التخطيط .. و مكانته في فن الرسم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ
فصلٌ من كتابي ( سيرةُ الجَمال ) ـ دمشق / 2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
حتى وقتٍ متأخر من تاريخ الفن ، ظل عددٌ كبيرٌ من النقاد و الباحثين يضعون ( التخطيط ) في المرتبة الثانية من فن الرسم . و مازال عددٌ من هؤلاء في حيرة من أمر إعتبار التخطيط فناً قائماً بذاته أم انه خطوة غير مكتملة باتجاه فن أكبر منه و أعظم ، هو الرسم بالألوان .
لا شك أن أمراً كهذا ، حول التخطيط ، إنما يستمد أسسَهُ من الأعمال الكلاسيكية التي نفّذها الفنانون الكبار ، و خصوصاً في عصر النهضة ، مثل : " دافنشي " و " مايكل أنجلو " و " رفائيل " و سواهم من الأساتذة . فبسبب السطوة التي امتلكها هؤلاء في الفن ، بحق ، و بسبب التخطيطات الكثيرة التي سبقت كل عمل معروف من أعمالهم ، فأن ذلك قد ترك فَهماً مؤداه أن التخطيط إنْ هو إلاّ تمرين ، فقط ، على تنفيذ اللوحة بالألوان . ولكن ـ يقول لنا تاريخ الفن ـ ان الفنانين اليونانيين ، الذين هم أساتذة الفن الكلاسيكي ، كانوا يضعون التخطيط في منزلة مقدسة من الفن ، لا بسبب كونه أساساً للرسم بل لما ينطوي عليه من قيمة فلسفية جمالية في الحياة . و قد أعاد فنانو عصر النهضة مجدَ هذا الفن من جديد ، و بتدفق عال ٍ ترك للأجيال اللاحقة تراثاً كبيراً من التخطيطات . ذلك أن هؤلاء انما كانوا ، من جهة، يعتبرون اليونانيين مثـَلَهم الأعلى و صانعي تراثهم الأثير في التاريخ ، و من جهة ثانية فأن هناك عوامل أخرى ، أساسية ، كانت قد ظهرت في عصر النهضة ساعدت على انتعاش فن التخطيط ، منها : ظهورُ الطباعة على الخشب ، و دراسة المنظور ، و علم التشريح الذي جهد و اجتهد (دافنشي) فيه كثيراً ، اضافة الى ظهور الورق العادي و توفره بكثرة بدلاً من الورق الثمين الذي كان يستخدم من جلد العجل في القرون الوسطى .
ولكن من المعروف ، أيضاً ، انه كانت للرومانسيين - فيما بعد - نظرتـُهم الخاصة في الحياة و طُرُقُهم في التعبير عن فلسفتهم التي طالت فنَ الرسم مثلما طالت مجالات الإبداع الأخرى ، مثل الشعر و الرواية و غيرهما . ‘نهم أعطوا القيمة القصوى للون دون التخطيط ، حتى انهم اعتبروا الخط نفسَه جزءاً من اللون ، على الرغم من كثرة التخطيطات التي تركها الفنانون الرومانسيون ، و في مقدمتها تخطيطات " دولاكروا " . و على خطى الرومانسيين ، مشى الانطباعيون بذات الاتجاه ، على الرغم من اختلاف نظرتهم الى قيمة اللون و مكانته في اللوحة و طبيعة التعامل معه .
