في انعكاس ممارسات الاحتلال الصهيوني تشكيليًا
دارين حوماني 17 أكتوبر 2023
استعادات
هنا وجه غزة نفسه تحت النار والحصار (محمد قريقع)
شارك هذا المقال
حجم الخط
من أين يأتي كل هذا الحزن؟ هل لا يزال من مكان للحزن الشخصي أمام كل هذا الموت؟ للفرح الشخصي؟ أتأمل شاشة تلفزيونية تسحبني إلى غزة... هناك أسير بين شوارعها، بين الخراب، الدخان، أجساد الأطفال الذين ماتوا وأولئك الذين عادوا من الموت... تتزاحم وجوههم وأصوات خوفهم في رأسي، يتزاحم أساهم فيّ، وأنا أتأمل تصريحات تدينهم، تقطع عنهم الإمدادات، وتقدّم الدعم للقاتل. أنتظر من حكامنا العرب المطبّعين أن يخرجوا عن الصمت، أن يرفعوا صوتهم قليلًا، أن يهدّدوا دولة الاحتلال، أبسط تهديد، بوقف التطبيع لحين وقف الجحيم، فلم يعد الفلسطينيون يريدون حربًا من أجلهم، يريدون صوتًا فقط يهزّ رأس الإسرائيلي، يوقظه من وحشيّته.
يتكشّف الحزن حتى أقصاه في رأسي، يتعقّبني، وأنا أفتش عن صور توثّق ممارسات الاحتلال. أردت أن يكون التوثيق منسوخًا من ذاكرة الفلسطينيين أنفسهم. أولئك الذين وثّقوا ما يفعله المحتلّ، من أجل هويتهم وذاكرتهم أولًا، لأن العالم العربي ينهار من حولهم، فما تبقّى لهم صور ولوحات وروايات ومفاتيح. قبح الإسرائيلي هو نفسه دائمًا منذ ما قبل النكبة؛ يقول بطل غسان كنفاني في قصة "أرض البرتقال الحزين": "لقد حاولتم تذويبي يا سيديّ، حاولتم ذلك بجهد متواصل لا يكلّ ولا يملّ... ألست ترى أنكم استطعتم نقلي بقدرة قادر من إنسان إلى حالة! إنه عمل رائع يا سيدي!.. إن تذويب مليون إنسان معًا ثم جعلهم شيئًا واحدًا ليس عملًا سهلًا"... وهكذا يتم الآن تذويب الفلسطينيين داخل غزة، يريدون تهجيرهم أو دفنهم أحياء، كالسابق، وحيث الموت صار لا يأتي واحدًا واحدًا، يعدّهم الموت كمن يجرّب الأجساد ويأخذهم دفعة واحدة، بطلقة واحدة صنعها "أبطال السلام" الذين يعرفون جيدًا أكثر منا نحن العرب كيف تُباد الشعوب بطلقة واحدة. حاول الفلسطينيون الكتابة عن ممارسات الاحتلال علّ العالم يقرأ ويتأثر وينظر بوعي إلى الحقائق، روائيون وشعراء وصحافيون كتبوا، حاولوا إظهارها للعالم تشكيليًا أيضًا، وقد فعلها قبلهم الإيطالي غويدو ريني في عمله "مذبحة الأبرياء" عام 1611 والذي صوّر فيه "مذبحة أطفال بيت لحم" من قبل هيرودس الأول، في العام الثاني بعد الميلاد، حين كان يفتش عن يسوع طفلًا لقتله، فأمر بقتل كل الأطفال في بيت لحم الذين تقلّ أعمارهم عن السنتين. والإسباني فرانسيسكو دي غويا رسم احتجاجه على الحرب والمجاعة والقتل في 82 رسمًا، وكانت أبرز لوحاته "الثالث من أيار/ مايو 1808" التي سطّر فيها كيف كان جيش نابليون بونابرت يقتل الناس بسهولة. هو استسهال القتل نفسه الذي يرتكبه الإسرائيلي مع الفلسطيني. في اللوحة يقف الجنود حاملين بنادقَ وموجّهينها على آخرين حاملين عُريهم وخوفهم وضعفهم، وعند أقدامهم رفاقٌ لهم سبقوهم إلى الموت.
