الفنانة العراقية المغتربة نوال السعدون
من كتاب(يوميات بغدادية) للفنانة التشكيلية العراقية(نهى الراضي):
(المنفى. كنت دائماً في منفى. أولاً كطفلة مع الملك فيصل حين جاء الفرنسيون وكان علينا أن نغادر سوريا، ثم العراق. لا أعرف أي نمط حياة آخر. لكني سأروي لك قصة المنضدة. تملك جدي منضدة من أمه في أمريكا. عندما انتقلوا الى سوريا أخذوا المنضدة معهم. وحين طردوا من هناك في عام 1920 خلفوا المنضدة وراءهم واختفت) ومضى يقول(بعد سنوات مر والدي بدمشق ورأى المنضدة في بيت صديق. لقد اشتراها من متجر لبيع التحف وأصروا على أن يأخذها والدي، فأخذها الى بغداد). أين هذه المنضدة الآن؟ ربما مع سلوى!.)
أين هذه المنضدة المهاجرة، العائدة، المفقودة. بل أين نهى الراضي بعد أن غيبها سرطان سنوات التلوث العراقي
المنضدة بالنسبة لي هي رأسي الذي يتكئ على معصمي. هي مشغلي، وهي منبع أفكاري. هي كذلك(حسب ما أعتقد) عند الفنانة التشكيلية العراقية(المهاجرة) نوال السعدون. نوال الذات المصلوبة على حوائط أزمنة جغرافيا هجراتها وعلاماتها الدالة. هي المباعة، المشتراة برسم الإعارة. إن فقدت منضدة نهى الراضي رونقها الأول، أو تصدعت قشرتها، أو ثلمت أركانها. فثمة أثلام وتصدعات تركت بصماتها على جسد نوال الخفي. مجسات تحكمت بذاتها الفنية، بما أننا نود سبر أعمالها الفنية. هي التي جربت مرارة الاغتراب الداخلي والخارجي منذ سبعينيات القرن الماضي وما تزال(عندما كنا في زمن الدراسة كان يبدو أن كل شيء على حافة الهاوية، فما علينا سوى ان نهاجر بسرعة الضوء نحو المجهول البعيد في الزمكان فلا عودة ولا رجوع بعد*). ثم لتترك بصمتها الواضحة على صفحة التشكيل العراقي(المغترب). أعمال ربما تخدعنا مناوراتها اللونية، أو حتى أشكال أجسادها التي تقترب غالبا من عوالم كوابيس الطفولة، أو وحشة مسوخ الإنسان البدائي. إنها المهارة التعبيرية، حيث الحفر بعيداً في غور أشباح الألم، وحيث الألم جسداً يتمطى حدود أبعاده الفيزيقية المعهودة.
هل المعاناة من صنعت هذه الأعمال، أم المهارة لوحدها. وهل المهارة إلا جزء من مهارة البوح الداخلي عندها، كما تظهرها لنا صورها الفوتوغرافية التي مثلت حالاتها الشخصية خير تمثيل. هنا وفي مساحة كل صورة شيء ما مختبئ عن الأنظار، موارب بفعل قصدي. حيث ملامحها تحجب أكثر مما تبين. نعم هي نوال بدون شك، لكن أي منها. فثمة عديدات تنتشر على سطوحها. هل هي حيلة تقنية أن تتدثر بأرديتها الشرقية وعتمة ظلالها غالباً. أم هو الشرق متسربل سواداً، أم استعادة لأيام المحن. لقد صنعت معادلتها الشخصية وعلينا قراءتها كما توحي لنا هي بشخصيتها وتشخيصها. أو كما نتماهى نحن مع صورها. فالكثير من القواسم المشتركة باتت تشد حبل العراقيين بدون تمييز.
