هنري زغيب
لم أَكُن مرةً مُعجبًا بالبيكاسو الذي يملأُ اسمه الأَوساط في العالم، لكنه لم يملأْ مرة قناعتي. لا لأَن مجهولاتي واسعة في الفن التشكيلي، بل لأَنني كقارئ لوحة عادي، لا أَستحسن طريقته "التشويهية" في رسم الأَشخاص والمناظر، وخصوصًا رسمه المرأَة منفردة، أَو النساء مجتمعات في اللوحة. ومع أَن لوحاته باتت خارج الكوتا من حيث قيمتها المادية، فلستُ مدهوشًا بأَيٍّ منها، وما فيها من خطوط عوجاء وملامح عوراء وتنويعات عرجاء. لا أَفهم ذلك، مع أَنه في مطالعه من أَبرع من رسم وجهًا في ملامح دقيقة مذهلة التفاصيل.
في هذا المقال نموذج من مزاجيته التي جعلتْه يرسم زوجته بأَجمل ريشة، وحين طلَّقها رسمها بطريقة شوهاء.
الزوجة الأُولى
هي المرأَة ذاتها جالسة إِلى مقعد ذي زند. في اللوحة الأُولى (1918) تبدو جميلة بجميع الملامح، في يدها مروحة وذات نظرة عميقة، تائهة التفكير، على مسحة من حزن عميق. وفي اللوحة الأُخرى (1927) تشوَّهت جسدًا وملامحَ حتى لتتداخل الخطوط بشكل عشوائي مقصود، رأْسها مخلوع إِلى الخلف، وتحمل ضرسها في كفها، حتى لهي مخلوق عجيب غريب وبشع. إِنه التناقض الفاقع في رسم المرأَة ذاتها، وهي زوجته الأُولى أُولغا خوخلوفا (1891-1955)، راقصة الباليه الأُوكرانية التي كانت عضوًا في فرقة الباليه الروسية. وهي كانت زوجته بين 1918 و1935.
كان يتبجح بأَنه يرسم كمن يكتب سيرته الذاتية. وهو كان يكسّر علاقاته النسائية بكل فظاظة: عشيقته الأُولى فرناند أُوليفييه (1881-1966) تركها محطَّمة الأَعصاب والشخصية، وزوجته الأُولى أولغا خوخلوفا تركتْه بمعانَيَات وهلْوَسة مَرَضيَّة، وعشيقته ماري تريز والتر انتهت حياتها بالانتحار.
جذوره النفسية المضطربة
علاقاته النسائية كانت دومًا جدلية، مفاجئة، غير مفهومة، وقد تكون تلك ترددات من طفولته ونشْأَته منذ القرن التاسع عشر (ولد سنة 1881) في بيئة ذكورية قاسية، لذا بدأَ منذ يفاعته يعاشر العاهرات بدون هوادة. ولا يغيب عن البال أَنه نشأَ في منطقة تشهد صراع الثيران المتوحش وما فيه من اضطراب وعُنف وأَخطار.
التقى أُولغا سنة 1917 إِذ طُلِبَ منه أَن يصمم ديكور مسرحية باليه لتقديمها على المسرح. كانت في السادسة والعشرين، وكان في السادسة والثلاثين. تزوَّجا سنة 1918 وعاشا معًا في باريس وأَنجبا سنة 1921 ولدًا وحيدًا. كان أَهلها في روسيا إِبان الثورة الروسية وكانت بعيدة عنهم ولا قدرة لها على الاتصال بهم. من هنا مسحة الحزن على ملامحها في اللوحة التي رسمها لها سنة 1918.
قبل هذه اللوحة، كان بيكاسو بدأَ يشتهر كأَحد مؤَسسي الفن التكعيبي فترتئذٍ، وهو تيار تشكيلي يجعل الملامح في اللوحة مُجزَّأَةً في أَشكال هندسية غريبة غالبًا وغير متناسقة. غير أَنه لم يكن اتّباعيًّا عاديًّا بل كان دومًا يحاول أَن يكون متمايزًا ولو على غرابة، وهو ما انعكس كذلك على علاقاته الشخصية.
لوحاته وفق حالاته معهُنّ
كان يرسمُ المرأَة وفق حالة علاقته بها رضًى أَو خلافًا، فتكون هادئة هانئة جميلة في الحالة الأُولى وتكون مشوَّهة مفكَّكة بشعة في الحالة الأَخيرة.
سنة 1927 التقى عشيقته ماري تريز والتر (1909-1977) وكانت علاقتُه الزوجية بأُولغا بدأت تهتز. كانت ماري تريز تلميذةً في السابعة عشرة، وكان يكبرها بثلاثين سنة.
وفي اللوحة الثانية (1927) تبدو ملامح القلق والقرف على شكل أُولغا بعد انكسار علاقتهما الزوجية وغضبه عليها وانتقامه منها بتشويه صورتها في هذه اللوحة البشعة التي شاءها مفكَّكة الجسد مشوَّهة كأَنها معاقة مشلولة معطلة الأَعضاء والملامح، إذ هي كانت بدأَت تهدده بالانفصال عنه.
