ماذا "بعد الحداثة": إلغاء الحدود بين التشخيص والتجريد
أسعد عرابي
تشكيل
العودة إلى التجريد (من معرض لكاتب المقال عام 2015)
شارك هذا المقال
حجم الخط
كثيرًا ما أعاني من ملامة الأصدقاء الفنانين بمن فيهم المقربون، الذين يعشقون أعمالي الفنية، من أني أصوّر وأعرض في نفس المرحلة اتجاهين متناقضين، بحيث تتزامن "التعبيرية الملحمية" (للساكن والمسكون)، والمغامرات المخبرية في التجريد (من التوليف بين الغنائي والهندسي). مع ذلك فهم يوفرون انتقادهم للنماذج الغربية التي أنتمي إليها، أو حتى العربية المناظرة لمنهجي في هذا النشاط المزدوج؛ كما سنرى. أو بالأحرى يبررون لهم هذه المراوحة والحرية الإبداعية التي تعربد نقديًا بين الاتجاهات أو التيارات التي يعتبرها النقد التقليدي متضاربة (عن عدم معرفة عملية).
وهو ما يذكرني بيقين النصف الأول من القرن العشرين الذي أثبت فيه العبقري (المهاجر الروسي) الفرنسي نيكولا دو ستائيل تعسّف هذا التقسيم، وممارسته للاثنين معًا مع اختزاله الهندسي لسيميولوجية المشاهد التي كان يقتنص ملامحها من قطار أو سيارة سريعة، لذلك كان أقرب إلى التعبير عن وجودية ألبير كامو، لدرجة أنه لقي نفس المصير شبه الانتحاري خلف زجاجاته المنذرة بالموت أو بحادث السيارة الذي تنبأ به كامو قبل شهر من الموت. وبدليل عزل التجريد الغنائي سليل أواخر الانطباعية (ومونيه بالذات) خاصة لدى أقطاب مدرسة نيويورك (مثل جاكسون بولوك) عن الحركية التعبيرية الوجودية أو المفاهيمية المتأخرة، وعن التجريد الهندسي الذي أسسه هربان ودولونوي وقبل بلوغه "المنمالية" النحتيّة ما بعد سبعينيات ما بعد الحداثة بعد عبوره من الوهم البصري (السينيتيك) في الخمسينيات.
ارتبط التجريد في تاريخ لوحتي مع استقراري في باريس منذ 1975 مـ. وغروب هيئة المدينة الفارابية الفاضلة وأحانينها اللونية التي تحولت بالتدريج إلى نواظم تجريدية بنائية، نالت النجاح ابتداء من تأثير أستاذي جاك نالار في البوزار وانتمائي بفضله إلى صالون "الواقعيات الجديدة" المؤسس منذ عام 1945 مـ باعتبار أن التجريد يمثل الواقعية الأشد راديكالية من مشهدها الانطباعي الخارجي. وبقيت مخلصًا للعرض في هذا الصالون أكثر من عقد من الزمان، ترسخت تقاليده لدي بفضل الغاليري التي كنت أعرض فيها في حي الباستيل المركزي (غاليري جان)، وخاصة باختياري من قبل لجنة أوروبية لأمثل فرنسا مع سيزار وتانغلي وسواهما من رواد الحداثة، خاصة أنطوني تابييس، وبمجموع خمسين رائدًا طبعت أعمالهم موقعة بطباعة عملاقة لاقت حظًا لا يستهان به من الشهرة، ابتداء من أبرز مطابع أوروبا في برشلونة.
إذًا عرفت في باريس كفنان تجريدي رغم عودتي الحميمة المتدرجة إلى التعبيرية المغرقة في الحداثة (التعبيرية المحدثة ما بعد جورج بازلتز، أي "ما بعد حداثية")، والسبب البسيط أني ربطت اللوحة بالحلم، وخضعت لبداهة أننا لا نحلم بمربع أو كرة أو مثلث، وإنما بما له علاقة بالمدينة مهما توشحت بالميتافيزيك وتحولت نقاط نجاحاتي التجريدية من جديد إلى صفحات الماضي التليد دون أن ألغي من اللوحة هذا التوليف العضوي بين التجريد والتعبيرية المتوسطية الحزينة.
