تاريخ القدس
القدس هي المدينة التي يقدسها أتباع الديانات الثلاث، المسلمون واليهود والنصارى، تتجلّى أحداثها التاريخية في الأسماء المتعددة التي أطلقت عليها عبر العصور.
أقدم اسم معروف لها هو «أورشليم» نسبة إلى الإله شالم أي إله السلام لدى الكنعانيين، ووردت باسم «روشاليموم» في الكتابات المصرية المعروفة بنصوص اللعنة التي يرجع تاريخها إلى القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد، وتذكر أسماء ملوك كنعانيين وعموريين من خصوم المصريين كانوا يحكمون دولة المدينة أورشليم.
وفي التوراة وردت كلمة أورشليم، التي تلفظ بالعبرية «يروشالايم» مرات كثيرة، وهذه الكلمة مشتقة من التسمية الكنعانية الأصلية، وتطلق التوراة على المدينة أسماء أخرى كثيرة هي شاليم، ومدينة الله، ومدينة العدل، ومدينة السلام، وتذكر أحياناً باسم يبوس أو مدينة اليبوسيين، نسبة إلى اليبوسيين من بطون العرب الأوائل في الجزيرة العربية، وهم سكان القدس الأصليون، نزحوا من جزيرة العرب مع من نزح من القبائل الكنعانية نحو 2500ق.م، واحتلوا التلال الشرقية المشرفة على المدينة القديمة، وبنى اليبوسيون قلعة حصينة على الرابية الجنوبية الشرقية من يبوس سميت يبوس التي تعد أقدم بناء في مدينة القدس.
بقي حصن يبوس بيد اليبوسيين الكنعانيين حتى عهد الملك (النبي) داود الذي اتخذ أورشليم عاصمة له، وأطلق على الحصن اسم مدينة داود، وكان أكثر سكان المدينة في عهده من اليبوسيين والكنعانيين والعموريين، وازدهرت المدينة في عهد خليفته الملك (النبي) سليمان الذي شيّد الهيكل بمساعدة المعماريين الفينيقيين.
استمرت سيطرة اليهود على أورشليم من عهد داود نحو سنة 1000ق.م إلى أن فتحها نبوخذ نصر سنة 586ق.م، ودمّرها، ونقل السكان إلى بابل، فلما استولى الفرس على سورية وفلسطين سمح الملك قورش سنة 538ق.م لمن أراد من الأسرى العودة بالرجوع إلى أورشليم. وإعادة بناء الهيكل.
بقيت البلاد تحت الحكم الفارسي إلى أن فتحها الإسكندر المقدوني سنة 332ق.م، وتأرجحت السلطة على أورشليم في عهد خلفائه بين البطالمة والسلوقيين، وتأثر السكان في هذا العهد الهلنستي بالحضارة الإغريقية، وحاول الملك السلوقي أنطيوخوس الرابع نحو سنة 165ق.م نشر الديانة الوثنية اليونانية، وأمر بنصب تمثال للإله زيوس في الهيكل اليهودي، فاندلعت ثورة المكابيين، ونجح اليهود في الاستيلاء على أورشليم تحت حكم الحسمونيين سنة 135ق.م.
في سنة 62ق.م دخل القائد الروماني بومبيوس[ر] أورشليم، وسمح الرومان لليهود بشيء من الحكم الذاتي، ونصبوا سنة 37ق.م هيرودس الأدومي الذي اعتنق اليهودية ملكاً على الجليل وبلاد يهوذا، وظل يحكمها باسم الرومان حتى السنة الرابعة قبل الميلاد، وفي عهد الامبراطور نيرون (54ـ68م) بدأت ثورة اليهود على الرومان، فاحتل القائد تيتوس أورشليم سنة 70م، وحرق الهيكل، وفتك باليهود ولما قامت ثورة اليهود من جديد سنة 132م أسرع الامبراطور هادريانوس (117ـ138م) Hadrianus إلى إخمادها سنة 135م، وخرّب أورشليم، وأسس مكانها مستعمرة رومانية يحرّم على اليهود دخولها، أطلق عليها اسم إيليا كابيتولينا. وأطلق على منطقة يهوذا اسم Syria Palaestina، وانتهى الوجود اليهودي فيها، وبعد انتشار المسيحية في العهد البيزنطي بنيت الكنائس والأديرة، واصطبغت المدينة بالطابع المسيحي.
حينما بدأت الفتوحات العربية، كانت بلاد الشام بما فيها فلسطين قد عادت للسيطرة البيزنطية بعد أن استولى عليها الفرس مدة تزيد على العقدين من السنين، واستطاع الامبراطور هرقل أن يستعيد الصليب الأعظم من الفرس وأن يعيده إلى بيت المقدس.
