطباعة الباردة ) ذات السرعة الكبيرة إلى جهاز يستطيع ينتج صوراً من خلال شبكة من العدسات .
ه - وضع طريقة جديدة ذات جهد ( فوق صوتى ) ذى ذبذبات عالية ، للصق ورق الطبع الذي يدور على بوبينات مستديرة - وهو دائماً معرض للقطع من شدة السرعة ويلزم للصقه بالصمغ وقت قد يعطل عملية الطبع – وهذه الطريقة تغنى عن استعمال الصمغ التقليدى .
٦ - التوصل إلى صنع ألواح ( كليشيهات ) لاستعمالها في طباعة الأوفست بدون ماء . وكانت هذه الطباعة ( الأوفست ) . ، وهى نوع من الطباعة الحديثة ، تعطى نتائج باهرة فى الصور ويلزم لطبعها ماء إلى جانب الحبر .
يتضح من كل هذا أن الصحافة سوف تتعرض لتطور ضخم في السنوات العشر القادمة أكثر مما تعرضت له فى السنوات الستين الماضية ، كل هذه الأحداث والمناقشات عن تطور الصحافة ، تحتل المكان الأول من أفكار التكنولوجيين في العالم الغربي . ولكن أين تقف الطباعة العربية فى الشرق الأوسط من هذه الأحداث ؟ هل هي ما زالت متخلفة فى طباعتها ؟ وكم من الوقت يلزمها للحاق بهذا الركب . المتطور ؟
في الحقيقة لم تكن المؤسسات الصحفية العربية بعيدة عن هذا الذي يجرى هناك . فقد بدأت مؤسسة جريدة ( الأهرام ) منذ عام ١٩٦٠ دراساتها وأبحاثها التي استمرت سنتين . واستطاعت أن تحصل فى عام ١٩٦٢ على أول جهاز إلكترونى لحفر الكليشيهات (كليشوجراف ) يدخل الجمهورية العربية المتحدة ، وهذا الجهاز يستطيع أن يحفر الكليشيه رأساً من الصورة الأصلية دون استعمال ماكينة تصوير أو أحماض للحفر وبسرعة مذهلة ، أى إنه يستغنى عن عدة مراحل : الأولى نقل
تعليق