دراسة تفصيلية لمبنى من العهد السلجوقي
بیمارستان نور الدين في دمشق
اخترنا البيمارستان النوري في دمشق كنموذج كامل يمثل فن العمارة السلجوقي من حيث مخططه وطراز عمارته وعناصره المعمارية والزخرفية فضلا عن ذلك فانه ما زال يحافظ على وضعه الاصيل . ويعتبر هذا المبنى من أهم المباني التاريخية في دمشق .
يقع البيمارستان في قلب المدينة القديمة، على مسافة غير بعيدة من الجامع الاموي ، الى الجنوب الغربي منه .
وهو أحد ثلاثة بيمارستانات شيدت في دمشق (۱) . الاول بني قبله وكان يعرف بالبيمارستان الدقاقي ، ثم سمي بالعتيق بعد بناء بیمارستان نور الدین ، ظل حافلا يؤدي وظيفته الى ما بعد القرن الثامن الهجري ، وجرى تجديده واحياؤه في عام ٧٦٤ / ١٣٦٢ . اما البيمارستان الثالث فهو البيمارستان القيمري ، بني في الصالحية قبيل عام ٦٥٤ / ١٢٥٦ وسيأتي الحديث عنه في الفصل الخاص بالعمارة الايوبية .
كان البيمارستان النوري مستشفى من جهة يعالج المرضى ويأوي من يحتاج منهم الى ايواء ، ويقدم العلاج والادوية (۱) ، وفيه جناح للأمراض العقلية . وكان من جهة ثانية مدرسة للطب تلقى فيه الدروس على التلاميذ .
و كان البيمارستان النوري موضع عناية في كل العهود وله أوقاف و ناظر خاص به واستمر يقوم بوظيفته حتى مطلع هذا القرن، أي حين شيد مستشفى الغربا بدمشق ، الذي يعرف اليوم بمستشفى الجامعة سنة ١٩٠٠ .
ولقد زار ابن جبير في القرن الثاني عشر الميلادي بيمارستان نور الدين وأعجب به ووصف المهمة التي يؤديها وقال بأنه مفخر عظيم من مفاخر الاسلام . ومن جملة ما قاله :
الاطباء يبكرون اليه في كل يوم ويتفقدون المرضى ويأمرون باعداد ما يصلحهم من الادوية والاغذية حسبما يليق بكل انسان منهم وللمجانين المعتقلين أيضا ضرب من العلاج وهم في سلاسل موثقون ) .
وقد بني البيمارستان النوري على مرحلتين : الاولى وتضم البناء الاساسي في عهد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي (۲) في حوالي عام ١١٥٤/٥٤٩ . والثانية حين وسعه الطبيب بدر الدين ابن قاضي بعلبك (١) سنة ٦٣٧ه وأضاف اليه دورا كانت حوله ليتسع الى عدد أكبر من المرضى. ثم قام بترميمه الظاهر بيبرس ثم السلطانان قلاوون وابنه الناصر محمد في أواخر القرن السابع الهجري ( ١٣ ميلادي ) كما تشير الكتابات المنقوشة عليه. لقد بقي القسم الرئيسي من البيمارستان على وضعه الاصلي ، وهو الذي يهمنا من الناحية المعمارية كنموذج لفن العمارة السلجوقي .
المخطط :
يتألف البيمارستان من باحة سماوية أطوالها ( ۲۰ × ١٥ مترا ) ، تتوسطها بركة ماء مستطيلة أطوالها ( ٨,٥٧ مترا ) ، وهي مبنية بالحجر المنحوت. لزواياها من الداخل حنايا نصف اسطوانية كعنصر زخرفي شاع في العهدين السلجوقي والايوبي .
وتحيط بالباحة أبنية يتوسطها في كل جهة ايوان وعلى جانبيه غرفتان . وهذه الغرف بعضها مربع والبعض مستطيل ، وكلها مسقوفة بالعقود المتقاطعة .
مدخل البيمارستان :
المبنى خال من الواجهات المتقنة باستثناء الباب ، وهو مفتوح في الواجهة الغربية له مصراعان من الخشب مصفحان بالنحاس ، ومزخرفان بالمسامير النحاسية الموزعة على أشكال هندسية ، كتب بها في الاعلى سطر بالخط النسخي ، وعلى كل من المصراعين مطرقة نحاسية ، جميلة والمصراعان مزخرفان من الخلف بالحشوات الخشبية المنقوشة بالزخارف النباتية .
