النحات نجم القيسي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • النحات نجم القيسي

    النحات المثابر نجم القيسي

    تجسيد محنة الوجود الانساني في زمن معطل

    إذا كان ( الفن الجميل هو ذاك الذي ينجح في تصوير أشدّ انفعالات الفنان المتوخاة عمقًا. سواء كانت جذابة ومشرقة، أم مظلمةً ومنفرة ) بحسب وليم جوزيف نايتر فان فن النحت هو أكثر الفنون تعقيدا في عملية إيصال التصورات والأفكار التي يبثها الفنان في عمله للمتلقي وذلك لتباين الوعي من شخص لآخر وهو ما يحدد درجة الفهم والتفاعل مع الاعمال المطروحة في التجارب الفنية الجمالية للفنانين ، وتاسيسا على ما تقدم فان الفن العراقي عموما والنحت بالذات يقع في مشكلة كبيرة وذلك لتعمد السلطات الحكومية بنشر الأمية والتخلف في اوساط المجتمع العراقي عموما .
    لعل جيل ما بعد الاستاذ الراحل اسماعيل فتاح الترك ، عانى كثيرا من سطوته وتأثيره الكبير في النحت العراقي المعاصر ، لانه ترك بصمة تجديده واسعة وتمكن من فرض حضوره فنيا ورؤيويا ، واصبح من الصعب الفكاك من تأثيره الكبير ، لكنه واعني الجيل تمكن من ذلك شيئا فشيئا بالعمل والجهد والمثابرة، وذلك عبر مشاريع جمالية متطورة ، تتفق في الرؤية وتختلف في الرؤى ، بحيث تمكن المتلقي المتخصص من معرفة وتمييز التجارب والأساليب الشخصية دون عناء ، واقول المتخصص لعدم وجود اهتمام شعبي واسع بالفنون عموما ، ويقتصر حضور الفعاليات الفنية المختلفة على النخب الثقافية لاسباب عديدة لسنا بصددها الان ، ومن التجارب التي تمتلك أسباب حضورها وتميزها في المشهد النحتي العراقي هي تجربة الفنان نجم القيسي .
    ببساطة شديدة استدللت على كم الانسانية الكبير الذي يحمله في داخله من خلال الهدوء الذي يظهر على قسمات وجهه والمودة التي تفصح عنها ابتسامته الدائمة ، هذا هو انطباعي عنه حين التقيته للمرة الاولى ، ذلك قبل التعرف على تجربته الفنية المتطورة في عالم النحت العراقي ، تلك التجربة التي تمتلك اسرار تميزها بين مجايليه من النحاتين على الرغم من التقارب النفسي الكبير بينهم ، واقامتهم للمعارض المشتركة في مناسبات متعددة .
    نجم القيسي الذي كرس تجربته الفنية الجمالية في التعبير عن الهم العراقي ، ومحنة الانسان بالضد من القوى المهيمنة والضاغطة التي ترمي بكل امكانياتها ووسائلها لمحاولة الحط من انسانيته وسلب كرامته ، في زمن تواصلت ازماته الواحدة اثر الاخرى ، وهو يكافح للتعبير عن ذلك من خلال رؤاه الفنية المتميزة المدعومة بوعي متقدم اكتسبه من خلال الدراسة الأكاديمية والقراءة والمشاهدات الواسعة .
    القيسي الذي يعي جيدا محنة الوجود الانساني ، يتاملها بهدوء شديد ، وبالكثير من التعمق في جوانب تلك المحنة ، باعتباره جزءا منها ، من اجل انتاج اعمال فنية تعبر عنها ، لا تهربا منها او تمثيلها ، بل من اجل طرح بدائل جمالية تقع في الصميم من تلك المحنة الازلية، ولذلك فان معظم مشخصاته النحتية التعبيرية انحازت لهذا الجانب بالذات .
