كان يُعتقد في الأساطير اليونانية أن الكهرمان دموع أخوات فايتون بن هليوس إله الشمس، وكان يُعد الكهرمان من المجوهرات في العصر الحجري الحديث، وذُكر في الأدب في القرن الرابع قبل الميلاد في كتابات ثاوفرسطس وتلتها كتابات بيثياس. أذهل الكهرمان الناس لآلاف السنين بلونه الذهبي الذي يشبه لون العسل وبشفافيته الجذابة، وأصبح الآن يعيد سرد قصة الحياة بما يحمله من شوائب وحفريات بتفاصيل رائعة.
يرجع مصدر الكهرمان إلى شيء مألوف أكثر من دموع الآلهة، يبدأ على شكل قطرات من عصارة الأشجار، تسقط غالبًا على أرض الغابة على هيئة كتل لزجة، ثم يحدث لها بلمرة جزيئية بعد طمرها في الرواسب، فتتصلب تحت تأثير الضغط والحرارة مكونةً في البداية مادةً وسيطة تُعرف باسم الكوبال (هو الراتنج الذي لم ينضج إلى مرحلة الكهرمان)، ثم تتحول هذه المادة إلى الكهرمان. عندما يفرَز الكهرمان وهو لزج يقع في أسره كائن سيّئ الحظ فيُسجن فيه للأبد.
يعود تاريخ أقدم كهرمان إلى 320 مليون سنة، إلى العصر الكربوني العلوي. تستخرج مئات المناطق حول العالم هذه الأحجار الذهبية الشفافة ولكن القليل من هذه المناطق يستخرج عينات تحتوي على حفريات بداخلها.
تملك دول البلطيق أكبر مخزون من الكهرمان، وتغطي هذه المنطقة شرق ألمانيا وبولندا وروسيا، وتوضح دراسة حديثة أن الراتنج الأولي خرج من أشجار صنوبرية نادرة لم يبقَ منها اليوم سوى نوع واحد فقط وهو أشجار المظلة اليابانية الصنوبرية Sciadopitys verticillateI. بينما يقدَّر عمر عينات الكهرمان المستخرجة من رمال الشواطئ بحوالي 25 مليون سنة، إلا أن تحليل الحشرات التي توجد عادة في كهرمان البلطيق يكشف أنها أقدم بكثير، إذ يرجع تاريخها إلى ما بين 44 إلى 49 مليون سنة ماضية.
تشتهر جمهورية الدومينيكان في منطقة الكاريبي باستخراج الكهرمان الأصفر والذهبي، والأزرق النادر ذي الشفافية الاستثنائية. ويتميز الكهرمان الدومينيكاني عن باقي أنواع منطقة البلطيق بكثرة الحفريات فيه وخاصة من الحشرات، حيث كانت البيئة منذ 25 مليون سنة -حين خرجت العصارة- عبارة عن غابة استوائية مليئة بالنباتات المتسلقة والشجيرات والأشجار الضخمة، أما العصارة فيرجع مصدرها إلى نوع منقرض من الأشجار يُسمى هيمينيا بورتيرا Hymenaea protera وهو ينتمي لجنس من النباتات ما تزال تنمو حتى يومنا هذا في المناطق الاستوائية من الأمريكتين وفي الساحل الشرقي لأفريقيا.
ولكن أغلب الحفريات الرائعة التي وجدت في العقد الأخير كانت من ميانمار، إذ أن ثلث عينات الكهرمان المكتشفة تحتوي على كائن كان حيًا أو جزء منه. كان الكهرمان يستخرج لصناعة الحلي منذ القرن الأول من الحقبة العامة (القرن الأول بعد الميلاد)، وكان أغلبه يأتي من وادي هوكاونغ في ولاية كاشين شمال ميانمار، أما اليوم؛ فيوجد في ميانمار صناعة كبيرة غير منظمة لتعدين الكهرمان، وتُباع أغلب العينات ذات الحفريات الثمينة للجامعين الخاصين، ما يجعلها بعيدة المنال عن البحث العلمي.
يحتوي كهرمان ميانمار على تنوع ضخم من الحيوانات والنباتات من غابات استوائية عمرها 99 مليون عام، حينها كان أخر عصر الديناصورات، حيث خضعت أنواع كثيرة من الحيوانات والنباتات لتغيرات مهمة لتكون بداية ظهور العديد من الكائنات كما نعرفها الآن.
