اياس ()
Iyas (ibn-) - Iyas (ibn-)
إياس (ابن ـ)
(852 ـ نحو 930 هـ /1448 ـ نحو 1524 م)
ابن إياس، أبو البركات، محمد بن أحمد شهاب الدين الناصري العمري الجركسي الحنفي. مؤرخ مصري المولد والنشأة، أرخ لمصر منذ عهودها القديمة حتى ذي الحجة سنة 928هـ/19 تشرين الثاني 1522م. وكان المؤرخ المعاصر الوحيد الذي أحاط بأحوالها في نصف القرن الأخير من حياة الدولة المملوكية ، ومطلع العهد العثماني.
لم يترجمه أحد من المؤرخين المعاصرين له، ومن ثمَّ فإن المعلومات عن سيرته ضئيلة. إلا أنه كان معروفاً لدى بعض مؤرخي مصر في القرن الحادي عشر للهجرة/السابع عشر للميلاد، فقد ورد اسمه مصدراً ضمن كتاب «التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية» للمؤرخ المصري محمد بن أبي السُرور البكري الصدِّيقي (ت بعد 1071 هـ /1661 م) .كما أن حاجي خليفة أورد في كتابه «كشف الظنون» أسماء ثلاثة من مؤلفاته هي: «بدائع الزهور»، و«نزهة الأمم»، و«نشق الأزهار»، وعرّف به. إلا أن ابن إياس نفسه أتى في مواضع متفرقة من أجزاء كتابه الكبير «بدائع الزهور في وقائع الدهور» بلمحات عن أسرته، فهو ينتمي إلى أسرة مملوكية ذات شأن، تولى بعض أفرادها مناصب عالية. وجدّها الأول، الذي حُمل مملوكاً إلى مصر، قبل النصف الأول من القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، هو عز الدين أَزْدَمُر العُمَري، الناصري، المعروف بأبي ذَقْن والشهير بالخازندار ، وهو جد والد المؤرخ ابن إياس لأمه. وكان من مماليك السلطان الناصر محمد بن قلاوون (693- 741هـ/1293- 1340م)، ولذا لقب بالناصري. أما لقبه العُمَري فهو نسبة إلى الخواجا عمر تاجر المماليك الذي أحضره.
أما جده الأمير إياس الفخري فكان من مماليك السلطان الظاهر برقوق (784- 801هـ/1382- 1399م). وقد ترقَّى في وظائف الدولة حتى بلغ «الدوادارية الثانية»، (والدوادار هو حامل دواة السلطان) أيام السلطان الناصر فرج بن برقوق (801- 815 هـ/1399- 1412 م). ووالد المؤرخ هو أحمد شهاب الدين. ولا يذكر ابن إياس شيئاً كثيراً عن والده سوى أنه كان من مشاهير «أولاد الناس». وأولاد الناس شبيهون بـ«أجناد الحلقة»، الذين يكوِّنون في النظام المملوكي نوعاً من الرديف العسكري، الذي يرتبط مباشرة بالسلطان. ويضيف ابن إياس إلى أوصاف والده، أنه كان كثير العشرة للأمراء وأرباب الدولة، وأنه عاش أربعاً وثمانين سنة، وتوفي في 13 شعبان 908 هـ/11شباط 1503م، وخلّف ثلاثة أولاد هم: محمد المؤرخ، وأخ له يدعى الجمالي يوسف، وقد عُيّن «زردكاش» في الدولة أي حافظاً للسلاح، وأخت لهما، تزوجت الأمير قرقماش العلائي المصارع، وكان أمير آخور رابع ، وأحد الأمراء العشرات، وقد قتل في معركة البيرة على نهر الفرات سنة 877هـ/1473م، التي انتصر فيها المماليك على عسكر حسن الطويل .
ويذكر ابن إياس في كتابه أنه ولد في السادس من ربيع الآخر/التاسع من حزيران؛ إلا أنه لم يذكر شيئاً عن طفولته، أو شبابه، أو مسيرة حياته. ولكنه ذكر فقط أنه حج سنة 882هـ/1478م، وعاد إلى القاهرة في المحرم 883هـ/نيسان 1478م، وسجل ما لاقاه الحجيج في ذلك العام من شدائد، ومارآه في الديار المقدسة من اضطرابات.
