ممدوح عزام
يُقدّم القرن العشرون الذي مضى، والسنوات العشرون من القرن الواحد والعشرين، جواباً غريباً ومحيّراً تجاه كِتاب مثل "طبائع الاستبداد" لعبد الرحمن الكواكبي؛ إذ على الرغم من أنّه يُعتبر واحداً من أكثر الكتب شهرةً، وأنّه طُبع في بلدان مختلفة من عالمنا العربي، طوال القرن العشرين، وبدايات قرننا الحالي، ومن الجائز أنّ عدد النسخ المطبوعة منه وعدد الطبعات المتعدّدة والمصوَّرة هي الأكثر من بين الكتب السياسية العربية، فإنّ قراءة الكتاب بوصفه أثراً أو درساً في الحياة والثورة والصراع مع فكرة الاستبداد كانت في حدودها الدنيا في العالَم العربي؛ أي في ذلك العالَم الذي يخاطبه الكواكبي، ويأمل أن يكون لما يكتب صدىً في نفوس أبنائه.
أوّلُ دروس الكتاب هي فكرة الاستبداد. واللافت أنّ الثقافة العربية لم تُقارِب هذه الفكرة، أو لم تعمل على تطوير الكلام بخصوصها، وتعميق الشرح حول المفهوم من جهة، وحول طبيعة التمثيل المشخَّص على أرض الواقع من جهة ثانية، إلّا في القليل من الدراسات، بعد كتاب الكواكبي.
واللافت أكثر هو أنّ العالَم العربي الذي نالت معظمُ بلدانه استقلالاتها عن الاستعمار في أوقات مُتقاربة تعود إلى منتصف القرن العشرين، أنتجَ باستقلاله وجوهاً عديدة للمستبدّين الذي نجحوا، لا في الاستيلاء على كرسي الحكم وحسب، بل في اكتساب حشود جماهيرية كبيرة وقفت في صفوفهم، حبّاً وإعجاباً، أو خوفاً ورهبة.
لم يمنع أيّ بلد عربي "طبائع الاستبداد" بعد أن حُوّل إلى كتاب متحفي
هل هذا يعني أنَّ الدرس لم يصل؟ ربّما، ففي ظلِّ الأميّة الهائلة التي تعيشها الشعوب العربية، وفي ظلّ التعليم المدرسي المُراقَب، وفي ظلّ أميّة المتعلّمين الصغار، يستريح المُستبد إلى أنّه يستطيع أن يلوّن الصورة، ويغشّ في الحضور، بحيث يمكنه - وقد تمكَّن بالفعل - أن يُزوّر أو يدفع عمق الصورة عن المستبد إلى الهامش. فكانت بذلك قراءة الكتاب تقتصر على المثقّفين، ولا تصل كرسالة إلى المجموع العامّ لـ"الشعب".
وهكذا فإنَّ العديد من الحُكّام الطغاة استطاعوا أن يحضروا في المجال السياسي العامّ كمخلّصين وقادة تحرير، وقد ضلّلوا كتاب الكواكبي، أو الصحيح أنّهم ضلّلوا الطريق إلى الكتاب، عبر كتلة هائلة من الشعارات الطنّانة الكبيرة، وعبر "تبنّي" قضية فلسطين، أو ادعاء تبنّيها، في الوقت العربي المهزوم من قبل الصهاينة، والمشغول بصناعة الأمل، واستطاعوا أن يجعلوا منه كتاباً متْحفيّاً. وهكذا لم يعُد أحد في الرقابة العربية يهتمّ لنشر الكتاب، ولم أسمع أنّ بلداً عربيّاً منع طباعة كتاب "طبائع الاستبداد". لقد زال خطره.
والغريب أنّ المعارضين العرب بكلّ ألوانهم السياسية ساروا في طريق معاكسة تماماً. لم يقرأوا الكتاب، أو أنّهم قرأوه وتجاهلوه. تجاهلوا القسم الخاصّ بالعمل السياسي بين الناس؛ وهو الفصل الأخير من الكتاب، وفيه درس الكواكبي الثاني العملي لمواجهة المُستبدّ، وهو رؤيّة عميقة وصحيحة ومبكّرة جداً تشير إلى أشكال العمل الضروري بين الناس من قبل المُعارِض أو الثائر.
وتبدو النخبوية، في السلوك اليومي، وفي أشكال العمل النظري، ظاهرةً هنا في امتناع المُعارض عن تفهُّم الناس وأحوالهم، كما يدعو الكواكبي إلى ذلك، أو التعالي عليهم، والنظر إليهم من موقعه المُنتفخ، أو اعتبار شعاراته وأهدافه مقياساً أخيراً ونهائياً للحقيقة.