سلفادور دالي أيضًا رسم الحرب عام 1940 على طريقته السوريالية في لوحة "وجه الحرب" يصوّر فيها رأسًا بلا جسد، داكن اللون، بائسًا، وفاغرًا فمه، في صحراء قاحلة. الرأس نفسه موجود داخل العينين والفم، وداخل العينين والفم نفس الرأس مجددًا، مثل حلقة لا متناهية، وتحيط بالرأس أفاعٍ لاسعة. بدوره بيكاسو أراد أن يوثّق كيف روّع الألمان المقاومة الإسبانية عام 1937 ولم يتمكن الناس من الهرب. لوحة "غيرنيكا" بالأسود والأبيض والرمادي تتألف من صراخ متعدد، من موت متعدد، عدد من المشهديات في لوحة واحدة، ثور واسع العين، امرأة حزينة تحمل طفلًا ميتًا بين ذراعيها، حصان متألم مع فجوة كبيرة في جانبه، وكأنه طُعن برمح. تحت الحصان جندي ميت ويده التابعة لذراعه اليمنى المقطوعة تحمل سيفًا محطمًا. امرأة خائفة، تراقب المشهد من خلال نافذة وتحمل بيدها مصباحًا مُضاءً. هي المجزرة التي حلّت ببلدة غيرنيكا الإسبانية ذلك العام على أيدي الألمان. ومستوحيًا من "غيرنيكا" بيكاسو رسم العراقي ضياء العزاوي لوحة "مجزرة صبرا وشاتيلا" بالألوان نفسها، مع قليل من الأحمر المتناثر، تحت وقع المذبحة التي حلّت بالفلسطينيين عام 1982 في مخيميّ صبرا وشاتيلا في بيروت. كثافة الموت هنا لا متناهية، رؤوس مقطوعة، أصابع مقطوعة، صراخ، سيوف، أحذية، طيور، قنابل USA، وجوه مذعورة، الكثير من الرعب والموت، والكثير من التوحش البشري، الذي لا يختلف عمّا يحدث مع أهل غزة اليوم، عمل بصري حادّ للمجزرة الكابوس. والمذبحة التي تحصل اليوم، كل يوم، هي نسخة عن مجزرة صبرا وشاتيلا. يومها دخلوا عليهم بالرشاشات، اليوم الإبادة نفسها من فوق، بطائرات حربية، والحصار نفسه الذي يستخدمه الإسرائيلي في كل حرب، ممارسات وثّقها الفلسطينيون، نعرض لعدد منها هنا.
"العطش" لإسماعيل شموط، الذي يعدّ مؤسّس الحركة الفنية الفلسطينية المعاصرة، رسم المعاناة الفلسطينية من أولها لوحة إثر لوحة، "إلى أين"، "سنعود"، و"جرعة ماء" وغيرها الكثير. ومن لوحاته التي أظهر فيها ممارسات الاحتلال، لوحة "العطش". كان شموط طفلًا حين خرج من اللّد، لكن مسيرة الخروج كانت نفسها عطشانة، يحكي شموط عن وعاء الماء الذي أمره العنصري الإسرائيلي برميه أرضًا. لا فرق بين العطش والموت هنا، كل فلسطيني في الصورة له حصته من العطش، والعطش هنا يصبح تمرينًا على الموت، وهو نفسه الحصار على غزة اليوم، حيث يتفاخر وزير الطاقة الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، أمام مسمع الحكام العرب، بقطع الكهرباء والماء عن الغزّاويين، وتناشد المستشفيات الغزاوية المجتمع الدولي، ولا يسمع الغزّاويون من معظم الرؤساء العرب سوى الصمت.
التراجيديا الفلسطينية توثّقها ابنة غزة ليلى الشوا التي قدّمت عددًا من الأعمال تظهر فيها قبح الإسرائيلي ووحشيته. عملها "شجاعية" كولاج متعدّد الوسائط يصوّر المجزرة التي اقترفها الإسرائيليون صباح 20 تموز/ يوليو 2014 في حي الشجاعية بغزة والتي راح ضحيتها 74 مدنيًا فلسطينيًا من بينهم 17 طفلًا، إضافة إلى مئات الجرحى، الذين لا يزال العطب الشقيّ يرافقهم لليوم. في اللوحة مجسّمات جثث أطفال ونساء على مسطّح لوني من الأحمر/ الدم، ويتطاير الأبيض في اللوحة فيما يشبه الأرواح المتحركة برفق فوق الجثث. لوحة لا تصوّر فقط ذلك اليوم في حي الشجاعية بغزة، بل كل يوم يمرّ، من أيامنا هذه، على هذه البقعة الأكثر حزنًا على سطح الأرض.
