"عَلَم": نظرة نديّة إلى المحتل
ندى الأزهري
سينما
"علم".. الفيلم الروائي الأول للفلسطيني فراس خوري
شارك هذا المقال
حجم الخط
وصل فيلم "علم" إلى الشاشات الفرنسية أخيرًا، بعد سنة تقريبًا من تجواله في مهرجانات عربية ودولية، وفوزه بجوائز، منها الهرم الذهبي، وجائزة الجمهور، في الدورة 44 لمهرجان القاهرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، وأفضل عمل أول في مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط، 2023.
ليس بعيدًا من أجواء آكي كوريسماكي، يذكّر "عَلَم" (2022)، وهو الفيلم الروائي الأول للفلسطيني فراس خوري، في أسلوب تنفيذه، بأفلام هذا المخرج الفنلندي. مع هذه البرودة المنعشة في تسلسل المشاهد وإيقاعها واللمسة المسرحية في رواح ومجيء أبطاله، وتلك العناية المركّزة التي يوليها لشخصياته القليلة، وما يضفيه من طرافة خفيّة وساخرة على تحركاتها وحواراتها. لكن المخرج وهو يوجّه رعايته لأبطاله وأجوائه يخفّف بعض الشيء من اهتمامه بالنصّ السينمائيّ. أمرٌ كان لا بدّ له من أن ينعكس على مستوى المشاهد، تاركًا تفاوتًا في قيمتها، درجة إقناعها من حيث المضمون. إنّما، وفي القضية شيء من سحر السينما، يطغى إحساس عام برضى وإعجاب بالفيلم، ومتعة في مشاهدته. لعل الأمر كامن في اعتماد أسلوب إخراجي قائم على الدعابة في الكلمة، والنظرة والحركة، حتى في مواقف لا يُتوقع فيها ذلك، وخفة ظلّ ذكية لا تخلو من عفوية، وشيء من لا مبالاة، كأنها جزء صميمي في حياة الشخصيات، ساخرة هازئة تعين على تحمّل أوضاع سياسية واجتماعية مفروضة ومقيّدة. لعلّ مردّ ذلك أيضًا تحكم دقيق للإخراج في أداء الممثلين عامة، وفي "مدى" طرافتهم. بل لعلّ الاستغراق في المتابعة، والاستغراق هو كلمة مناسبة للتعبير عن اهتمام يكمن في جدّة موضوع يثير فضولًا، ويقود المشاهد بسلاسة مُحفّزًا على التغاضي عن هفواتٍ في نصّ سينمائي سادته خفةً أحيانًا، وفي مشاهد جماعية (مظاهرات) لم تقنع بحيويتها.
يرسم الفيلم لوحة واقعية جذابة لجيل فلسطيني شاب نادرًا ما يُعبّرُ عن صورته الذاتية، نادرًا ما يظهر في الإعلام بقصصه الشخصية بعيدًا من مجرد أرقام وإحصائيات، جيل المراهقين طلاب المدارس الثانوية، الجيل الرابع بعد النكبة، كما يسميّه المخرج. شبان فلسطينيون يعيشون في إسرائيل في مدينة لا يذكر الفيلم اسمها، يمكن لها أن تكون أي مدينة، فحياتهم اليومية تتمركز حول محور تدور حوله حياة المراهقين في جميع أنحاء العالم، يشابهون ظاهريًا أيّ شباب آخر في تمردهم على الأهل والمدرسين، في تحضيراتهم للامتحانات، بحثهم عن الحبّ، وأيضًا عن مالٍ لشراء بعض سجائر (وحشيش أيضًا!). سوى أن هذه الحياة قائمة هنا على خلفية واقع سياسي معقّد وغير محتمل. يرصد "علم" تحولات هؤلاء الذين، بخلاف آبائهم، ينظرون إلى المحتل نظرة جديدة نديّة وغير دونيّة. يعملون ما في وسعهم للتعبير عن نظرتهم، في عيشهم، أو مقاومتهم. كأن يقرروا يومًا عملية غامضة، في يوم "الاستقلال" الإسرائيلي الذي هو يوم نكبتهم. يتضح بعدها أنها رفع العلم الفلسطيني فوق مدرستهم، وإنزال العلم الإسرائيلي، الذي سيرفع خصيصًا بهذه المناسبة "الوطنية". يدور الفيلم بأحداث قليلة حول خطتهم الخطيرة في مغزاها، وما تعنيه لهم بالذات من رفض للخضوع لسلطة، وإدراك تام لما يعانونه منها. ما يرافق الخطة من لقاءات وتحضيرات مسبقة، ستكون معظمها ما بين المدرسة وبيت عائلة مناضلة ذات خلفية يسارية هي عائلة تامر.