يُقدّم القرن العشرون الذي مضى، والسنوات العشرون من القرن الواحد والعشرين، جواباً غريباً ومحيّراً تجاه كِتاب مثل "طبائع الاستبداد" لعبد الرحمن الكواكبي؛ إذ على الرغم من أنّه يُعتبر واحداً من أكثر الكتب شهرةً، وأنّه طُبع في بلدان مختلفة من عالمنا العربي، طوال القرن العشرين، وبدايات قرننا الحالي، ومن الجائز أنّ عدد النسخ المطبوعة منه وعدد الطبعات المتعدّدة والمصوَّرة هي الأكثر من بين الكتب السياسية العربية، فإنّ قراءة الكتاب بوصفه أثراً أو درساً في الحياة والثورة والصراع مع فكرة الاستبداد كانت في حدودها الدنيا في العالَم العربي؛ أي في ذلك العالَم الذي يخاطبه الكواكبي، ويأمل أن يكون لما يكتب صدىً في نفوس أبنائه.
أوّلُ دروس الكتاب هي فكرة الاستبداد. واللافت أنّ الثقافة العربية لم تُقارِب هذه الفكرة، أو لم تعمل على تطوير الكلام بخصوصها، وتعميق الشرح حول المفهوم من جهة، وحول طبيعة التمثيل المشخَّص على أرض الواقع من جهة ثانية، إلّا في القليل من الدراسات، بعد كتاب الكواكبي.
واللافت أكثر هو أنّ العالَم العربي الذي نالت معظمُ بلدانه استقلالاتها عن الاستعمار في أوقات مُتقاربة تعود إلى منتصف القرن العشرين، أنتجَ باستقلاله وجوهاً عديدة للمستبدّين الذي نجحوا، لا في الاستيلاء على كرسي الحكم وحسب، بل في اكتساب حشود جماهيرية كبيرة وقفت في صفوفهم، حبّاً وإعجاباً، أو خوفاً ورهبة.
لم يمنع أيّ بلد عربي "طبائع الاستبداد" بعد أن حُوّل إلى كتاب متحفي
هل هذا يعني أنَّ الدرس لم يصل؟ ربّما، ففي ظلِّ الأميّة الهائلة التي تعيشها الشعوب العربية، وفي ظلّ التعليم المدرسي المُراقَب، وفي ظلّ أميّة المتعلّمين الصغار، يستريح المُستبد إلى أنّه يستطيع أن يلوّن الصورة، ويغشّ في الحضور، بحيث يمكنه - وقد تمكَّن بالفعل - أن يُزوّر أو يدفع عمق الصورة عن المستبد إلى الهامش. فكانت بذلك قراءة الكتاب تقتصر على المثقّفين، ولا تصل كرسالة إلى المجموع العامّ لـ"الشعب".
وهكذا فإنَّ العديد من الحُكّام الطغاة استطاعوا أن يحضروا في المجال السياسي العامّ كمخلّصين وقادة تحرير، وقد ضلّلوا كتاب الكواكبي، أو الصحيح أنّهم ضلّلوا الطريق إلى الكتاب، عبر كتلة هائلة من الشعارات الطنّانة الكبيرة، وعبر "تبنّي" قضية فلسطين، أو ادعاء تبنّيها، في الوقت العربي المهزوم من قبل الصهاينة، والمشغول بصناعة الأمل، واستطاعوا أن يجعلوا منه كتاباً متْحفيّاً. وهكذا لم يعُد أحد في الرقابة العربية يهتمّ لنشر الكتاب، ولم أسمع أنّ بلداً عربيّاً منع طباعة كتاب "طبائع الاستبداد". لقد زال خطره.
والغريب أنّ المعارضين العرب بكلّ ألوانهم السياسية ساروا في طريق معاكسة تماماً. لم يقرأوا الكتاب، أو أنّهم قرأوه وتجاهلوه. تجاهلوا القسم الخاصّ بالعمل السياسي بين الناس؛ وهو الفصل الأخير من الكتاب، وفيه درس الكواكبي الثاني العملي لمواجهة المُستبدّ، وهو رؤيّة عميقة وصحيحة ومبكّرة جداً تشير إلى أشكال العمل الضروري بين الناس من قبل المُعارِض أو الثائر.
وتبدو النخبوية، في السلوك اليومي، وفي أشكال العمل النظري، ظاهرةً هنا في امتناع المُعارض عن تفهُّم الناس وأحوالهم، كما يدعو الكواكبي إلى ذلك، أو التعالي عليهم، والنظر إليهم من موقعه المُنتفخ، أو اعتبار شعاراته وأهدافه مقياساً أخيراً ونهائياً للحقيقة.