علي موره لي
كما لو أن اسم فريد لم يحدد وحسب، مسار حياة صاحبه، المطرب والمُلحّن والممثل وعازف العود السوري، فريد الأطرش (1910 - 1974)، وإنما شكّل أيضاً ملامح شخصيته. الأمر الذي انعكس على الذات الفنية، وبذات القَدْر، على السيرة الذاتية، من زوايا عديدة.
أسوة بشقيقته المُطربة أسمهان (1912 - 1944)، كان فريد فريداً في وسامته. تميّز بحُسن الطلّة، قيمةً مُضافة إلى حسن الصوت الذي ميّز مجايليه من أعلام الطرب العربي حتى منتصف القرن العشرين. الأمر الذي أمّن دخوله الصناعة السينمائية المصرية واسعة الانتشار عربياً، وسرعة نجاحه فيها، وعن طريقها.
أبدى الأطرش فرادة في لعب أدوار سينمائية نجومية، قيمةً أخرى مضافة على أدائه الغنائي وبهاء طلعته. من على الشاشة، ظهر وإلى جانبه نجومها الكبار. بمساندة منهم، حقق نجومية كاسحة. استطاع الاستئثار بقلوب المشاهدين والمستمعين، من خلال أدوات التعبير الموسيقي والدرامي المصاحب للأداء الغنائي، وبدفع من موهبة طبيعية، من دون عناء البروز كممثّل محترف.
تحرّر من ملازمة الممثلين البارعين عبر أدوارهم الثانوية، كعبد السلام النابلسي وإسماعيل ياسين، وانفرد بكبار النجوم من المحترفين، كفاتن حمامة (1931 - 2015)، ضمن مشاهد محض درامية، لا غناء فيها ولا موسيقى، كفيلم "الحب الكبير" من إخراج هنري بركات سنة 1969. ما إن يُقارن سينمائياً بالمُطربين ممن توجّه إلى التمثيل، حتى يثبت أن فريد كان الأكثر عطاءً، إذ شارك في واحد وثلاثين فيلماً على مدار مشواره الفني.
كما اشتهر أيضاً، عازفاً منفرداً على آلة العود. لئن رافقت تلك الآلة الوترية، منذ العهد الإسلامي، حياة معظم من اشتغل بالغناء أو التلحين في المنطقة الناطقة بالعربية. لم يتقدّم مُطربٌ احترف الغناء، فيبرز كأحد عازفي العود المحترفين، كما تقدّم فريد الأطرش. كان ذلك أيضاً، بدفعٍ من موهبة طبيعية، لم يضطر معها، إلى وهب جلّ وقته في سبيل إتقان العزف.
ثلاثة أساتذة عود أسهموا في بلورة أسلوب فريد في مقاربته الآلة، هم رياض السنباطي، مُعلّمه في معهد فؤاد الأول للموسيقى في القاهرة، ومحمد القصبجي وبديع غصن. إلا أن ميله إلى التفرّد، جعله يتجاوز تقاليد التقسيم السائدة في عصره، من ضرب الريشة الثابت المنتظم على القرار والالتزام بجمل محددة بموجب المقام، إلى أداء مُرسل وريشة تُعنى أولاً برسم خطوطٍ لحنية تتماهى مع الغناء، ونزعة فيرتيوزية تستورد من الموسيقى الأوروبية، والأندلسية على وجه الخصوص، الاهتمام باستعراض البراعةٍ، كما في وصلته المنفردة الشهيرة في مقدمة أغنية، "حكاية غرامي"، في فيلم "من أجل حبي" سنة 1959. فيها، حاور فرقة أوركسترالية. ومن خلالها، طوّع على عوده اقتباسات عن مقطوعة شائعة لآلة الغيتار، ألفها الإسباني ألبينيز، اسمها "أستورياس"
وإن لم يتفرّد في مجال التلحين كمطرب من بين أعلام الطرب في عصره، كمحمد عبد الوهاب (1902 - 1991)، إلا أن الألحان التي وضعها الأطرش، سواءً التي أدّاها بصوته، أم قدمها لمغنين صاعدين آنذاك، ميّزتها الجرأة في الخروج عن السائد وسط مشهد فني، تزاحمت فيه المواهب التلحينية، وتأسس بموجب عادات وتقاليد غنائية، سواء لجهة اختيار النصوص، القولبة الموسيقية، أو التوزيع الآلي.