لم يهنأ الروم طويلاً بانتصارهم، فقد استطاعت الجيوش العربية الإسلامية أن تحرر بلاد الشام من سيطرة البيزنطيين ما بين سنة 13ـ19هـ/634ـ640م، واختلفت الروايات حول السنة التي تمّ فيها فتح بيت المقدس، ولكن الأرجح أنها فتحت سنة 17هـ، بعد حصار دام أشهراً، وبعد أن طلب أهل بيت المقدس من أبي عبيدة الجراحt أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشام، وأن يكون المتولي لعقد الصلح هو الخليفة عمر بن الخطابt، وجاء عمر، وتسلم مفاتيح بيت المقدس وأعطى أهلها أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم... ولا يكرهون على دينهم... ولا يسكن بإيلياء أحد من اليهود، وعليهم أن يخرجوا منها الروم، فمن خرج فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم؛ فإنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم حتى يبلغوا مأمنهم، وقد رفض الخليفة عمر أن يصلي في كنيسة القيامة؛ لئلا تتخذ صلاته سابقة لمن يأتي بعده، وبنى مسجداً بسيطاً في الزاوية الجنوبية من ساحة الحرم، وهذا ما يؤكده شاهد عيان زار القدس سنة 50هـ/670م.
يلاحظ من دراسة النصوص الواردة لدى ابن سعد (ت230هـ) في طبقاته والبلاذري (ت 279هـ) في فتوحه، والطبري (ت310هـ) في تاريخه وغيرها من المؤلفات أن اسم إيلياء أو بيت المقدس هي التسمية المستخدمة للدلالة على مدينة القدس، حتى إن المطهّر بن طاهر المعروف بالمقدسي الذي صنف كتابه «البدء والتاريخ» نحو سنة 355هـ؛ لايستخدم اسم القدس سوى مرة واحدة. أما المُقَدَّسي (نسبة إلى البيت المقدّس) فإنه لايستخدم في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» الذي ألفه سنة 375هـ إلا اسم إيلياء أو بيت المقدس، ويرى الباحثون أن السكان المحليين الذين كانوا يتكلمون الآرامية هم الذين كانوا يستخدمون اسم القدس؛ لأن القدس في الآرامية هي قُدشا Kudsha.
احتلت مدينة القدس في الدعوة الإسلامية منذ البداية مكاناً مهماً، فقد كانت قبلة الإسلام الأولى، وإليها كان إسراء النبيr، وقد أظهر الأمويون إجلالهم وتقديرهم لقدسية القدس، فقد أمر عبد الملك سنة 72هـ، ببناء قبة الصخرة، ويذكر المقدسي أن عبد الملك لما رأى عظم كنيسة القيامة وهيئتها خشي أن تعظم في قلوب المسلمين فبنى قبة الصخرة، كما أمر ببناء المسجد الأقصى الذي تم بناؤه في خلافة الوليد بن عبد الملك، واكتشفت نقوش معاصرة لعبد الملك بن مروان بالقرب من بيت المقدس تشير إلى أوامره بصنع الأميال(أحجار المسافات) وبعمارة أربع طرق تخرج من إيلياء ومن دمشق، وتوحي الأساسات المتعددة للأبنية الأموية التي اكتشفت في الجنوب والجنوب الغربي من المسجد الأقصى خلال الحفريات التي تمت ما بين سنة 1976و1986 بأن المسلمين ربما أرادوا اتخاذ بيت المقدس مركزاً إدارياً لجند فلسطين، ولكن نظراً لعدم وجود ما يؤيد هذا الافتراض في المصادر التاريخية فإن الباحث لا يستطيع أن يعلل أسباب عدم إحرازها هذه المكانة، ولاسيما أن سليمان بن عبد الملك في أثناء ولايته جند فلسطين في خلافة أخيه الوليد (86ـ96هـ) بنى مدينة الرملة ومصرها، واختط مسجدها، فصارت القصبة عوضاً عن اللد.
دخل إقليم الشام ـ بما في ذلك جند فلسطين ـ في نطاق الدولة العباسية إثر هزيمة مروان بن محمد في معركة الزاب ومقتله في بوصير من أرض مصر سنة 132هـ. وفي سنة 140هـ/758م زار الخليفة العباسي المنصور بيت المقدس، وصلىّ في مسجدها، وزارها ثانية في أثناء مرافقة الجيش الذي أرسله للقضاء على الثورة في المغرب، وزار المهدي بيت المقدس مع عدد من أفراد البيت العباسي سنة 163هـ، وأمر أن يعاد بناء المسجد الأقصى الذي كان قد تهدّم نتيجة لزلزال سنة 131هـ وكان للمسجد الذي أعيد بناؤه سنة 164هـ/780م سبعة أجنحة إلى شرقي جناح المحراب وسبعة إلى غربيه، أما الرشيد فعلى الرغم من أنه كان يغزو سنة، ويحج سنة، فإنه ليس هناك ذكر بأنه زار بيت المقدس.
لم يكن لبيت المقدس دور سياسي في الفترة التي سيطر فيها الطولونيون والإخشيديون على جند فلسطين، إلا أن المفاهيم حول مكانتها الدينية اتخذت اتجاهاً جديداً، فالقول إنها أرض المحشر وجد صدى في نفوس الناس، وهذا ما دفع كثيرين إلى الإقامة في بيت المقدس؛ لكي يدفنوا فيها، كما يلاحظ أن بعض الشخصيات دفنت في بيت المقدس مع أن وفاتهم لم تكن فيها، فمحمد بن طغج مؤسس السلالة الإخشيدية توفي في دمشق سنة 334هـ/936م، ولكنه دفن كما دفن عدد من أفراد أسرته بما في ذلك كافور في بيت المقدس، واستمر هذا المفهوم، فناصر خسرو الذي زار القدس سنة 437هـ يذكر أنه بعد الجامع سهل كبير، مستو يسمى السّاهرة، يقال: إنه سيكون ساحة القيامة والحشر؛ ولهذا يحضر إليه خلق كثير من أطراف العالم ويقيمون به حتى يموتوا، فإذا جاء وعد الله كانوا بأرض المعياد.
في منتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي تقريباً، بدأت مدينة القدس تأخذ مكانة الرملة كأهم مركز إداري في فلسطين، فقد تأثرت الرملة بالزلازل التي أصابت المنطقة سنة 425هـ، فانهدم من الرملة ثلثها، أما زلزال سنة 460هـ/1068م فقد أهلك الرملة، ولم يسلم منها إلا داران كما يذكر ابن كثير، وهلك منها خمسة عشر ألف نسمة، وكانت الرملة قد تأثرت أيضاً بالنهب والسلب اللذين تعرضت لهما نتيجة لغزوات البدو، وكان من الأسهل الدفاع عن القدس المشيدة على قمة جبل من مدينة الرملة الواقعة في أرض سهلية، وأجبرت جرأة بني الجرّاح والقبائل البدوية الفاطميين ـ الذين كانوا قد استولوا على فلسطين والأردن سنة 358هـ ـ على دعم أسوار القدس سنة 425 و455هـ، وفي الثلث الأخير من القرن الخامس الهجري أصبحت مدينة القدس ـ وليس الرملة ـ مركز الأحداث السياسية.
في سنة 471هـ استولى تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان على دمشق، ودخلت القدس ضمن الإمبراطورية السلجوقية التي امتدت من كشغر إلى القدس، وفي سنة 489هـ استعاد الوزير الفاطمي بيت المقدس بعد حصار دام أربعين يوماً، وكانت القدس بأيدي الفاطميين حينما توجهت الحشود الصليبية، فاستولت على المدينة سنة 492هـ/1099م.
كان أهم صفة مميزة للحياة في القدس هو ما يذكره المقدسي بأنها لا تخلو يوماً من غريب، فكان الحجاج يؤمونها من كل المناطق، كما أن كثيرين من المسلمين الذين كانوا يتوجهون إلى مكة كانوا يحرمون في القدس، وكان كثير من يهود الأندلس والمغرب يأتون إلى القدس زواراً أو حجاجاً في الأيام المحددة لهم للحج إضافة إلى الحجاج المسيحيين الذين كانوا يتوافدون إليها، ويتحدث لامبرت هرسفيلد Lambert Hersfeld عن قافلة الحجاج التي وصلت إلى القدس سنة 458هـ/1056م والتي تألفت من 12ألف حاج من جنوبي ألمانيا وهولندا، وهذا دليل ساطع على روح التسامح لدى المسلمين تجاه أهل الكتاب.
تغيرت هذه الصورة بعد استيلاء الفرنج الصليبيين على بيت المقدس، فقد تحولت المدينة إلى مدينة مسيحية، ومنع المسلمون من إقامة شعائرهم الدينية، وتحولت المساجد إلى كنائس أو أبنية للأخويات الكنسية والعسكرية وأصبح معظم سكان القدس من الأوربيين، ولا سيما من الفرنسيين إضافة إلى مجموعات من الإسبان والألمان والهنغار الذين كانوا يعيشون في أحياء خاصة حول كنائسهم ومؤسساتهم العامة.
حرر صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس بعد92سنة من سقوطها في أيدي الصليبيين سنة 492هـ، وسلمت المدينة إليه يوم الجمعة 27رجب سنة 583هـ، ودخلها المسلمون بعد توقيع اتفاقية التسليم، وشاءت الأقدار أن وافى دخولهم بيت المقدس ليلة الإسراء والمعراج، وتقدم صلاح الدين، وتسلم حامية المدينة، وظهرت الأعلام الصفراء شعار الأيوبيين المنتصرين على أسوار مدينة القدس.
عمد صلاح الدين إلى إزالة التغيرات التي أحدثت بعد احتلال المدينة من قبل الصليبيين، ومن ذلك كشف الجدار الساتر لمحراب المسجد الأقصى الذي كان الصليبيون قد بنوه في وجه المحراب، كما أعاد نصب المنبر في المسجد الأقصى، وأمر بفرش الجامع بالبسط النفيسة، كما أضاء المسجد بالقناديل، ورتب من يقوم بوظائف الخطبة والإمامة، ورتب في قبة الصخرة إماماً، وأوقف عليها داراً وأرضاً وبستاناً، وأمر بفتح المدارس في القدس لتدريس الفقه على المذهب الشافعي، ورتب لكل المساجد القومة والمؤذنين.