يتميز الكهرمان بأنه وسط لتكوين الحفريات، إذ يشكل طبعة مثالية لسطح الكائن أو النبات المدفون بداخله، فيتحلل جسد الحيوان ويتحول إلى كربون يغلف التجويف المصنوع من الشكل الأصلي. تصل دقة طبعة سطح الكائن – مع الأخذ في الاعتبار أن الكثير من هذه الكائنات صغيرة جدًا- إلى أنه يمكن نسخها بالماسح الضوئي ثم تكبيرها لتكشف أدق التفاصيل.
طيور
عُثر في الأعوام الأخيرة على عينات من الريش والأجنحة المحفوظة جزئيًا وطيور كاملة في كهرمان يبلغ عمره 99 مليون عام من ميانمار. كان أول ظهور للعينة المعروضة هنا في عام 2017 وهي عينة شبه مكتملة لفرخ طائر.
حتى الآن تنتمي كل الطيور المحفوظة في كهرمان ميانمار إلى مجموعة قديمة تُعرف باسم الإنانشيونيثينس Enantiornithines وهي أقارب كل الطيور الحية الآن.
تُعتبر تلك المجموعة مرحلةً مثيرةً في تطور الطيور عن أسلافها من الديناصورات، فالإنانشيونيثينس لها ريش طيران مشابه للطيور الحديثة ما يرجح أنها كانت قادرة على الطيران القوي الماهر مع احتفاظها بالأسنان البدائية ومخالب الأجنحة. ورغم أنها كانت مجموعةً متنوعةً حيويةً في أواخر العصر الطباشيري، انقرضت كما حدث للديناصورات في حقبة الحياة الوسطى.
وكما يحدث لكل الكائنات المحبوسة في الكهرمان، فإن كل ما تبقى من هذا الطائر هو طبعة مذهلة التفاصيل والوضوح، إذ نستطيع أن نرى كل قشرة وكل مخلب في أرجلها، والريش المنفصل والجلد والعضلات وتفاصيل أخرى دقيقة، بالإضافة إلى اللون الأصلي للريش.
رغم أنه مجرد فرخ يبلغ طوله 3.5 سنتيمتر، يغطيه ريش مكتمل، وذلك يخبرنا بأن طائر الإنانشيونيثينس ينمو بطريقة مختلفة عن أقاربه المعاصرين، إذ يبدو أنه يحصل على ريش مكتمل في المراحل المبكرة من نموه، بينما يغطي نظراءه المعاصرين ريش الفرخ الناعم. لم نكن لنعلم تلك التفاصيل لولا غرق هذا الفرخ سيّئ الحظ في عصارة الشجرة.
سحالي
في عام 2006، تفاجأ العالم بالإعلان عن سحلية محفوظة بشكل مذهل في قطعة من كهرمان البلطيق. سُميت هذه العينة المعروضة هنا «يانتاروجيكو بالتيكوس Yantarogekko balticus» وأصبحت في ذلك الوقت أقدم أبو بريص معروف علميًا باستثناء بعض أجزاء من عظام غريبة. كشفت أصابع أقدام Yantarogekko مميزات غير موجودة في أي سحلية أخرى، بخلاف وجود الوسائد اللاصقة المنتشرة على كفوف أرجلها مثل الأبراص المعاصرة والتي تعطيها القدرة الخرافية على التسلق.
بعد عشر سنوات جاءت أنباء عن عينة أقدم محفوظة في كهرمان من ميانمار، ما يُرجِع تاريخ حفريات أبو بريص إلى حوالي 99 مليون سنة ماضية، كان يعتقد حينها أن كل المجموعات الكبيرة من السحالي الحية قد تطورت.
جاءت هذه المجموعة المكونة من 11 أبو بريص من مجموعات شخصية من الحفريات اشتملت على ما كان يعتقد أنه أقدم حرباء، ولكن أعيد تعريفه بعد ذلك على أنه نوع من البرمائيات. كانت كل السحالي صغيرة يصل طولها سنتيمتران أو أقل، فتطلب ذلك استخدام تصوير طبقي مبرمج مكروي للكشف عن التفاصيل الرائعة للقشور والأسنان والمخالب.