انفتح الأطرش على الغناء الشعبي، الشامي على الأخص، في المرحلة الزمنية التي توجّه خلالها إلى لبنان واشتغل مع إذاعة الشرق الأدنى منتصف ستينيات القرن الماضي. صب ذلك اشتغاله في مسعى ضمّ الفلكلور المحلي إلى إرث الغناء الكلاسيكي، أو على الأقل، تشييد جسرٍ بينهما، من خلال خصائص تشكيلية، خطّت مسار تطور الأغنية الشعبية حتى عقد الثمانينيات.
أخذ الغناء باللهجة اللبنانية يكتسب جماهيرية عابرة لحدود البلدان العربية، بعد أن ظلّت اللهجة المصرية قطباً أوحد للغناء العربي. كان لتعاون الأطرش مع الشاعر وكاتب الأغاني اللبناني ميشال طعمة الأثر الكبير في نمو تلك الجماهيرية، وشيوع أغانيه، التي أدتها أصوات صاعدة في حينه، كاللبنانيين صباح ووديع الصافي.
من بين أشد تلك الأغاني تأثيراً بسيرورة الأغنية الشعبية، "لكتب ع وراق الشجر"، التي نظم كلماتها طعمة (1933 - 1976) ولحنها فريد على مقام البيات ليسجّلها بصوته سنة 1973. استهلّها بمقدمة آلية أدّاها على العود. قولبها على مذهب واحد، تخلّلته ثلاث كوبليهات، تميّزت عن بعضها بانزياحات مقامية، ظلّت مجاورة للمقام الرئيسي، وعليه، حافظت على السلاسة في الانتقال والبساطة في التركيب، بوصفها مُميّزات للغناء الفلكلوري، وفي ذات الوقت، صيغت بتمرّس وأناقة.
كإناء صيني، بحسب المثل المعروف، يرنّ فريد الأطرش أينما طُرق على جدرانه. كان مُمثلاً بين المطربين ومطرباً بين الممثلين، بقدر ما كان مُلحّناً بين المطربين ومطرباً بين الملحنين. أجاد العزف على العود بقدر إجادته الغناء والتلحين، ليتحول إلى مرجع تقني وأسلوبي لمن أتى من بعده من العازفين.
لئن تماهى مع اسمه في مجالات عديدة، فلعلها الفرادة التي جعلت منه مميزاً بين أقرانه. وسامته ورهافة حسّه، إباؤه الأرستقراطي، ترحاله وغربته عن أرضه وأهله، تُضاف إليهما مواهبه المتشعّبة وميله الدفين إلى التعبير عن الذات، عبر إتقانه الغناء والعزف والتلحين، كلها عواملٌ اجتمعت في شخصيته لتكوّن لديه ملامح نرجسية، لطالما ميّزت شخصية الفنان الفريد.
نرجسيةٌ تراوحت ما بين العظمة (Grandiosity) تجلّياً في إقدامه الفنّي، جموح خياراته الإبداعية، كرمه المغالي حد الإسراف، وإدمانه على القمار، وما بين الهشاشة والانكسار (Vulnerability) تجلّياً في ميلانكولية سماته، نبرة صوته الشاكي الحزين، وتبنّيه صورة العاشق الحالم بلا عشيقٍ دائم، إضافة إلى مرويّاته عن خيبات أمل متلاحقة ألمّت به، وظلم متواتر، قد عاناه على مدار حياته من قبل الزملاء في الوسط الفني وأقطاب المؤسسة الفنية.