وكان لابن إياس، إقطاع يدرّ عليه دخلاً وفيراً يكفي لإعالة أربعة مماليك. وقد وفّر له هذا الدخل الوقت الكافي للانصراف إلى القراءة، والاطلاع والتأليف، من دون أن يحمل همّ معاشه.
ويشير إلى أنه فقد هذا الإقطاع، حين عمل السلطان قانصوه الغوري في جمادى الآخرة 914هـ/تشرين الأول 1508م، على إخراج إقطاعات أولاد الناس من أجناد الحلقة، والإنعام بها على المماليك. إلا أنه استرد هذا الإقطاع بعد أن تظلم للسلطان، فامتدحه بقصيدة أرسلها إليه بطريق أحد خواصه.
لا يُعرف عن شيوخ ابن إياس وثقافته سوى أنه كان تلميذاً للمؤرخ والعالم الكبير عبد الرحمن السيوطي (ت 911هـ/1505م)، وللعالم الأديب زين الدين عبد الباسط بن الغرس خليل بن شاهين (ت 920هـ/1514م). وقد ترجم لهما عند وفاتهما وأشار إليهما في مناسبات عدة في كتابه. ويستخلص من المعلومات التي أوردها في مؤلَّفه «بدائع الزهور»، أنه كان على اطلاع واسع على علوم عصره وعلمائه، وأدبائه، ومتصوفيه. فقد ترجم كثيراً منهم، ومن السابقين لعصره، وأوضح مختلف المعارف التي كانوا يجيدونها، والمؤلفات التي صنفوها.
وكان على معرفة بعلم الفلك، والهيئة، والجغرافية، بدليل خوضه في طرف يسير منها في كتابه «نشق الأزهار في عجائب الأقطار»؛ كما كان مطلعاً على عدد كبير من الكتب التاريخية وعارفاً بمؤلفيها. ومما لاشك فيه أنه كان ذا ميول أدبية، وتذوق مرهف للشعر، ويبدو هذا جليّاً في ترجمته كثيراً من الشعراء، وفي شرحه لإنتاجهم، وفي حفظه لأشعارهم، واستشهاده بها في كثير من المناسبات. وكان هو نفسه ينظم الشعر، وقد وشّى كتابه «بدائع الزهور» بكثير منه. وقد طرق معظم أغراض الشعر، كالمديح، والرثاء، والوصف، والحكمة؛ ونظم المواليا.
ولكن مع ميوله الأدبية وشاعريته، كانت لغته العربية التي دوّن بها تاريخه أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى، وزخرت بالمصطلحات الفارسية والتركية، ولاسيما مصطلحات البلاط، والجيش، والإدارة. ولم يلتزم فيها قواعد الإملاء، والنحو، الصرف: ولذلك قيل بحق، إن اللغة التي كتب بها تصلح في الواقع لتعرف اللهجة القاهرية الدارجة آنذاك.
ترك ابن إياس سبعة مؤلَّفات حسبما وصل إلى علم الباحثين حتى اليوم، وكلها ذات طبيعة تاريخية، وهي:
ـ «بدائع الزهور في وقائع الدهور»: وهو أهم مؤلفاته. وجاء هذا العنوان في الواقع مماثلاً عنوان مؤلَّف تاريخي لأستاذه السيوطي ذكر هو الآخر في مقدمته: «بأنه انتقاه من اثنين وثلاثين تاريخاً، ودوّن فيه نوادر الوقائع من مبدأ الخلق إلى زمانه، إلا أنه لم يكمله».
ـ «مرج الزهور في وقائع الدهور»: وهو تاريخ للرسل والأنبياء. وشك بعض الباحثين في نسبته إليه.
ـ «نشق الأزهار في عجائب الأقطار»: وقد ذكر صاحب «كشف الظنون»، أن ابن إياس قد أخذه من تواريخ الأمم، وذكر فيه أغرب ما سمعه، وأعجب ما رآه، من عجائب مصر وأعمالها، وماصنعت الحكماء فيها. وذكر فيه طرفاً يسيراً من أخبار ملوكها القدماء، ومن أخبار النيل والأهرام، وابتدأ فيه بذكر طرف يسير من أخبار علم الفلك والهيئة. وقد استخدم كثير من علماء أوربة هذا الكتاب في القرن التاسع عشر.
ـ «نزهة الأمم في العجائب والحِكَم»: ويتناول تاريخ العالم؛ وهو غير معروف كثيراً، ولاتوجد منه سوى نسخة واحدة مخطوطه في اصطنبول.