لكن هذا التوليف كان يخفي الحنين بنفس الشدة إلى التجريد، وهكذا أقمت معرضًا بمثابة ثمرة سنتين من ممارسة التجريد (عام 2015 مـ-غاليري أيام - دبي) تحت عنوان: "العودة المتدرجة إلى التجريد". حصل المنعطف المركزي في أسلوبي "ما بعد الحداثي" بعد أقل من عام، إذ أصبحت أصوّر في نفس المرحلة التعبيرية التراجيدية المحلية، والتجريد المحض في آن واحد خاضعًا لتأثيرات لبنانية بعد السورية وعلى رأسها صليبا الدويهي الذي برع في مناظر منطقته إهدن وزغرتا وجبل لبنان، تحول بعدها إلى المرحلة المتوسطة المغربية قبل إقامته في الولايات المتحدة واستقرار أسلوبه على تجريد طوبوغرافي أميركي محض تعرفت عليه وعلى فنه خلال سنوات استقراره الأخيرة في باريس، ناهيك عن تأثيرات شفيق عبود (الذي كان مشاركًا مع أستاذي جاك نالار في مسؤولية إدارة صالونات الواقعيات الجديدة إضافة إلى محمد اكسوح).
يتفوق بول كلي على كل هؤلاء المعلمين لسبب بسيط هو قناعتي الراسخة خلال أكثر من نصف قرن أن التصوير أقرب إلى الموسيقى منه إلى الأدب والرمز. وتأكد مع الممارسة وحتى الدراسة التعددية للنوطة الأفقية في البداية ثم ديوان باخ (عمودية الكونتربوان) عامًا كاملًا في أثناء تحضير دكتوراه فلسفة علم الجمال الثانية. مؤكدًا أن معرفتي الموسيقية أرحب من إطلاعي الأدبي، هو ما يفسر مرحلة "سماعي" أم كلثوم والسنباطي وشوقي، واستنباط المقامات من بحور الشعر.
أجدني اليوم أصوّر بطريقة ثنائية ما بعد حداثية، أفصل اللوحة التعبيرية البنائية التشخيصية عن اللوحة التجريدية البنائية (بتوليفاتها الغنائية والهندسية)، على هدى وليام دو كوونينغ في مدرسة نيويورك، بعد نيكولا دو ستائيل في مدرسة باريس الوجودية. ولست الوحيد الذي يتبع هذا المنهج الثنائي ابتداء من نذير نبعه الذي كان يصوّر في نفس المرحلة تجريده وشرقياته (ما بعد الرفائيلية) الواقعية، كذلك أبرز فنان في المحترف التونسي: المعلم رفيق الكامل، عرف بتجريداته اليومية ولوحاته الاستشراقية الموازية. وهو ما يقودنا إلى الاتجاه الأميركي ما بعد الحداثي الذي يصور فيه فنانوه عمالقة التجريد إلى جانب اللوحات الواقعية ناهيك عن فاتح المدرس، وحتى بابلو بيكاسو نفسه.
أسعد عرابي
تشكيل
العودة إلى التجريد (من معرض لكاتب المقال عام 2015)
شارك هذا المقال
حجم الخط
كثيرًا ما أعاني من ملامة الأصدقاء الفنانين بمن فيهم المقربون، الذين يعشقون أعمالي الفنية، من أني أصوّر وأعرض في نفس المرحلة اتجاهين متناقضين، بحيث تتزامن "التعبيرية الملحمية" (للساكن والمسكون)، والمغامرات المخبرية في التجريد (من التوليف بين الغنائي والهندسي). مع ذلك فهم يوفرون انتقادهم للنماذج الغربية التي أنتمي إليها، أو حتى العربية المناظرة لمنهجي في هذا النشاط المزدوج؛ كما سنرى. أو بالأحرى يبررون لهم هذه المراوحة والحرية الإبداعية التي تعربد نقديًا بين الاتجاهات أو التيارات التي يعتبرها النقد التقليدي متضاربة (عن عدم معرفة عملية).
وهو ما يذكرني بيقين النصف الأول من القرن العشرين الذي أثبت فيه العبقري (المهاجر الروسي) الفرنسي نيكولا دو ستائيل تعسّف هذا التقسيم، وممارسته للاثنين معًا مع اختزاله الهندسي لسيميولوجية المشاهد التي كان يقتنص ملامحها من قطار أو سيارة سريعة، لذلك كان أقرب إلى التعبير عن وجودية ألبير كامو، لدرجة أنه لقي نفس المصير شبه الانتحاري خلف زجاجاته المنذرة بالموت أو بحادث السيارة الذي تنبأ به كامو قبل شهر من الموت. وبدليل عزل التجريد الغنائي سليل أواخر الانطباعية (ومونيه بالذات) خاصة لدى أقطاب مدرسة نيويورك (مثل جاكسون بولوك) عن الحركية التعبيرية الوجودية أو المفاهيمية المتأخرة، وعن التجريد الهندسي الذي أسسه هربان ودولونوي وقبل بلوغه "المنمالية" النحتيّة ما بعد سبعينيات ما بعد الحداثة بعد عبوره من الوهم البصري (السينيتيك) في الخمسينيات.