هي التي توزع وقت اهتماماتها الفنية ما بين تقنيات ومواد متعددة. هل كانت اختياراتها اعتباطية، أم عن دراية بما تصنعه، وتصنعه موادها. وهل كان اشتغالها ضمن هذه الاهتمامات يحقق لها ما تصبو إليه من بوح داخلي، عاصف في غالبه. أعتقد، نعم هو كذلك. فما بين الرسم والفوتوغراف وشائج قريبة، وما بين الرسم والنحت الفخاري كذلك. ما دامت اختارت مواضيعها من مساحة الجسد وتضاريسه الوعرة. إن حققت نتائجها التعبيرية في الرسم. تقنية النحت الفخاري(الراكو). هي التي تحقق لها نتائجها التجسيدية بصدمتها الحرارية تضاريس موازية. سطوحاً خشنة متشققة. هي الضربة القاسية حيث القلب يتلقى الصدمة قبل بقية أجزاء الجسد. هو العنف بريقاً مطفياً.
في البدء فاجأنا الخزاف العراقي(شنيار عبد الله) بأعماله الخزفية المبهرة المنفذة بتقنية الراكو، وكان الجمال نصيبها. في تجارب أحدث قدم لنا الخزاف وليد رشيد القيسي تجربته في الراكو، مثبتاً اختلافه عن مجايليه، بتراكيب أعماله الغريبة التي هي قريبة من النحت التشكيلي الحديث. نوال السعدون هي أيضاً وظفتها لصالح مشروعها التعبيري الخاص، رؤوسا وجماجم مستلة من أجسادها الغريبة. أعمال بقدر ما تحمل من فرادة، هي أيضا تحيلني لمصادر تقنية استوحت منها الفنانة اشتغالاتها.
أرى أن ثمة خلفية تقنية كرافيكية تربط أواصر غالبية أعمالها، إن لم تكن كلها. حيث خلفية الأعمال الملونة المتقشفة، وملامح حفر الأجساد خطوطاً ولوناً. ووضوح الملامح وحدتها وحتى في منحوتاتها. هي تنشئ عالمها الافتراضي، أجساداً وملامح تحمل لوعتها، تأثيثاً متقشفاً برموز تدل غالباً على مصدر مأساتها مع اشارات لا تخفى عن مأساتنا الجماعية، حيث العين قبر في بعضها.
لو جمعنا أعمال نوال الملونة المتأخرة في عرض موحد. لاكتشفنا أن ثمة سلسة متلازمة تقدم لنا فكرة واحدة(كونسبت) رغم اختلافات تفاصيلها الدقيقة، وليست العامة. هي إذاً مدركة لفعلها الفني ضمن ضوابط تصوراتها التي ربما اقترحتها حالتها المزاجية(أو هي كذلك)،
التي هي بعض من ناتج هلوسة أفرزها زمننا وزمنها الضاغط. هلوسة نفذت بوعي فائق تعدى الحدود الطبيعية. أعمال فنية لم تفقد عنصر الانفعال(كبتا) ظاهر للعيان. ما دامت بعض من نتاج الزمن العراقي وقساوة مراراته. وما اختلافها إلا في طريقة تنفيذها التي تختصر الجسد حقلاً تعبيرياً عابراً للحدود. أعمال كهذه لا تنتمي لمألوف غالبية النتاج التشكيلي العراقي، بقدر انتمائها لصانعتها. وللمشهد الذي تعدى محليتها. هي خطاب، بل صرخة في الفضاء العالمي الأرحب.
حينما نشاهد أعمال الهولندي فان كوخ، لا نفكر إلا بها، مقصين سيرته من أمام عيوننا. هذا ما أفعله حين مشاهدتي أعمال هذه الفنانة، رغم معرفتي بمأساتها التي لا تبتعد كثيراً عن مأساة فان كوخ الشخصية، إلا بقليل من التفاصيل الذاتية. هي المحنة الشخصية إذاً مَنْ أنتج هذه الأعمال. وقليلة هي الأعمال الفنية التشكيلية العراقية التي خلقتها محنة الفنان الشخصية. ونحن أمام فعل المحنة الصادم. رغم مهارة التنفيذ التشكيلي واختيار أدواته المتعددة.