ـ «جواهر السلوك في أخبار الخلفاء والملوك»: وهو مختصر لـ«بدائع الزهور».
ـ «مُنْتَظم بِدَع الدنيا وتاريخ الأمم»، وهو في ثلاثة أجزاء، ويشك في نسبته إليه، ومنه نسخة واحدة.
ـ «عقود الجمان في وقائع الأزمان»: وهو ملخص مستقل في تاريخ مصر في المرحلة (654- 904هـ/1256- 1498م). ذكره إسماعيل باشا البغدادي في «إيضاح المكنون».
ويضيف صاحب كتاب «هدية العارفين» إلى تلك المؤلفات، كتاب «الجواهر الفريدة والنوادر المفيدة»، من دون تعريف بمحتواه.
وقد كتب ابن إياس كتابه الأول الذي اشتهر به، وهو «بدائع الزهور» على طريقة الحوليات لدى المؤرخين المسلمين. فكان يدون الحوادث سنة سنة، وشهراً شهراً، في السنين التي لم يعاصرها، ويوماً فيوماً في السنوات التي عايشها؛ أي في الأجزاء الأخيرة من الكتاب. وكان يختم كل سنة بتراجم المتوفين فيها، من أعيان الساسة والإداريين، وكبار العلماء والأدباء، ومن اشتهر من الناس، أو أنه كان يأتي بها أحياناً في سياق الأحداث. وقد تتبع المؤرخ في تلك الحوليات أحداث مصر المتنوعة: من مناخية، وسياسية داخلية، وسياسية خارجية، وإدارية، واقتصادية، واجتماعية، وعمرانية، وفكرية، تتبعاً تفصيلياً دقيقاً. وضم إلى أخبار مصر كثيراً من أخبار العالم الإسلامي المهمة، في المشرق حتى الهند، وفي المغرب حتى الأندلس. وأحاط بأحوال الشام والحجاز. وكان في المرحلة التي عاصرها، دقيق الملاحظة، شديد الاستقصاء للحقائق، ونقادا، فلم يبخل بأحكامه حتى القاسية منها أحياناً على ماكان يجري، ودون مواربة أو محاباة، ومنها خاصة سياسة السلطان المملوكي قانصوه الغوري .
وقد ساعده في تتبع الحوادث المعاصرة له، أنه ووالده كانا على صلة طيبة بكثير من أعيان الدولة، والأمراء، وكتّاب السر، وخواص السلطان، وما كان أخوه وصهره الموظفان في الدولة يضنان عليه بالأخبار. وكان في عرضه للأحداث المختلفة، معللاً، ومفسراً، ونافذ البصيرة: فقد رأى مثلاً أن سوء الأوضاع الإدارية، والمالية، والاقتصادية، والفساد المستشري في الدولة والجيش، وإهمال المدفعية، كانت وراء اضمحلال الدولة المملوكية وتغلب الدولة العثمانية عليها .
طبع كتاب «بدائع الزهور» أول مرة في سنة 1301- 1306هـ/1884- 1888م. وأعيدت طباعته في بولاق بالقاهرة سنة 1311- 1312هـ/1894، وصدر في ثلاثة مجلدات. وقد ضم المجلد الأول، تاريخ مصر منذ العصور القديمة حتى 815هـ/1412م، والمجلد الثاني تاريخها من 815- 906هـ/1412- 1501م، والمجلد الثالث حوى تاريخ مصر في السنوات 922- 928هـ/1516- 1522م، حتى حكم آخر سلطان مملوكي وهو الأشرف طومان باي، ولكن لا ذكر لمرحلة حكم السلطان قانصوه الغوري.
واستكمل عدد من المستشرقين والباحثين العرب بعض نواقص ذلك المؤلف المهم، فأصدروا ثلاثة أجزاء، ترفد الجزأين الأول والثاني من مطبعة بولاق، وتتضمن السنوات: (872- 905هـ) و(906- 921هـ) و(922- 928هـ). وكانت المرحلة الأخيرة مهمة جداً، لأنها شملت معاينة المؤرخ بنفسه، دخول العثمانيين مصر، وما تبع ذلك من تغيير في الشؤون الإدارية والاقتصادية والاجتماعية. إلا أن محمد مصطفى لاحظ أن في الجزأين الأول والثاني (طبعة بولاق)، نقصاً عن المتن الذي كتبه المؤلف بخط يده، فأعاد النظر في الكتاب برمته، في الأعوام الثلاثة 1960- 1963، فخرج الكتاب بخمسة أجزاء وستة مجلدات، وهي الطبعة المعتمدة اليوم.