يخرج لسان واحدة من العينات كاشفًا عن طرف طويل غير موجود في أي سحلية أو ثعبان. استُردت سحالٍ أخرى من كهرمان الدومينيكان في 2015، إذ وُصفت وقورنت 17 سحلية من نوع أنوليس Anolis بمجموعة سحالي أنوليس المعاصرة الموجودة قرب جزر الأنتيل الكبرى في منطقة الكاريبي، رصدت تلك المقارنة اختلافات قليلة على نحو لافت للنظر بين الحفريات ذات العشرين مليون عامًا ونظائرها المعاصرة.
نباتات
نشأ الكهرمان من عصارة الأشجار في بيئة كانت تكثر فيها نباتات أخرى لكنها بالمقارنة كانت من الشوائب النادرة فيه. لحسن الحظ هناك استثناءات مبهرة.
ظهرت كاسيات البذور منذ نحو 99 مليون سنة ماضية، عندما كان كهرمان ميانمار ما يزال عصارةً لزجةً في الغابة الاستوائية، حُفظت فيه العديد من الأزهار ومنها حفرية رائعة لزهرتين تتزاوجان، يظهر بشكل واضح دخول مِئْبر الذكر للزهرة الأولى في ميسم الأنثى للزهرة الثانية.
الأزهار هي أعضاء التكاثر في النباتات، وسمح تطورها بوجود طريقة أكثر فعالية لنقل حبوب اللقاح عن طريق وسيط مثل النحل وحشرات أخرى. ما حدث من تطور هائل للأزهار هو ما جعلها المجموعة النباتية السائدة في عالمنا اليوم.
عُثر على أزهار أخرى في الكهرمان الدومينيكاني الأصغر سنًا، إذ توجد عينة تمثل مجموعة نباتات تُسمى أستريد the asterids والتي حاليًا تضم ثلث النباتات المزهرة، وتشمل حوالي 80000 نوع متضمنة أزهار دوار الشمس والقهوة والفلفل والبطاطس والنعناع.
تشير هذه الزهرة الأحفورية المنفردة التي تُسمى Strychnos electri، إلى أن أزهار الأستريد وصلت للعالم الجديد منذ ما يقرب من 20 مليون سنة مضت، ويُعتقد أنها ذات صلة قرابة بشجرة جوزة القيء.
في عام 2014 نُشر تقرير عن جزء من نبات لاحم (نبات آكل الحشرات) محفوظ بشكل ممتاز في كهرمان البلطيق، إذ تشبه مجساتها إلى حد كبير نبات ندى الشمس Roridula الفريد الذي ينمو حاليًا في جنوب أفريقيا فقط. تشير حقيقة أن هذه الحفرية جاءت من الطرف الأخر من الأرض إلى أن هذه المجموعة من النباتات كانت تحظى بانتشار أوسع فيما مضى.
قُرَاد
تحمس العالم في عام 1993 عند عرض فيلم «جوراسيك بارك» الأول، كان الفيلم يدور حول فرضية إعادة إحياء الديناصورات من خلال الحمض النووي المستعاد من البعوض المحفوظ في الكهرمان. هناك الكثير من العيوب في هذا السيناريو أبسطها أن كهرمان الدومينيكان، وهو مصدر البعوض في هذا الفيلم، أحدث من أن يحتوي على الحمض النووي (DNA) للديناصورات.
وصولًا إلى 2017 صدرت أنباء عن العثور على قراد مليء بالدماء في كهرمان ميانمار الأقدم، ما أعاد الأمل في الحصول على الحمض النووي لبعض الديناصورات، لكن لم يحدث ذلك للأسف. فالحمض النووي (DNA) مركب ضعيف جدًا ويتحلل بسرعة بعد موت الحيوان. من الجدير بالذكر: تشير التقديرات إلى أن أقدم حمض نووي يمكن أن نأمل في الحصول عليه يبلغ عمره بضع عشرات الآلاف من السنين ما يجعله بعيدًا كل البعد عن الحمض النووي المطلوب والذي يبلغ 65 مليون عام.
لكن حفريات القراد المحفوظة في الكهرمان جديرة بالملاحظة بحد ذاتها، إذ تشابكت واحدة منها مع ريشة من المرجح أنها تخص ديناصور، وأخرى مغلفة بكفن صغير من خيوط عنكبوت، وواحدة تضخمت ثمانية أضعاف حجمها الطبيعي لامتلائها بالدماء.