لا شك في أن تجريد "ما بعد الحداثة" (ضمن رؤيوية دو ستائيل) خرج من عزلته وأصبح رديفًا لما عرف بالتعبيرية التجريدية على غرار وليام دو كوونينغ. هو الذي أنتمي إلى منهجه الذي لا يفصل مفهوم التجريد عن التعبيرية الذاكراتية. هو الذي حطم هيئاته النسائية ليصل بالتدريج إلى التجريد الحركي، هو شأن العديد من الرواد الذين أتبعهم نسبيًا، والذين يصلون إلى التجريد مع التماهي المتدرج لتشخيصاتهم الأنطولوجية أو الحضرية. أنا بدوري لم أصل في الثمانينيات إلى التجريد إلا بعد تدمير متدرج لهيئة معالم المدينة العريقة (دمشق - صيدا - باريس - القاهرة... إلخ). وذلك إثر هندستها الشمولية، واختزال ذاكرتها المنسلخة عن حكاياها وأساطيرها.
ارتبط التجريد في تاريخ لوحتي مع استقراري في باريس منذ 1975 مـ. وغروب هيئة المدينة الفارابية الفاضلة وأحانينها اللونية التي تحولت بالتدريج إلى نواظم تجريدية بنائية، نالت النجاح ابتداء من تأثير أستاذي جاك نالار في البوزار وانتمائي بفضله إلى صالون "الواقعيات الجديدة" المؤسس منذ عام 1945 مـ باعتبار أن التجريد يمثل الواقعية الأشد راديكالية من مشهدها الانطباعي الخارجي. وبقيت مخلصًا للعرض في هذا الصالون أكثر من عقد من الزمان، ترسخت تقاليده لدي بفضل الغاليري التي كنت أعرض فيها في حي الباستيل المركزي (غاليري جان)، وخاصة باختياري من قبل لجنة أوروبية لأمثل فرنسا مع سيزار وتانغلي وسواهما من رواد الحداثة، خاصة أنطوني تابييس، وبمجموع خمسين رائدًا طبعت أعمالهم موقعة بطباعة عملاقة لاقت حظًا لا يستهان به من الشهرة، ابتداء من أبرز مطابع أوروبا في برشلونة.
إذًا عرفت في باريس كفنان تجريدي رغم عودتي الحميمة المتدرجة إلى التعبيرية المغرقة في الحداثة (التعبيرية المحدثة ما بعد جورج بازلتز، أي "ما بعد حداثية")، والسبب البسيط أني ربطت اللوحة بالحلم، وخضعت لبداهة أننا لا نحلم بمربع أو كرة أو مثلث، وإنما بما له علاقة بالمدينة مهما توشحت بالميتافيزيك وتحولت نقاط نجاحاتي التجريدية من جديد إلى صفحات الماضي التليد دون أن ألغي من اللوحة هذا التوليف العضوي بين التجريد والتعبيرية المتوسطية الحزينة.
من اليمين: 1- يبتدئ التشخيص من هيئة المدينة القديمة وباتجاه متدرّج إلى التجريد. 2- رفع الحدود بين الموسيقى والتصوير تقارب اللوحة أكثر من التجريد الموسيقي |
يتفوق بول كلي على كل هؤلاء المعلمين لسبب بسيط هو قناعتي الراسخة خلال أكثر من نصف قرن أن التصوير أقرب إلى الموسيقى منه إلى الأدب والرمز. وتأكد مع الممارسة وحتى الدراسة التعددية للنوطة الأفقية في البداية ثم ديوان باخ (عمودية الكونتربوان) عامًا كاملًا في أثناء تحضير دكتوراه فلسفة علم الجمال الثانية. مؤكدًا أن معرفتي الموسيقية أرحب من إطلاعي الأدبي، هو ما يفسر مرحلة "سماعي" أم كلثوم والسنباطي وشوقي، واستنباط المقامات من بحور الشعر.
أجدني اليوم أصوّر بطريقة ثنائية ما بعد حداثية، أفصل اللوحة التعبيرية البنائية التشخيصية عن اللوحة التجريدية البنائية (بتوليفاتها الغنائية والهندسية)، على هدى وليام دو كوونينغ في مدرسة نيويورك، بعد نيكولا دو ستائيل في مدرسة باريس الوجودية. ولست الوحيد الذي يتبع هذا المنهج الثنائي ابتداء من نذير نبعه الذي كان يصوّر في نفس المرحلة تجريده وشرقياته (ما بعد الرفائيلية) الواقعية، كذلك أبرز فنان في المحترف التونسي: المعلم رفيق الكامل، عرف بتجريداته اليومية ولوحاته الاستشراقية الموازية. وهو ما يقودنا إلى الاتجاه الأميركي ما بعد الحداثي الذي يصور فيه فنانوه عمالقة التجريد إلى جانب اللوحات الواقعية ناهيك عن فاتح المدرس، وحتى بابلو بيكاسو نفسه.