كما لو أن اسم فريد لم يحدد وحسب، مسار حياة صاحبه، المطرب والمُلحّن والممثل وعازف العود السوري، فريد الأطرش (1910 - 1974)، وإنما شكّل أيضاً ملامح شخصيته. الأمر الذي انعكس على الذات الفنية، وبذات القَدْر، على السيرة الذاتية، من زوايا عديدة.
أسوة بشقيقته المُطربة أسمهان (1912 - 1944)، كان فريد فريداً في وسامته. تميّز بحُسن الطلّة، قيمةً مُضافة إلى حسن الصوت الذي ميّز مجايليه من أعلام الطرب العربي حتى منتصف القرن العشرين. الأمر الذي أمّن دخوله الصناعة السينمائية المصرية واسعة الانتشار عربياً، وسرعة نجاحه فيها، وعن طريقها.
أبدى الأطرش فرادة في لعب أدوار سينمائية نجومية، قيمةً أخرى مضافة على أدائه الغنائي وبهاء طلعته. من على الشاشة، ظهر وإلى جانبه نجومها الكبار. بمساندة منهم، حقق نجومية كاسحة. استطاع الاستئثار بقلوب المشاهدين والمستمعين، من خلال أدوات التعبير الموسيقي والدرامي المصاحب للأداء الغنائي، وبدفع من موهبة طبيعية، من دون عناء البروز كممثّل محترف.
تحرّر من ملازمة الممثلين البارعين عبر أدوارهم الثانوية، كعبد السلام النابلسي وإسماعيل ياسين، وانفرد بكبار النجوم من المحترفين، كفاتن حمامة (1931 - 2015)، ضمن مشاهد محض درامية، لا غناء فيها ولا موسيقى، كفيلم "الحب الكبير" من إخراج هنري بركات سنة 1969. ما إن يُقارن سينمائياً بالمُطربين ممن توجّه إلى التمثيل، حتى يثبت أن فريد كان الأكثر عطاءً، إذ شارك في واحد وثلاثين فيلماً على مدار مشواره الفني.
كما اشتهر أيضاً، عازفاً منفرداً على آلة العود. لئن رافقت تلك الآلة الوترية، منذ العهد الإسلامي، حياة معظم من اشتغل بالغناء أو التلحين في المنطقة الناطقة بالعربية. لم يتقدّم مُطربٌ احترف الغناء، فيبرز كأحد عازفي العود المحترفين، كما تقدّم فريد الأطرش. كان ذلك أيضاً، بدفعٍ من موهبة طبيعية، لم يضطر معها، إلى وهب جلّ وقته في سبيل إتقان العزف.
ثلاثة أساتذة عود أسهموا في بلورة أسلوب فريد في مقاربته الآلة، هم رياض السنباطي، مُعلّمه في معهد فؤاد الأول للموسيقى في القاهرة، ومحمد القصبجي وبديع غصن. إلا أن ميله إلى التفرّد، جعله يتجاوز تقاليد التقسيم السائدة في عصره، من ضرب الريشة الثابت المنتظم على القرار والالتزام بجمل محددة بموجب المقام، إلى أداء مُرسل وريشة تُعنى أولاً برسم خطوطٍ لحنية تتماهى مع الغناء، ونزعة فيرتيوزية تستورد من الموسيقى الأوروبية، والأندلسية على وجه الخصوص، الاهتمام باستعراض البراعةٍ، كما في وصلته المنفردة الشهيرة في مقدمة أغنية، "حكاية غرامي"، في فيلم "من أجل حبي" سنة 1959. فيها، حاور فرقة أوركسترالية. ومن خلالها، طوّع على عوده اقتباسات عن مقطوعة شائعة لآلة الغيتار، ألفها الإسباني ألبينيز، اسمها "أستورياس"
وإن لم يتفرّد في مجال التلحين كمطرب من بين أعلام الطرب في عصره، كمحمد عبد الوهاب (1902 - 1991)، إلا أن الألحان التي وضعها الأطرش، سواءً التي أدّاها بصوته، أم قدمها لمغنين صاعدين آنذاك، ميّزتها الجرأة في الخروج عن السائد وسط مشهد فني، تزاحمت فيه المواهب التلحينية، وتأسس بموجب عادات وتقاليد غنائية، سواء لجهة اختيار النصوص، القولبة الموسيقية، أو التوزيع الآلي.
