"الحكيم": يخشى أن ينتقد الحرب ولاعبيها
أنور محمد
سينما
لقطة من فيلم "الحكيم"
شارك هذا المقال
حجم الخط
كأنَّ الحرب لا تشبع، وكيف تشبعُ وغريزةُ الجوعِ إلى المالِ والسلطةِ عند الأغنياء لا تَشْبَعْ؟ ربَّما كان في ذهن الناقدة السينمائية ديانا جبور الإجابة عن مثل هذا السؤال في فيلمها "الحكيم" (95 د)، عن سيناريو كتبته، وأنتجته المؤسَّسة العامة للسينما في وزارة الثقافة السورية، من إخراج باسل الخطيب (مدير التصوير: ناصر ركا، ديكور: ربى الكنج، موسيقى: سمير كويفاتي. تمثيل: دريد لحام، صباح الجزائري، محمد قنوع، أحمد رافع، رامي أحمر، ليا مباردي، عاصم حواط، روبين عيسى، ربى الحلبي، تسنيم الباشا، ريهام عزيز). فالجوع يعطي حتى الضعفاء والعجَزَة، ومُعوَّقي الحرب، قوَّة وحشية لسد غريزة الجوع ليس إلى الطعام، بل إلى الحرية والسلام.
في اللقطات الأولى من الفيلم التي تُعرِّفُنا بشخصياته، على طولها؛ والتي بدت أقرب إلى المشاهِدَ التلفزيونية، حفَّزتنا الصورة على أن نرى فيلمًا يقترب منَّا؛ من المُدرَك حسِّيًا، وعقليًا. صورةٌ مَعَنَا، وليست علينا، صورة تُدرِكُ فيها الذاتُ ذاتها، فنرى شخصياتٍ تُبصرُ وتسمعُ ما نعاينه نحنُ بالحواس، فننفعل بالفيلم، كما لو أنَّه فيلمنا.
ففي قرية سورية في ريف حمص، نحن مع طبيب (أدَّى دوره الفنان دريد لحام)، الذي لم يهاجر، أو يهرب من سورية في الحرب الدائرة عليها، بل فضَّل البقاء في القرية، وليس في المدينة، مع حفيدته ياسمين، لمداواة أهلها الفقراء مجانًا؛ بل وصرف الدواء لهم. وكان أوَّل ما سَألْنا أَنفُسَنا: مَنْ الضحيةُ في الفيلم؟ السوريون الذين كانت الحرب طيلة السنوات من 2011 وحتى 2023 مصَّاصة لدمائهم، وإلى الآن لم تَرْتَوِ؛ أَمْ مُشْعِلُوها الأغراب الذين حولونا إلى قطع لحم، ورأينا سلوكهم المنحرف بصفتنا لحمًا بشريًا نيئًا وقد طبخته نيران القذائف والمدافع؟ لقطات قريبة وأخرى بعيدة، فنرى (الحكيم) الطبيب البشري جابر عبد الودود وهو يداوي الحرب وجَرْحاها ومرضاها كما لو أنَّه (نبي)، ولكن بإحساس "مازوخي"، حسب قصَّة الفيلم، فيضعنا المُخرج باسل الخطيب في مدارٍ دائري لأفعال الخيرِ وقد غَلَبَ الشرَّ في كثيرٍ من مفاصل الزمن الروائي للفيلم، والتي يرد عليها الطبيب جابر عبد الودود بالرضى والتسليم، ولا يثأر، أو يفكِّر بالثأر والانتقام؛ والذي رغم عِلمه ـ دراسته علم الطب، فإنَّه لم يخرج من نفق التخلف، لقد قَبِلَ بالحرب ونتائجها، بدل أن يرفضها، ويرفض كل تأويلاتها وويلاتها، وينزع الأقنعة عن ملائكتها وشياطينها، وكأنَّه تحوّلَ إلى أداةٍ من أدواتها. لقد فَقَدَ ابنته شمس (أدَّت دورها الممثلة روبين عيسى)، ومن ثمَّ اعتدى لصٌّ على حفيدته ياسمين طالبة الفنون الجميلة (أدَّت دورها الممثلة ليا مباردي)، فقام بتقييد وربط يديها وقدميها وتكميم فمها ومن ثمَّ طَرَحَها بقوَّة على الأرض، وسرقَ ما سرقَ من بيت الجد، من دون أن ينفعل أو يغضب ويدافع عنها لمَّا عاد إلى البيت ووجدها في هذه الحالة. وكأنَّ ما حدثَ لحفيدته إنَّما هو قضاءٌ وقدر، وما عليه إلاَّ أن يتقبله قبولًا حسنًا، خاصة وهذه من ألطاف الرب؛ أنَّ اللص المُجرم لم يخطف ياسمين، أو يغتصبها، أو يبقر بطنها بسكِّين؛ بل يَعدُها بأنَّه سيبلِّغ الشرطة عن الحادثة، وعن اللص.
