"الكذبة الكبرى": عندما تتحوّل الآمال العريضة إلى كذبة
سمير رمان
سينما
ريبيكا مارديه في لقطة من الفيلم
شارك هذا المقال
حجم الخط
يتحدث فيلم "الكذبة الكبرى/ De granddes esperances" عن الطموحات التي تجعل أبناء الريف الفقراء وأقرانهم من الطبقات الفقيرة يشقون بأظافرهم الطريق ليصنعوا لأنفسهم مكانًا تحت شمس النجاح، وليحظوا بالاعتراف.
الفيلم من إخارج الفرنسي سولفين ديسكلو/ Sylvain Dseclous، ويتحدث عن المثالية التي يعشقها الشباب، لكنها تتحطّم على جدران الصراعات السياسية. كما يتناول صوت الضمير، الذي يتمكن بعضهم من إخراسه، بينما يسمّم حياة الآخرين ويدمّر مستقبلهم المهني.
وأخيرًا، يتحدث عن الكذب والحقيقة، حين يتحولان إلى وسيلةٍ من وسائل الارتقاء السياسي، لتتغير صورتهما إلى درجة تضيع معها ملامحهما، وتتبادل الحقيقة والكذب الأدوار حتى تأتي لحظة تصبحان فيها ملتحمتين بصورةٍ يصعب معها فصلهما.
تكمن المفارقة في حقيقة أنّ الشخصيات الرئيسة قد بلغت هذه النقطة ذاتها، على الرغم من أصولها الطبقية المتباينة للغاية. مادلين (الممثلة ريبيكا مارديه/ Rebecca Marde) ابنة صانع أقفالٍ (الممثل مارك باربي) تبدو، رغم آرائها التقدمية، محرجةً من منبتها المتواضع. تمكّنت من الدراسة فقط بفضل منحةٍ حصلت عليها بقوة قدراتها الذهنية، ومثابرتها على العمل. حبيبها أنطوان (الممثل بينجامين لافيرنيه/ Benjamin Lavernhe) ابن رجلٍ ثري (باسكال إلسو)، وجميع أصدقاء الأب من الوزراء والنواب وأعضاء مجلس الشيوخ.
يستعد الحبيبان، مادلين وأنطوان، لامتحانات القبول في المدرسة الوطنية العليا للإدارة/ Lesgrandes écoles، ويدرسان بحماسةٍ في فيلا فاخرة على شواطئ جزيرة كورسيكا على البحر المتوسط. ولكي يؤمّن والدا أنطون مستقبل الزوجين دَعيا إلى العشاء وزيرة العمل السابقة، والنائب الاشتراكي في البرلمان غابرييل (إيمانويل بيركو/ Emmanuelle Bercot). تترك مادلين انطباعًا جيدًا عند عائلة عريس المستقبل، وكذلك في نفس النائبة غابرييل، التي وجدت في هذه الفتاة مساعدة قوية، موهوبة وطموحة تحتاجها في متابعة مسيرتها السياسية. علاوةً على ذلك، رأت غابرييل في مادلين سياسية واعدة. مادلين وأنطوان يتشاطران الأفكار اليسارية، وسيدافعان جنبًا إلى جنب عن حقوق العمال، التي يسلبها كبار الصناعيين. في أثناء العشاء، يدور جدلٌ سياسيّ حادّ يسخر فيه الوالد من ليبرالية ابنه، ويذكّره بأنّه حصل على كلّ شيءٍ من الحياة على طبقٍ من فضة، وأنّه يدافع الآن عن حقوق العمال وهو يتناول طبق كمأة! يجيب الابن بجديّةٍ تامّة: "الأمر مختلف".
يبدو أن كلّ شيءٍ كان يسير على أحسن ما يرام بالنسبة للشابين، وأنّ مستقبلًا مشرقًا في انتظارهما. ولكن كلّ شيءٍ ينهار فجأةً في اليوم التالي. بالمصادفة البحتة، يلتقي الشابان، وهما في طريق العودة إلى باريس عبر طريقٍ ريفية، بشابٍّ كورسيكي من الذين كانا يدافعان عنهم بشراسة الليلة الماضية، تجري ملاسنة بينهم، وتتحول إلى عراكٍ.يتخاذل أنطوان، ولكن مادلين تحافظ على رباطة جأشها، وتضرب الشابّ الذي سقط قتيلًا على الفور. سعيًا لإخفاء الجريمة، يحفران حفرةً ويدفنان فيها القتيل مع سلاح الجريمة، معتقدين أنّهما بذلك يكونان قد دفنا أيضًا ذنبهما، وأنهما سيتخلصان من تقريع الضمير.
لكنّ حسابات أُخرى كانت تدور في عقل أنطوان، الذي أراد طيّ هذه الصفحة نهائيًا، فقام بقطع علاقته مع حبيبته مادلين من دون أن يكلّف نفسه تقديم أيّ مبررات. عندها تنتقل الحكاية لدى البطلة إلى مستوى "الأنا" المدمرة.
يبرز هذا الحادث الطبيعة الحقيقية لكلّ من أنطوان، الذي هرب عند أوّل مشكلةٍ واجهته، ليختبئ وراء أموال والده وعلاقاته. أمّا مادلين، فتعض على النواجذ، وتواصل محاولةً اجتياز الامتحان ودخول المدرسة. تفشل مادلين في الامتحان، ولكنّها لن تسمح لنفسها أن تقع ضحية اليأس والأسف. نهضت من سقوطها بسرعة كهرّة متوحشة سقطت على الأرض بقوائمها الأربع. تقبل على الفور عرضًا تلقتّه من غابرييل للعمل في مكتبها. منذ تلك اللحظة، أصبحت مادلين مشغولةً، وسيكون جدول أعمالها مليئًا بالمواعيد واللقاءات وكتابة الخطابات، وبإعداد مشروع قانونٍ حول جدولة الرواتب، وستنشغل بدعم رئيستها في صراعها مع وزير العمل الحالي. تتعامل مادلين مع جميع هذه المهامّ بجديّة تامة، وبعناد الشحص الذي يؤمن أنّه يقوم بعملٍ صائب ومحقّ.