وقد تبيّن لناشري هذا الكتاب أن ابن إياس حين أراد تدوين كتابه، كان يود إخراجه في اثني عشر جزءاً. والمثير للانتباه أنه ابتدأه بـ الجزء الرابع إذ صدّر هذا الجزء بمقدمة هي أشبه بمقدمة كتاب، أي بيّن فيها ما سيتضمنه كتابه من فوائد سنية، وغرائب مستعذبة مُرْضية، تصلح لمسامرة الجليس وتكون للمنفرد كالأنيس؛ وأنه طالع نحو سبعة وثلاثين تاريخاً حتى استقام له ما أراد. وأوضح في هذه المقدمة أيضاً مجمل ما حواه مؤلَّفه. وطرح في هذا الجزء الرابع تاريخ مصر منذ العصور القديمة حتى سنة 714هـ. وتابع أحداث تاريخه في الأجزاء التالية بتسلسلها الرقمي والزمني، وكان ينهي كل جزء ببيان تاريخ انتهائه من تدوينه. وآخر جزء دوّنه كان هو الحادي عشر، وهو الذي يشمل المرحلة المهمة التي أشير إليها سابقاً، والممتدة بين 922هـ و928هـ. وقد فرغ من كتابته يوم الأربعاء آخر ذي الحجة سنة 928هـ. ويبدو أنه كان يريد أن يتابع التدوين في الجزء الثاني عشر ـ إذ أشار إلى ذلك ـ ولكنه لم يتح له ذلك إما لمرضه وإما لوفاته.
أما الأجزاء الثلاثة، التي كان من المفروض أن تسبق الجزء الرابع الذي ابتدأ تاريخه به، فلم يُعْثر عليها، ويُظَن أنه لم يكتبها أبداً، ولا يمكن التكهن بمادتها.
لا يعرف تاريخ وفاته بالضبط، إلا أنه كان حتماً بعد 928 هـ.
ليلى الصباغ
Iyas (ibn-) - Iyas (ibn-)
إياس (ابن ـ)
(852 ـ نحو 930 هـ /1448 ـ نحو 1524 م)
ابن إياس، أبو البركات، محمد بن أحمد شهاب الدين الناصري العمري الجركسي الحنفي. مؤرخ مصري المولد والنشأة، أرخ لمصر منذ عهودها القديمة حتى ذي الحجة سنة 928هـ/19 تشرين الثاني 1522م. وكان المؤرخ المعاصر الوحيد الذي أحاط بأحوالها في نصف القرن الأخير من حياة الدولة المملوكية ، ومطلع العهد العثماني.
لم يترجمه أحد من المؤرخين المعاصرين له، ومن ثمَّ فإن المعلومات عن سيرته ضئيلة. إلا أنه كان معروفاً لدى بعض مؤرخي مصر في القرن الحادي عشر للهجرة/السابع عشر للميلاد، فقد ورد اسمه مصدراً ضمن كتاب «التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية» للمؤرخ المصري محمد بن أبي السُرور البكري الصدِّيقي (ت بعد 1071 هـ /1661 م) .كما أن حاجي خليفة أورد في كتابه «كشف الظنون» أسماء ثلاثة من مؤلفاته هي: «بدائع الزهور»، و«نزهة الأمم»، و«نشق الأزهار»، وعرّف به. إلا أن ابن إياس نفسه أتى في مواضع متفرقة من أجزاء كتابه الكبير «بدائع الزهور في وقائع الدهور» بلمحات عن أسرته، فهو ينتمي إلى أسرة مملوكية ذات شأن، تولى بعض أفرادها مناصب عالية. وجدّها الأول، الذي حُمل مملوكاً إلى مصر، قبل النصف الأول من القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، هو عز الدين أَزْدَمُر العُمَري، الناصري، المعروف بأبي ذَقْن والشهير بالخازندار ، وهو جد والد المؤرخ ابن إياس لأمه. وكان من مماليك السلطان الناصر محمد بن قلاوون (693- 741هـ/1293- 1340م)، ولذا لقب بالناصري. أما لقبه العُمَري فهو نسبة إلى الخواجا عمر تاجر المماليك الذي أحضره.