انفتح الأطرش على الغناء الشعبي، الشامي على الأخص، في المرحلة الزمنية التي توجّه خلالها إلى لبنان واشتغل مع إذاعة الشرق الأدنى منتصف ستينيات القرن الماضي. صب ذلك اشتغاله في مسعى ضمّ الفلكلور المحلي إلى إرث الغناء الكلاسيكي، أو على الأقل، تشييد جسرٍ بينهما، من خلال خصائص تشكيلية، خطّت مسار تطور الأغنية الشعبية حتى عقد الثمانينيات.
أخذ الغناء باللهجة اللبنانية يكتسب جماهيرية عابرة لحدود البلدان العربية، بعد أن ظلّت اللهجة المصرية قطباً أوحد للغناء العربي. كان لتعاون الأطرش مع الشاعر وكاتب الأغاني اللبناني ميشال طعمة الأثر الكبير في نمو تلك الجماهيرية، وشيوع أغانيه، التي أدتها أصوات صاعدة في حينه، كاللبنانيين صباح ووديع الصافي.
من بين أشد تلك الأغاني تأثيراً بسيرورة الأغنية الشعبية، "لكتب ع وراق الشجر"، التي نظم كلماتها طعمة (1933 - 1976) ولحنها فريد على مقام البيات ليسجّلها بصوته سنة 1973. استهلّها بمقدمة آلية أدّاها على العود. قولبها على مذهب واحد، تخلّلته ثلاث كوبليهات، تميّزت عن بعضها بانزياحات مقامية، ظلّت مجاورة للمقام الرئيسي، وعليه، حافظت على السلاسة في الانتقال والبساطة في التركيب، بوصفها مُميّزات للغناء الفلكلوري، وفي ذات الوقت، صيغت بتمرّس وأناقة.
كإناء صيني، بحسب المثل المعروف، يرنّ فريد الأطرش أينما طُرق على جدرانه. كان مُمثلاً بين المطربين ومطرباً بين الممثلين، بقدر ما كان مُلحّناً بين المطربين ومطرباً بين الملحنين. أجاد العزف على العود بقدر إجادته الغناء والتلحين، ليتحول إلى مرجع تقني وأسلوبي لمن أتى من بعده من العازفين.
لئن تماهى مع اسمه في مجالات عديدة، فلعلها الفرادة التي جعلت منه مميزاً بين أقرانه. وسامته ورهافة حسّه، إباؤه الأرستقراطي، ترحاله وغربته عن أرضه وأهله، تُضاف إليهما مواهبه المتشعّبة وميله الدفين إلى التعبير عن الذات، عبر إتقانه الغناء والعزف والتلحين، كلها عواملٌ اجتمعت في شخصيته لتكوّن لديه ملامح نرجسية، لطالما ميّزت شخصية الفنان الفريد.
نرجسيةٌ تراوحت ما بين العظمة (Grandiosity) تجلّياً في إقدامه الفنّي، جموح خياراته الإبداعية، كرمه المغالي حد الإسراف، وإدمانه على القمار، وما بين الهشاشة والانكسار (Vulnerability) تجلّياً في ميلانكولية سماته، نبرة صوته الشاكي الحزين، وتبنّيه صورة العاشق الحالم بلا عشيقٍ دائم، إضافة إلى مرويّاته عن خيبات أمل متلاحقة ألمّت به، وظلم متواتر، قد عاناه على مدار حياته من قبل الزملاء في الوسط الفني وأقطاب المؤسسة الفنية.