الطبيب جابر عبد الودود، الذي بلغَ من العُمر عِتيًا؛ طبيب القرية؛ طبيب الفقراء الذي لا يقبل أجرًا عن مداواة مرضاه، وهو الحكيم الفيلسوف الذي يسلِّم بالمسلمات والما قبليات، ويتصالح مع الشك، فهو لا يشك بأحدٍ مهما كان خطره وأذاه قاسيًا عليه وعلى أبناء قريته، وفي زيارةٍ لمريضة (أدَّت دورها الممثِّلة ربى الحلبي)، وكانت في غيبوبة إثر موت ابنتها بشظية من شظايا الحرب الكونية على سورية وهي تحملها بيديها، مصطحبًا معه حفيدته ياسمين لتدلِّك لها عضلات وجهها ويديها تدليكة الشفاء، إذا بياسمين تقع على آلة موسيقية إيقاعية كانت تدق عليها البنت التي ماتت بشظايا الحرب، فتأخذها بين يديها وتقوم بالنقر عليها فإذا بصوت الموسيقى المنبعثة من الآلة الموسيقية يبعثُ الحياة في المريضة المُغيَّبة ـ الغائبة، فتنهض من سُباتها وقد شُفِيَتْ على يد ياسمين، ويد جدِّها الطبيب جابر عبد الودود أيَّما شفاءْ! هذا الخيط/ الخط الدرامي الذي حُشِيَ في حكايات الفيلم يصلح لأن يُفْرَد له فيلم، مثله مثل حشوة توليد جابر للمرأة الحامل، إذ يُطلب منه على إثرها بأن يقوم بتوليد بقرة!
"المخرج باسل الخطيب في "الحكيم" كأنَّه يخشى الفكر والفكر النقدي، يخشى أن ينتقد الحرب ولاعبيها" |
السينما العربية ما تزال في معظمها، في رأيي، سينما تتواطأ مع الجهل والتخلف والسحر والشعوذة والخرافات الشعبية، وتقوم بتسويغها وتشريعها وتسويقها. هنالك استثناءات، مثل سينما يوسف شاهين، توفيق صالح، محمد خان، خالد الصديق، عمر أميرلاي، داود عبد السيد، نجوم الغانم، رشيد بوشارب، عبد الرحمن سيساكو، نادين لبكي، وآخرين. لسنا ضد التفكير الفطري، لأنَّ الفكر مهما كان فطريًا متخلفًا إنَّما عملياته لا تقوم ولا تتأسَّس على المسلمات والمصادرات. في المسرح، كما في السينما، كلَّما أمعن الُمخرج في طرح ذاك السؤال المركزي (لماذا) حَدَثَ ما حَدَثَ، ويَحدُثُ ما يحدُثُ، كلَّما ازدادَ وَعيُنا، ووجدنا الحلول، أو بعضها، لِمُعَاناتِنا. المُخرج باسل الخطيب في هذا "الحكيم" يضعنا مع صورة لا تَرى ولا تُبصر ما حلَّ في حياة السوري في الحرب منذ 2011 سوى أنَّ الخراب والدمار الذي حلَّ ما هو إلاَّ قدَرٌ ساقته أفعال المُصادفات، وما علينا إلاَّ القبول بها. مع أنَّ السينما السورية ومع انطلاقة "المؤسَّسة العامة للسينما" عام 1963، كانت سينما ذات اهتمامات بقضايا الناس، فلم تتاجر بآلامهم، بل كانت تزيد من وعيهم بالحرية والعدالة، وكانت أوَّل أفلامها عن القضية الفلسطينية، فأنجزت مجموعة أفلام: "رجال تحت الشمس" (1970) (إخراج مروان مؤذن، ونبيل المالح)، "السكِّين" (1971) (عن قصة غسان كنفاني "ماذا تبقى لكم؟")، "المخدوعون"، (1973) (إخراج توفيق صالح عن رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" ـ 1963)، "كفر قاسم" (1974) (سيناريو وإخراج برهان علوية عن مذبحة أهالي قرية كفر قاسم، قصَّة عاصم الجندي، وحوار عصام محفوظ)، "الاتجاه المعاكس" (1975) (عن ارتدادات نكسة حزيران)، "الأحمر والأبيض والأسود" (1976) (عن أطفال فلسطينيين نازحين عن أراضيهم بسبب الاحتلال الإسرائيلي)، "الأبطال يولدون مرتين" (1976( (سيناريو وإخراج صلاح دهني عن القضية الفلسطينية كما يراها طفل بعد عدوان حزيران 1967 واحتلال إسرائيل لغزَّة). سينما تبحث وتمضي نحو تحقيق مستقبل لا استبداد ولا مستبدين فيه، فالإنسان في حاجة أن يفرح ويغني ويحرِّر ما هو مكبوتٌ، وغافٍ ومخفي من أحلام وأحاسيس، لا أن يعيش رهين القهر الاقتصادي والسياسي والقانوني، فيشرخه ويخترق كيانه. سينما سورية احتفلت بـ"العقل" وشكَّلت نواة مقاومة صلبة لعُصاة الفكر النهضوي العربي في معظم أفلامها، مع أن الدولة هي مَنْ يُموِّل ويُنتج هذه الأفلام التي كانت أفلامًا ضد العقلانية المؤسَّسية، عقلانية الدولة، فلا يمكن أن نرى فيلمًا بلا فكر، أو وزن، أو جوهر أخلاقي، وظهرت أسماء لمُخرجين مثل: محمد ملص، سمير ذكرى، أسامة محمد، ريمون بطرس، نبيل المالح، صلاح دهني، عمر أميرالاي، وغيرهم.