    إن إخلاص الفنان لعمله يعد من اهم العوامل المحفزة التي تدفعه باتجاه تطوير تجربته الجمالية وذلك من خلال تطوير تلك التجربة بمرور الزمن واكتساب الخبرات حرفيا ، ولذلك تمكن القيسي من طرح تجربة مدهشة في معرض باريس ، فبعد تجاربه الاولى التي تمثلت بميله لخلق كتل ضخمة ، وضحت فيها تاثيرات محلية واورببة تمكن من عبور تلك المرحلة في المعرض المذكور ، فعمد الى خلق اعمال تميل الى الكثير من الاختزال ، وهو يطرح فيها رؤيته عن الانسان المعطل بفعل القوى القدرية التي أشرت اليها سابقا في زمن يسير الى الامام وذلك باستعارة ذكية للعجلة المربعة التي تشير الى زمنه العاطل المتوقف في اطار استمرارية الزمن من حوله ، وفي جميع تلك الاعمال التي تعمد تضييع ملامح المشخصات تعبيريا للايحاء بالخراب الجمعي المعطل حركات ، ثمة توثب وكفاح مستمر لتلك المشخصات للانفلات من ذلك الواقع على الرغم من إعاقة ذلك في العجلة المربعة التي تشير الى صعوبات حركية آنية .
    في الكثير من الاعمال الفنية ، لم تكن القاعدة التي ارتكز عليها الاعمال سوى جزءا جامدا مكملا لالية العرض ، لكن القيسي تمكن ان يعطي للقاعدة قدرة حركية اضافية لاعمالة واعني جعلها المحرك الاساس لتلك الاعمال، وقاعدة لانطلاقها باتجاه الآفاق المفتوحة التي يرمي اليها ، مستثمرا فهمه المتقدم في الموازنة بين الكتلة والفراغ ، بحيث يلاحظ ان تلك المشخصات تحاول التحليق في الفضاء المفتوح وهو الزمن المفتوح حتما .
    مع ان العديد من الاعمال حملت برمزية عالية مقصودة وممثلة للانسان المحطم والمقهور والذي يكافح للخروج من محنة وجوده في زمن وقوى ضاغطة ، جعلت القيسي يبحث عن إجابة عن سؤال لم تتم الاجابة عليه وهو لماذا يمارس الانسان سحق اخيه الانسان دون رحمة؟ هوذا سؤال ازلي بقي بلا اجابة ، لان الإجابات عادة ما تكون مدغمة وغير مفهومة ، لانها تبحث عن تبريرات غير مقنعة ، وهذا السؤال المعطل ، جعل القيسي ينتج اعمالا ممثلة له ، واعني السؤال ، في احد اعماله وهو ( الهجرة ) وضع مشخصين واضحين ، تعمد ان يضع بينهما مشخصا ثالثا ملتصقا بالأول ويبدو وكانه ظلا او تابعا مسحوقا لا يظهر منه سوى اعلى الراس ، بينما ترك للأخير فسحة صغيرة او مساحة من الحرية ، مع ان الجميع في ذات الزمن المعطل المقموع ، وبذلك فهم يمارسون القمع مع بعضهم البعض في ظل قامع اكبر تدور في فلكه المشخصات ، لكنه في لحظة ضعف إنساني واضح يسلم في عمل لافت عنونه ( دون جدوى ) ، يضع شخصين متقابلين في لحظة انسحاق كلي وهما ينحنيان الواحد مقابل الاخر دون أيدي، في عجز كلي ، وتلك لحظة زمنية فارقة ، لانه انطلاقا منها ستنهض تلك الشخوص في اعمال اخرى متحدية لتغيير واقعها على الرغم من الزمن المعطل ، لكنه يعود في عمل ( التحدي ) ليبين قدرة الانسان على الاستمرار باتجاه ما يريد من خلال وضع مشخص صغير يتسلق بثبات من متارجح كما هو واضح .