انفصال من دون الطلاق
سنة 1935 انفصلا، وكانت ماري تريز في أَول حمْلها بجنين من بيكاسو. مع ذلك رفضت أُولغا أن تطلقه وبقيَت زوجته الشرعية حتى وفاتها سنة 1955. وكان مؤْلِمًا نفسيًّا لها أَن ترى ماري تريز تشاركه محترفه ومسيرته الفنية.
لكنه لا يكتفي. كان شبِقًا بشكل مَرَضيَ. فبعدما أَخرجَ ماري تريز من حياته، ارتبط بعلاقات حميمة مع عشيقات أُخرَيات رسمهنَّ كذلك وفق مزاج حالته معهن، منهن: دُورا مار (1907-1997) وفرنسواز جيلو (1921-2023) وزوجته الثانية جاكلين روك (1927-1986) التي انتحرت بعد وفاته.
حين تُوفي (1973) كان علَمًا عالَميًّا هزَّت وفاتُه العالَم الفني التشكيلي، ساعد على ذلك ما عملَ عليه هو بجعل شخصيته أُسطورية ذات تناقضات غريبة ومفاجئة: قد يكون مرة حنونًا ومرة فظًّا بقسوة. وهذه القسوة تجلَّت بوضوح في علاقته مع عشيقته الأُولى فرناند أُوليفييه التي هدَّتْها مزاجيته الصعبة وتصرفاته الفظَّة المفاجئة. من ذلك مثلًا أَنه كان على وفاق عاطفي دمث معها، حتى إِذا غضب منها انقلب فظًّا متوحشًا فحجَر عليها في غرفتها وأَقفل الباب وأَبقى المفتاح معه ساعات طويلة.
المرأَة من "ممتلكاته"
اليوم قد يبدو ذلك غريبًا، لكن المرأَة عهدئذ في عُرف بيكاسو كانت من "الممتلكات"، يتصرف بها كما يتصرف بلوحته ومزاجه في الرسم، حتى أَن هذا المزاج طبَعَ شهرته وتصرفاته وشخصيته، من هنا قول ابنته (من فرنسواز جيلو): "كان أَبي عصبيًّا مزاجيًّا لا يمكن إِلغاؤُه كمبدع، مرةً يكون هادئًا وأُخرى بركانيًّا. وهو لا يلام. كان إِنسانًا بكل ما يحمل الإِنسان من تناقضات".
لم أَكُن مرةً مُعجبًا بالبيكاسو الذي يملأُ اسمه الأَوساط في العالم، لكنه لم يملأْ مرة قناعتي. لا لأَن مجهولاتي واسعة في الفن التشكيلي، بل لأَنني كقارئ لوحة عادي، لا أَستحسن طريقته "التشويهية" في رسم الأَشخاص والمناظر، وخصوصًا رسمه المرأَة منفردة، أَو النساء مجتمعات في اللوحة. ومع أَن لوحاته باتت خارج الكوتا من حيث قيمتها المادية، فلستُ مدهوشًا بأَيٍّ منها، وما فيها من خطوط عوجاء وملامح عوراء وتنويعات عرجاء. لا أَفهم ذلك، مع أَنه في مطالعه من أَبرع من رسم وجهًا في ملامح دقيقة مذهلة التفاصيل.
في هذا المقال نموذج من مزاجيته التي جعلتْه يرسم زوجته بأَجمل ريشة، وحين طلَّقها رسمها بطريقة شوهاء.
الزوجة الأُولى
هي المرأَة ذاتها جالسة إِلى مقعد ذي زند. في اللوحة الأُولى (1918) تبدو جميلة بجميع الملامح، في يدها مروحة وذات نظرة عميقة، تائهة التفكير، على مسحة من حزن عميق. وفي اللوحة الأُخرى (1927) تشوَّهت جسدًا وملامحَ حتى لتتداخل الخطوط بشكل عشوائي مقصود، رأْسها مخلوع إِلى الخلف، وتحمل ضرسها في كفها، حتى لهي مخلوق عجيب غريب وبشع. إِنه التناقض الفاقع في رسم المرأَة ذاتها، وهي زوجته الأُولى أُولغا خوخلوفا (1891-1955)، راقصة الباليه الأُوكرانية التي كانت عضوًا في فرقة الباليه الروسية. وهي كانت زوجته بين 1918 و1935.
كان يتبجح بأَنه يرسم كمن يكتب سيرته الذاتية. وهو كان يكسّر علاقاته النسائية بكل فظاظة: عشيقته الأُولى فرناند أُوليفييه (1881-1966) تركها محطَّمة الأَعصاب والشخصية، وزوجته الأُولى أولغا خوخلوفا تركتْه بمعانَيَات وهلْوَسة مَرَضيَّة، وعشيقته ماري تريز والتر انتهت حياتها بالانتحار.
