"ڤوي ڤوي ڤوي": هجرة الفرد والمجتمع في زمن اللايقين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "ڤوي ڤوي ڤوي": هجرة الفرد والمجتمع في زمن اللايقين

    "ڤوي ڤوي ڤوي": هجرة الفرد والمجتمع في زمن اللايقين
    وائل سعيد
    سينما
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    قبل نهاية موسم الصيف الهزيل لأفلام 2023، كانت قاعات السينما المصرية على موعد مع فيلم جديد، تكرر تأجيل عرضه أكثر من مرة، ولكنه أبى هذا العام إلا أن يلحق بالركب، وفضلًا عن ذلك استطاع فور عرضه بمنتصف الشهر الماضي، أن يحدث حالة من الجدل والدينامية بداية من الاسم الغريب "ڤوي ڤوي ڤوي". الفيلم من تأليف وإخراج عمر هلال وبطولة محمد فراج، نيلي كريم، بيومي فؤاد، وطه دسوقي.

    أثار الفيلم الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام، خصوصًا ونحن أمام بطل من نجوم الصف الثاني في تجربته الثانية تقريبًا كبطولة مطلقة بعد "القشاش، 2013"، ومخرج يخوض تجربته السينمائية الأولى، بعد إخراج ما يقارب ألف إعلان تجاري على مدار العشرين عامًا الماضية كما يقول عمر هلال، وثمة حديث عن أن الفيلم فيلم مهرجانات- كما يقال، يخاطب عقليات لجان التحكيم الأجنبية، كما وصفه البعض بأنه يحمل إساءة مباشرة إلى صورة المجتمع المصري، وهو ما تعزز بعدد من التصريحات المتلاحقة للمخرج تفيد بأنه ولد في السعودية وعاش في إيطاليا وغيرها، ولم يرَ من السينما المصرية سوى القليل حتى أنه لا يستطيع اختيار مخرج مفضل مصري، ويعشق سكورسيزي وكوبريك وريدلي سكوت.

    سرعان ما تطور الأمر حين صدر قرار "لجنة اختيار الفيلم المصري - نقابة المهن السينمائية" بترشيح الفيلم لتمثيل مصر للمنافسة على جائزة الأوسكار العالمية "أفضل فيلم أجنبي" في دورة 96/204. هذا، و"تنوّه اللجنة بظهور مواهب شابة لمخرجين يقدمون أفلامهم الأولى خلال العام، وإذ كانت اللجنة قد رأت العام الماضي عدم ترشيح فيلم مصري اعتراضًا على تواضع مستوى الأفلام المعروضة، فمن حق صناع الأفلام الشباب الإشادة بجهودهم الواضحة في الأفلام المعروضة لهذا العام". وضمت قائمة التنافس لهذا العام "وش في وش، ب 19، بيت الروبي، الباب الأخضر".

    "سأروي لكَ طرفة ولكن لا تبكِ"...

    تنطلق أحداث الفيلم من عام 2013، حيث الوضع محتدم في الشارع المصري بين جماعة الإخوان التي تحارب لبقائها في الحكم، وبين التحالفات الشعبية والجيش في مواجهتها، وهي لفتة من صناع الفيلم في اختيار فترة زمنية لن تثير عليهم مقصات الرقيب! فقد اعتدنا في معظم أفلامنا - خصوصًا الانتقادية منها- عدم تحديد التواريخ حتى لا يكون الاتهام موجهًا لعصر بعينه. موضوع الفيلم الرئيسي، كما نتابع ذلك مع بطل الفيلم (حسن – محمد فراج) منذ المشاهد الأولى، محاولاته الفاشلة في الهجرة بوسائل غير شرعية، مرة عن طريق المسنات الأجانب ومرة بواسطة الطرق غير الآمنة لسماسرة الموت.

    في إحدى المرات، يتفاجأ حسن أن هناك فريقًا لغير المبصرين سيسافر بولندا وفجأة تأتيه فكرة الالتحاق بالفريق واتخاذه وسيلة للخروج من مصر، الأمر الذي يتم على أكمل وجه وبسهولة مدهشة مع إدارة النادي. يستغرق السيناريو ثلثه الأول تقريبًا في تقديم الشخصيات ورسم ملامح عالمه الفقير، ولا يفوته إقحام عالم آخر من ذوي المال والنفوذ وتفاهات السوشيال ميديا وتمثله شخصية الصحافية التي نراها غير راضية عن تغطية نجوم الشو والتيك توك وما إلى ذلك، وحين تصطدم بفريق كرة الجرس تنداح معهم وتقع في حب البطل بالطبع في النهاية.