على انه ما أن حلّ القرنُ العشرون حتى عاد للتخطيط مجدُهُ ، ضمن إطار فلسفةٍ جماليةٍ جديدةٍ تتفق مع واقع تفكير الانسان في هذا العصر ، الانسانِ المتنور و المنفتح على شتى سبل و ضروبِ المعرفة . و قد ساعد على ذلك ظهورُ الثورة الصناعية و تطورُ طبيعة الحياة ، و الثورةُ في الأخلاق ، و تنوعُ الفكر الفلسفي و سَعيُهُ في سُبـُلٍ معرفيةٍ متشعبة و جديدة ، هذا الى جانب أسبابٍ أخرى متداخلة أحدثت، مجتمِعة ً، إنقلاباً في رؤى الفنانين ، و أسرعت بالتالي في تطوير مفاهيم الفن إثـْرَ زعزعة الكثير من الثوابت الفنية .. و تبعاً لذلك ، فأن النظرةَ الى ( التخطيط ) نفسَها قد تغيّرت ، فلم يعُدْ مجردَ خارطةٍ أو تصميماً أولياً للوحة ، بل أصبح التخطيطُ عملا ً فنياً متكاملا ً مستقلا ً بذاته ، خصوصاً بعد أن ألقى علمُ النفس ( على يد " فرويد " ، و بمباركةٍ من السورياليين ) ظلَّهُ على الفن ، فأصبحت للتخطيط دلالتـُهُ النفسية ُ التي خضعت للدراسة و الاستنتاج ، و بالتالي استنباط نتائج و مفاهيم جديدة في الفن . فضلاً عن هذا ، فإنه على الرغم من تنوع الاتجاهات و الحركات في الفن المعاصر فانها لم تستبعد وجودَ وشائجَ في ما بينها في المحصلة النهائية ، الأمر الذي أوجدَ صِلة ً و سُبـُلا ً جمالية ً جديدة في ساحة الابداع المعاصر . و عليه فأن طفرة الفنون الصناعية و المعمارية و التصميمية و الطباعية الى الخطوط الأمامية قد غذّت فنَ التخطيط بـقـِيَمٍ جماليةٍ ـ و نفعية أيضاً ـ و بالتالي فقد مهّدت ، من جانبها ، لأن يتبوأ التخطيطُ المكانة َ التي يستحقها ، لا بسبب الخطوط الهندسية حَسبْ بل للمعنى الذي تنسجُهُ مجموعةُ الخطوط .
إن الخطأ في إعطاء ( التخطيط ) مكانة ً ثانوية ً في الفن ، تكمُنُ ـ عادةً ـ في عدم التفريق بين الأشكال الأولية للوحات و بين التخطيطات التي يصب الفنانون فيها كثيراً من طاقاتهم الفنية بذات الدرجة التي يصبونها في أعمال اللون ( الزيتية أو المائية أو الأكريلك.. أو غيرها ) .
إن أعمالاً كبيرة مثل المنحوتات و النُصُب و الجدارايات ، و حتى الأعمال الزيتية التي تتطلب إنشاءً مدروساً ، لابد أن تعتمد على رسوماتٍ أولية ، بالقلم الرصاص أو الحبر ، و هذه الرسوماتُ لا تتعدى في حقيقتها كونـَها خارطة ً يوزِّعُ الفنانُ عليها الأشكالَ و الألوانَ و المساحاتِ و مناطقِ الظل و الضوء ، التي يشتغل عليها فيما بعد ، من أجل أن تكون هذه الخارطة ُ دليلاً له ، لا غير . ولكنْ في حالةِ توجّهِ الفنان نحو التخطيط بالكامل لتجسيد موضوعِهِ الفني فأن التخطيطَ لـَيَرتقي ـ في هذه الحالة ـ مرتبة ً أولى في الفن ، لا تقل أهمية ً عن الرسم باللون ، أو النحت ، أو أيِّ إبداعٍ آخر .
إن الإشكالَ الذي حدث ، هو أن الفنانين ( الأساتذة الكبار ) كانوا ينفّذون أعمالاً تخطيطية متكاملة من كل جوانبها ـ حتى و إنْ كانت على شكل دراسة ـ ( و هي تخطيطات سابقة على أعمال معروفة ) ولكنْ ما أن تـُنفـَّذُ هذه التخطيطاتُ ثانية ً بالألوان حتى تتراجع أهميتــُها كتخطيطات ، و لم تـُعامَل ـ بعد ذلك ـ إلا ّ كتمريناتٍ سابقةٍ على الأعمال اللاحِقة التي باتت شهيرة . و الحقيقة أن هذه ليست مشكلة َ الفنانين بل هي مشكلة ُ مؤرّخي و نقادِ الفن الذين قدموا الأعمال الزيتية على التخطيطات ، و قدموا فـَهماً قاصراً لأهمية التخطيط .