جذوره النفسية المضطربة
علاقاته النسائية كانت دومًا جدلية، مفاجئة، غير مفهومة، وقد تكون تلك ترددات من طفولته ونشْأَته منذ القرن التاسع عشر (ولد سنة 1881) في بيئة ذكورية قاسية، لذا بدأَ منذ يفاعته يعاشر العاهرات بدون هوادة. ولا يغيب عن البال أَنه نشأَ في منطقة تشهد صراع الثيران المتوحش وما فيه من اضطراب وعُنف وأَخطار.
التقى أُولغا سنة 1917 إِذ طُلِبَ منه أَن يصمم ديكور مسرحية باليه لتقديمها على المسرح. كانت في السادسة والعشرين، وكان في السادسة والثلاثين. تزوَّجا سنة 1918 وعاشا معًا في باريس وأَنجبا سنة 1921 ولدًا وحيدًا. كان أَهلها في روسيا إِبان الثورة الروسية وكانت بعيدة عنهم ولا قدرة لها على الاتصال بهم. من هنا مسحة الحزن على ملامحها في اللوحة التي رسمها لها سنة 1918.
قبل هذه اللوحة، كان بيكاسو بدأَ يشتهر كأَحد مؤَسسي الفن التكعيبي فترتئذٍ، وهو تيار تشكيلي يجعل الملامح في اللوحة مُجزَّأَةً في أَشكال هندسية غريبة غالبًا وغير متناسقة. غير أَنه لم يكن اتّباعيًّا عاديًّا بل كان دومًا يحاول أَن يكون متمايزًا ولو على غرابة، وهو ما انعكس كذلك على علاقاته الشخصية.
لوحاته وفق حالاته معهُنّ
كان يرسمُ المرأَة وفق حالة علاقته بها رضًى أَو خلافًا، فتكون هادئة هانئة جميلة في الحالة الأُولى وتكون مشوَّهة مفكَّكة بشعة في الحالة الأَخيرة.
سنة 1927 التقى عشيقته ماري تريز والتر (1909-1977) وكانت علاقتُه الزوجية بأُولغا بدأت تهتز. كانت ماري تريز تلميذةً في السابعة عشرة، وكان يكبرها بثلاثين سنة.
وفي اللوحة الثانية (1927) تبدو ملامح القلق والقرف على شكل أُولغا بعد انكسار علاقتهما الزوجية وغضبه عليها وانتقامه منها بتشويه صورتها في هذه اللوحة البشعة التي شاءها مفكَّكة الجسد مشوَّهة كأَنها معاقة مشلولة معطلة الأَعضاء والملامح، إذ هي كانت بدأَت تهدده بالانفصال عنه.
انفصال من دون الطلاق
سنة 1935 انفصلا، وكانت ماري تريز في أَول حمْلها بجنين من بيكاسو. مع ذلك رفضت أُولغا أن تطلقه وبقيَت زوجته الشرعية حتى وفاتها سنة 1955. وكان مؤْلِمًا نفسيًّا لها أَن ترى ماري تريز تشاركه محترفه ومسيرته الفنية.
لكنه لا يكتفي. كان شبِقًا بشكل مَرَضيَ. فبعدما أَخرجَ ماري تريز من حياته، ارتبط بعلاقات حميمة مع عشيقات أُخرَيات رسمهنَّ كذلك وفق مزاج حالته معهن، منهن: دُورا مار (1907-1997) وفرنسواز جيلو (1921-2023) وزوجته الثانية جاكلين روك (1927-1986) التي انتحرت بعد وفاته.
حين تُوفي (1973) كان علَمًا عالَميًّا هزَّت وفاتُه العالَم الفني التشكيلي، ساعد على ذلك ما عملَ عليه هو بجعل شخصيته أُسطورية ذات تناقضات غريبة ومفاجئة: قد يكون مرة حنونًا ومرة فظًّا بقسوة. وهذه القسوة تجلَّت بوضوح في علاقته مع عشيقته الأُولى فرناند أُوليفييه التي هدَّتْها مزاجيته الصعبة وتصرفاته الفظَّة المفاجئة. من ذلك مثلًا أَنه كان على وفاق عاطفي دمث معها، حتى إِذا غضب منها انقلب فظًّا متوحشًا فحجَر عليها في غرفتها وأَقفل الباب وأَبقى المفتاح معه ساعات طويلة.
المرأَة من "ممتلكاته"
اليوم قد يبدو ذلك غريبًا، لكن المرأَة عهدئذ في عُرف بيكاسو كانت من "الممتلكات"، يتصرف بها كما يتصرف بلوحته ومزاجه في الرسم، حتى أَن هذا المزاج طبَعَ شهرته وتصرفاته وشخصيته، من هنا قول ابنته (من فرنسواز جيلو): "كان أَبي عصبيًّا مزاجيًّا لا يمكن إِلغاؤُه كمبدع، مرةً يكون هادئًا وأُخرى بركانيًّا. وهو لا يلام. كان إِنسانًا بكل ما يحمل الإِنسان من تناقضات".