    فالقيسي لايكتفي بذلك بل انه يطرح حلولا بايجاد بدائل او مخارج لجعل تلك المشخصات تسعى للتخلص من زمنها المعطل ، كما في عمل ( الطموح ) فالمشخص الذي يدور في حلقة مفرغة التي تعمد جعلها مفتوحة في أعلى اليمين باتجاه الفضاء ، في عمله ( خط الشروع ) يضع شخصا يسير منتصبا على أرض متعرجة ، وهذا العائق المضاف / اعني الارض/ لعطل العجلة ، جعله يسير على اقدامه المنتصبة وهو يخرج من الإطار المرسوم باشارة واضحة لقدرة الانسان العراقي في الثبات والتخطي على الرغم مما يجري من حوله من معوقات مختلقة ، مع انه بالإمكان قراءة العمل من زاوية اخرى فالقاعدة/ الارض تشير بوضوح الى جسد انسان محطم تحول الى عائق مع وجود شكلا مشابهة الخوذة العسكرية وهي اشارة واضحة لما عاناه مع جيله من الحروب الكارثية التي اكلت معظم أعمارهم ، وبما يفيد بانه نهض من رقدته الابدية باتجاه الافق المفتوح نحو التغيير ، ، وفي ظل هذا الموج المتلاطم من الانسحاق والتيه والعنف المفروض على مشخصاته قسرا وفي لحظة صفاء إنساني خالصة ، يطرح عملا عنونه ( القبلة ) وهو عمل بالغ الرقة والجمال لمشخصين مندمجين في لحظة صفاء روحي تعمد فيها من تحويل الجسدين الى جسد واحد لايمكن تمييزه الا باكثير من التدقيق ، ولعل هذا العمل هو استراحة المحارب .
    مع ان معظم اعمال القيسي الاخيرة تمتلك خاصية تحولها الى نصب في الساحات العامة لامتلاكها طاقات تعبيرية كبيرة ومميزات جمالية ، الا انه صمم ونفذ العديد من النصب الكبيرة والمتميزة والمعروفة ومنها نصب ( الراية العراقية ) بارتفاع ٢، ٣ متر والذي نفذه في العام ٢٠٠٨ في ساحة قرطبة ببغداد ، هو نصب نفذ بمادة البرونز ، وأن شخصيا انه لم يوضع في مكانه المناسب مطلقا ، ويجب نقله الى ساحة عامة تمنح المتلقي فسحة لتامله بشكل أفضل ، كما صمم سارية العلم العراقي في ساحة الطيران ببغداد ، وكذلك صمم نصبا مذهلا عنوانه ( اللاعنف ) وارى ان على أمانة بغداد بالتعاون مع الجهات الثقافية والجهات الراعية الاخرى المبادرة بصب هذا النصب ووضعة في احدى الساحات العامة لما يمتلكه من ميزات فنية وجمالية ورمزية كبيرة تعبر عن الزمن الحالي في ظل التدهور الكبير للاوضاع الامنية في البلاد ، وكذلك صمم ونفذ نصب الأهوار في محافظة ذي قار في العام ٢٠٠٧ ، وهو بارتفاع ١٠ أمتار ، والذي ساتناوله في قادم الأيام .
    واخيرا وليس اخرا فان الفنان نجم القيسي المولود ببغداد عام ١٩٦٢ والحاصل على شهادة الدبلوم من معهد الفنون الجميلة ببغداد في العام ٨٧ / ٨٨ وشهادة البكالوريوس من أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد في العام ٩٧ / ٩٨ ، ولديه مشاركات واسعة في العديد من المعارض المشتركة في بغداد ودمشق وحلب ولندن وباريس ، وحاز على العديد من الجوائز ، ما زال يواصل عمله بمثابة واجتهاد ، بانتظار مشاركته في معرض ( جماعة ازاميل ) التي هو عضوا فيها
يعمل...
X