في شعبان سنة 589 هـ تُوفِّي صلاح الدين الذي حقق النصر على الصليبيين في حطين[ر]، وحرر القدس ومناطق وجود الصليبيين الأخرى المنتشرة في الشام، ولكن الصراع استمر، وتوالت الحملات الصليبية محاولة استرداد بيت المقدس، وإذا كان الكامل بن العادل الأيوبي قد سلم بيت المقدس سنة 627هـ/1229م لفردريك الثاني نتيجة لاستعطافه، فإن هذا العمل أثار موجة عارمة من السخط والأسى في العالم الإسلامي، كما قابل الصليبيون تلك الاتفاقية بالغضب والاستياء لحصول فردريك على بيت المقدس عن طريق الاستجداء لا السيف ولاحتفاظ المسلمين بكثير من حقوقهم فيها، فقد بقي الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى بأيدي المسلمين لا يدخله الفرنج إلا للزيارة. لم تبق القدس طويلاً في أيدي الصليبيين، فقد استعادها الملك الصالح أيوب بمساعدة القوى الخوارزمية سنة 642هـ/1244م، وبذلك عاد بيت المقدس نهائياً للمسلمين.
دخلت القدس في حوزة المماليك سنة 651هـ/1253م، وحظيت باهتمام ملحوظ، وقام سلاطينهم بزيارات عدة للقدس وأقاموا منشآت دينية ومدنية مختلفة فيها، ومن المنشآت التي أقامها المماليك زهاء خمسين مدرسة وسبعة ربط وعشرات الزوايا، وغدت القدس زمن المماليك من أهم المراكز العلمية في العالم الإسلامي، فكان يفد إليها الدارسون والمدرسون من مختلف الأقطار. وفي سنة 777هـ جعلوا القدس نيابة مستقلة تابعة للسلطان في القاهرة مباشرة بعد أن كانت تابعة لنيابة دمشق.
في سنة 922هـ وضع السلطان العثماني سليم حداً لحكم المماليك في بلاد الشام إثر انتصاره في معركة مرج دابق، وفي السنة التالية احتل القدس، وخلف السلطان سليم ابنه سليمان القانوني سنة 927هـ/1520م الذي اهتم بالقدس اهتماماً خاصاً، وأقام فيها منشآت كثيرة، منها سور القدس الذي دامت عمارته خمسة أعوام، وتكية خاصكي سلطان، ومساجد وأسبلة، وعَمَّر كذلك قبة الصخرة.
انتشرت زمن العثمانيين في القدس التكايا والزوايا ومؤسسات الصوفية الأخرى، ولكن بدءاً من القرن الثاني عشر الهجري الثامن عشر الميلادي أخذت مدارس القدس التي أنشأها المماليك والأيوبيون تضمحل بسبب اضمحلال العقارات الموقوفة عليها، ووصلت حالة الشعب المعيشية في هذا القرن إلى أدنى مستوى على الرغم من ظهور عدد من علماء الدين البارزين.
وفي سنة 1831 حتى سنة1840، كانت القدس تحت حكم إبراهيم بن محمد علي حاكم مصر الذي احتل سورية كلها إثر خلاف نشب مع الدولة العثمانية، وشهدت فترة الحكم المصري شيئاً من تحديث الإدارة، ونشر روح التسامح، ولكن فرض التجنيد الإجباري وكثرة الضرائب، وجمع السلاح من الأهالي، وإزالة نفوذ المشايخ والعائلات الإقطاعية أدّت إلى ثورة ضد هذا الحكم دعمتها الدولة العثمانية، استطاع المصريون إخمادها بصعوبة، ولكن إبراهيم باشا اضطر إلى ترك البلاد سنة 1840 تحت ضغط الدول العظمى.
في سنة 1917م دخلت فلسطين تحت الحكم البريطاني، واتخذت القدس عاصمة لفلسطين ومركزاً لقضاء القدس، وبدأت بريطانيا تنفذ سياسة وعد بلفور[ر] بوضع البلاد والقدس في طليعتها في ظروف تمهد لسيطرة الصهيونيين على فلسطين كلها.
وشهدت فترة الانتداب البريطاني تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين الصهيونيين إلى فلسطين عامة والقدس خاصة، ونتج من التزايد السريع لسكان القدس أن ضاقت المدينة بسكانها، فتوسعت خارج سور المدينة القديمة فيما عرف بالقدس الجديدة، وكانت مساحة القدس في أيار 1948م نحو 21.1كم2، ومساحة المنطقة العربية 2.4كم2، والمنطقة التي احتلها اليهود 17.7كم2، في حين كانت منطقة الأمم المتحدة والأرض المنزوعة من السلاح 1.0كم2. وبعد عام 1948م أصبحت القدس العربية العاصمة الروحية للأردن ومركزاً لمحافظة القدس، في حين جعل الكيان الصهيوني القدس الجديدة عاصمة له، وفي عام 1967 أعلنت سلطة الاحتلال الإسرائيلي ضم القدس العربية إلى القدس الإسرائيلية في مدينة موحدة؛ مخالفة بذلك القوانين الدولية، وفور الإعلان عن توحيد المدينة المقدسة قامت هذه السلطة بتصميم مخطط هيكلي للمدينة الموحدة والعمل على تنفيذ مشروع القدس الكبرى، وتهدف إسرائيل من وراء هذا المشروع إلى تهويد القدس واقتطاع مساحة من أراضي الضفة الغربية المحتلة لإسكان أكبر عدد من الصهيونيين فيها.
