التهيؤ للعيش رسمًا: عن لوحات زياد توبة بجدران فيسبوك

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التهيؤ للعيش رسمًا: عن لوحات زياد توبة بجدران فيسبوك



    التهيؤ للعيش رسمًا: عن لوحات زياد توبة بجدران فيسبوك
    بلال خبيز
    تشكيل
    زياد توبة
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    ما يتجرأ زياد توبة عليه مزدوج المغامرة. يعرض معرضه على جدران فيسبوك وليس على جدران أحد الغاليريات، من جهة أولى. ويستخدم قماشة هي عبارة عن بقايا الكرتون الذي سبق له أن وضب فيه أغراضه وأغراض زوجته عند انتقالهما من لبنان الذي لم يعد متسعًا، إلى تركيا بعد انفجار 4 آب/ أغسطس 2020 الذي دمر جزءًا كبيرًا من مدينة بيروت. الأمران يلاقيان هوى في نفوس البعض. لكن هذا الهوى لم يتحول بعد، وفي أي مكان من العالم، إلى هوى منتج. ما زالت الفنون التي تلقى رواجًا وتدر ربحًا تقع ضمن أحياز المعارض والمتاحف. وما زال العالم مستقرًا إلى حد ما ولا يسمح بتقديس ثورات صغيرة وإعطائها حيّزًا من اهتمامه، كما حدث في أوروبا إثر الحربين الكبريين على التوالي.

    حال لبنان، وبعض بلادنا العربية، تشبه حال أوروبا في ذلك الزمن. لكن بلادنا العربية لأسباب كثيرة ومعقدة، لا تملك أن تجعل لثوراتها قيمة معنوية وإنسانية، مثلما لا تنجح في معظمها في جعل ثرواتها مستقرة. نحن إذًا أمام معضلة مزدوجة. من جهة أولى يلجأ الفنان، ولا أقول يطمح، إلى ما بقي متاحًا له لإنتاج فنه، ومن جهة ثانية، لا يمكنه صرف الإعجاب والتضامن مع عمله وتحويله إلى مادة يمكن البناء عليها. ذلك أن أول متعاكسات الإنترنت ومنصة الفيسبوك خصوصًا والمتاحف، أن الأولى لحظوية وسريعة وتتطلب رد فعل مباشر، والثانية صبورة ومزمنة وتشترط وجود تاريخ معترف بسطوته على بعض الحاضر لكل ما تحتويه.

    أصدقاء زياد توبة على منصة فيسبوك سرعان ما انتبهوا لهذه الخاصية المحبطة التي تحكم المنصة. فبدأوا بنشر ما عرضه على صفحاتهم، كما لو أنهم يريدون تأبيد اللحظة الهاربة التي كان الفنان يحدس بأنها هاربة حقًا.

    من جهة ثانية، يقول توبة إن استخدام المواد التي استخدمها للرسم عليها يلاقي هوى في نفسه يتعلق بإعادة التدوير. وهذه محنة منتشرة في العالم كله، لها ما لها وعليها ما عليها. لكنني أحسب أن في هذا اللجوء الثاني، ما يشي بيأس الفنان واستبشاره في آن. يأس من إمكان العودة إلى لبنان، يتجلى في محاولة حرف مواد التغليف والتوضيب عن وظيفتها، بوصفها آخر ما يربطه بالطائرة أو السيارة التي أقلته من لبنان إلى بيروت. واستبشار بأن الإقامة في تركيا قد تكون مديدة بحيث يمكن للفنان أن يعيش، لا أن يرسم فقط، زمنًا طويلًا يسمح له أن يخرج من نفق الخسران الذي دُفع إليه، إلى شمس الحياة الصاخبة بحلوها ومرها، وبمرها أولًا. ومن هنا نصل إلى بيت قصيده.