يتعلق بالعديد من البق شعر دقيق من خنفساء السجاد، يُعرف عن هذه الخنافس أنها تعيش في أعشاش الطيور، إذ تتغذى على ريش الفراخ وجلودها، ويشير وجود شعرها الواقي الشائك إلى أن البق كان في نفس الأعشاش حين دفنت في عصارة الشجرة التي أصبحت نعشهم الكهرماني.
ثعابين
حين كان كهرمان ميانمار يتشكل قبل 99 مليون عام، كانت المنطقة عبارة عن غابة استوائية زاخرة بحيوانات متنوعة، وهذه هي البيئة المثالية للثعابين، فكانت مسألة وقت قبل العثور على ثعبان داخل قطعة كهرمان. وقع هذا الاكتشاف المبهج في منتصف عام 2018 حين عرض للعالم، ولم تكن عينة واحدة، بل عينتين اثنتين.
صُنفت واحدة منهما -المعروضة هنا- نوعًا جديدًا أُطلق عليه Xiaophis myanmarensis، أما العينة الثانية فكانت غير مكتملة إلى الحد الذي يمنع التحديد بشكل قاطع ما إذا كانت تنتمي لنفس الجنس أم أنها مختلفة.
من المحتمل أن يكونا من أول من سكن الغابة، ونظرًا لصغر عمريهما (حربش)، تتضح كيفية نمو الثعابين القديمة من فقس صغير إلى ثعابين بالغة.
يمتلك هذا الثعبان 97 فقرة وهو مشابه في الحجم للعديد من صغار الثعابين الموجودة في وقتنا الحالي، مثل ثعبان الأنبوب الآسيوي Cylindrophis ruffus، وهذا التشابه مذهل للحد الذي يرجح حدوث تغيرات قليلة جدًا في طريقة نمو تلك الثعابين على مدى 99 مليون عام.
يشير التشابه في تركيب العظام بين ثعابين Xiaophis وثعابين القارة العظيمة البدائية «غندوانا» إلى أن تلك المجموعة نشأت في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية ثم انتشرت شمال القارة العظيمة «لوراسيا» وظلت هناك على هيئتها البدائية لعشرات الملاين من السنين.
نُشر هذا المقال في مجلة Cosmos العدد رقم 80 – ربيع 2018 (Cosmos 80 – Spring 2018) تحت عنوان «ذهبي وقديم ورائع».
يرجع مصدر الكهرمان إلى شيء مألوف أكثر من دموع الآلهة، يبدأ على شكل قطرات من عصارة الأشجار، تسقط غالبًا على أرض الغابة على هيئة كتل لزجة، ثم يحدث لها بلمرة جزيئية بعد طمرها في الرواسب، فتتصلب تحت تأثير الضغط والحرارة مكونةً في البداية مادةً وسيطة تُعرف باسم الكوبال (هو الراتنج الذي لم ينضج إلى مرحلة الكهرمان)، ثم تتحول هذه المادة إلى الكهرمان. عندما يفرَز الكهرمان وهو لزج يقع في أسره كائن سيّئ الحظ فيُسجن فيه للأبد.
يعود تاريخ أقدم كهرمان إلى 320 مليون سنة، إلى العصر الكربوني العلوي. تستخرج مئات المناطق حول العالم هذه الأحجار الذهبية الشفافة ولكن القليل من هذه المناطق يستخرج عينات تحتوي على حفريات بداخلها.
تملك دول البلطيق أكبر مخزون من الكهرمان، وتغطي هذه المنطقة شرق ألمانيا وبولندا وروسيا، وتوضح دراسة حديثة أن الراتنج الأولي خرج من أشجار صنوبرية نادرة لم يبقَ منها اليوم سوى نوع واحد فقط وهو أشجار المظلة اليابانية الصنوبرية Sciadopitys verticillateI. بينما يقدَّر عمر عينات الكهرمان المستخرجة من رمال الشواطئ بحوالي 25 مليون سنة، إلا أن تحليل الحشرات التي توجد عادة في كهرمان البلطيق يكشف أنها أقدم بكثير، إذ يرجع تاريخها إلى ما بين 44 إلى 49 مليون سنة ماضية.