المخرج باسل الخطيب في "الحكيم" كأنَّه يخشى الفكر والفكر النقدي، يخشى أن ينتقد الحرب ولاعبيها؛ فبطلُه الحكيم جابر عبد الودود ليس بطلًا إشكاليًا يرينا بعضًا من الكوميديا الإنسانية التي نرى فيها انفجار عبقريته بنقده للحرب، وللسلم الذي هو أكثر إيلامًا وفجائعية من الحرب، بما جرَّه على الناس من فقر وجوع واستسلام لأمراء الحرب الذين يلعبون دور السلام، فالحكيم جابر عبد الودود كأنَّه منسجمٌ مع هذه الحرب/ السلم، منسجم مع انهزاميته. منسجم مع الصُدف: ما هذه الصدفة التي جمعت بين حفيدة الحكيم جابر، والرسَّام الأخرس شقيق زوج المريضة التي شافاها الله على نقر/ نغم الموسيقى وهي طالبة الفنون الجميلة، فتُعْجَب بلوحاته التي ردَّتها إلى المدرسة الانطباعية فتقع؛ يقعان في الحب، وما إن يقوم الفنان الأخرس بقطف الورود لحبيبته ياسمين التي جمعته الصدفة بها، إذا بالعصابة التي في الفيلم تختطفها لتُشغلها في بيت الدعارة. عصابة تحيل جانبًا من سردية الفيلم إلى الأجواء البوليسية. أحداث مُفتعلة لا تمهيد لها، عصابة تستحق فيلمًا لإنجازاتها العظيمة، ويمكن نزع عملياتها من الفيلم لتغدو فيلمًا ثانيًا بعد فيلم الشفاء من الغيبوبة بالموسيقى، كونها من عصابة الشر التي تثري من الحرب من دون رادع أخلاقي، أو قانوني: تهريب أسلحة، اتجار بالمخدرات، وتعاطي الكبتاغون (أدى دور عزيز الممثل رامي أحمر)؛ فبدا حريِّفًا كمتعاطٍ من دون أن يهدر انفعالاته النفسية والعاطفية، رعاية بيوت الدعارة وحمايتها، والتي تديرها امرأة (أدَّت دورها الممثلة ريهام عزيز)، ورفدِها بالبنات العذراوات اللاتي يحقِّقن أرباحًا وأرباحًا لأمراء الحرب، حتى تحافظ الحرب على عذريتها وفطريتها. ثمَّ ما هذه العصابة التي رئيسها (أدَّى دوره الممثل محمد قنوع)، الذي يسلِّم ياسمين إلى جدِّها الحكيم جابر عبد الودود برضى وقناعة، بعد أن قام هو نفسه باختطافها. من ثمَّ يقوم الحكيمُ الجدُّ مع أهل القرية بزراعة الأشجار كنهاية إجبارية متفائلة للفيلم.
كل هذه الجرائم والوقائع المُصنَّعة غير المتكيِّفة مع الواقع المأساوي للسوريين، كأنَّها خارج التصورات العقلانية للصيرورة التاريخية، وكأنَّ الفيلم كان يَعِدُنا بـ(وَلَدْ) يحقِّق السلام والحريَّة وعودة المهجرين، لكنَّه سرعان ما يموِّتُه بعملية إجهاض في الوقت الذي مِنَ المُفترض أن يُولدَ ولادةً طبيعية.
المهم أكثر من كل ذلك أنَّ الفيلم نالَ ذهبية مهرجان "سينمانا" العُماني كأفضل عمل متكامل، وجائزة "لجنة التحكيم" الخاصة في القسم الدولي في مهرجان "الفجر" السينمائي في العاصمة الإيرانية طهران، إضافة إلى تكريمٍ من مهرجان "أيام السينما" العراقية الثاني في بغداد.