في عملها(بريد بغداد) ثلاثة ظروف رسائل في الأسفل، توحي بكونها ثلاثة أشخاص. مجرد شواخص من زمن الحرب. بملامح وبدونها، جمعت في تقنيته الرسم، والنحت (المشخص في الوسط)، مشهداً عاصفاً تتسيده صلبان القبور فضاءات موحشة. حسناً، هي رسالة بليغة واضحة المغزى. هذا يعني أن رسومات نوال تندرج ضمن أعمال الفكرة. فهل استقت أفكارها من مصادر عامة، أم ذاتية. أعتقد انها كذلك في الحالتين. إذ غالباً ما تكون الفكرة الذاتية تحمل نوازعها العامة، ما دامت تنبع من تجربة هي بالأساس شاملة، رغم خصوصيتها. فالهجرة، الهجر، الغربة والاغترابات القسرية باتت اليوم أفعالاً جماعية. نحن كلنا نعرف الأسباب، وغالباً لا نود الخوض في تفاصيلها بعد شيوعها. لكننا وكأشخاص، أفراد متلقين وفاعلين، لا نود المرور عليها مرور الكرام. وهذا ما حاولته نوال حينما حفرت بعيداً في أرض غربتها واغتراب أناسنا، أعمال إدانة لا تخلوا من ولع تعبيري إفصاحي، كما عملها التجميعي المؤلف من مجموعة جماجم(منحوتات راكو) بخمسة حلقات دائرية تحيط بقنينة(كوكا كولا) بمشهدية أعمال بيئية. في محاولة ثانية تلبست الجماجم فوهات القناني إطلاقات معلبة. في كلا الحالتين، رغم جمالية تفاصيل العمل، فالإدانة واضحة. من يثير الحروب، من المستفيد بالمتاجرة بها وبالبشر. في هذين العملين، أو التصورين، لا يبدو أن ثمة اختلاف جوهري بينهما وبين رسوماتها. فالرسوم أيضاً محملة بتفاصيل رموزها الدالة، مثلما رسمتها الأخيرة حيث القنابل تتساقط حول الشخص، الجسد الإنساني المصلوب كما فزاعة الحقل. والابادة الجماعية مبررة ضمن شيطنة التجارة العالمية العابرة للقارات.
أعتقد أن أول من رسم أقنعة الغازات السامة هو الألماني(أوتو ديكس) مستلهما ومسجلاً حوادث الحرب العالمية الأولى، حيث تختلط تربة سواتر القتال الندية بالقنابل اليدوية والبيئة المحروقة. أقنعته تبدو كالجماجم بعيونها الفارغة الواسعة التي تعبر عن المصير المحتوم لضحايا الحرب. وهي تجربة فنية ميدانية. في عراق الثمانينيات والتسعينيات كان للقناع نفسه في العراق قصص أخرى، معظمها مخادعة، لتترك الضحية لمصيرها، كما في حرب الجارتين أو الأنفال. نوال تستحضر ضحايا أقنعتها المنحوتة(الراكو) رعباً مضافاً. فهي القناع، وهي الرأس المتصل بالجسد في آن واحد. وهي الضحية، حيث يبدو نصف الجسد متصدعاً بفعل سمية الغازات المحرمة التي لم تحرمها الأنظمة الغاشمة. أعمال هي بمثابة إشارة لما حدث ولا يزال يحدث، ولما سوف يحدث بدون وازع ضمير. ما يميز هذه الأعمال هو تقنية خراب السطح التي انتجتها التقنية المعملية التي تدربت عليها نوال منذ إمتلاكها فرنها الأول في كوبنهاكن عام(1991) ثم آخر لا حقا في دمشق، ولا زالت تعيد وتجدد مهاراتها لحد الآن.
