فنية وما ورثته من تقاليد وهذه اليد العاملة كانت في الغالب محلية ، قوامها أهالي الشام الذين أتقنوا صناعة البناء على الطريق البيزنطي أو بمعنى أصح الطريق السوري المحلي .
ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء فئة قليلة مجلوبة من مصر تحمل معها تقاليد قبطية أو مجلوبة من العراق وفارس ، وتحمل معها تقاليد الفنون الرافدية والساسانية .
ويحسن هنا أن نناقش الروايات العربية التي أخذها بعض المستشرقين ومؤرخي الفن ، دون تمحيص والتي تذكر استقدام عمال من أنحاء العالم ، ولاسيما من دولة الروم البيزنطية من أجل تشييد الجامع الأموي أو جامع الرسول في المدينة .
فقد ذكر المقدسي في كتابه المسالك والممالك ، خلال الحديث عن بناء جامع دمشق مايلي : ويقال أن الوليد . لبنائه حذاق فارس والهند والمغرب والروم » . وقال حول تشييد جامع المدينة : « كتب الوليد إلى ملك الروم : أنا نريد أن نعمر مسجد نبينا الأعظم فأعني بصناع وفسافساء ، فبعث اليه بأحمال ، وبضعة وعشرين صانعاً . . . » .
وأشار بعد المقدسي إلى مثل ذلك كل من ابن عساكر وابن جبير وابن خلدون . حتى أن ابن جبير جعل عدد الصناع الذين طلبهم الوليد من ملك الروم اثني عشر ألفا .
في اعتقادنا أن هذه الروايات مبالغ فيها . ولعل مصدرها شدة اعجاب المؤرخين بالعمائر الأموية من حيث الفخامة والروعة الفنية التي لم يعتد عرب الجزيرة من قبل على انجاز مثلها . وغاب عن ذهن هؤلاء المؤرخين بأن أهل الشام كانوا يملكون كل الخبرات الفنية لانجاز مثل هذه العمائر . فلقد شيدت المباني السورية في العهدين الروماني والبيزنطي بأيد عاملة فنية محلية، ولم يكن الرومان والبيزنطيون يجلبون عمالا من روما أو القسطنطينية. وحتى الفسيفساء الأموية التي اعتقد أكثر المؤرخين على أنها أنجزت من قبل عمال جلبوا من بيزنطة فان أهل الشام كانوا يتقنون صنعها كل الاتقان . تشهد بذلك مئات الحصائر الرائعة التي تشاهد في كل مكان من البلاد السورية في المدن والقرى .
ومما يؤيد ماذهبنا اليه شهرة المهندسين السوريين ، وامتداد هذه الشهرة إلى خارج حدود البلاد، وقيام بعضهم في أيام الحكم الروماني باشادة عمائر هامة في روما نفسها ، وفي أماكن أخرى من ولايات الامبراطورية . نذكر من هؤلاء المهندس « ابولو دور » الدمشقي الذي شيد في مطلع القرن الثاني الميلادي المبنى المعروف : ( فوروم تراجان ) ومباني أخرى .
ثالثاً : العامل الثالث في مقومات الفن الأموي ، هو عامل الحاجة إلى الخلق والإبداع . العبادة والشعائر الاسلامية ، ولاسيما الصلاة الجماعية احتاجت إلى معابد من نوع خاص ، فظهر المسجد في البدء بسيطاً ساذجا، ولكن جاء الأمويون فعملوا على تطويره وبذلك وضعوا أسساً قوية وأصيلة لتخطيط الجوامع الكبرى والشيء نفسه يمكن أن يقال عن تطوير المسكن وحاجة الخلفاء إلى منازل أو قصور تقام في البادية تحقق لهم الحياة التي يريدون أن يحيوها في فترات استجمامهم وتحررهم من جو المدينة المتزمت الذي يغلب عليه الجد والتقشف . فأدى ذلك إلى ظهور قصور البادية وما حفلت به من مظاهر النعيم والترف .
ولتلبية هذه الحاجات الجديدة عمد الفنان إلى الاقتباس والاصطفاء من الفنون السابقة والمزج بين العناصر المختارة وتحقيق الانسجام فيما بينها ، وعمل أيضاً على استبعاد مواضيع لا تناسب روح العصر ، وعوض عنها بمواضيع ملائمة. وكان لابد أن يؤدي كل ذلك إلى الابتكار وخلق الفن الجديد .
٣ _ العمائر الأموية في الشام :
بدأت حر كة البناء والتعمير الحقيقية في العصر الاسلامي من قبل الامويين ، في الشام وفي بعض الاقاليم الأخرى ، فشيدت مساجد عديدة وجددت المساجد القديمة. وبنيت قصور ودور أمارة ، في المدن وخارجها، وزودت بالحمامات ووسائل الراحة والاستجمام .