هنا ، نتذكر قولَ الفيلسوف اليوناني " هيراقليتس" : ( إننا لا نعبرُ النهرَ مرتين ) ، و اذا ما سلمنا بذلك ، فإن أيَّ عمل يُنجزُهُ الفنان ، مهما اعتبره هو أو اعتبره الآخرون ( تمريناً ) أو ( سكيتشاً ) فإنه ينبغي أن يُـعامَل على أساسِ أنه عملٌ مستقلٌ لا علاقة له بـ ( الآتي ) سوى كون الأخير امتداداً له ، لأن أيَّ عملٍ فني انما يعكس اللحظةَ التي وُلِد فيها ، و التي يحاول الفنانُ أن يقبضَ عليها ، سواء أكان هذا العملُ قاصراً أم متكاملاً ، رديئاً أم متقناً ، فهو انما يعكس ظرفـَه الزمنيَّ و الماديَّ و النفسي . ذلك أن العملَ الفني انما يعودُ الى الزمنِ الذي نـُـفـّـذَ فيه ، و هو يخضع لطبيعةِ المساحةِ التي ينفِّذ عليها عملـَهُ و لنوعيةِ المادة التي تـُستخدم في التنفيذ ، و كذلك فأنه يشي بالواقع النفسي للفنان ، أي أنه يعكس لحظةَ إشراقه .. أو عاديته .. أو إنطفائه .
و الآن ، و بعد أن قطع فنُ الرسم كلَّ هذه المراحل و الحُقـَب من تاريخه الطويل ، فأن الشريحةَ الكبيرة و الأساسية من الفنانين ، منذ أن ولدت ثورةُ الفن الحديث مطلعَ القرن العشرين ، لم تعدْ تـُعيرُ اهتماماً للرسم الأوّلي للوحة ، بل غالباً ما تنفِّذ لوحاتـِها مباشرة ً. و هذا يعكس حقيقة ً مهمةً للتمييز بين سُبُلِ انجاز الفن الكلاسيكي و بين الفن الحديث ، ذلك أن الفنان لم يعد يعكس صورة آلية للواقع (مع قليل من الخيال ) كما هو الحال في الأعمال التقليدية ، انما صار يعكس أفكارَهُ تجاه هذا ( الواقع ) ، و لم يعد الفنُ كامناً في المهارة اليدوية ، فهذا جانب حِرَفيٌ يعتمد التمرينَ المستمر ، إنما بات الفنُ يكمنُ في قوة الأفكار و إشراقِها ، و في ثراءِ الخزينِ منها لدى الفنان ، و بالتالي في ( صورتها ) المنفـَّـذة و التي قد تـُستخدم فيها اليدُ أو الآلةُ أو غيرُها .
إن ثورةَ الفن الحديث ، إذ تمسّكت بالحرية في العمل الفني كمبدأ أساس ، فأنها فتحت الأبوابَ أمام الفنان لإعادة النظر في كل الثوابت التقليدية في الفن ، و منها التفريقُ بين أهمية الرسم بالألوان و بين التخطيط ، و انطلاقاً من هذا فأن تخطيطاتِ الفنانين المعاصرين لم تعد بمثابة وثائقَ تؤرخ ميلادَ أعمالٍ لاحقةٍ لها ، بل أن هذه التخطيطات ، نفسَها ، تـُـعامَلُ اليومَ كأعمال فنية تنطوي على ذات الأهمية التي تنطوي عليها غيرُها من الأعمال الفنية الأخرى المهمة ، و هي المعاملةُ التي ينبغي أن تنسحبَ ـ أيضاً ـ على جميع التخطيطات التي تركها لنا الفنانون عبر تاريخ الفن بأكمله .. إنطلاقاً من استقلالية كلِّ عملٍ فني ضمن ظرفه و طبيعة تنفيذه و دلالته .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ
فصلٌ من كتابي ( سيرةُ الجَمال ) ـ دمشق / 2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
حتى وقتٍ متأخر من تاريخ الفن ، ظل عددٌ كبيرٌ من النقاد و الباحثين يضعون ( التخطيط ) في المرتبة الثانية من فن الرسم . و مازال عددٌ من هؤلاء في حيرة من أمر إعتبار التخطيط فناً قائماً بذاته أم انه خطوة غير مكتملة باتجاه فن أكبر منه و أعظم ، هو الرسم بالألوان .
