في ظلّ جائحة كورونا وفي ظلّ كل ما حصل بعدها من أزمات وحروب وكوارث طبيعية من زلازل وفيضانات، اتخذت الصحة النفسية مساحةً كبرى في اهتمامات الشعوب والأنظمة الصحية. ومع ارتفاع معدّلات الاضطرابات النفسية بأنواعها التي سُجّلت في السنوات الأخيرة، في مختلف أنحاء العالم وبشكل خاص في الوطن العربي، أصبحت الرعاية على صعيد الصحة النفسية ووضع استراتيجيات منظّمة في الأنظمة الصحية أولوية لا تهاون فيها.
في حديثه مع "النهار العربي"، يعود المستشار الإقليمي للصحة النفسية في "أطباء بلا حدود" دافيد موساردو في اليوم العالمي للصحة النفسية، إلى مقولة لمنظمة الصحة العالمية: "لا صحة من دون صحة نفسية"، مشيراً إلى أنّه بعد كل الأزمات والكوارث الطبيعية الأخيرة، برزت الحاجة إلى تعزيز الدعم النفسي كجزء لا يتجزأ من الرعاية الطبية التي يتلقّاها الفرد في مثل هذه الظروف.
تزويده أيضاً بالأوكسيجين ووضعه على الجهاز التنفسي.
أيضاً كمستشار إقليمي في مجال الصحة النفسية في المنطقة، سنحت لموساردو فرصة متابعة دول عدة في الشرق الأوسط ومنها سوريا، بعد تعرّضها للزلزال المدمّر. وكان فريق "أطباء بلا حدود" في مجال الصحة النفسية يقدّم الدعم النفسي والإسعافات الأولية النفسية للمتضرّرين من الكارثة. خلال هذه التجربة، لوحظ غياب شبه تام في البلاد لاستراتجية منظمة للدعم النفسي، سواء لعامة الناس أو للعاملين في الجسم الطبي الذين يتمّ استدعاؤهم لتقديم خدمات رعاية صحية في نوبات عمل طويلة، وبوجود عدد هائل من الأشخاص الذين في حالات حرجة. فقد أتت هذه الكارثة، بعد الجائحة لتؤثر إلى حدّ كبير على الأفراد لا على المستوى الجسدي فحسب، إنما أيضاً على مستوى الصحة النفسية، ما زاد الوضع سوءاً. في كل الحالات، مسألة الحفاظ على الصحة النفسية لا ترتبط بالعالم العربي فحسب، بل تعني العالم ككل. ففي ظلّ الجائحة، تبيّن أنّه يتمّ التعاطي مع مسألة التدخّل في مجال الرعاية النفسية في ظلّ الكوارث الطبيعية والأزمات، على اعتبارها خطوة غير طارئة او عاجلة، فيكون التركيز على التدخّل الطبي حصراً. في الواقع، التوازن النفسي للفرد واستقراره أولوية في أي ظرف من الظروف. وفي الوقت نفسه، يمكن للتدخّل النفسي السليم والصحي في رعاية الصحة النفسية أن يدعم النظام الصحي ويستجيب بشكل أفضل لاحتياجات المجتمع. على سبيل المثال، تركّز مجموعة العمل في مجال الصحة النفسية التي تعتبر "أطباء بلا حدود" جزءاً منها، على هذه النقطة تحديداً، لجعل رعاية الصحة النفسية في متناول الكل. لذلك، تتحرّك "أطباء بلا حدود" في هذا الاتجاه، وتشدّد على أهمية بناء نهج متكامل مع المجتمع وكافة الجهات الفاعلة في النظام الصحي، وعلى بناء القدرات للتدخّل الفوري عند الحاجة.
ما أبرز الإضطرابات النفسية التي سُجّلت بعد كوارث ليبيا والمغرب وتركيا وسوريا؟
بعد أي كارثة أو أزمة، كما حصل في المغرب وليبيا أخيراً، تستدعي النجاة من كوارث طبيعية مماثلة كالزلزال والفيضان، دعماً فورياً مع تسهيل الوصول إلى المساعدة في مجال الصحة النفسية، لتجنّب الاضطرابات النفسية للمدى البعيد. بعد زلزال تركيا وسوريا، لا يزال واضحاً أنّ ثمة حاجة إلى المعالجة النفسية والدعم الاستشاري استجابة لمتلازمة اضطراب ما بعد الصدمة، إنما أيضاً بسبب ارتفاع معدّلات ظهور أعراض الكآبة والقلق المرضي وصعوبات التأقلم نظراً لعدم الاستقرار في نظام العيش. أما بين الأطفال، فسُجّل ارتفاع في معدّلات الاضطرابات المرتبطة بالسلوكيات، خصوصاً في ظلّ انعدام الأرضية اللازمة للأطفال ليعبّروا عن مخاوفهم وهواجسهم ومشاعرهم. كما سُجّل ارتفاع في معدلات محاولات الإنتحار، ما يتطلّب التدخّل الطارئ من قسم الصحة النفسية في "أطباء بلا حدود".
ما الذي يحتاجه الوطن العربي على مستوى الرعاية في مجال الصحة النفسية في مواجهة الكوارث والأزمات؟
تتحرّك معظم الدول في العالم العربي في هذا المجال عبر إنشاء آلية منظّمة وممنهجة لمواجهة الأزمات ولتلبية مختلف الحاجات المرتبطة بالصحة النفسية. وتتجّه الأمور في ذلك نحو القيام بخطوات لنشر الوعي ومحاربة الأفكار المسبقة المرتبطة بطلب المساعدة في مجال الصحة النفسية، إضافة إلى تسهيل الوصول إلى مختلف الخدمات المرتبطة بالصحة النفسية عبر طرق وأدوات عدة كاستخدام التطبيقات التابعة للنظام الصحي مثلاً. تُعتبر التوعية خطوة أساسية لتحقيق الهدف في هذا المجال، والمساهمة في تعزيز فكرة قبول المساعدة وصولاً إلى مرحلة طلبها.
هل من زيادة في معدّلات الانتحار؟
يجيب دافيد موساردو، "للأسف، ثمة زيادة، ولو بسيطة في معدّلات الانتحار في دول عدة. ولا يزال الانتحار من المواضيع التي هناك صعوبة في التحدث فيها، ما يزيد من صعوبة الحصول على أرقام دقيقة تعكس الواقع حوله. في كل الحالات، قسم الصحة النفسية لدينا في جهوزية تامة لتلبية هذا النوع من الاحتياجات، وفريقنا مدرّب على القيام بذلك من دون إطلاق الأحكام. هو جاهز دوماً لتقديم الدعم ونشر الوعي حول هذا الموضوع".