شاهد آخر على أفعال الاحتلال، جدار الفصل العنصري والحواجز الإسمنتية التي رسمها سليمان منصور في أكثر من عمل. في إحدى لوحاته، عدد من الفلسطينيين يقفون قرب جدار الفصل وبينهم تتوزع كتل إسمنتية؛ ثمة انكسار يغلب على الوجوه، أحدهم يحمل طائرة ورقية بيده في رغبة بالانعتاق من الحصار، الممرات بين الكتل الإسمنتية ممرات للحزن والصدمة.
في عمل وجداني آخر يرسم منصور على كل مرتفع إسمنتي شخصية فلسطينية، وإحدى تلك الشخصيات شجرة الزيتون فيما لا يشبه الرمز الذي اشتغل عليه فنسنت فان غوخ في لوحته "أشجار الزيتون"، فأشجار الزيتون أصبحت ثيمة الهوية الفلسطينية وترسيخًا لها وتحدّيًا لكل أشكال التهجير والفصل والحصار. عبد الرحمن المزّين وثّق ممارسات الاحتلال أيضًا، ففي أحد أعماله "استمرارية القتال" نشهد فلسطينيًا مقتولًا على الأرض وقربه يقف ابنه يأخذ سلاحًا من يد أمه، وفي عينيّ الصبي إصرار على القتال، في تأكيد على أن القضية لن تموت. الأجساد الثلاثة مكوّنة على مساحة من الأحمر ومشتقاته فيما يدلّ على المساحة الشاسعة للقتل الذي يمارسه المحتلّ الصهيوني، وإن لم تظهر الأجساد الأخرى التي قُتلت على سطح اللوحة لكن هنا آثار دمائها. وفي الخلف حصان ينظر إلى السماء مرسّخًا الأمل.
من الأعمال التي توثّق الإجرام الإسرائيلي ما فعلته بشرى شنان بدخان الصواريخ الملقاة على غزة، حيث حوّلت الدخان المتصاعد إلى لوحات فنية باستخدام وسائط متعددة، وأبرز تلك اللوحات، لوحة "هيا نلعب بالجنة" حيث دمجت صورة القصف بصور حقيقية لأطفال قُتلوا في المجازر الإسرائيلية في غزة في عام 2014، وقد بلغ عددهم أكثر من أربعمائة طفل كما صرّحت بيرنيل إيرنسايد، رئيسة المكتب الميداني الذي تديره منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) في غزة. ولبشرى عدد آخر من اللوحات المماثلة لهذه اللوحة وقد شكّلت من الدخان مآسيَ فلسطينية.
أطفال فلسطينيون أيضًا وثّقوا وحشية الصهاينة، أحد هؤلاء محمد قريقع، وكانت له عشرات اللوحات فيما كان لا يزال في الثانية عشرة من عمره. في إحدى لوحاته سيجمع مشهديات تجسّد الهمجية والعنف الإسرائيلي، سنرى في الصورة إلى اليسار الطفل محمد الدرة ووالده. نشهد أيضًا على طفل مع أبيه يجلسان فوق ركام منزلهما، آخر يحمل ما تبقّى له، صرخة طفل، أم تجر ابنها، أما مقدمة اللوحة فهي لتلميذ يحمل حقيبة مدرسية على ظهره ويصعد على خشبتين تشبهان الصاروخ المعدّ لاستعادة كل ما فقدته هذه الشخوص المستندة على خلفية اللوحة، ولا ينسى الفنان طيور الحمام في سماء فلسطين الرمادية والتي تشكّل الأمل بالآتي.
في لوحة أخرى لقريقع، وجه ملفوف بضمادات بيضاء مع عبارات بالأسود في تضادّ لوني وتصوير جنائزي يزيح صوب دواخلنا الألم إلى أقصاه، منها Gaza under attack- The war on Gaza. عتمة في العينين والفم، هنا وجه غزة نفسه تحت النار والحصار، هنا صمت يحتقر كل عربي صامت على المذابح.
طفل مجهول الهوية بعمر السنوات سيوثّق ما رآه من المحتلّ، عُرض عمله ضمن معرض فني لأطفال فلسطينيين من غزة، وقد جاب المعرض عددًا من دول العالم. العمل يصوّر جنديًا يقتحم بيتًا فيما طفلٌ مرتعب منزوٍ في زاوية الغرفة مغمضًا عينيه. الطفل الفلسطيني يحفظ خريطة فلسطين عن ظهر قلب حتى لو عدّلها المحتلّ، ففلسطين كلها هنا خريطة وعلم على جدار البيت. هي لوحة الصدمة التي يتعرّض لها كل طفل فلسطيني على مرأى من العالم، تؤرّخ لمئات الآلاف من الأحزان الممتدة على سطح الأرض الفلسطينية، ولا شيء في المقابل، غير الصمت العربي.