ليس غريباً أن تكون التعبيرية في الفن مجال اشتغالات جديدة للعديد من التشكيليين العراقيين في أزمنتنا الحالية. أزمنة الحروب وتبعاتها المدمرة. فالتعبيرية وكما معروف عنها (تعاملت مع سيكولوجية الأمة المهزومة، مع مشاعر الإذلال والخيبة والغضب..). وقد نوهت في مقالة سابقة عن أهمية الجسد في التعبير عن زمننا هذا، والتعبيرية أفضل من ناورته. نوال في منحوتتها الصغيرة للرأس تكشط اللحم منه حتى العظم. وكم بليغة لغة هذه المنحوتة الصغيرة الإفصاحية وهي تشطر الوجه شطرين ممر لأحزان سوداء تتفجر عند قمته كما نفث بركان خامد. إن كانت للتجربة الشخصية من أثر في انتاج هكذا أعمال، فإنني أعتقد أنه ليس كل من مر بمثلها قابل للإتيان بفعل فني مواز لما فعلته نوال. وإن كان الاغتراب دمغ بصمته على جسد الفنانة نوال، فإنه حفر بعيداً في مجال ابداعاتها الفنية، شواهد لفن نسوي جديد لا تربطه أية صلة بنتاج التشكيليات العراقيات المألوفة. لقد صنعت من أزمنتها المغتربة أعمالاً موازية لمحنتها ولمحننا، وما علينا إلا النظر إليها كشهادة زمنية بليغة الصيغة والتعبير، بوح لجسد أصم لم يفقد بعد بلاغة إشارته السرية والعلنية.
............
(*)ـ مقتطف من مراسلة مع الفنانة.
استخدم الجيش الألماني الغاز السام لأول مرة ضد قوات الحلفاء في معركة ابرس الثانية في بلجيكا في 22 أبريل 1915
في عام 1991اشتريت فرن خاص للراكو وبدأت اعمل منحوتاتي التعبيرية واللعب بشكل عفوي مع مادة الطين لكن نضجت تجربتي عندما انتقلت الى دمشق القديمة وشتريت فرن من جديد عام 2005 أما الفوتغرافي فقد مارسته عندما اصبح عندي كامرة فوتوغراف صغيرة ايضا في نفس التاريخ
تعاملت تعبيرية مع سيكولوجية الأمة المهزومة ، مع مشاعر الإذلال والخيانة والغضب
اوتو ديكس
من كتاب(يوميات بغدادية) للفنانة التشكيلية العراقية(نهى الراضي):
(المنفى. كنت دائماً في منفى. أولاً كطفلة مع الملك فيصل حين جاء الفرنسيون وكان علينا أن نغادر سوريا، ثم العراق. لا أعرف أي نمط حياة آخر. لكني سأروي لك قصة المنضدة. تملك جدي منضدة من أمه في أمريكا. عندما انتقلوا الى سوريا أخذوا المنضدة معهم. وحين طردوا من هناك في عام 1920 خلفوا المنضدة وراءهم واختفت) ومضى يقول(بعد سنوات مر والدي بدمشق ورأى المنضدة في بيت صديق. لقد اشتراها من متجر لبيع التحف وأصروا على أن يأخذها والدي، فأخذها الى بغداد). أين هذه المنضدة الآن؟ ربما مع سلوى!.)
أين هذه المنضدة المهاجرة، العائدة، المفقودة. بل أين نهى الراضي بعد أن غيبها سرطان سنوات التلوث العراقي
المنضدة بالنسبة لي هي رأسي الذي يتكئ على معصمي. هي مشغلي، وهي منبع أفكاري. هي كذلك(حسب ما أعتقد) عند الفنانة التشكيلية العراقية(المهاجرة) نوال السعدون. نوال الذات المصلوبة على حوائط أزمنة جغرافيا هجراتها وعلاماتها الدالة. هي المباعة، المشتراة برسم الإعارة. إن فقدت منضدة نهى الراضي رونقها الأول، أو تصدعت قشرتها، أو ثلمت أركانها. فثمة أثلام وتصدعات تركت بصماتها على جسد نوال الخفي. مجسات تحكمت بذاتها الفنية، بما أننا نود سبر أعمالها الفنية. هي التي جربت مرارة الاغتراب الداخلي والخارجي منذ سبعينيات القرن الماضي وما تزال(عندما كنا في زمن الدراسة كان يبدو أن كل شيء على حافة الهاوية، فما علينا سوى ان نهاجر بسرعة الضوء نحو المجهول البعيد في الزمكان فلا عودة ولا رجوع بعد*). ثم لتترك بصمتها الواضحة على صفحة التشكيل العراقي(المغترب). أعمال ربما تخدعنا مناوراتها اللونية، أو حتى أشكال أجسادها التي تقترب غالبا من عوالم كوابيس الطفولة، أو وحشة مسوخ الإنسان البدائي. إنها المهارة التعبيرية، حيث الحفر بعيداً في غور أشباح الألم، وحيث الألم جسداً يتمطى حدود أبعاده الفيزيقية المعهودة.