لا شك أن أمراً كهذا ، حول التخطيط ، إنما يستمد أسسَهُ من الأعمال الكلاسيكية التي نفّذها الفنانون الكبار ، و خصوصاً في عصر النهضة ، مثل : " دافنشي " و " مايكل أنجلو " و " رفائيل " و سواهم من الأساتذة . فبسبب السطوة التي امتلكها هؤلاء في الفن ، بحق ، و بسبب التخطيطات الكثيرة التي سبقت كل عمل معروف من أعمالهم ، فأن ذلك قد ترك فَهماً مؤداه أن التخطيط إنْ هو إلاّ تمرين ، فقط ، على تنفيذ اللوحة بالألوان . ولكن ـ يقول لنا تاريخ الفن ـ ان الفنانين اليونانيين ، الذين هم أساتذة الفن الكلاسيكي ، كانوا يضعون التخطيط في منزلة مقدسة من الفن ، لا بسبب كونه أساساً للرسم بل لما ينطوي عليه من قيمة فلسفية جمالية في الحياة . و قد أعاد فنانو عصر النهضة مجدَ هذا الفن من جديد ، و بتدفق عال ٍ ترك للأجيال اللاحقة تراثاً كبيراً من التخطيطات . ذلك أن هؤلاء انما كانوا ، من جهة، يعتبرون اليونانيين مثـَلَهم الأعلى و صانعي تراثهم الأثير في التاريخ ، و من جهة ثانية فأن هناك عوامل أخرى ، أساسية ، كانت قد ظهرت في عصر النهضة ساعدت على انتعاش فن التخطيط ، منها : ظهورُ الطباعة على الخشب ، و دراسة المنظور ، و علم التشريح الذي جهد و اجتهد (دافنشي) فيه كثيراً ، اضافة الى ظهور الورق العادي و توفره بكثرة بدلاً من الورق الثمين الذي كان يستخدم من جلد العجل في القرون الوسطى .
ولكن من المعروف ، أيضاً ، انه كانت للرومانسيين - فيما بعد - نظرتـُهم الخاصة في الحياة و طُرُقُهم في التعبير عن فلسفتهم التي طالت فنَ الرسم مثلما طالت مجالات الإبداع الأخرى ، مثل الشعر و الرواية و غيرهما . ‘نهم أعطوا القيمة القصوى للون دون التخطيط ، حتى انهم اعتبروا الخط نفسَه جزءاً من اللون ، على الرغم من كثرة التخطيطات التي تركها الفنانون الرومانسيون ، و في مقدمتها تخطيطات " دولاكروا " . و على خطى الرومانسيين ، مشى الانطباعيون بذات الاتجاه ، على الرغم من اختلاف نظرتهم الى قيمة اللون و مكانته في اللوحة و طبيعة التعامل معه .