"يرسم الفيلم لوحة واقعية جذابة لجيل فلسطيني شاب نادرًا ما يُعبّرُ عن صورته الذاتية، نادرًا ما يظهر في الإعلام بقصصه الشخصية بعيدًا من مجرد أرقام وإحصائيات" |
تامر 17 عامًا (محمود بكري) كان استقر بمفرده في بيت جده الخالي القريب من منزل والديه، بحجة التحضير للامتحانات بعيدًا عن رقابة عائلته، يعيش هو وأصدقاؤه حياة طلبة ثانوية خالية من الهموم. هوشاب خجول، فيه شيء من ليونة تعبّر عن ضعف واستسلام، متردد، لا يُعنى بالأمور السياسية في بلده، يبدو فاترًا تجاهها، ليس بمعنى أنه غير مبال بها، لكنه لا يتحلى بحماس بعض أصدقائه، أو ربما يائس من تغيرها. يتجنب دومًا الخلافات، وعدوه التمرد، لا سيما تجاه أبّ (عامر حليحل) صارم يلاحقه باستمرار ليمشي على الصراط المستقيم، في الدراسة على وجه الخصوص. لكن حدثًا جديدًا في المدرسة سيحيله إلى إنسان آخر، سيحفّزه بالأحرى على اظهار نوايا كامنة فيه. ميساء (سيرين خاص) الشابة الجميلة المتمردة، التي تستهزئ بإسرائيل وبالسلطة الأبوية، ستكون الدافع المباشر للشاب كي يعيد تفكيره ببعض الأمور، التعبير عن الوطنية مثلًا. تامر يبدو وكأنه يأخذ دور صانع الفيلم في شبابه، لسان حاله في البداية على الأقل، إذ أنه حين يوافق على المشاركة في العملية على أسطح الثانوية عشية يوم النكبة الفلسطينية، يجسد التغييرات التي تطرأ عليه، والتي يمكن لها أن تمثّل تحولات جيل جديد معاصر في نظرته وسلوكه.
هو ليس بطل الفيلم بمفرده. إنهم خمسة. شخصيات رئيسية شابة ترمز لفئات عدة من المجتمع الفلسطيني تنتمي لفلسطينيي الداخل الذين يطلق عليهم عرب 48. غيره وميساء، هنالك صفوت (محمد عبد الرحمن) الوطني المتحمس والأكثر نضجًا من سنه ومن رفاقه، والذي اكتسب وعيه السياسي مبكرًا بعد اعتقال والديه. وهنالك المدمن المستسلم الهارب من واقعه. تحوّل شخصية تامر جاء تدريجيًا، لم يأت من دون مقاومة من طرفه، كان نتيجة منطقية لتطور شخصيته. وما جعل الاقتناع بذلك ممكنًا ليس سذاجة فكرة أن الحبّ قادر على صنع المعجزات، بل هذا التشابك بين دوافع عامة تمثلت في قناعات بدأت بالتغير، وإحساس وطني ينضج، وبين دوافع ذاتية لإرضاء ميساء. في بناء هذه الشخصية بالذات تكمن قوة الفيلم، كذلك طريقته في تقديم بقية الشخصيات الرئيسية منها والثانوية (الأهل والمدير...). إنه يقنع بمبرارت أبطاله الفكرية والعاطفية ورغباتهم في عيش حياة عادلة، سواء لأسباب لا علاقة مباشرة لها بالاحتلال، أو أخرى مستفزة تثير غضبهم وثورتهم، مثل دروس التاريخ المزيف التي تّدرّس لهم في المدارس. يبقى تعامل الفيلم مع شخصياته كافة أفضل من تعامله مع مواقف عامة، كالمظاهرات مثلًا، التي لم تقنع بحشودها، أو مع خيبات الجيل الأسبق ممثلة بالعمّ المناضل ناجي (صالح بكري)، الذي قاده الاعتقال إلى الجنون.
في موضوع قليلًا ما تتناوله السينما العربية (إنتاج مشترك فلسطين، تونس، فرنسا)، ينجح "علم" ببساطة ووضوح في رصد مشاعر جيل شبابي بكل بساطتها في وضع شائك حولها. فيلم اجتماعي سياسي عن الحياة هناك التي تكاد تكون بلا معنى، وحشية كما يقول المخرج، فهي لا تهمّ، يمكن أن تُقتل في أي وقت. فيلمٌ، كما يصفه في حوار ترويجي في فرنسا "عمل مقاومة في مواجهة هذا الوضع، وهذا الواقع المأساوي. حين يتعلق الأمر بمحاولة عيش حياتك بشكل طبيعي قدر الإمكان، على الرغم من الدّم. في ذلك، نعم إنه فيلم سياسي".