    بفكرة مستهلكة وحادثة عابرة، استطاع الفيلم خلق دراما كوميدية خفيفة ومختصرة في ذات الوقت لصالح مفارقة العميان المبصرين، وهي لا تخلو أيضًا من كوميديا سوداء تدين الجميع ربما في هذا العصر تحديدًا، حيث تلفظ المدينة أبناءها فيضطرهم العوز المعيشي إلى البحث عن الحياة في مكان آخر، تحت سماء أخرى، ربما تتراءى لهم "مدينة أجمل من هذه"، كما يقول كفافيس. وتحمل أغنية الفيلم "حلوة منك" بعضًا من معان مشابهة ولكن في صورتها العصرية الشبابية تحديدًا، "قُلنا المدينة مش هتسعنا... لوينا بوزهم لوُوا دراعنا"...، من هنا كان من الذكاء الاستعانة بالشاب "ويجز" لتأدية الأغنية بل والحديث المباشر عن نفسه داخل السياق "ويجز بطل وده نعته..."، وبذلك يُشرك الجميع في الجرم أو في المعركة المخاضة؛ فهناك ملايين من الشباب في مصر والوطن العربي وجدوا أنفسهم بشكل أو بآخر داخل الفيلم.
    "لجأ المخرج إلى التقشف الشديد في صنع حياة طبيعية تعج بالبشر والأفراد حتى أنك تظن أن مجموعة شخصيات الفيلم تتحرك بمعزل عن المجتمع ولا توجد مساحات سوى لتتبع أفرادها والقليل من ذويهم أو من المتعاملين معهم"
    إنها حالة من الفضح الجماعي المتوالي لم تسلم منها أي من شخصيات الفيلم تبدأ من الكابتن (عادل- بيومي فؤاد) حين يكتشف خدعة حسن ويتكتم عليها، والذي بدوره يساوم الكابتن على تكملة اللعبة ويعقدان اتفاقًا أن يستمر هو حتى آخر مباراة؛ ففوز الفريق هو المكسب الحقيقي الذي يريده مدرب فاشل تقدم به العمر ولم يجنِ شيئًا سوى عمله المتواضع كمدرس ألعاب. نظن جميعًا أن أوراق اللعبة كشفت عن آخرها، وكان للمخرج ورقه الخاص الذي ظل يكشف عنه ورقة بعد أخرى بشكل تدريجي وغير متوقع أحيانًا، ويصل في ذروة لهاثه لصدمة أن الجميع متواطئ على لعبة أخرى كبيرة، لم تكن كرة الجرس سوى ستار يخفي الكثير.

    في عام 2016 أثيرت قضية شهيرة عرفت بـ "فضيحة منتخب مصر للمكفوفين"، حين صدر قرار من وزارة الشباب والرياضة بسفر بعثة مصرية إلى بولندا لأحد نوادي المعاقين وذلك للمشاركة في بطولة دولية لكرة الجرس، وهناك تم الكشف عن الخدعة ومقصدها حين تبين للجانب الأجنبي أن أعضاء الفريق مبصرون، وكشفت التحقيقات اللاحقة أن كل فرد قام بدفع خمسين ألف جنيه – نفس المبلغ المذكور في الفيلم- الأمر الذي يُثبت تورط عدد من المسؤولين في تسهيل ذلك، وهو ما يؤكده سيناريو الفيلم. اتهم صناع الفيلم بسرقة الفكرة من تحقيق رياضي قديم، وبحسب أحد مداخلات مخرج الفيلم فقد تم التراضي مع الصحافي صاحب التحقيق بإشارة مضافة إلى تتر الختام، بجانب مشروع تعاون مستقبلي لفيلم تسجيلي يتناول كافة المادة الصحافية للتحقيق. وورد في البيان الصادر عن الشركة المنتجة: "إن شركة فيلم كلينك تؤكد على تقديرها الكامل للكاتب الصحافي محمود شوقي، نائب رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون، وصاحب التحقيقات الصحافية الشهيرة، حول هروب عدد من الشباب المبصرين إلى أوروبا بأوراق لاعبين مكفوفين، والتي نجح من خلالها في تسليط الضوء على قضية نصب كبرى، وتسهيل الهجرة غير الشرعية".
    مشهدان من الفيلم
    "إني قادم"...