هل المعاناة من صنعت هذه الأعمال، أم المهارة لوحدها. وهل المهارة إلا جزء من مهارة البوح الداخلي عندها، كما تظهرها لنا صورها الفوتوغرافية التي مثلت حالاتها الشخصية خير تمثيل. هنا وفي مساحة كل صورة شيء ما مختبئ عن الأنظار، موارب بفعل قصدي. حيث ملامحها تحجب أكثر مما تبين. نعم هي نوال بدون شك، لكن أي منها. فثمة عديدات تنتشر على سطوحها. هل هي حيلة تقنية أن تتدثر بأرديتها الشرقية وعتمة ظلالها غالباً. أم هو الشرق متسربل سواداً، أم استعادة لأيام المحن. لقد صنعت معادلتها الشخصية وعلينا قراءتها كما توحي لنا هي بشخصيتها وتشخيصها. أو كما نتماهى نحن مع صورها. فالكثير من القواسم المشتركة باتت تشد حبل العراقيين بدون تمييز.
هي التي توزع وقت اهتماماتها الفنية ما بين تقنيات ومواد متعددة. هل كانت اختياراتها اعتباطية، أم عن دراية بما تصنعه، وتصنعه موادها. وهل كان اشتغالها ضمن هذه الاهتمامات يحقق لها ما تصبو إليه من بوح داخلي، عاصف في غالبه. أعتقد، نعم هو كذلك. فما بين الرسم والفوتوغراف وشائج قريبة، وما بين الرسم والنحت الفخاري كذلك. ما دامت اختارت مواضيعها من مساحة الجسد وتضاريسه الوعرة. إن حققت نتائجها التعبيرية في الرسم. تقنية النحت الفخاري(الراكو). هي التي تحقق لها نتائجها التجسيدية بصدمتها الحرارية تضاريس موازية. سطوحاً خشنة متشققة. هي الضربة القاسية حيث القلب يتلقى الصدمة قبل بقية أجزاء الجسد. هو العنف بريقاً مطفياً.
في البدء فاجأنا الخزاف العراقي(شنيار عبد الله) بأعماله الخزفية المبهرة المنفذة بتقنية الراكو، وكان الجمال نصيبها. في تجارب أحدث قدم لنا الخزاف وليد رشيد القيسي تجربته في الراكو، مثبتاً اختلافه عن مجايليه، بتراكيب أعماله الغريبة التي هي قريبة من النحت التشكيلي الحديث. نوال السعدون هي أيضاً وظفتها لصالح مشروعها التعبيري الخاص، رؤوسا وجماجم مستلة من أجسادها الغريبة. أعمال بقدر ما تحمل من فرادة، هي أيضا تحيلني لمصادر تقنية استوحت منها الفنانة اشتغالاتها.
أرى أن ثمة خلفية تقنية كرافيكية تربط أواصر غالبية أعمالها، إن لم تكن كلها. حيث خلفية الأعمال الملونة المتقشفة، وملامح حفر الأجساد خطوطاً ولوناً. ووضوح الملامح وحدتها وحتى في منحوتاتها. هي تنشئ عالمها الافتراضي، أجساداً وملامح تحمل لوعتها، تأثيثاً متقشفاً برموز تدل غالباً على مصدر مأساتها مع اشارات لا تخفى عن مأساتنا الجماعية، حيث العين قبر في بعضها.