أما جده الأمير إياس الفخري فكان من مماليك السلطان الظاهر برقوق (784- 801هـ/1382- 1399م). وقد ترقَّى في وظائف الدولة حتى بلغ «الدوادارية الثانية»، (والدوادار هو حامل دواة السلطان) أيام السلطان الناصر فرج بن برقوق (801- 815 هـ/1399- 1412 م). ووالد المؤرخ هو أحمد شهاب الدين. ولا يذكر ابن إياس شيئاً كثيراً عن والده سوى أنه كان من مشاهير «أولاد الناس». وأولاد الناس شبيهون بـ«أجناد الحلقة»، الذين يكوِّنون في النظام المملوكي نوعاً من الرديف العسكري، الذي يرتبط مباشرة بالسلطان. ويضيف ابن إياس إلى أوصاف والده، أنه كان كثير العشرة للأمراء وأرباب الدولة، وأنه عاش أربعاً وثمانين سنة، وتوفي في 13 شعبان 908 هـ/11شباط 1503م، وخلّف ثلاثة أولاد هم: محمد المؤرخ، وأخ له يدعى الجمالي يوسف، وقد عُيّن «زردكاش» في الدولة أي حافظاً للسلاح، وأخت لهما، تزوجت الأمير قرقماش العلائي المصارع، وكان أمير آخور رابع ، وأحد الأمراء العشرات، وقد قتل في معركة البيرة على نهر الفرات سنة 877هـ/1473م، التي انتصر فيها المماليك على عسكر حسن الطويل .
ويذكر ابن إياس في كتابه أنه ولد في السادس من ربيع الآخر/التاسع من حزيران؛ إلا أنه لم يذكر شيئاً عن طفولته، أو شبابه، أو مسيرة حياته. ولكنه ذكر فقط أنه حج سنة 882هـ/1478م، وعاد إلى القاهرة في المحرم 883هـ/نيسان 1478م، وسجل ما لاقاه الحجيج في ذلك العام من شدائد، ومارآه في الديار المقدسة من اضطرابات.
وكان لابن إياس، إقطاع يدرّ عليه دخلاً وفيراً يكفي لإعالة أربعة مماليك. وقد وفّر له هذا الدخل الوقت الكافي للانصراف إلى القراءة، والاطلاع والتأليف، من دون أن يحمل همّ معاشه.
ويشير إلى أنه فقد هذا الإقطاع، حين عمل السلطان قانصوه الغوري في جمادى الآخرة 914هـ/تشرين الأول 1508م، على إخراج إقطاعات أولاد الناس من أجناد الحلقة، والإنعام بها على المماليك. إلا أنه استرد هذا الإقطاع بعد أن تظلم للسلطان، فامتدحه بقصيدة أرسلها إليه بطريق أحد خواصه.
لا يُعرف عن شيوخ ابن إياس وثقافته سوى أنه كان تلميذاً للمؤرخ والعالم الكبير عبد الرحمن السيوطي (ت 911هـ/1505م)، وللعالم الأديب زين الدين عبد الباسط بن الغرس خليل بن شاهين (ت 920هـ/1514م). وقد ترجم لهما عند وفاتهما وأشار إليهما في مناسبات عدة في كتابه. ويستخلص من المعلومات التي أوردها في مؤلَّفه «بدائع الزهور»، أنه كان على اطلاع واسع على علوم عصره وعلمائه، وأدبائه، ومتصوفيه. فقد ترجم كثيراً منهم، ومن السابقين لعصره، وأوضح مختلف المعارف التي كانوا يجيدونها، والمؤلفات التي صنفوها.
وكان على معرفة بعلم الفلك، والهيئة، والجغرافية، بدليل خوضه في طرف يسير منها في كتابه «نشق الأزهار في عجائب الأقطار»؛ كما كان مطلعاً على عدد كبير من الكتب التاريخية وعارفاً بمؤلفيها. ومما لاشك فيه أنه كان ذا ميول أدبية، وتذوق مرهف للشعر، ويبدو هذا جليّاً في ترجمته كثيراً من الشعراء، وفي شرحه لإنتاجهم، وفي حفظه لأشعارهم، واستشهاده بها في كثير من المناسبات. وكان هو نفسه ينظم الشعر، وقد وشّى كتابه «بدائع الزهور» بكثير منه. وقد طرق معظم أغراض الشعر، كالمديح، والرثاء، والوصف، والحكمة؛ ونظم المواليا.