وللباب ساكف مؤلف من حجر واحد منقول من بناء قديم يرجع الى العهد الروماني . ويعلو الباب واجهة من الزخارف الجصية من عصر نور الدين تتألف من صف من المحاريب ذات الاقواس المفصصة. رأينا هذا النصر الزخرفي مستخدما في المباني الاموية ( قصر الحير الغربي ) ويعلو الاقواس مقرنصات دقيقة الصنع تنتهي في الأعلى بالصدفة .
يلي الباب غرفة مربعة (٥×٥مترا )تقوم مقام الدهليز كان يطلق عليها بلغة ذلك العصر «الدركاه وتقع بين البابين الخارجي والداخلي، وتعتبر هذه الغرفة من أجمل غرف البناء عناية وزخرفة . مزودة بايوانين صغيرين في جانبيها الشمالي والجنوبي ، مسقوفين بعقد مزين بزخارف تشابه زخارف الباب المار ذكرها ( أقواس ومقرنصات جصية ) . وعلى جدران الغرفة أشرطة كتابية وزخارف تشير الى اعمال الاصلاح التي تمت في العهد المملوكي .
ويعلو القاعة قبة عالية تغطيها المقرنصات من الداخل والخارج، وهذه المقرنصات الخارجية تجعلها مع قبة تربة نور الدين نموذجاً فريدا في العمائر السورية .
الأواوين :
الايوان الغربي. ويأتي في نهاية المدخل الرئيسي للبيمارستان ويعلوه عقد مدبب ، من النوع المخموس ، وفي داخله زخارف من المقرنصات . وفي جداريه الجنوبي والشمالي بابان صغيران يؤديان الى قاعتين مستطيلتين تعتبران من القاعات الرئيسية في البيمارستان ، ويعلو كلا من البابين قوس مدبب من النوع المتجاوز (۱) .
ولهاتين الغرفتين باب آخر على الصحن ، مستطيل يعلوه منور على شكل شبك من الجص مزخرف بالخيوط المتداخلة والاشكال النجمية ومحاط باطار جميل من الاوراق النباتية . وهكذا كل أبواب الغرف المفتوحة في الواجهات الداخلية على صحن البيمارستان . (انظر الصورة رقم ٢٥) .
اهم ما في الايوان الجنوبي كسوته الرخامية الرائعة . وتتألف من محراب مسطح في صدره لوح رخامي ، منقوش بالزخارف النباتية وله اطار تزينه النقوش ويحيط به قوس فقراته من الرخام الملون بالتناوب محمول على سويريتين من الرخام نحتت عليه اقنية حلزونية ، ويعلوهما تاجان من النوع الكورانتي المتطور . ويملأ الزوايا الناشئة عن الفراغ الحادث بين عقد المحراب والمستطيل فسيفساء رخامية من النوع المعروف ( بالمشقف ) . تعتبر استخداما مبكرا لهذا النوع من الفسيفساء في العمارة العربية . ويحيط بهذه الوزرة الرخامية في الاعلى شريط من حجارة سماقية اللون منقوشة بالزخارف ، يتوسطها حجر نقشت عليه زنبقة ضمن دائرة ، تعتبر شعاراً لنور الدين ( رنك ) ، ويشاهد في أكثر المباني التي شيدت في عهده ( الصورة رقم ٢٦ ) .
أما الايوان الشرقي فهو أكبر الأواوين ، أطواله ( ۸×٧,٥ مترا ) و كان مخصصا لعقد جلسات الاطباء والقاء المحاضرات (۱) وكان في صدر الايوان خزانتان جداریتان ظهرت معالمهما عند ترميم البيمارستان وقد ذكرهما طبيب معاصر وقال بأنهما كانتا مملوأتين بكتب الطب التي أوقفها نور الدين على البيمارستان وكان يتصل الايوان بالغرفتين المجاورتين له ببابين مسدودين حاليا ، حول أحدهما الى محراب .
تعليق