ولكن كيف مرت السنون السابقة للعهد الأموي ، وكيف سارت كة البناء والتعمير في عهد الخلفاء الراشدين .
المساجد :
نحن نعلم أن المسلمين في صدر الاسلام وأيام الخلفاء الراشدين كانوا منصر فين لتدعيم الدين الجديد ونشره عن طريق الفتوحات . وقد عمدوا تطبيقاً لمبادىء الفتح إلى اقتسام بعض الكنائس ومشاركة الطوائف الأخرى العبادة فيها ، على طريقتهم ا الخاصة .
حدث ذلك في دمشق وحلب وحمص وحماه ، وآمد . ولكنهم كانوا يشيدون المساجد في الأقاليم والمدن عندما لا تتهيأ لهم مثل هذه الظروف . أو لدى تأسيسهم المدن الجديدة . ولقد اتجه عمر بن الخطاب إلى اقامة المدن للجند الاسلامي فاختطت في عهده الكوفة والبصرة والفسطاط .
و أنشيء في كل منها مسجد ودار أمارة . ذكر البلاذري أن سعد ابن أبي وقاص ، حينما شيد جامع الكوفة سنة ١٧ للهجرة ، استخدم في بنائه أنقاض قصور الحيرة التي كانت لآل المنذر . وتبعد الحيرة عن الكوفة حوالي ستة كيلومترات . وذكرت المصادر بأن مسجد البصرة اختط في البدء من القصب ، ثم سمح عمر ببنائه بالحجارة وقال لاتغالوا في البنيان .
و كان وفي عام ٢١ للهجرة شيد عمرو بن العاص جامع الفسطاط بدون صحن أو مآذن ، ويحاذيه من جهة القبلة دار عمرو . ويلاحظ بأن دور الأمارة كانت تشاد عند جدار القبلة في كل المدن العربية ، يدخل منها الخليفة أو الوالي إلى الجامع ، فيصل إلى المحراب دون أن يضطر إلى تخطي المسلمين ، وهذا تقليد لما كان عليه قصر معاوية في دمشق .
و فرشت أرض جامع عمرو بالحصباء ثم غطيت بالحصر . وشيد عمر بن الخطاب أيضاً مسجداً على الصخرة في بيت المقدس، حلت محله في عهد عبد الملك بن مروان قبة الصخرة الحالية .
على أن أقدم هذه المساجد وأولها مسجد النبي في المدينة . والذي عرفناه عن حاله الأولى في زمن الرسول أنه كان على شكل جناح مسقوف وباحة سماوية ، والجناح المسقوف كان في البدء يحتل الجهة الشمالية نظراً لأن قبلة المسلمين كانت قبل فتح مكة وتطهيرها من الأوثان تتجه نحو بيت المقدس، ثم أقيم الحرم في الجهة الجنوبية . وأوحى هذا الوضع بالمخطط العام للمساجد التي خططت فيما بعد ، وأصبحت تتكون من صحن وحرم تحيط به أروقة مسقوفة ، وكانت جدران مسجد النبي مبنية من اللبن فوق أساس من الحجر . وكان السقف من سعف النخل والطين محمولا على عمد من جذوع الشجر . وقد أعيد بناء هذا المسجد في أيام الخليفة عثمان ، فشيد بالحجارة والجص ، وجعلت عمده بالحجارة أيضاً .
وهكذا بدأت المساجد تخرج من بساطتها شيئاً فشيئاً ، إلى أن وصلت إلى المستوى الفني الرفيع في مسجد الصخرة في القدس وجامع دمشق . الأول بناه عبد الملك بن مروان والثاني ابنه الوليد ويعتبر كلاهما مفخرة الأموي بشكل خاص وللحضارة الاسلامية بشكل عام .
لا بأس أن نعدد أسماء المساجد الأخرى التي شيدت في العهد الأموي لناخذ فكرة سريعة عن تطور الحركة العمرانية والخط الذي سار عليه فن عمارة المساجد .
لقد جدد معاوية جامع البصرة، حيث أمر واليه على العراق زياد ابن أبيه باعادة بنائه سنة ٦٦٥/٥٤٥ للميلاد كما جدد زياد جامع الكوفة سنة ٥٥٦/ ٦٧٥ للميلاد، فجعل الحرم مؤلفاً من خمسة أروقة موازية للقبلة و حمل السقف على خمسة صفوف من الأعمدة دون أقواس .
وجعل للجامع أربعة أبواب من جهة القبلة وخمسة من جهة الشمال وثلاثة في الشرق ومثلها في الغرب .
وأدخلت في عهد معاوية أيضا تعديلات على جامع عمرو في الفسطاط فزود بأربع آذن على نسق الابراج الاربعة التي استخدمت مآذن في معبد دمشق ، كما زود الجامع بباحة سماوية . نفذ ذلك واليه مسلمة بن مخلد سنة ٦٧٣ ( ٥٥٣ ) ه .
تعليق