ولكن مع ميوله الأدبية وشاعريته، كانت لغته العربية التي دوّن بها تاريخه أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى، وزخرت بالمصطلحات الفارسية والتركية، ولاسيما مصطلحات البلاط، والجيش، والإدارة. ولم يلتزم فيها قواعد الإملاء، والنحو، الصرف: ولذلك قيل بحق، إن اللغة التي كتب بها تصلح في الواقع لتعرف اللهجة القاهرية الدارجة آنذاك.
ترك ابن إياس سبعة مؤلَّفات حسبما وصل إلى علم الباحثين حتى اليوم، وكلها ذات طبيعة تاريخية، وهي:
ـ «بدائع الزهور في وقائع الدهور»: وهو أهم مؤلفاته. وجاء هذا العنوان في الواقع مماثلاً عنوان مؤلَّف تاريخي لأستاذه السيوطي ذكر هو الآخر في مقدمته: «بأنه انتقاه من اثنين وثلاثين تاريخاً، ودوّن فيه نوادر الوقائع من مبدأ الخلق إلى زمانه، إلا أنه لم يكمله».
ـ «مرج الزهور في وقائع الدهور»: وهو تاريخ للرسل والأنبياء. وشك بعض الباحثين في نسبته إليه.
ـ «نشق الأزهار في عجائب الأقطار»: وقد ذكر صاحب «كشف الظنون»، أن ابن إياس قد أخذه من تواريخ الأمم، وذكر فيه أغرب ما سمعه، وأعجب ما رآه، من عجائب مصر وأعمالها، وماصنعت الحكماء فيها. وذكر فيه طرفاً يسيراً من أخبار ملوكها القدماء، ومن أخبار النيل والأهرام، وابتدأ فيه بذكر طرف يسير من أخبار علم الفلك والهيئة. وقد استخدم كثير من علماء أوربة هذا الكتاب في القرن التاسع عشر.
ـ «نزهة الأمم في العجائب والحِكَم»: ويتناول تاريخ العالم؛ وهو غير معروف كثيراً، ولاتوجد منه سوى نسخة واحدة مخطوطه في اصطنبول.
ـ «جواهر السلوك في أخبار الخلفاء والملوك»: وهو مختصر لـ«بدائع الزهور».
ـ «مُنْتَظم بِدَع الدنيا وتاريخ الأمم»، وهو في ثلاثة أجزاء، ويشك في نسبته إليه، ومنه نسخة واحدة.
ـ «عقود الجمان في وقائع الأزمان»: وهو ملخص مستقل في تاريخ مصر في المرحلة (654- 904هـ/1256- 1498م). ذكره إسماعيل باشا البغدادي في «إيضاح المكنون».
ويضيف صاحب كتاب «هدية العارفين» إلى تلك المؤلفات، كتاب «الجواهر الفريدة والنوادر المفيدة»، من دون تعريف بمحتواه.
وقد كتب ابن إياس كتابه الأول الذي اشتهر به، وهو «بدائع الزهور» على طريقة الحوليات لدى المؤرخين المسلمين. فكان يدون الحوادث سنة سنة، وشهراً شهراً، في السنين التي لم يعاصرها، ويوماً فيوماً في السنوات التي عايشها؛ أي في الأجزاء الأخيرة من الكتاب. وكان يختم كل سنة بتراجم المتوفين فيها، من أعيان الساسة والإداريين، وكبار العلماء والأدباء، ومن اشتهر من الناس، أو أنه كان يأتي بها أحياناً في سياق الأحداث. وقد تتبع المؤرخ في تلك الحوليات أحداث مصر المتنوعة: من مناخية، وسياسية داخلية، وسياسية خارجية، وإدارية، واقتصادية، واجتماعية، وعمرانية، وفكرية، تتبعاً تفصيلياً دقيقاً. وضم إلى أخبار مصر كثيراً من أخبار العالم الإسلامي المهمة، في المشرق حتى الهند، وفي المغرب حتى الأندلس. وأحاط بأحوال الشام والحجاز. وكان في المرحلة التي عاصرها، دقيق الملاحظة، شديد الاستقصاء للحقائق، ونقادا، فلم يبخل بأحكامه حتى القاسية منها أحياناً على ماكان يجري، ودون مواربة أو محاباة، ومنها خاصة سياسة السلطان المملوكي قانصوه الغوري .