"يتحدث الفيلم عن الكذب والحقيقة، اللتين تتحولان إلى وسيلةٍ من وسائل الارتقاء السياسي، واللتين تتغير صورتهما لدرجة تضيع معها الملامح، وتتبادل الحقيقة والكذب الأدوار" |
ظاهريًا، تسير الأمور على خير ما يرام. تعمل مادلين بحماسة على إعداد مشروع قانونٍ نقل ملكية المشاريع إلى العمّال... ولكنها، وفي زوايا عقلها المظلمة يتراءى لها القتيل: كأنّه يرعاها، ليتحول درسًا حيًّا يحفّزها على العمل على خدمة المحرومين. تنأى الفتاة بنفسها بعيدًا عن الإغراءات الدنيوية، وتنهمك بقوةٍ في العمل. وهنا يظهر في طريقها شخصٌ يهدّدها بكشف حقيقة الجريمة، ويتوعد بدفن مستقبلها السياسي. للوهلة الأولى، يعتقد المرء أنّ دوافع هذا الشرير تكمن في "الغضب الصالح" في مواجهة الشرّ المتخفي وراء قناع الفضيلة، أو ربما هو الحسد الدنيء ضدّ النجاح. ولكن تبقى تفسيراتٌ أُخرى أوسع قد تكون هي الأُخرى مناسبة أيضًا: فهذا الكائن معذّبٌ بالكراهية العمياء تجاه الدوافع المثالية، إذ رأى مادلين، وإن كانت ترزح تحت عبء الشعور بذنبٍ لا يغتفر، تتحوّل إلى أيقونة حيّة تتكلم باسم حزن الشعب، وتصبح مدافعة عنه. في واقع الأمر، لم تكن مساعدة النائبة مؤهلةً لمثل هذا الدور، لأنّ النجاحات السياسية لـ"العذراء المقدّسة" تهدّد بتدمير توازن النظام القائم، وزعزعة المصالح البراغماتية المتبادلة بين اللاعبين السياسيين.
تمكنت غابرييل من العودة إلى وزارة العدل، وعندها حالت هي نفسها دون تمرير مشروع القانون الذي أعدّته مادلين وناضلت طويلًا لإقراره، والذي كان يفترض به تخفيف معاناة العمال. وعلى الرغم من ذلك، لم تدّخر مادلين جهدًا في الدفاع عن سمعة الوزيرة غابرييل، التي كانت تواجه تهمًا بتزوير الانتخابات، وبممارسة الشعبوية. ما الفائدة التي تجنيها مادلين من كلّ هذا؟ لا تترك نهاية الفيلم مجالًا للشكّ. فقد استحقت مأثرتها تقديرًا عاليًا من القيادة، إذ نجحت، من خلال قمع جانبها المظلم للحسابات السياسية، وبمخاطرتها بفقدان الحرية وبمستقبلها السياسي، بالبرهنة على ولائها المطلق لحاميتها وراعيتها. كما استحقت الثناء على انتقالها من ناشطة مدافعة عن الفقراء إلى حيوانٍ سياسيٍّ مخلصٍ، وواعد للغاية.
يحكي الفيلم عن تلاشي أحلام الشبّان الطموحين، الحالمين بمستقبلٍ سياسيٍ مرموق، والحفاظ في الوقت نفسه على روحهم البشرية. يأمل هؤلاء الشباب بتغيير الواقع إلى الأفضل، وجعل العالم أكثر عدالة، من خلال عبارة تحقيق المساواة والعدالة؛ كشعارات فعلية، وليس مجرد كلمات فارغة. في نهاية الأمر، يصبح هؤلاء الحالمون براغي ونوابض في المؤمرات السياسية. وكما هي الحال في الحرب، ففي السياسة أيضًا جميع الوسائل مقبولة: من الخداع، إلى المؤامرات الكبيرة! يُنشر غسيل الخصوم الوسخ على الملأ، وتُستخدم العلاقات التي كانت قائمةً على الثقة المتبادلة، وكذلك الاعترافات السريّة بين الأصدقاء، كسلاح قذر، ومن دون تأنيب ضمير، لتحقيق أهداف تساعد في تسلّق سلّم السلطة. وبالفعل، فالحديث عن الضمير في اللعبة السياسية مثير للسخرية.
في الجزء الثالث، يأخذ الفيلم منعطفًا جديدًا: فذاك الخطأ الفادح القديم يعود ليذكّر بنفسه من جديد، ليجبر مادلين على إعادة التفكير في ما إذا كانت على استعداد للاستمرار، وبأي شيء عليها التضحية به للحفاظ على ما حققته بالفعل، والاحتفاظ بفرصة للمضي قدمًا. لم تعد محاولات مادلين الاختباء وراء صحة معتقداتها تجدي نفعًا، فهي تعلم علم اليقين أنّ المشاهدين أدركوا أنّ الخطوة الأولى نحو سقوط الأوهام قد اتّخذت منذ زمنٍ بعيد، هناك في كورسيكا، ويبدو أنّها أصبحت مستعدة للتعايش مع الأمر. وعلى الرغم من ذلك، عندما يقوم المرء بكثير من الحلول الوسط مع نفسه، فإنّ الآمال الكبيرة تتحول عندها إلى كذبةٍ مثالية.