لو جمعنا أعمال نوال الملونة المتأخرة في عرض موحد. لاكتشفنا أن ثمة سلسة متلازمة تقدم لنا فكرة واحدة(كونسبت) رغم اختلافات تفاصيلها الدقيقة، وليست العامة. هي إذاً مدركة لفعلها الفني ضمن ضوابط تصوراتها التي ربما اقترحتها حالتها المزاجية(أو هي كذلك)،
التي هي بعض من ناتج هلوسة أفرزها زمننا وزمنها الضاغط. هلوسة نفذت بوعي فائق تعدى الحدود الطبيعية. أعمال فنية لم تفقد عنصر الانفعال(كبتا) ظاهر للعيان. ما دامت بعض من نتاج الزمن العراقي وقساوة مراراته. وما اختلافها إلا في طريقة تنفيذها التي تختصر الجسد حقلاً تعبيرياً عابراً للحدود. أعمال كهذه لا تنتمي لمألوف غالبية النتاج التشكيلي العراقي، بقدر انتمائها لصانعتها. وللمشهد الذي تعدى محليتها. هي خطاب، بل صرخة في الفضاء العالمي الأرحب.
حينما نشاهد أعمال الهولندي فان كوخ، لا نفكر إلا بها، مقصين سيرته من أمام عيوننا. هذا ما أفعله حين مشاهدتي أعمال هذه الفنانة، رغم معرفتي بمأساتها التي لا تبتعد كثيراً عن مأساة فان كوخ الشخصية، إلا بقليل من التفاصيل الذاتية. هي المحنة الشخصية إذاً مَنْ أنتج هذه الأعمال. وقليلة هي الأعمال الفنية التشكيلية العراقية التي خلقتها محنة الفنان الشخصية. ونحن أمام فعل المحنة الصادم. رغم مهارة التنفيذ التشكيلي واختيار أدواته المتعددة.
في عملها(بريد بغداد) ثلاثة ظروف رسائل في الأسفل، توحي بكونها ثلاثة أشخاص. مجرد شواخص من زمن الحرب. بملامح وبدونها، جمعت في تقنيته الرسم، والنحت (المشخص في الوسط)، مشهداً عاصفاً تتسيده صلبان القبور فضاءات موحشة. حسناً، هي رسالة بليغة واضحة المغزى. هذا يعني أن رسومات نوال تندرج ضمن أعمال الفكرة. فهل استقت أفكارها من مصادر عامة، أم ذاتية. أعتقد انها كذلك في الحالتين. إذ غالباً ما تكون الفكرة الذاتية تحمل نوازعها العامة، ما دامت تنبع من تجربة هي بالأساس شاملة، رغم خصوصيتها. فالهجرة، الهجر، الغربة والاغترابات القسرية باتت اليوم أفعالاً جماعية. نحن كلنا نعرف الأسباب، وغالباً لا نود الخوض في تفاصيلها بعد شيوعها. لكننا وكأشخاص، أفراد متلقين وفاعلين، لا نود المرور عليها مرور الكرام. وهذا ما حاولته نوال حينما حفرت بعيداً في أرض غربتها واغتراب أناسنا، أعمال إدانة لا تخلوا من ولع تعبيري إفصاحي، كما عملها التجميعي المؤلف من مجموعة جماجم(منحوتات راكو) بخمسة حلقات دائرية تحيط بقنينة(كوكا كولا) بمشهدية أعمال بيئية. في محاولة ثانية تلبست الجماجم فوهات القناني إطلاقات معلبة. في كلا الحالتين، رغم جمالية تفاصيل العمل، فالإدانة واضحة. من يثير الحروب، من المستفيد بالمتاجرة بها وبالبشر. في هذين العملين، أو التصورين، لا يبدو أن ثمة اختلاف جوهري بينهما وبين رسوماتها. فالرسوم أيضاً محملة بتفاصيل رموزها الدالة، مثلما رسمتها الأخيرة حيث القنابل تتساقط حول الشخص، الجسد الإنساني المصلوب كما فزاعة الحقل. والابادة الجماعية مبررة ضمن شيطنة التجارة العالمية العابرة للقارات.