على انه ما أن حلّ القرنُ العشرون حتى عاد للتخطيط مجدُهُ ، ضمن إطار فلسفةٍ جماليةٍ جديدةٍ تتفق مع واقع تفكير الانسان في هذا العصر ، الانسانِ المتنور و المنفتح على شتى سبل و ضروبِ المعرفة . و قد ساعد على ذلك ظهورُ الثورة الصناعية و تطورُ طبيعة الحياة ، و الثورةُ في الأخلاق ، و تنوعُ الفكر الفلسفي و سَعيُهُ في سُبـُلٍ معرفيةٍ متشعبة و جديدة ، هذا الى جانب أسبابٍ أخرى متداخلة أحدثت، مجتمِعة ً، إنقلاباً في رؤى الفنانين ، و أسرعت بالتالي في تطوير مفاهيم الفن إثـْرَ زعزعة الكثير من الثوابت الفنية .. و تبعاً لذلك ، فأن النظرةَ الى ( التخطيط ) نفسَها قد تغيّرت ، فلم يعُدْ مجردَ خارطةٍ أو تصميماً أولياً للوحة ، بل أصبح التخطيطُ عملا ً فنياً متكاملا ً مستقلا ً بذاته ، خصوصاً بعد أن ألقى علمُ النفس ( على يد " فرويد " ، و بمباركةٍ من السورياليين ) ظلَّهُ على الفن ، فأصبحت للتخطيط دلالتـُهُ النفسية ُ التي خضعت للدراسة و الاستنتاج ، و بالتالي استنباط نتائج و مفاهيم جديدة في الفن . فضلاً عن هذا ، فإنه على الرغم من تنوع الاتجاهات و الحركات في الفن المعاصر فانها لم تستبعد وجودَ وشائجَ في ما بينها في المحصلة النهائية ، الأمر الذي أوجدَ صِلة ً و سُبـُلا ً جمالية ً جديدة في ساحة الابداع المعاصر . و عليه فأن طفرة الفنون الصناعية و المعمارية و التصميمية و الطباعية الى الخطوط الأمامية قد غذّت فنَ التخطيط بـقـِيَمٍ جماليةٍ ـ و نفعية أيضاً ـ و بالتالي فقد مهّدت ، من جانبها ، لأن يتبوأ التخطيطُ المكانة َ التي يستحقها ، لا بسبب الخطوط الهندسية حَسبْ بل للمعنى الذي تنسجُهُ مجموعةُ الخطوط .
إن الخطأ في إعطاء ( التخطيط ) مكانة ً ثانوية ً في الفن ، تكمُنُ ـ عادةً ـ في عدم التفريق بين الأشكال الأولية للوحات و بين التخطيطات التي يصب الفنانون فيها كثيراً من طاقاتهم الفنية بذات الدرجة التي يصبونها في أعمال اللون ( الزيتية أو المائية أو الأكريلك.. أو غيرها ) .
إن أعمالاً كبيرة مثل المنحوتات و النُصُب و الجدارايات ، و حتى الأعمال الزيتية التي تتطلب إنشاءً مدروساً ، لابد أن تعتمد على رسوماتٍ أولية ، بالقلم الرصاص أو الحبر ، و هذه الرسوماتُ لا تتعدى في حقيقتها كونـَها خارطة ً يوزِّعُ الفنانُ عليها الأشكالَ و الألوانَ و المساحاتِ و مناطقِ الظل و الضوء ، التي يشتغل عليها فيما بعد ، من أجل أن تكون هذه الخارطة ُ دليلاً له ، لا غير . ولكنْ في حالةِ توجّهِ الفنان نحو التخطيط بالكامل لتجسيد موضوعِهِ الفني فأن التخطيطَ لـَيَرتقي ـ في هذه الحالة ـ مرتبة ً أولى في الفن ، لا تقل أهمية ً عن الرسم باللون ، أو النحت ، أو أيِّ إبداعٍ آخر .
إن الإشكالَ الذي حدث ، هو أن الفنانين ( الأساتذة الكبار ) كانوا ينفّذون أعمالاً تخطيطية متكاملة من كل جوانبها ـ حتى و إنْ كانت على شكل دراسة ـ ( و هي تخطيطات سابقة على أعمال معروفة ) ولكنْ ما أن تـُنفـَّذُ هذه التخطيطاتُ ثانية ً بالألوان حتى تتراجع أهميتــُها كتخطيطات ، و لم تـُعامَل ـ بعد ذلك ـ إلا ّ كتمريناتٍ سابقةٍ على الأعمال اللاحِقة التي باتت شهيرة . و الحقيقة أن هذه ليست مشكلة َ الفنانين بل هي مشكلة ُ مؤرّخي و نقادِ الفن الذين قدموا الأعمال الزيتية على التخطيطات ، و قدموا فـَهماً قاصراً لأهمية التخطيط .