وقد ساعده في تتبع الحوادث المعاصرة له، أنه ووالده كانا على صلة طيبة بكثير من أعيان الدولة، والأمراء، وكتّاب السر، وخواص السلطان، وما كان أخوه وصهره الموظفان في الدولة يضنان عليه بالأخبار. وكان في عرضه للأحداث المختلفة، معللاً، ومفسراً، ونافذ البصيرة: فقد رأى مثلاً أن سوء الأوضاع الإدارية، والمالية، والاقتصادية، والفساد المستشري في الدولة والجيش، وإهمال المدفعية، كانت وراء اضمحلال الدولة المملوكية وتغلب الدولة العثمانية عليها .
طبع كتاب «بدائع الزهور» أول مرة في سنة 1301- 1306هـ/1884- 1888م. وأعيدت طباعته في بولاق بالقاهرة سنة 1311- 1312هـ/1894، وصدر في ثلاثة مجلدات. وقد ضم المجلد الأول، تاريخ مصر منذ العصور القديمة حتى 815هـ/1412م، والمجلد الثاني تاريخها من 815- 906هـ/1412- 1501م، والمجلد الثالث حوى تاريخ مصر في السنوات 922- 928هـ/1516- 1522م، حتى حكم آخر سلطان مملوكي وهو الأشرف طومان باي، ولكن لا ذكر لمرحلة حكم السلطان قانصوه الغوري.
واستكمل عدد من المستشرقين والباحثين العرب بعض نواقص ذلك المؤلف المهم، فأصدروا ثلاثة أجزاء، ترفد الجزأين الأول والثاني من مطبعة بولاق، وتتضمن السنوات: (872- 905هـ) و(906- 921هـ) و(922- 928هـ). وكانت المرحلة الأخيرة مهمة جداً، لأنها شملت معاينة المؤرخ بنفسه، دخول العثمانيين مصر، وما تبع ذلك من تغيير في الشؤون الإدارية والاقتصادية والاجتماعية. إلا أن محمد مصطفى لاحظ أن في الجزأين الأول والثاني (طبعة بولاق)، نقصاً عن المتن الذي كتبه المؤلف بخط يده، فأعاد النظر في الكتاب برمته، في الأعوام الثلاثة 1960- 1963، فخرج الكتاب بخمسة أجزاء وستة مجلدات، وهي الطبعة المعتمدة اليوم.
وقد تبيّن لناشري هذا الكتاب أن ابن إياس حين أراد تدوين كتابه، كان يود إخراجه في اثني عشر جزءاً. والمثير للانتباه أنه ابتدأه بـ الجزء الرابع إذ صدّر هذا الجزء بمقدمة هي أشبه بمقدمة كتاب، أي بيّن فيها ما سيتضمنه كتابه من فوائد سنية، وغرائب مستعذبة مُرْضية، تصلح لمسامرة الجليس وتكون للمنفرد كالأنيس؛ وأنه طالع نحو سبعة وثلاثين تاريخاً حتى استقام له ما أراد. وأوضح في هذه المقدمة أيضاً مجمل ما حواه مؤلَّفه. وطرح في هذا الجزء الرابع تاريخ مصر منذ العصور القديمة حتى سنة 714هـ. وتابع أحداث تاريخه في الأجزاء التالية بتسلسلها الرقمي والزمني، وكان ينهي كل جزء ببيان تاريخ انتهائه من تدوينه. وآخر جزء دوّنه كان هو الحادي عشر، وهو الذي يشمل المرحلة المهمة التي أشير إليها سابقاً، والممتدة بين 922هـ و928هـ. وقد فرغ من كتابته يوم الأربعاء آخر ذي الحجة سنة 928هـ. ويبدو أنه كان يريد أن يتابع التدوين في الجزء الثاني عشر ـ إذ أشار إلى ذلك ـ ولكنه لم يتح له ذلك إما لمرضه وإما لوفاته.
أما الأجزاء الثلاثة، التي كان من المفروض أن تسبق الجزء الرابع الذي ابتدأ تاريخه به، فلم يُعْثر عليها، ويُظَن أنه لم يكتبها أبداً، ولا يمكن التكهن بمادتها.
لا يعرف تاريخ وفاته بالضبط، إلا أنه كان حتماً بعد 928 هـ.
ليلى الصباغ