أعتقد أن أول من رسم أقنعة الغازات السامة هو الألماني(أوتو ديكس) مستلهما ومسجلاً حوادث الحرب العالمية الأولى، حيث تختلط تربة سواتر القتال الندية بالقنابل اليدوية والبيئة المحروقة. أقنعته تبدو كالجماجم بعيونها الفارغة الواسعة التي تعبر عن المصير المحتوم لضحايا الحرب. وهي تجربة فنية ميدانية. في عراق الثمانينيات والتسعينيات كان للقناع نفسه في العراق قصص أخرى، معظمها مخادعة، لتترك الضحية لمصيرها، كما في حرب الجارتين أو الأنفال. نوال تستحضر ضحايا أقنعتها المنحوتة(الراكو) رعباً مضافاً. فهي القناع، وهي الرأس المتصل بالجسد في آن واحد. وهي الضحية، حيث يبدو نصف الجسد متصدعاً بفعل سمية الغازات المحرمة التي لم تحرمها الأنظمة الغاشمة. أعمال هي بمثابة إشارة لما حدث ولا يزال يحدث، ولما سوف يحدث بدون وازع ضمير. ما يميز هذه الأعمال هو تقنية خراب السطح التي انتجتها التقنية المعملية التي تدربت عليها نوال منذ إمتلاكها فرنها الأول في كوبنهاكن عام(1991) ثم آخر لا حقا في دمشق، ولا زالت تعيد وتجدد مهاراتها لحد الآن.
ليس غريباً أن تكون التعبيرية في الفن مجال اشتغالات جديدة للعديد من التشكيليين العراقيين في أزمنتنا الحالية. أزمنة الحروب وتبعاتها المدمرة. فالتعبيرية وكما معروف عنها (تعاملت مع سيكولوجية الأمة المهزومة، مع مشاعر الإذلال والخيبة والغضب..). وقد نوهت في مقالة سابقة عن أهمية الجسد في التعبير عن زمننا هذا، والتعبيرية أفضل من ناورته. نوال في منحوتتها الصغيرة للرأس تكشط اللحم منه حتى العظم. وكم بليغة لغة هذه المنحوتة الصغيرة الإفصاحية وهي تشطر الوجه شطرين ممر لأحزان سوداء تتفجر عند قمته كما نفث بركان خامد. إن كانت للتجربة الشخصية من أثر في انتاج هكذا أعمال، فإنني أعتقد أنه ليس كل من مر بمثلها قابل للإتيان بفعل فني مواز لما فعلته نوال. وإن كان الاغتراب دمغ بصمته على جسد الفنانة نوال، فإنه حفر بعيداً في مجال ابداعاتها الفنية، شواهد لفن نسوي جديد لا تربطه أية صلة بنتاج التشكيليات العراقيات المألوفة. لقد صنعت من أزمنتها المغتربة أعمالاً موازية لمحنتها ولمحننا، وما علينا إلا النظر إليها كشهادة زمنية بليغة الصيغة والتعبير، بوح لجسد أصم لم يفقد بعد بلاغة إشارته السرية والعلنية.
............
(*)ـ مقتطف من مراسلة مع الفنانة.
استخدم الجيش الألماني الغاز السام لأول مرة ضد قوات الحلفاء في معركة ابرس الثانية في بلجيكا في 22 أبريل 1915
في عام 1991اشتريت فرن خاص للراكو وبدأت اعمل منحوتاتي التعبيرية واللعب بشكل عفوي مع مادة الطين لكن نضجت تجربتي عندما انتقلت الى دمشق القديمة وشتريت فرن من جديد عام 2005 أما الفوتغرافي فقد مارسته عندما اصبح عندي كامرة فوتوغراف صغيرة ايضا في نفس التاريخ
تعاملت تعبيرية مع سيكولوجية الأمة المهزومة ، مع مشاعر الإذلال والخيانة والغضب
اوتو ديكس