هنا ، نتذكر قولَ الفيلسوف اليوناني " هيراقليتس" : ( إننا لا نعبرُ النهرَ مرتين ) ، و اذا ما سلمنا بذلك ، فإن أيَّ عمل يُنجزُهُ الفنان ، مهما اعتبره هو أو اعتبره الآخرون ( تمريناً ) أو ( سكيتشاً ) فإنه ينبغي أن يُـعامَل على أساسِ أنه عملٌ مستقلٌ لا علاقة له بـ ( الآتي ) سوى كون الأخير امتداداً له ، لأن أيَّ عملٍ فني انما يعكس اللحظةَ التي وُلِد فيها ، و التي يحاول الفنانُ أن يقبضَ عليها ، سواء أكان هذا العملُ قاصراً أم متكاملاً ، رديئاً أم متقناً ، فهو انما يعكس ظرفـَه الزمنيَّ و الماديَّ و النفسي . ذلك أن العملَ الفني انما يعودُ الى الزمنِ الذي نـُـفـّـذَ فيه ، و هو يخضع لطبيعةِ المساحةِ التي ينفِّذ عليها عملـَهُ و لنوعيةِ المادة التي تـُستخدم في التنفيذ ، و كذلك فأنه يشي بالواقع النفسي للفنان ، أي أنه يعكس لحظةَ إشراقه .. أو عاديته .. أو إنطفائه .
و الآن ، و بعد أن قطع فنُ الرسم كلَّ هذه المراحل و الحُقـَب من تاريخه الطويل ، فأن الشريحةَ الكبيرة و الأساسية من الفنانين ، منذ أن ولدت ثورةُ الفن الحديث مطلعَ القرن العشرين ، لم تعدْ تـُعيرُ اهتماماً للرسم الأوّلي للوحة ، بل غالباً ما تنفِّذ لوحاتـِها مباشرة ً. و هذا يعكس حقيقة ً مهمةً للتمييز بين سُبُلِ انجاز الفن الكلاسيكي و بين الفن الحديث ، ذلك أن الفنان لم يعد يعكس صورة آلية للواقع (مع قليل من الخيال ) كما هو الحال في الأعمال التقليدية ، انما صار يعكس أفكارَهُ تجاه هذا ( الواقع ) ، و لم يعد الفنُ كامناً في المهارة اليدوية ، فهذا جانب حِرَفيٌ يعتمد التمرينَ المستمر ، إنما بات الفنُ يكمنُ في قوة الأفكار و إشراقِها ، و في ثراءِ الخزينِ منها لدى الفنان ، و بالتالي في ( صورتها ) المنفـَّـذة و التي قد تـُستخدم فيها اليدُ أو الآلةُ أو غيرُها .
إن ثورةَ الفن الحديث ، إذ تمسّكت بالحرية في العمل الفني كمبدأ أساس ، فأنها فتحت الأبوابَ أمام الفنان لإعادة النظر في كل الثوابت التقليدية في الفن ، و منها التفريقُ بين أهمية الرسم بالألوان و بين التخطيط ، و انطلاقاً من هذا فأن تخطيطاتِ الفنانين المعاصرين لم تعد بمثابة وثائقَ تؤرخ ميلادَ أعمالٍ لاحقةٍ لها ، بل أن هذه التخطيطات ، نفسَها ، تـُـعامَلُ اليومَ كأعمال فنية تنطوي على ذات الأهمية التي تنطوي عليها غيرُها من الأعمال الفنية الأخرى المهمة ، و هي المعاملةُ التي ينبغي أن تنسحبَ ـ أيضاً ـ على جميع التخطيطات التي تركها لنا الفنانون عبر تاريخ الفن بأكمله .. إنطلاقاً من استقلالية كلِّ عملٍ فني ضمن ظرفه و طبيعة تنفيذه و دلالته .