نجدة خماش
القدس هي المدينة التي يقدسها أتباع الديانات الثلاث، المسلمون واليهود والنصارى، تتجلّى أحداثها التاريخية في الأسماء المتعددة التي أطلقت عليها عبر العصور.
أقدم اسم معروف لها هو «أورشليم» نسبة إلى الإله شالم أي إله السلام لدى الكنعانيين، ووردت باسم «روشاليموم» في الكتابات المصرية المعروفة بنصوص اللعنة التي يرجع تاريخها إلى القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد، وتذكر أسماء ملوك كنعانيين وعموريين من خصوم المصريين كانوا يحكمون دولة المدينة أورشليم.
وفي التوراة وردت كلمة أورشليم، التي تلفظ بالعبرية «يروشالايم» مرات كثيرة، وهذه الكلمة مشتقة من التسمية الكنعانية الأصلية، وتطلق التوراة على المدينة أسماء أخرى كثيرة هي شاليم، ومدينة الله، ومدينة العدل، ومدينة السلام، وتذكر أحياناً باسم يبوس أو مدينة اليبوسيين، نسبة إلى اليبوسيين من بطون العرب الأوائل في الجزيرة العربية، وهم سكان القدس الأصليون، نزحوا من جزيرة العرب مع من نزح من القبائل الكنعانية نحو 2500ق.م، واحتلوا التلال الشرقية المشرفة على المدينة القديمة، وبنى اليبوسيون قلعة حصينة على الرابية الجنوبية الشرقية من يبوس سميت يبوس التي تعد أقدم بناء في مدينة القدس.
بقي حصن يبوس بيد اليبوسيين الكنعانيين حتى عهد الملك (النبي) داود الذي اتخذ أورشليم عاصمة له، وأطلق على الحصن اسم مدينة داود، وكان أكثر سكان المدينة في عهده من اليبوسيين والكنعانيين والعموريين، وازدهرت المدينة في عهد خليفته الملك (النبي) سليمان الذي شيّد الهيكل بمساعدة المعماريين الفينيقيين.
استمرت سيطرة اليهود على أورشليم من عهد داود نحو سنة 1000ق.م إلى أن فتحها نبوخذ نصر سنة 586ق.م، ودمّرها، ونقل السكان إلى بابل، فلما استولى الفرس على سورية وفلسطين سمح الملك قورش سنة 538ق.م لمن أراد من الأسرى العودة بالرجوع إلى أورشليم. وإعادة بناء الهيكل.
بقيت البلاد تحت الحكم الفارسي إلى أن فتحها الإسكندر المقدوني سنة 332ق.م، وتأرجحت السلطة على أورشليم في عهد خلفائه بين البطالمة والسلوقيين، وتأثر السكان في هذا العهد الهلنستي بالحضارة الإغريقية، وحاول الملك السلوقي أنطيوخوس الرابع نحو سنة 165ق.م نشر الديانة الوثنية اليونانية، وأمر بنصب تمثال للإله زيوس في الهيكل اليهودي، فاندلعت ثورة المكابيين، ونجح اليهود في الاستيلاء على أورشليم تحت حكم الحسمونيين سنة 135ق.م.
في سنة 62ق.م دخل القائد الروماني بومبيوس[ر] أورشليم، وسمح الرومان لليهود بشيء من الحكم الذاتي، ونصبوا سنة 37ق.م هيرودس الأدومي الذي اعتنق اليهودية ملكاً على الجليل وبلاد يهوذا، وظل يحكمها باسم الرومان حتى السنة الرابعة قبل الميلاد، وفي عهد الامبراطور نيرون (54ـ68م) بدأت ثورة اليهود على الرومان، فاحتل القائد تيتوس أورشليم سنة 70م، وحرق الهيكل، وفتك باليهود ولما قامت ثورة اليهود من جديد سنة 132م أسرع الامبراطور هادريانوس (117ـ138م) Hadrianus إلى إخمادها سنة 135م، وخرّب أورشليم، وأسس مكانها مستعمرة رومانية يحرّم على اليهود دخولها، أطلق عليها اسم إيليا كابيتولينا. وأطلق على منطقة يهوذا اسم Syria Palaestina، وانتهى الوجود اليهودي فيها، وبعد انتشار المسيحية في العهد البيزنطي بنيت الكنائس والأديرة، واصطبغت المدينة بالطابع المسيحي.
حينما بدأت الفتوحات العربية، كانت بلاد الشام بما فيها فلسطين قد عادت للسيطرة البيزنطية بعد أن استولى عليها الفرس مدة تزيد على العقدين من السنين، واستطاع الامبراطور هرقل أن يستعيد الصليب الأعظم من الفرس وأن يعيده إلى بيت المقدس.