تشتهر جمهورية الدومينيكان في منطقة الكاريبي باستخراج الكهرمان الأصفر والذهبي، والأزرق النادر ذي الشفافية الاستثنائية. ويتميز الكهرمان الدومينيكاني عن باقي أنواع منطقة البلطيق بكثرة الحفريات فيه وخاصة من الحشرات، حيث كانت البيئة منذ 25 مليون سنة -حين خرجت العصارة- عبارة عن غابة استوائية مليئة بالنباتات المتسلقة والشجيرات والأشجار الضخمة، أما العصارة فيرجع مصدرها إلى نوع منقرض من الأشجار يُسمى هيمينيا بورتيرا Hymenaea protera وهو ينتمي لجنس من النباتات ما تزال تنمو حتى يومنا هذا في المناطق الاستوائية من الأمريكتين وفي الساحل الشرقي لأفريقيا.
ولكن أغلب الحفريات الرائعة التي وجدت في العقد الأخير كانت من ميانمار، إذ أن ثلث عينات الكهرمان المكتشفة تحتوي على كائن كان حيًا أو جزء منه. كان الكهرمان يستخرج لصناعة الحلي منذ القرن الأول من الحقبة العامة (القرن الأول بعد الميلاد)، وكان أغلبه يأتي من وادي هوكاونغ في ولاية كاشين شمال ميانمار، أما اليوم؛ فيوجد في ميانمار صناعة كبيرة غير منظمة لتعدين الكهرمان، وتُباع أغلب العينات ذات الحفريات الثمينة للجامعين الخاصين، ما يجعلها بعيدة المنال عن البحث العلمي.
يحتوي كهرمان ميانمار على تنوع ضخم من الحيوانات والنباتات من غابات استوائية عمرها 99 مليون عام، حينها كان أخر عصر الديناصورات، حيث خضعت أنواع كثيرة من الحيوانات والنباتات لتغيرات مهمة لتكون بداية ظهور العديد من الكائنات كما نعرفها الآن.
يتميز الكهرمان بأنه وسط لتكوين الحفريات، إذ يشكل طبعة مثالية لسطح الكائن أو النبات المدفون بداخله، فيتحلل جسد الحيوان ويتحول إلى كربون يغلف التجويف المصنوع من الشكل الأصلي. تصل دقة طبعة سطح الكائن – مع الأخذ في الاعتبار أن الكثير من هذه الكائنات صغيرة جدًا- إلى أنه يمكن نسخها بالماسح الضوئي ثم تكبيرها لتكشف أدق التفاصيل.
طيور
عُثر في الأعوام الأخيرة على عينات من الريش والأجنحة المحفوظة جزئيًا وطيور كاملة في كهرمان يبلغ عمره 99 مليون عام من ميانمار. كان أول ظهور للعينة المعروضة هنا في عام 2017 وهي عينة شبه مكتملة لفرخ طائر.
حتى الآن تنتمي كل الطيور المحفوظة في كهرمان ميانمار إلى مجموعة قديمة تُعرف باسم الإنانشيونيثينس Enantiornithines وهي أقارب كل الطيور الحية الآن.
تُعتبر تلك المجموعة مرحلةً مثيرةً في تطور الطيور عن أسلافها من الديناصورات، فالإنانشيونيثينس لها ريش طيران مشابه للطيور الحديثة ما يرجح أنها كانت قادرة على الطيران القوي الماهر مع احتفاظها بالأسنان البدائية ومخالب الأجنحة. ورغم أنها كانت مجموعةً متنوعةً حيويةً في أواخر العصر الطباشيري، انقرضت كما حدث للديناصورات في حقبة الحياة الوسطى.
وكما يحدث لكل الكائنات المحبوسة في الكهرمان، فإن كل ما تبقى من هذا الطائر هو طبعة مذهلة التفاصيل والوضوح، إذ نستطيع أن نرى كل قشرة وكل مخلب في أرجلها، والريش المنفصل والجلد والعضلات وتفاصيل أخرى دقيقة، بالإضافة إلى اللون الأصلي للريش.
رغم أنه مجرد فرخ يبلغ طوله 3.5 سنتيمتر، يغطيه ريش مكتمل، وذلك يخبرنا بأن طائر الإنانشيونيثينس ينمو بطريقة مختلفة عن أقاربه المعاصرين، إذ يبدو أنه يحصل على ريش مكتمل في المراحل المبكرة من نموه، بينما يغطي نظراءه المعاصرين ريش الفرخ الناعم. لم نكن لنعلم تلك التفاصيل لولا غرق هذا الفرخ سيّئ الحظ في عصارة الشجرة.