    بيت القصيد في اللوحات التي رسمها زياد توبة يمكن تلخيصه بكلمة واحدة: التهيؤ. كل ما رسمه هو عبارة عن استعدادات لملاقاة آخرين بحب وترحاب. لكن الآخرين ما زالوا غير موجودين حتى اللحظة. لوحة لامرأة تنشر غسيلًا على شرفة، وأخرى للمرأة نفسها وهي تمارس تمارينها الرياضية. رجل يمارس تمارينه أيضًا. ثم آخر مستلق على الكرسي بكامل قيافته، في عبارة عن رغبته بالتواصل مع أي كان، لكن الصمت المحيط يغلبه فيستولي عليه النعاس. امرأة تنظر من نافذة، لكن النافذة لا تفضي إلى شيء. بمعنى آخر هي ليست امرأة إدوارد هوبر التي تنظر إلى عالم تبدو وكأنها تألفه وتشتاق إليه. ما تنظر إليه المرأة في لوحة توبة هو الفراغ الذي يقع في الخارج، لأن هذا الخارج ما زال أعجميًا وغريبًا حتى اللحظة. وهذا يفترض أن كل هذه الاستعدادات للتواصل، التي تظهر في هذه اللوحات، لا تتوج بتحققه. بل تبقى مجرد استعدادات، تمامًا كما لو أن العيش الذي يعيشه الفنان في هذه اللحظة يشبه انتظار طالب الوظيفة أن تنظر الإدارة في سيرته الذاتية. وهو انتظار لا مادة فيه ولا عمق، إنه مجرد دقائق وثوان لا يحسن المرء أن يقطعها على نحو مفيد.

    اللوحات التي تعتني بتصوير داخل البيوت تكشف مفارقة مرعبة: نحن في بيوتنا وشققنا لا نفعل شيئًا سوى الاستعداد للقاء آخرين في الخارج، نعتني بأجسامنا لسببين قد يبدوان متباينين، لكنهما متصلان في الحقيقة. هذه العناية تريد أن تؤدي وظيفة استحسان الناظر العابر لمرآنا أولا، وتريد ثانيًا أن تؤدي وظيفة إطالة أمد جهوزيتنا على النحو الذي يسر الناظرين ويرضيهم. وعلى النحو نفسه تبدو اللوحات الأخرى كما لو أنها تجعل الحياة في الداخل مجرد تحضير للقاء الخارج. وهو في حالة زياد توبة على الأرجح، خارج ما زال مجهولًا بالنسبة له، وما زال زياد مجهولًا بالنسبة للخارج أيضًا. إنه تجاهل متبادل، يجدر بمن يقيم في الداخل أن يبذل الجهد لتبديده، ذلك أن المرء لا يملك أن يغير في مظهر الخارج وتعديله على النحو الذي يناسبه.





    من هنا أصل إلى نقطتي الأخيرة. من عادة التشكيليين أينما حلوا أن يرسموا الخارج، شوارع المدن، أشجار الغابات، الأنهار، الشواطئ، الشمس وحقول الذرة. حين ينزع الرسام هذا النزوع فإنما يقول إنه يعرف هذا الخارج جيدًا، ويريد أن يعرّفنا نحن الذين نتصف بقلة الملاحظة بهذا العالم المترامي التشكيل. وهذا نزوع فني نحو الانتماء إلى المتاحف، بوصف وجودها في مدينة ما يدل على وجود سلطة ثابتة تحميها وتصونها. لكن زياد توبة، للأسباب التي تقدم ذكرها، يعرف أن الخارج متشكل قبل حلوله، ولا ينتظر ريشته بعد. ربما لأنها ريشة لم تنضج كفاية لمواجهة هذا المكان. لهذا هو يرسم الداخل، ليجعل العالم الذي ننظر إليه ويتم إشهاره هو العالم الذي نحرص نحن على كتمانه. وبكلام أقرب إلى الفهم يمكن إشهار المعادلة التالية: حين ألتقط لنفسي سيلفي أمام برج إيفل، فهذا ليس إشهارًا للبرج بل إشهارًا لنفسي. نفسي التي درّبتها على الخروج وملاقاة الخارج، والتي تستحق أن تكون ذات قيمة بدليل أن برج إيفل يقف ورائي. لكنني حين ألتقط صورة لنفسي في وحدتي وعتمة شقتي فإنما أحاول القول إنني في هذه اللحظة ضعيف إلى الدرجة التي تتطلب من الآخرين أن يتضامنوا معي. زياد توبة يرسم لحظة الضعف هذه، لكنه يتعامل معها بوصفها قدرًا. لا يستجدي، ويتصرف كما لو أنها لحظة عابرة، بدليل نشرها على منصة فيسبوك، لكننا ندرك أنه هش وضعيف، مثلنا جميعًا، وأن ما يصوره يشبهنا نحن ربما أكثر مما يشبهه.

    زياد توبة مواليد 1976، حرفي ورسام لبناني مقيم في تركيا، أقام معرضين فرديين، ومجموعة معارض مشتركة آخرها بإسطنبول. وعرض مجموعة لوحاته الأخيرة أونلاين.
يعمل...
X