لم يهنأ الروم طويلاً بانتصارهم، فقد استطاعت الجيوش العربية الإسلامية أن تحرر بلاد الشام من سيطرة البيزنطيين ما بين سنة 13ـ19هـ/634ـ640م، واختلفت الروايات حول السنة التي تمّ فيها فتح بيت المقدس، ولكن الأرجح أنها فتحت سنة 17هـ، بعد حصار دام أشهراً، وبعد أن طلب أهل بيت المقدس من أبي عبيدة الجراحt أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشام، وأن يكون المتولي لعقد الصلح هو الخليفة عمر بن الخطابt، وجاء عمر، وتسلم مفاتيح بيت المقدس وأعطى أهلها أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم... ولا يكرهون على دينهم... ولا يسكن بإيلياء أحد من اليهود، وعليهم أن يخرجوا منها الروم، فمن خرج فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم؛ فإنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم حتى يبلغوا مأمنهم، وقد رفض الخليفة عمر أن يصلي في كنيسة القيامة؛ لئلا تتخذ صلاته سابقة لمن يأتي بعده، وبنى مسجداً بسيطاً في الزاوية الجنوبية من ساحة الحرم، وهذا ما يؤكده شاهد عيان زار القدس سنة 50هـ/670م.
يلاحظ من دراسة النصوص الواردة لدى ابن سعد (ت230هـ) في طبقاته والبلاذري (ت 279هـ) في فتوحه، والطبري (ت310هـ) في تاريخه وغيرها من المؤلفات أن اسم إيلياء أو بيت المقدس هي التسمية المستخدمة للدلالة على مدينة القدس، حتى إن المطهّر بن طاهر المعروف بالمقدسي الذي صنف كتابه «البدء والتاريخ» نحو سنة 355هـ؛ لايستخدم اسم القدس سوى مرة واحدة. أما المُقَدَّسي (نسبة إلى البيت المقدّس) فإنه لايستخدم في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» الذي ألفه سنة 375هـ إلا اسم إيلياء أو بيت المقدس، ويرى الباحثون أن السكان المحليين الذين كانوا يتكلمون الآرامية هم الذين كانوا يستخدمون اسم القدس؛ لأن القدس في الآرامية هي قُدشا Kudsha.
احتلت مدينة القدس في الدعوة الإسلامية منذ البداية مكاناً مهماً، فقد كانت قبلة الإسلام الأولى، وإليها كان إسراء النبيr، وقد أظهر الأمويون إجلالهم وتقديرهم لقدسية القدس، فقد أمر عبد الملك سنة 72هـ، ببناء قبة الصخرة، ويذكر المقدسي أن عبد الملك لما رأى عظم كنيسة القيامة وهيئتها خشي أن تعظم في قلوب المسلمين فبنى قبة الصخرة، كما أمر ببناء المسجد الأقصى الذي تم بناؤه في خلافة الوليد بن عبد الملك، واكتشفت نقوش معاصرة لعبد الملك بن مروان بالقرب من بيت المقدس تشير إلى أوامره بصنع الأميال(أحجار المسافات) وبعمارة أربع طرق تخرج من إيلياء ومن دمشق، وتوحي الأساسات المتعددة للأبنية الأموية التي اكتشفت في الجنوب والجنوب الغربي من المسجد الأقصى خلال الحفريات التي تمت ما بين سنة 1976و1986 بأن المسلمين ربما أرادوا اتخاذ بيت المقدس مركزاً إدارياً لجند فلسطين، ولكن نظراً لعدم وجود ما يؤيد هذا الافتراض في المصادر التاريخية فإن الباحث لا يستطيع أن يعلل أسباب عدم إحرازها هذه المكانة، ولاسيما أن سليمان بن عبد الملك في أثناء ولايته جند فلسطين في خلافة أخيه الوليد (86ـ96هـ) بنى مدينة الرملة ومصرها، واختط مسجدها، فصارت القصبة عوضاً عن اللد.
دخل إقليم الشام ـ بما في ذلك جند فلسطين ـ في نطاق الدولة العباسية إثر هزيمة مروان بن محمد في معركة الزاب ومقتله في بوصير من أرض مصر سنة 132هـ. وفي سنة 140هـ/758م زار الخليفة العباسي المنصور بيت المقدس، وصلىّ في مسجدها، وزارها ثانية في أثناء مرافقة الجيش الذي أرسله للقضاء على الثورة في المغرب، وزار المهدي بيت المقدس مع عدد من أفراد البيت العباسي سنة 163هـ، وأمر أن يعاد بناء المسجد الأقصى الذي كان قد تهدّم نتيجة لزلزال سنة 131هـ وكان للمسجد الذي أعيد بناؤه سنة 164هـ/780م سبعة أجنحة إلى شرقي جناح المحراب وسبعة إلى غربيه، أما الرشيد فعلى الرغم من أنه كان يغزو سنة، ويحج سنة، فإنه ليس هناك ذكر بأنه زار بيت المقدس.
لم يكن لبيت المقدس دور سياسي في الفترة التي سيطر فيها الطولونيون والإخشيديون على جند فلسطين، إلا أن المفاهيم حول مكانتها الدينية اتخذت اتجاهاً جديداً، فالقول إنها أرض المحشر وجد صدى في نفوس الناس، وهذا ما دفع كثيرين إلى الإقامة في بيت المقدس؛ لكي يدفنوا فيها، كما يلاحظ أن بعض الشخصيات دفنت في بيت المقدس مع أن وفاتهم لم تكن فيها، فمحمد بن طغج مؤسس السلالة الإخشيدية توفي في دمشق سنة 334هـ/936م، ولكنه دفن كما دفن عدد من أفراد أسرته بما في ذلك كافور في بيت المقدس، واستمر هذا المفهوم، فناصر خسرو الذي زار القدس سنة 437هـ يذكر أنه بعد الجامع سهل كبير، مستو يسمى السّاهرة، يقال: إنه سيكون ساحة القيامة والحشر؛ ولهذا يحضر إليه خلق كثير من أطراف العالم ويقيمون به حتى يموتوا، فإذا جاء وعد الله كانوا بأرض المعياد.
في منتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي تقريباً، بدأت مدينة القدس تأخذ مكانة الرملة كأهم مركز إداري في فلسطين، فقد تأثرت الرملة بالزلازل التي أصابت المنطقة سنة 425هـ، فانهدم من الرملة ثلثها، أما زلزال سنة 460هـ/1068م فقد أهلك الرملة، ولم يسلم منها إلا داران كما يذكر ابن كثير، وهلك منها خمسة عشر ألف نسمة، وكانت الرملة قد تأثرت أيضاً بالنهب والسلب اللذين تعرضت لهما نتيجة لغزوات البدو، وكان من الأسهل الدفاع عن القدس المشيدة على قمة جبل من مدينة الرملة الواقعة في أرض سهلية، وأجبرت جرأة بني الجرّاح والقبائل البدوية الفاطميين ـ الذين كانوا قد استولوا على فلسطين والأردن سنة 358هـ ـ على دعم أسوار القدس سنة 425 و455هـ، وفي الثلث الأخير من القرن الخامس الهجري أصبحت مدينة القدس ـ وليس الرملة ـ مركز الأحداث السياسية.
في سنة 471هـ استولى تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان على دمشق، ودخلت القدس ضمن الإمبراطورية السلجوقية التي امتدت من كشغر إلى القدس، وفي سنة 489هـ استعاد الوزير الفاطمي بيت المقدس بعد حصار دام أربعين يوماً، وكانت القدس بأيدي الفاطميين حينما توجهت الحشود الصليبية، فاستولت على المدينة سنة 492هـ/1099م.
كان أهم صفة مميزة للحياة في القدس هو ما يذكره المقدسي بأنها لا تخلو يوماً من غريب، فكان الحجاج يؤمونها من كل المناطق، كما أن كثيرين من المسلمين الذين كانوا يتوجهون إلى مكة كانوا يحرمون في القدس، وكان كثير من يهود الأندلس والمغرب يأتون إلى القدس زواراً أو حجاجاً في الأيام المحددة لهم للحج إضافة إلى الحجاج المسيحيين الذين كانوا يتوافدون إليها، ويتحدث لامبرت هرسفيلد Lambert Hersfeld عن قافلة الحجاج التي وصلت إلى القدس سنة 458هـ/1056م والتي تألفت من 12ألف حاج من جنوبي ألمانيا وهولندا، وهذا دليل ساطع على روح التسامح لدى المسلمين تجاه أهل الكتاب.
تغيرت هذه الصورة بعد استيلاء الفرنج الصليبيين على بيت المقدس، فقد تحولت المدينة إلى مدينة مسيحية، ومنع المسلمون من إقامة شعائرهم الدينية، وتحولت المساجد إلى كنائس أو أبنية للأخويات الكنسية والعسكرية وأصبح معظم سكان القدس من الأوربيين، ولا سيما من الفرنسيين إضافة إلى مجموعات من الإسبان والألمان والهنغار الذين كانوا يعيشون في أحياء خاصة حول كنائسهم ومؤسساتهم العامة.
حرر صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس بعد92سنة من سقوطها في أيدي الصليبيين سنة 492هـ، وسلمت المدينة إليه يوم الجمعة 27رجب سنة 583هـ، ودخلها المسلمون بعد توقيع اتفاقية التسليم، وشاءت الأقدار أن وافى دخولهم بيت المقدس ليلة الإسراء والمعراج، وتقدم صلاح الدين، وتسلم حامية المدينة، وظهرت الأعلام الصفراء شعار الأيوبيين المنتصرين على أسوار مدينة القدس.
عمد صلاح الدين إلى إزالة التغيرات التي أحدثت بعد احتلال المدينة من قبل الصليبيين، ومن ذلك كشف الجدار الساتر لمحراب المسجد الأقصى الذي كان الصليبيون قد بنوه في وجه المحراب، كما أعاد نصب المنبر في المسجد الأقصى، وأمر بفرش الجامع بالبسط النفيسة، كما أضاء المسجد بالقناديل، ورتب من يقوم بوظائف الخطبة والإمامة، ورتب في قبة الصخرة إماماً، وأوقف عليها داراً وأرضاً وبستاناً، وأمر بفتح المدارس في القدس لتدريس الفقه على المذهب الشافعي، ورتب لكل المساجد القومة والمؤذنين.