سحالي
في عام 2006، تفاجأ العالم بالإعلان عن سحلية محفوظة بشكل مذهل في قطعة من كهرمان البلطيق. سُميت هذه العينة المعروضة هنا «يانتاروجيكو بالتيكوس Yantarogekko balticus» وأصبحت في ذلك الوقت أقدم أبو بريص معروف علميًا باستثناء بعض أجزاء من عظام غريبة. كشفت أصابع أقدام Yantarogekko مميزات غير موجودة في أي سحلية أخرى، بخلاف وجود الوسائد اللاصقة المنتشرة على كفوف أرجلها مثل الأبراص المعاصرة والتي تعطيها القدرة الخرافية على التسلق.
بعد عشر سنوات جاءت أنباء عن عينة أقدم محفوظة في كهرمان من ميانمار، ما يُرجِع تاريخ حفريات أبو بريص إلى حوالي 99 مليون سنة ماضية، كان يعتقد حينها أن كل المجموعات الكبيرة من السحالي الحية قد تطورت.
جاءت هذه المجموعة المكونة من 11 أبو بريص من مجموعات شخصية من الحفريات اشتملت على ما كان يعتقد أنه أقدم حرباء، ولكن أعيد تعريفه بعد ذلك على أنه نوع من البرمائيات. كانت كل السحالي صغيرة يصل طولها سنتيمتران أو أقل، فتطلب ذلك استخدام تصوير طبقي مبرمج مكروي للكشف عن التفاصيل الرائعة للقشور والأسنان والمخالب.
يخرج لسان واحدة من العينات كاشفًا عن طرف طويل غير موجود في أي سحلية أو ثعبان. استُردت سحالٍ أخرى من كهرمان الدومينيكان في 2015، إذ وُصفت وقورنت 17 سحلية من نوع أنوليس Anolis بمجموعة سحالي أنوليس المعاصرة الموجودة قرب جزر الأنتيل الكبرى في منطقة الكاريبي، رصدت تلك المقارنة اختلافات قليلة على نحو لافت للنظر بين الحفريات ذات العشرين مليون عامًا ونظائرها المعاصرة.
نباتات
نشأ الكهرمان من عصارة الأشجار في بيئة كانت تكثر فيها نباتات أخرى لكنها بالمقارنة كانت من الشوائب النادرة فيه. لحسن الحظ هناك استثناءات مبهرة.
ظهرت كاسيات البذور منذ نحو 99 مليون سنة ماضية، عندما كان كهرمان ميانمار ما يزال عصارةً لزجةً في الغابة الاستوائية، حُفظت فيه العديد من الأزهار ومنها حفرية رائعة لزهرتين تتزاوجان، يظهر بشكل واضح دخول مِئْبر الذكر للزهرة الأولى في ميسم الأنثى للزهرة الثانية.
الأزهار هي أعضاء التكاثر في النباتات، وسمح تطورها بوجود طريقة أكثر فعالية لنقل حبوب اللقاح عن طريق وسيط مثل النحل وحشرات أخرى. ما حدث من تطور هائل للأزهار هو ما جعلها المجموعة النباتية السائدة في عالمنا اليوم.
عُثر على أزهار أخرى في الكهرمان الدومينيكاني الأصغر سنًا، إذ توجد عينة تمثل مجموعة نباتات تُسمى أستريد the asterids والتي حاليًا تضم ثلث النباتات المزهرة، وتشمل حوالي 80000 نوع متضمنة أزهار دوار الشمس والقهوة والفلفل والبطاطس والنعناع.
تشير هذه الزهرة الأحفورية المنفردة التي تُسمى Strychnos electri، إلى أن أزهار الأستريد وصلت للعالم الجديد منذ ما يقرب من 20 مليون سنة مضت، ويُعتقد أنها ذات صلة قرابة بشجرة جوزة القيء.
