المقدمة
لدراسة فن من الفنون لا بد من تحليل عناصره والتعرف على ماهو أصيل متبكر فيه او ماهو منقول ومقتبس عن فنون الأمم الأخرى . ذلك أن الفن مظهر من مظاهر حضارات الأمم . ونتاج الحضارات جهد متراكم تتبادله الأمم فتؤثر ، وتأخذ وتعطي بنسب تختلف من أمة لأخرى .
ولهذا فقد وجدت الزاماً على أن أمهد لدراسة الفن العربي الاسلامي بعرض مختصر الخصائص الفنون السابقة له ، وأقصد بهذه الفنون تلك التي تأثر بها الفن العربي الاسلامي في طور نشأته وفترة تأسيه . فحينما انتشر الاسلام على ايدي العرب الفاتحين ، في بلاد الشام والعراق وفارس ومصر وشمالي افريقيا ، كانت الفنون السائدة في هذه البلاد وقتئذ تنحصر في فنين عالميين هما الفن البيزنطي والفن الساساني انتشر الأول في الشام ومصر والشمال الافريقي ، وانتشر الثاني في العراق وفارس وأطراف الجزيرة العربية .
و كانت هذه الفنون المصدر المباشر والرئيسي الذي اعتمد عليه الفنانون في الدولة العربية الاسلامية فاقتبسوا عنها ، وطوروا عناصرها. وهذا شأن كل فن جديد في مرحلة نشأته . ولا بد أن نلاحظ هنا بأن كلا من في العمارة البيزنطي والساساني ، إذا ما حللناه ، رأيناه يرجع إلى أصول كبرى سابقة له ، بعضها شرقي ، من صنع الشعوب العربية القديمة التي كونت الحضارات في بلاد الرافدين والشام و بعضها غربي ، دخل مع الاحتلال اليوناني والروماني وتطور في ظلاله .
إذن ، نحن مضطرون لالقاء نظرة على خصائص هذه الأصول ، شرقية وغربية ، ولو باختصار ، من أجل فهم نشأة الفن العربي الاسلامي وايضاح ما تمثله من هذه الأصول وما أحدثه من تطوير في عناصرها وما ابتكره بعد ذلك من أساليب وفنون .
و نتحدث من ثم عن ظهور فن العمارة الأسلامية كمدرسة عالمية ، واسعة الامتداد ، جغرافياً وزمنياً ، وعما اتصفت به هذه المدرسة من خصائص ، وما رافقها خلال تاريخها الطويل من تطور، وما تفرع عنها من المدارس الفنية التي اشتهرت بها بلاد الشام في العهد العربي الأسلامي .
وقد عمدنا من خلال ذلك إلى احصاء كافة المباني التاريخية والآثار المعمارية الموجودة في القطر ودراستها ، محاولين تأريخها ، وتصنيفها بحسب العهود التاريخية والمدارس الفنية ، والتمييز بين أجزائها التي أضيفت اليها أو جددت في عهود لا حقة ، وبين الأصل القديم. ذلك لأن المباني التاريخية غالباً ما تتعرض مع الزمن إلى الهدم والتجديد والترميم ، فقد نجد في الجدار الواحد أو المثذلة الواحدة اجزاء و عناصر من عهود متعددة .
ولئن كان مثل هذا البحث والتحري يتطلب جهداً ووقتا كبيرين ، فقد ساعدني عليه عملي طوال خمسة وعشرين عاماً كمسؤول عن المباني التاريخية في القطر العربي السوري . وهكذا أتيح لي دراسة هذا التراث الضخم وجمع الكثير من المعلومات عنه ، بالرجوع إلى المصادر القديمة والمراجع العربية والأجنبية والى ما كنت اسجله، خلال زياراتي المتكررة لهذه المباني ، من ملاحظات أو استقرأته من النقوش والكتابات .
وسيجد القارى باني ، رغبة في عدم تضخيم الكتاب وتسهيل الرجوع إليه ، عمدت إلى اختصار الحديث في وصف المباني واصطفيت من كل عهد مبنى واحداً يصلح أكثر من غيره نموذجاً لتمثيل المدرسة الفنية التي ينتسب اليها ، وفصلت الحديث عنه .
أرجو أخيراً أن أكون قد وفقت في جعل هذا المؤلف مفيداً يملأ الفراغ الذي يكتنف مكتبتنا العربية، ولاسيما في هذا الباب من أبواب الثقافة ، ويلبي حاجة طلاب المعرفة والراغبين في دراسة تراثنا المعماري والفني .
ولا بد لي هنا من التنويه بأهمية الصور والمخططات التي هيأت بعضها بنفسي وأخذت بعضاً منها من الوثائق المتوفرة لدى المديرية العامة للاثار والمناحف . والبعض الآخر مما هو منشور في كتب العلماء أمثال سوقاجه وكريزويل وهير تزفلد ، أو مما زودني به صديقي العالم الالماني ميشيل ماينكه . فلكل هؤلاء الشكر والعرفان .
وأخيراً لا يسعني الا أن اذكر فضل السيدة وزيرة الثقافة والارشاد القومي الدكتورة نجاح العطار التي حرصت على ضم هذا المؤلف الى مطبوعات الوزارة . وانه لاهتمام مشكور ورعاية مخلصة لتراث أمتنا ومعالم حضارتها الخالدة .
دمشق في ۱۸۷۹ عبد القادر الريحاوي
تعليق