    تناول صورة المكفوفين على الشاشة، كثيرًا ما يتم صبغه بهالة من السوداوية، ربما لكونها الأقرب في إثارة مشاعر المُشاهد، ورغم أن قصة "فوي فوي" تطرح عمى مزيفا؛ إلا أن العمى الحقيقي لم يكن في عملية احتيال الفريق بل كان فيما اجتمعوا عليه باتفاقات فردية مسبقة شكلت في النهاية وعيًا جمعيًا ينحو إلى الخلاص عن طريق "عملية تحسين وتقدم لا حد لها"، كما وصفها عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان في تتبعه لمرحلة الحداثة السائلة والعيش في زمن اللايقين، بوسع هذه العملية من التحسين أن تقلب الموازين رأسًا على عقب وبدلًا من أن يكون الأب وسيلة لعبور ولده الكسيح لبر الأمان، ينصح الابن أباه حين يكتشف اللعبة بأن ينتهز الفرصة ويذهب بلا رجعة لينجو بنفسه.

    يمثل عنوان الفيلم نداءً باللغة الإسبانية يطلقه لاعبو كرة الجرس للإعلان عن أنفسهم "إني قادم"، وذلك تفاديًا للاصطدام المباشر مع المحيطين داخل المباراة؛ حيث وسيلة السمع هي الحاصة المباشرة للتواصل. لعل أكثر ما يميز الفيلم هو عدم مغالاته في البكائية خصوصًا وهي أشهر ما يتم اتباعه في الحديث عن الطبقات الفقيرة والمعوزة، ولم يمنع ذلك من وجود بعض المناطق القليلة من المباشرة والخطابية في بعض الأحيان؛ سواء على مستوى الحوار وأداء الشخصيات أو من خلال مشاهد موجهة، مقتطعة من عوالم العشوائيات وكانت أميل في جزء منها إلى النمطية حيث البيوت والحواري الضيقة، عربة الكشري وأكوام القمامة في خلفية بعض المشاهد، ربما هي الصورة الشائعة عن هذا العالم ولا شك في أنها صورة لا ترى سوى القشرة الخارجية للمجتمع الشعبي، فقد أراد المخرج صناعة عالم واقعي يتناسب مع الجديد من واقعيتنا القذرة، ولكن بالقدر الضئيل الذي يعلمه عن هذا العالم الشائك، لذلك لجأ إلى التقشف الشديد في صنع حياة طبيعية تعج بالبشر والأفراد حتى أنك تظن أن مجموعة شخصيات الفيلم تتحرك بمعزل عن المجتمع ولا توجد مساحات سوى لتتبع أفرادها والقليل من ذويهم أو من المتعاملين معهم.

    تعامل السيناريو أيضًا مع الشخصيات والأحداث بمنهج النفس القصير؛ حيث انصب الاهتمام الأكبر على الفكرة ومجموعة الأشخاص المؤدين؛ وهو ما فسح المجال لدخول بعض الشخصيات غير المؤثرة في سير الأحداث - جماليًا أو دراميًا- ويشمل ذلك الشخصيات الثانوية مثل الشاذ الصامت في البار، أو الشخصيات المساعدة أيضًا وفي مقدمتها شخصية الصحافية (إنجي – نيللي كريم) والتي من الواضح أن الحظ لم يحالفها مؤخرًا سواء في هذا الفيلم أو فيلم "ع الزيرو- محمد رمضان" حيث كانت في أكثر أداءاتها تصنعًا وافتعالًا. ويحسب للفيلم نجاحه في مشاهد مميزة لفريق العميان خصوصًا في الانتقال بين عدد من مراحل الكشف المتوالي سواء بين الشخصيات أو أمامنا كمشاهدين.

    ومن الملاحظ الاقتصاد الواضح الذي اتبعه المخرج، سواء على مستوى الدراما وتحريك الممثلين أو من خلال الموسيقى التصويرية ومشاهد الفوتو مونتاج، مما حقق رشاقة في العمل ككل وخلق صورة بصرية جيدة رغم أن معظم الكادرات كانت لمشاهد مغلقة، فيما ندرت مشاهد الأماكن المفتوحة – خارجية- حيث تعاني جميع الشخصيات من سجنها الجماعي أو عماها... ولا شك في أن هذه الحالة من العمى تعاني منها السينما المصرية منذ سنوات، ربما يعتبر عمر هلال نفسه مفتحًا بين عميان السينما، ولكن فيلمه يثبت أنه ليس الوحيد...
يعمل...
X