في عام 2014 نُشر تقرير عن جزء من نبات لاحم (نبات آكل الحشرات) محفوظ بشكل ممتاز في كهرمان البلطيق، إذ تشبه مجساتها إلى حد كبير نبات ندى الشمس Roridula الفريد الذي ينمو حاليًا في جنوب أفريقيا فقط. تشير حقيقة أن هذه الحفرية جاءت من الطرف الأخر من الأرض إلى أن هذه المجموعة من النباتات كانت تحظى بانتشار أوسع فيما مضى.
قُرَاد
تحمس العالم في عام 1993 عند عرض فيلم «جوراسيك بارك» الأول، كان الفيلم يدور حول فرضية إعادة إحياء الديناصورات من خلال الحمض النووي المستعاد من البعوض المحفوظ في الكهرمان. هناك الكثير من العيوب في هذا السيناريو أبسطها أن كهرمان الدومينيكان، وهو مصدر البعوض في هذا الفيلم، أحدث من أن يحتوي على الحمض النووي (DNA) للديناصورات.
وصولًا إلى 2017 صدرت أنباء عن العثور على قراد مليء بالدماء في كهرمان ميانمار الأقدم، ما أعاد الأمل في الحصول على الحمض النووي لبعض الديناصورات، لكن لم يحدث ذلك للأسف. فالحمض النووي (DNA) مركب ضعيف جدًا ويتحلل بسرعة بعد موت الحيوان. من الجدير بالذكر: تشير التقديرات إلى أن أقدم حمض نووي يمكن أن نأمل في الحصول عليه يبلغ عمره بضع عشرات الآلاف من السنين ما يجعله بعيدًا كل البعد عن الحمض النووي المطلوب والذي يبلغ 65 مليون عام.
لكن حفريات القراد المحفوظة في الكهرمان جديرة بالملاحظة بحد ذاتها، إذ تشابكت واحدة منها مع ريشة من المرجح أنها تخص ديناصور، وأخرى مغلفة بكفن صغير من خيوط عنكبوت، وواحدة تضخمت ثمانية أضعاف حجمها الطبيعي لامتلائها بالدماء.
يتعلق بالعديد من البق شعر دقيق من خنفساء السجاد، يُعرف عن هذه الخنافس أنها تعيش في أعشاش الطيور، إذ تتغذى على ريش الفراخ وجلودها، ويشير وجود شعرها الواقي الشائك إلى أن البق كان في نفس الأعشاش حين دفنت في عصارة الشجرة التي أصبحت نعشهم الكهرماني.
ثعابين
حين كان كهرمان ميانمار يتشكل قبل 99 مليون عام، كانت المنطقة عبارة عن غابة استوائية زاخرة بحيوانات متنوعة، وهذه هي البيئة المثالية للثعابين، فكانت مسألة وقت قبل العثور على ثعبان داخل قطعة كهرمان. وقع هذا الاكتشاف المبهج في منتصف عام 2018 حين عرض للعالم، ولم تكن عينة واحدة، بل عينتين اثنتين.
صُنفت واحدة منهما -المعروضة هنا- نوعًا جديدًا أُطلق عليه Xiaophis myanmarensis، أما العينة الثانية فكانت غير مكتملة إلى الحد الذي يمنع التحديد بشكل قاطع ما إذا كانت تنتمي لنفس الجنس أم أنها مختلفة.
من المحتمل أن يكونا من أول من سكن الغابة، ونظرًا لصغر عمريهما (حربش)، تتضح كيفية نمو الثعابين القديمة من فقس صغير إلى ثعابين بالغة.
يمتلك هذا الثعبان 97 فقرة وهو مشابه في الحجم للعديد من صغار الثعابين الموجودة في وقتنا الحالي، مثل ثعبان الأنبوب الآسيوي Cylindrophis ruffus، وهذا التشابه مذهل للحد الذي يرجح حدوث تغيرات قليلة جدًا في طريقة نمو تلك الثعابين على مدى 99 مليون عام.
يشير التشابه في تركيب العظام بين ثعابين Xiaophis وثعابين القارة العظيمة البدائية «غندوانا» إلى أن تلك المجموعة نشأت في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية ثم انتشرت شمال القارة العظيمة «لوراسيا» وظلت هناك على هيئتها البدائية لعشرات الملاين من السنين.
نُشر هذا المقال في مجلة Cosmos العدد رقم 80 – ربيع 2018 (Cosmos 80 – Spring 2018) تحت عنوان «ذهبي وقديم ورائع».