في شعبان سنة 589 هـ تُوفِّي صلاح الدين الذي حقق النصر على الصليبيين في حطين[ر]، وحرر القدس ومناطق وجود الصليبيين الأخرى المنتشرة في الشام، ولكن الصراع استمر، وتوالت الحملات الصليبية محاولة استرداد بيت المقدس، وإذا كان الكامل بن العادل الأيوبي قد سلم بيت المقدس سنة 627هـ/1229م لفردريك الثاني نتيجة لاستعطافه، فإن هذا العمل أثار موجة عارمة من السخط والأسى في العالم الإسلامي، كما قابل الصليبيون تلك الاتفاقية بالغضب والاستياء لحصول فردريك على بيت المقدس عن طريق الاستجداء لا السيف ولاحتفاظ المسلمين بكثير من حقوقهم فيها، فقد بقي الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى بأيدي المسلمين لا يدخله الفرنج إلا للزيارة. لم تبق القدس طويلاً في أيدي الصليبيين، فقد استعادها الملك الصالح أيوب بمساعدة القوى الخوارزمية سنة 642هـ/1244م، وبذلك عاد بيت المقدس نهائياً للمسلمين.
دخلت القدس في حوزة المماليك سنة 651هـ/1253م، وحظيت باهتمام ملحوظ، وقام سلاطينهم بزيارات عدة للقدس وأقاموا منشآت دينية ومدنية مختلفة فيها، ومن المنشآت التي أقامها المماليك زهاء خمسين مدرسة وسبعة ربط وعشرات الزوايا، وغدت القدس زمن المماليك من أهم المراكز العلمية في العالم الإسلامي، فكان يفد إليها الدارسون والمدرسون من مختلف الأقطار. وفي سنة 777هـ جعلوا القدس نيابة مستقلة تابعة للسلطان في القاهرة مباشرة بعد أن كانت تابعة لنيابة دمشق.
في سنة 922هـ وضع السلطان العثماني سليم حداً لحكم المماليك في بلاد الشام إثر انتصاره في معركة مرج دابق، وفي السنة التالية احتل القدس، وخلف السلطان سليم ابنه سليمان القانوني سنة 927هـ/1520م الذي اهتم بالقدس اهتماماً خاصاً، وأقام فيها منشآت كثيرة، منها سور القدس الذي دامت عمارته خمسة أعوام، وتكية خاصكي سلطان، ومساجد وأسبلة، وعَمَّر كذلك قبة الصخرة.
انتشرت زمن العثمانيين في القدس التكايا والزوايا ومؤسسات الصوفية الأخرى، ولكن بدءاً من القرن الثاني عشر الهجري الثامن عشر الميلادي أخذت مدارس القدس التي أنشأها المماليك والأيوبيون تضمحل بسبب اضمحلال العقارات الموقوفة عليها، ووصلت حالة الشعب المعيشية في هذا القرن إلى أدنى مستوى على الرغم من ظهور عدد من علماء الدين البارزين.
وفي سنة 1831 حتى سنة1840، كانت القدس تحت حكم إبراهيم بن محمد علي حاكم مصر الذي احتل سورية كلها إثر خلاف نشب مع الدولة العثمانية، وشهدت فترة الحكم المصري شيئاً من تحديث الإدارة، ونشر روح التسامح، ولكن فرض التجنيد الإجباري وكثرة الضرائب، وجمع السلاح من الأهالي، وإزالة نفوذ المشايخ والعائلات الإقطاعية أدّت إلى ثورة ضد هذا الحكم دعمتها الدولة العثمانية، استطاع المصريون إخمادها بصعوبة، ولكن إبراهيم باشا اضطر إلى ترك البلاد سنة 1840 تحت ضغط الدول العظمى.
في سنة 1917م دخلت فلسطين تحت الحكم البريطاني، واتخذت القدس عاصمة لفلسطين ومركزاً لقضاء القدس، وبدأت بريطانيا تنفذ سياسة وعد بلفور[ر] بوضع البلاد والقدس في طليعتها في ظروف تمهد لسيطرة الصهيونيين على فلسطين كلها.
وشهدت فترة الانتداب البريطاني تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين الصهيونيين إلى فلسطين عامة والقدس خاصة، ونتج من التزايد السريع لسكان القدس أن ضاقت المدينة بسكانها، فتوسعت خارج سور المدينة القديمة فيما عرف بالقدس الجديدة، وكانت مساحة القدس في أيار 1948م نحو 21.1كم2، ومساحة المنطقة العربية 2.4كم2، والمنطقة التي احتلها اليهود 17.7كم2، في حين كانت منطقة الأمم المتحدة والأرض المنزوعة من السلاح 1.0كم2. وبعد عام 1948م أصبحت القدس العربية العاصمة الروحية للأردن ومركزاً لمحافظة القدس، في حين جعل الكيان الصهيوني القدس الجديدة عاصمة له، وفي عام 1967 أعلنت سلطة الاحتلال الإسرائيلي ضم القدس العربية إلى القدس الإسرائيلية في مدينة موحدة؛ مخالفة بذلك القوانين الدولية، وفور الإعلان عن توحيد المدينة المقدسة قامت هذه السلطة بتصميم مخطط هيكلي للمدينة الموحدة والعمل على تنفيذ مشروع القدس الكبرى، وتهدف إسرائيل من وراء هذا المشروع إلى تهويد القدس واقتطاع مساحة من أراضي الضفة الغربية المحتلة لإسكان أكبر عدد من الصهيونيين فيها.
نجدة خماش